الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 4

دلور ميقري

2018 / 2 / 25
الادب والفن


بادرت إلى التزحزح من موقفها، تاركةً الرجلَ العجوز بمفرده، حال شجرة الزيتون الهرمة والمتوحّدة. الممشى الرئيس في حديقة الزهور، كان ينتهي عند عتبة مدخلها، الحجرية المستطيلة الشكل. سارَ الرجلُ خلفَ السيّدة السورية، مُدركاً أنها في سبيلها لمواجهة مرافقتها السابقة. غير أنها توقفت فجأة، لتلتفت إليه مع نظرة رجاء: " أمن الممكن أن أنفرد مع الشريفة، هنالك في البستان؟ "، سألته بنبرة واهنة وبنوعٍ من الارتباك. لاحظ أيضاً، أن احمراراً خفيفاً مسَّ سحنتها المُشرقة. أنتابه عندئذٍ شعورٌ، كان خليقاً أن ينقلَ لون الخجل من وجهها إلى وجهه: أنها نظراتُ امرأة عاشقة؛ هذه المرسلة إلى تينك العينين الرائعتين، المراوغتين.
" أوه نعم، بالطبع! "، ردّ عليها ولم يكن أقلّ ارتباكاً. دونما نأمة أخرى، قفلَ الرجلُ عائداً عبرَ الممشى بخطوات متعجلة من رجليه الطويلتين. تابعته " سوسن خانم "، معتقدةً أنه سيحط ثانيةً على كرسيه، القابع هنالك على المصطبة. فلما استمرَ في سيره، ليبتلعه من ثمّ جوفُ المنزل، فإنّ الخانم رجّحت أنه سيخلد إلى قيلولته. بدَورها، تابعت المشي إلى جهة البوابة وإن تكن خطواتها برزانة راهبة خارج الدير. في الأثناء، كان شبحُ مرافقتها السابقة ما يني على حركته، ظهوراً واختفاءً، وهوَ في مكانه وراء البوابة الحديدية. عالجت مزلاجَ البوابة، فيما نبضات قلبها تتسارع على غير المعتاد: المواجهة مع " الشريفة "، كانت ولا غرو قائمة قبلاً في حساب الخانم، طالما أنّ هذه المرأة هيَ سببُ حلولها منذ مساء الأمس في الضاحية. ولكنّ الأمرَ، مع ذلك، بدا لها أكثر تهوّراً ـ كمغامرة سافاري في حَوْز لبوة.

*
" من المستبعد أن يكونَ اتفاقاً، تجوالُ المرأة الماكرة في بستانٍ ملحقٍ بالفيللا "
فكّرت الخانمُ حينَ أضحت على مرأى من عينيّ مرافقتها السابقة. هذه، كانت قد برزت من بين الزرع وهيَ مرتدية بنطالاً أخضر وقميصاً أبيض، ما منحها شبهاً بشتلة غاردينيا. مَن كانت مخدومتها زمناً، طفقت تتأملها وسطَ دوائر الذباب الهائج، مستغربةً احتفاظها بقوام رشيق على الرغم من كونها ما تفتأ في فترة النفاس. " الشريفة " أيضاً، ألقت نظراتٍ فضولية على هيئة الخانم، الملمومة في جلابة منزلية متواضعة. بادرت تلك الأخيرة بالكلام، وكانت مأخوذة لدرجة نسيانها تحية المجاملة: " كنتُ أتساءل في نفسي، ما لو كان لقاؤنا على سبيل المصادفة. وكذلك يمكن القول، في احتمال وجودك هنا زائرة؛ وإلا لأعلمني مسيو جاك سلفاً؟ "
" لا هذا ولا ذاك..! "، أجابت المرافقة السابقة مكشّرةً عن ابتسامة من اللؤلؤ النضيد. ثم أومأت برأسها إلى ناحية العمران، المختفي خلف الأفق الأخضر، مستطردةً القولَ ببساطة: " من المحال ألا ينتشر بين الخلق ثمة، خبرُ حضور سيّدة شقراء في سيارة رانج روفر فخمة، تقودها مرافقة من الشلوح ". على هذا المنوال جرى حديثهما، فيما خطاهما تبتعد رويداً عن البوابة الحديدية. فما لبثتا أن وجدتا نفسيهما حَذاء أسوار الفيللا، المبنية من الطوب المختلط بالحجارة والمترامي عليها نباتٌ شوكيّ كثيف. الظلال، أرخت على المرأتين ما تيسَّرَ من النسيم المنعش، الزكيّ الرائحة. بدت الظهيرة لضيفة الضاحية من الهدوء، ألا يتناهى لسماعها أيَ أصواتٍ خلا تغريد الطيور وطنين الهوام. إلى أن صدرَ صوتُ المرأة الماكرة، مصحوباً بنغمة متهكّمة: " لم تسألينني عن فرهاد؟ لو كان بودّك أن آخذك إليه، فإنّ بيتنا صارَ قريباً؟ ". أحمرّت الخانم حتى أذنيها. لقد وقع اسمُهُ في سمعها، على حين غرّة، آنَ كان الفكرُ مشغولاً به.

*
استدارت نحوَ مرافقتها السابقة، لترمقها بنظرةٍ فيها ما فيها من احتقار.. نظرة واحدة، استعادت بها الخانمُ الأنفةَ والثبات، المعهودين في شخصيتها. حقّ للأخرى أن ترتبك بعضَ الشيء. ولو أنها أشاحت سحنتها بسرعة، لتشير إلى ناحية معينة وكأنما تبغي الإيحاءَ بحُسن طويّتها: " في دربٍ خلفَ هذه العَرَصَة، يقوم منزلنا.. ". أخترقَ بصرُ الخانم أكمةَ أشجارٍ يلفها الغبارُ، صوبَ بيوتٍ متباعدة عن بعضها البعض، متنافرة العمارة لا يجمعها سوى القبحُ والرثاثة. عادت لتلتفت إلى مرافقتها السابقة، وقد رقّت نظرتها: " هل يعلم فرهاد بوجودي هنا؟ "، استفهمت منها بكلماتٍ تنطق بالحرص على المهمة، التي حضرت للضاحية من أجل انجازها. هزت الأخرى رأسها نفياً، فيما عيناها رسمتا تعبيراً يكادُ يكون ضارعاً.
" بحقّ سيدي ربي، إلا أعلمْتِني ماذا تريدين من زوجي؟ "، هتفت المرافقة السابقة وكأنما صعقتها حقاً النظرة تلك، المَوْصوفة. كان صوتها عميقاً، فكّرت " سوسن خانم " حينئذٍ، آتٍ من بئر الماضي القريب والبعيد سواءً بسواء. هذا المجاز، سرعان ما تجسّدَ على شكل فوهة في أرض بستانٍ مرا إزائه. قالت الخانم تشير إلى تلك الجهة: " عجباً، يَدَعون البئرَ بدون حجارة مسوّرة جوانبه مع قربه من بيوت الأهلين ". علّقت الأخرى قائلة بلهجة مرتجفة نوعاً: " لشدّ ما أبغضُ الآبارَ وأخشاها، حتى أنها لا تعتقني في أحلامي "
" أظنني سمعتُ بخوفك هذا "
" أأنا حدثتك عن ذلك؟ "
" لا، إنما وصل لي على لسان شيرين "
" رحمها الله. ولكنني لا أذكرُ أنني أخبرتها بشيءٍ من ذلك القبيل؟ "، نطقتها فيما يُشبه الذعر. ولكن الخانم لم ترحم مرافقتها السابقة، حينَ عادت لتقول بلهجة جازمة: " لا، إنها قرأته في دفتر مذكرات أو يوميات.. ". قاطعتها " الشريفة " متألقة العينين ببريقٍ غامض، مرددةً: " دفتر مذكرات أو يوميات؟ "
" بلى. أتكلم عن صديقنا، الذي رحلَ أيضاً؛ مسيو غوستاف. كنتُ أخالكِ تعلمين، أنه كان قد عهد بمخطوطة مذكراته إلى سكرتيرته شيرين ( قبل أن يتزوجا بالطبع )، وذلك بغيَة تنقيحها وتنضيدها على جهاز الكومبيوتر..؟ "
" ربما سمعتُ شيئاً عن الأمر في حينه. ولكن، ما علاقة المخطوطة بحديثنا؟ "
" حسناً، لا تدركين ما العلاقة! مع كوني ذكرتُ لك، أنّ شيرين أخبرتني بما قرأته في المخطوطة عن قصة رهابك من الآبار؟ فلندع إذاً المخطوطة، إذا كان ذكرها يثير ذعركِ كما لو أنها بئرٌ من الآبار ". فلما أنهت الخانم جملتها، جمدت " الشريفة " في الحال. أحنت رأسها قليلاً، متجنبةً مرة أخرى نظرة مخدومتها السابقة. هذه، رجعت لاستئناف كلامها بنبرة تفيض بتعاطفٍ لا يخفى مدى ما فيه من تكلّف: " وإذاً لدينا الآنَ شيئاً أجدى نتحدث فيه، أليسَ كذلك؟ ". عندئذٍ، غادرَ بريقُ الغموض عينيّ " الشريفة " ليحتل مكانه بريقٌ منتصر. لسانها أيضاً حُلّت عقدته، ولو أنّ اللوعة تلبّست ما فاه به: " كلّ اللازمة تلك، أعددتها أنت جيداً من قبل لكي تبتزينني بطفلتي؛ طفلة حبيبي فرهاد! فأرغبُ أن أطمئن قلبك لناحية المخطوطة، بأنها موجودة لدى شخص يتحرز عليها أكثر من حرصه على حياته نفسها.. أجل قلبك القاسي، الذي سيحترق إلى أن يتحقق مرادك باستحواذ ابنتنا. إنما هيهات أن تَظْفري بظِفرها، هيهات! ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا