الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عَيَّنة.. أسمها - فضة -! قصة قصيرة

يعقوب زامل الربيعي

2018 / 2 / 28
الادب والفن


قصة قصيرة ..
...........
بعد أقل من نصف المسافة التي على زوج ( فضة ) أن يقطعها عندما انزلقت قدمه، ليسقط بجذعه عليها، في لحظة كان هو في طريقه إلى حيث يجتمع الناس لوداع شيخ المقاطعات الأربع، ومع قليل من الشعور بالحيف، لم تخف زوجته ابتسامتها تشفيا، لحظة أخبرها أن عليه أن يحظر وداع الرجل قبل أن يلفظ نفس حياته الأخير.
بعد دقائق من أنتشار خبر موت الشيخ وخلو القرية من رجالها، وبين حشد النساء، كان على ( فضة ) أن تبدو ملفوفة بقوامها الاهيف مرفوعة الرأس حتى ليصعب تصديق أنها قبل قليل كانت موضع شك أكثر نساء القرية، والاكثر الآن كانت بها رغبة أن تضحك من إعماق احشاء بطنها، عندما لمحت، كيف أن بعض النسوة اللاتي تعرفهن بالاسم والشهرة التي تليق بالفضيحة، كن تناولن سمعتها، عندما شمخت أمام الجميع، تماماً كما كن كل ما اجتمعن في بيتها قبل اليوم، تناولن بتشفٍ سمعة فلانة وعلانة، بالضبط كما شعرن الآن وهن يتهامسن عندما رأين على وجهها بعض حبور الشماتة مذ سمعت مثلهن خبر الحادث الجلل، وكيف سرت بينهن كلمات الغمز واللمز وكأنهن سمعن للتو، وليس منذُ وقت ليس بالبعيد، أن الشيخ كان يتأخر أحيانا في بيتها لما بعد صلاة الفجر. وأنه وبمجرد اعتلائه صهوة جواده في الطريق لبيته، كان زوجها يرافقه راجلا مسافة من الطريق قبل أن يعود أدراجه ليكمل أمام زوجته حبور وجهه لأن الشيخ أختار بيته دون بيوت سواها للمبيت والصلاة.
لكم حاولت ان تثني زوجها من تلك المرافقة التي كانت تخجلها، لكنها وفي الغبش الأخير نادته قبل أن يعتلي شيخ المقاطعات الاربع صهوة جواده:
ــ " لا تفعلها اليوم. لا اريدك أن تتسرب ورائه كأنك ذيل حصانه " !
ــ " لكنه ضيفنا، وما اقوم به هو جزء من الضيافة ".
ــ " لكنك لا تفعل ذلك مع اي ضيف غيره ".
ــ " هو سيد هذه الارض. وسيد نعمتنا ".
وبنفس الاصرار ، كان عليها أن تؤكد له بعد أن دقت الارض بقدمها حتى أن حجلها الفضي الثقيل كاد يدمي رسغ قدمها:
ــ " نعم سيد اراضي الجهات الاربع، لكنه لا سيدي ولا سيد نعمتي "!
" ..... !!"
ــ " ويستحق الموت ".
لم يمض وقت طويل بعدما وارى أهل القرية والقرى المجاورة الأخرى، الشيخ الثرى، وسمع كما سمع الجميع بأن الشيخ قبل مماته ألقى ما في احشاء بطنه دماً، وعاد زوج ( فضة ) لبيته محمولا على دابة. طوال الليل كان على (فضة) أن تدرك تماماً، ما يعانيه زوجها سيء الحظ. هل بسبب الألم جراء كسر كاحل رجله اليمنى، أم أن أنينه وبكائه أحيانا، كان بسبب موت الشيخ. لذا لم تسأله طوال الليل، ولا حتى حين، شع ثمة ضوء أحمر، كالذي لابد منه في غرفة مغلقة تماما، كي لا يفسد تحميض الصور. وأن لا شيء غير البياض الباهر، كان كما شباك العنكبوت، يهدد أية محاولة للاشعاع. بَيْدَ أنها وقد انحدرت من تل موحش، حيث لم تكن ترى سوى أخاديدا تفتح اشداقها، وليس سوى لغة أجنبية، تستمع لطقطقة الحجارة تحت قدميها وصرير ابواب عتيقة، حين أغمضت عينيها في تلك اللحظات واعطته ظهرها لتلوذ بالنوم.
في الصباح، وحين عادت الارض تحت قدميها، أخذت تتنفس بعمق. وكما برتقالة اكتملت بنصفها المفقود، تلذذت ولأول مرة منذ أيام، بوجبة الخبز المحمص مع زبادي اللبن عندما تناولت فطورها بشهية. وحين أحست كمخلوقة ترفض البقاء في لثغة الماضي، وأن عليها أن تتبرعم من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، كانت تتفتح تحت سرها، وقد استكانت عليه. تمطقت رشفات شاي الصباح بتمهل، وكأنه هدية من سماء تُقطّر على جسد روحها حبات من عرق دافئ.
كان بها احساس عارم، أن تستعرض نفسها أمام مجموعة النسوة اللاتي كن كمن هوام حشرات، ينتظرن أن يُحمن حولها، عندما ستخرج كما خُيّل لهن، منفوشة الشعر، تجوس طريقها بوجهها الشاحب الاصفر الممتقع، مطرقة الرأس كعاهرة. لكن على عكس ما كن ينتظرن أثر مهاميز النظر وسيمياء تعابيرهن على وجهها، رفضن استعراضها باللامبالاة وكأنها تحادث شخصاُ آخر، لتؤكد لشبح غير مرئي وليس لهن فقط :" تلك هي إرادة الله ". وتلك كانت مؤنتها أن تبدو كما القطة النائمة على دثار دافئ، وتجعلهن تعيسات.
في تلك الساعة، والمطر ينهمر من فوهات قِربٍ هائلة، كانت البيوت الطينية تعطي انطباعاً بالعزلة وكأن تعباً لا متناهٍ قد سقط عليها مرة واحدة.
تذكرت، في أول كبوة للشيخ معها، وما أعقبها من كبوات، وكيف وهو المخذول، كان يضغط شاداً على فتق أسفل بطنه، وكيف بدا شبيهاً بكومة لحم وشحم نتنة يزحف على أربع، هرباً من بين ركبتيها المصطكتين، لأن ساقاه لم تستطع حمله خارج غرفتها وهو يزفر بكلمات متقطعة " من أنتِ، سوى امرأة ضعيفة؟! ". لكنه في الصميم، شعر، كأن كل تلك الاطيان والاراضي الواسعة التي يمتلكها وما له من النفوذ المتسلط، لم توفر له أبسط حماية لانكساره المريع أمام امرأة يستطيع تجويعها بدون تعب منه. وحين سمعها، وهي تدق على صدرها بقبضة يدها " أنا بنت أبي". واراها ظهر، لم يعد من بد‘ إلا أن يلوذ ذليلا.
قال صوت من داخل نفسها : " كان على الفاجر أن يعرف ما الذي ينتظره أخيراً ". عندما أعادت الغطاء على جسمها، شعرت بأنها تتكاثر في هدأة هذا الليل، ولأن بقية من الصوت ظل يتردد في تلك اللحظة : " كان عليه أن يخجل ولو مرة واحدة " أطبقت عينيها لتدلف للنوم.
في الليل البهيم والصدى المذنب يتكاثر، ولأن الكون لم يعد يتسع للحظة حزن واحدة، كانت ثمة عينين غائرتين تسبح في رأسها، ومن بين وجه شبح عاهر، ثمة بقع سوداء بحواجب كثة وأسنان معوجة، كانت تندس في احشاء بطنها، وتلك أصابعه التي تطبق على اكتافها وبين فخذيها، كلها أدوات جنائزية لوجه يفح بوجهها وعلى جسدها البض الفتيّ وكأنه يحاول التهامها. وحين تتخلص منه، تحس، لكأنها والنحس يطاردها، عليها أن تدفع ثمناً باهظاً قبل أن تخرج من الحياة بوجه أبيض. تلك الصور المكللة بالغار والازاهير، كانت تحيلها إلى نفس كئيبة لتتنهد من جديد مغرورقة العينين ومن ثم تتيه في قبو مليء بالقنافذ.
في كل مرة، يفح من صدرها صوت صدى مدوٍّ ما تلبث بعده أن تئن، لا كما تئن بسهولة بعض النساء حزناً، لكن بأسوء ما فيها، ثم تسقط كسيرة الخاطر.
شعور عميق يستحيل أحيانا إلى فقاعات شؤم كئيبة، وكأنها أول وآخر الخاطئين، تغزو رأسها تباعاً لا يمكن الخلاص منها. وأحيانا لقرارات كما معارك شتى، عندما تتخيل أنها ستجعله يلفظ كبده قطعة قطعة، وشتى عندما يستحيل الخيار إلى ثمة شذرات غير أكيدة حينها تمعن الفكر في ترتيب الأمر على نحو آخر.
" أية نهاية لهذه اللعبة ستختارين. وأي سبب قاهر هو الذي يجعلك تتحملين عبء ما لا يطاق السكوت عليه؟ ".
في مرة، فكرت أن تخبر زوجها بما يحصل. لكنها وقد شعرت بأن ما تفكر فيه من مآل " نهاية " لتلك الفقاعات الخبيثة، ليس على مقاس تفكيره. وأن جل ما سيفعله هو سيتوهج بالغضب ساعة أو يوم، ثم يهرب بها في ليلة ظلماء.
الوجه الملائكي لتلك الصديقة الوحيدة لوجهها، والمتطابق مع اضطراب روحها ومع تفاصيل ما يجيش في رأسها، هو من فتق في ذهنها صورة قدر الخلاص من تلك الفقاعات الخبيثة. حين أسرتها قائلة والعرق يتصبب من وجهها:
ــ " لا استطيع أن اعيش الليل والنهار مثل سبية. كفرت بحياتي كلها ".
في كل مرة يتبادلن التشكي وسرد تفاصيل محاولات الايقاع بهن. على أن بعض من الاصرار لاح على ذلك الوجه الملائكي في تلك المقابلة، وقد تغيرت تعابيره إلى صورة لشيء كارثي ، جعلها تعتقد بأن أمراً شديداً قد يقع في لحظة غير محسوبة:
ــ " سأقتله ! ". قالت ذو الوجه الملائكي، وهي تصّر على اسنانها.
ربما في تلك اللحظة، ثمة قرار كان على مد البصر، قد دلف باب قلب (فضة). وحين أحست ذات الوجه الملائكي، بأن يدها الصغيرة الدقيقة الاصابع، وهي تسلمها ليد صديقتها، تحولت كحمامة وديعة على صدر من لمعت عيناها بوهج أحر من الجمر.
في الصباح، وقد بقي طوال الليل آنّاً متوجعاً، شاهد كيف أن زوجته تناولت فطورها بوجه باش وقد عادت الدماء إليه. حاول أن يتماسك أمامها وهو يمضغ رغيف خبزها الحار. ولفترة ليست بالطويلة، كان بحاجة لإدراك ما كانت تعنيه وهي تستنكر خروجه راجلاً خلف حصان الشيخ. لهذا ضغط على مخارج الكلمة التي اسقطها بعناية:
ــ " لماذا "؟!
الفرح عندما يطفح، لا يسعه العثور عن سبب واضح عندما يملأ وجه الانسان بحبور السعادة.
ــ " كفى. ما عدتُ بحاجة لتكرار طلبي " قالت من غير أن تكف عن ابتسامتها الوديعة التي سكنت ثغرها.
ولأول مرة، لاحظ زوجها، كيف فعلت، ما ترك في نفسه شغف شديد، لأن يأخذها من يديها لفراش ما يزال في مكانه، عندما ضغطت أحد فخذيها بالآخر، وهي تتمطى بوسع جسدها قبل أن تظم يديها المشرعتين إلى صدرها والندى يشع في عينيها.
كان العرق ما يزال يتصبب من وجهه لحظة جنح وإياها تحت الغطاء. كان الوقت قد أزف لما أبعد من رضا اللحظة .. إلى حيث فوضى الجسدين
وقبل أن يتلاشيا معاً، سمعته يسألها:
ــ " هل أنتِ من فعل ذلك ؟".
عندها، وفي تلك اللحظة بالذات، كل ما فعلته، أنها مائت كما قطة تحت هياج:
ــ " أي "!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و