الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في العلمانية – 8 – عن الطبيعة البشرية، و تشابكها مع المقدَّس - 2 – فك التشابك.

نضال الربضي

2018 / 2 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قراءة في العلمانية – 8 – عن الطبيعة البشرية، و تشابكها مع المقدَّس - 2 – فك التشابك.


في المقال السابق من هذه السلسلة *** قمتُ بإبراز بعض أوجه القصور في تناول بعض العلمانيـّـِـن لموضوعات ٍ متعلقة بإيجاد حلول ٍ للمشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا الشرقية، و قد لخصتها في مبدا ٍ عام هو: التشابك الشمولي للطبيعة البشرية للفرد مع منظومته الدينية، ثم أفردتُ لبعض أوجُهِـهِ شروحات ٍ موجزة توضِّح كيفية هذا التشابك، و تأثيره على الأفراد و الجماعات.

أما مقالي هذا فيهدف ُ إلى تناول مبدأٍ أساسي في نجاح الجهد التنويري العلماني، و هو: فك تشابك الفرد مع المنظومة الدينية، أو بعبارة ٍ أخرى: تصريف مقتضيات الطبيعة البشرية في قنوات غير دينية. إن هذا المبدأ العام هو الأساس ُ الذي سينطلق ُ منه العلماني التنويري نحو الحلول الصحيحة لمشاكل المجتمع، كونها ستُبنى على نظرة واقعية تتبعُ قانون: السبب و النتيجة، لا تنطلق من موروث ٍ ثابت ٍ مُسبق لا يُمكن التعديل عليه أو توسيع دائرته أو مطِّ محيطه، لكن من منهجية ديناميكية تفاعلية بين الإنسان و بيئته المحيطة.


فك التشابك بين الشخوص الدينية و ما ترمز إليه
------------------------------------------------
تبينا في المقال السابق من هذه السلسلة كيف تتحول الشخوص الدينية إلى رموز تجسد المبدأ العام المرادف لِـ: الحقيقة و الأخلاق، بعد تغيب حقائقها التاريخية، و بالتالي كيف يتمثَّل ُ نقدها في وعي صاحب الدين على أنه هجوم على الحقيقة نفسها و محاولة لتهديم الأخلاق، و هو ما لا يُدركه الناقد في كثير ٍ من الأحيان، فيأتي الدفاع الشرس لصاحب الدين مفاجِئا ً للناقد، و يحوِّل موضوع النقد إلى غيره بنقله إلى ساحة مختلفة، فتتداخل المواضيع و تتشعب، في جو ٍّ مشحون، إلى أن ينهار مبنى الحوار و ينفضَّ المتحاورون عن بعضهم و قد ازداد كل منهم قناعة ً بما لديه، و ابتعادا ً عن الآخر، و يتحصَّل َ مُخرج ٌ جانبي غير مقصود هو: مساهمة النقد في تعزيز ِ قيمة الشخوص المنقودة في وجدان مريديها و بالتالي تمتينُ تشابكها مع الطبيعة البشرية.

من هنا تأتي أهمية فك التشابك قبل بدء الحوار، و الذي يجب ُ أن يبدأ:
بأن يوضِّح َ الناقد قبل كل شئ أنه لا يقصد إهانة الشخوص المنقودة لكن تسليط الضوء على جوانب معينة مما وصلنا عنها، و تناولها بالفحص و التحليل، للوصول إلى النتائج المنطقية المتعلقة بها، و إلى دلالاتها الصحيحة.

و ينبغي من أجل هذا الأمر:

- أن يكون الناقد على مستوى ً كافٍ من الإحاطة الشاملة بحياة الأشخاص التي ينقدها،

- و أن يجعل نقده على مراحل َ يُركِّزَ في كل مرحلة ٍ منها على حادثة ٍ أو موضوع ٍ مُحدَّد ٍ يدرسه بالتفصيل من جميع جوانبه، ثم َّ يلخِّص المفاتيح الرئيسية في تناوله و يوجزها كتابة ً، ثم َّ يُعيد ُ صياغتها على شكلِ: عرض ٍ تقديمي، مناسب ٍ للأفراد الذين سيتلقونه (هذا يعني أنه سوف يحتاج ُ إلى صياغات و عروض مختلفة بحسب كل جمهور).

- و أن يمتلك الناقد مهارات اتصال ٍ عالية، و ذكاء ً كبيرا ً، و قدرة ً على فصل ِ مشاعره الشخصية عن المادة ِ التي يعرضها، و مواقف الشخصيات التي ينقدها.
-و أن يفحص الحقائق المتعلقة بالشخوص الدينية.
و في حال الإقرار العلمي بها أن يُبرز كيف نتحصَّل ُ عليها من القنوات العلمية ِ و الفلسفات الإنسانية و مُنتجات الإبداع الفكري و الفنِّي، و بهذا يفتحُ عيني وعي ِ صاحب الدين على الحقيقة كشكل ٍ للواقع مُتصل ٍ به ناتج ٍ عنه، لا كموضوعات ٍ منفصلة تُؤخذُ من الشخوص الدينية بعد أن تتحول الأخيرةُ إلى رموز ٍ لها. علينا أن نهتم َّ بهذه النقطة بشكل ٍ خاص، لأنها مُفتاح ُ التغير في عقل صاحب الدين، الذي يعيش ُ في هذا القرن الحادي و العشرين مُحاطاً بالاكتشافات العلمية التي تزدادُ عدداً و تتطوَّرُ نوعا ً، و مُعتمدا ً على التقنية ِ التي تتشابكُ مع احتياجاته الفطرية (مأكل، مشرب، ملبس، مسكن، أدوات تواصل، أدوات نقل...الخ)، و هي التي لا يمكنُ له أن ينكر دورها أو حاجته إليها و بالتالي يقبلها تلقائياً، مما يُسهل على الناقد أن يشبكها فورا ً بمبدئها العلمي الذي تسبَّبَ في وجودها، و يمدَّ الخيط على استقامته ِ ليوضِّح المنهج العقلي الكامن وراءها، ليُسقطه على شمولية التجربة البشرية و يفسِّر بواسطته و على ضوئه كل ما يربطه صاحب الدين بشخوصه و ما ترمز إليه، هنا بالضبط و تحديداً يحدثُ: فك التشابك مع الشخص الديني الرمز.

أما في حالة كون هذه الحقائق مخالفة ً للعلم، فيجب ُ على الناقد أن يقدِّم َ الرأي العلمي كاملا ً، دون أن يجرِّح َ في الشخوص أو يُهينها، و أن يجعل كل َّ تركيزه على نقد تلك الحقائق فقط لا من أتى بها، مبيـِّـنا ً كيف يعتبرها العلم موضوعات ِ إيمان لا حقائق، و بالدليل الذي لا يمُكن رفضه علميا ً، مع الاستعداد لتفنيد الأدلة التي يُردُّ بها عليه، و بالمنهج العلمي الصحيح.

- و أن يحرص َ كل َّ الحرص على عدم وصم الشخصيات المنقودة بأي ِّ نعت ٍ تحقيري أو استعلائي، لأن هذا السلوك َ هو انتكاس ٌ إلى مستوى بدائي غير ناضج من النقد من جهة، و عامل ٌ تدميري ٌّ للنقد، و كفيل ٌ كفوءٌ بتحصين دفاعات مريد الشخصية الدينية دون بلوغ ِ الجهد التنويري هدفه.

من الضروري جدَّا ً هنا أن ألفت نظر القارئ الكريم أنني لا أقصد ُ أبدا ً أن يقول الناقد غير الحقيقة (أن يكذب أو يُداري أو يتَّقي أو يراوغ َ أو يخاتل أو ينافق)، لكن أقصدُ بكل ِّ وضوح ٍ إلى إبراز أهمية أن يكون الناقد مؤهلا ً علميا ً و أكاديميا ً و إنسانيا ً للنقد، فيعرفَ كيف َ يقول الحقيقة َ كاملة ً دون نقصان بطريقة مهنيةٍ.

و بمنتهى التأكيد أقول ُ أن الكثير من القراء الكرام سيستنكرُ هذا الطرح كونه: يحصرُ النقدَ في قلَّة ٍ ممن يمتلكون المؤهلات ِ التي أتناولها و يصادر حرية الرأي و حق التعبير للباقين، أو سيكونُ (في نظرهم طبعاً) ضعيفا ً غير ذي تأثير أو مُهادنا ً ممجوجاً.

دعونا نتأمل هذه الاعتراضات سويَّاً:
-من جهة الاعتقاد بحصر النقد في قلة ٍ ممن يمتلكون المؤهلات المطلوبة أقول: نعم النقد المفيد للقلَّـة المؤهلة، هذا ما أطرحه بالضبط، النقد المفيد.

-من جهة الاعتقاد أنني أصادر حق الباقين في النقد أقول: لا أبداً! فمن حق كل إنسان أن يقول ما يريد و ما يعتقد سواء ً كان مفيدا ً أو غير مفيد، مألوفا ً أو غير مألوف، فهذا حق ُّ إنساني طبيعي أعتنقه و أنادي به، و هو من أخص ِّ الأفعال المُترجمة للطبيعة البشرية. إنما أتناول في مقالي هنا النقد المفيد الذي نحتاجه لإيجاد الحلول لمشاكل مجتمعاتنا الشرقية.

بالطبع يجب أن تقول الناس ما تريد، لكنَّ الأفعال تستدعي ردود الأفعال، و المستويات الإنسانية للتفاعل غير محصورة، و نتائجها كثيرة متشعبة، منها ما سيكون على قدر التوقع و الرغبات، و منها ما سيعاكس بدرجات، هكذا الحياة، و هذا قانون السبب و النتيجة الذي يعلمنا أن من يريد الأخيرة عليه أن يُحسن إنشاء الأولى أو تحصيلها، و إلا خاب الجهدُ و ضاعَ الفكر في صراعات ٍ دونكيشوتية عبثية، تُبعد البشر عن بعضهم في الوقت الذي يجب أن يقتربوا فيه و يتلاقوا على اختلافهم، محافظين على هوياتهم المختلفة لإغناء الهوية الإنسانية الشمولية الجامعة.

-من جهة ضعف النقد أقول: الـتأهيل الأكاديمي الصحيح يضمن أن يكون المحتوى متيناً شاملا ً، و أن يكون عرضُهُ متقناً، فهذه من شروط التأهيل و بديهياته، و بالتالي من مقوِّمات قوة المعروض و ضمان تأثيره الإيجابي نحو التغير المنشود.

-من جهة النفاق أو المهادنة أو المخاتلة أقول: مصدرُ هذا الاعتراض هو كون المُعترض لا يُدرك متطلبات التأهيل و لا يفهمُ مقتضياتها و معانيها و نتائجها، كونه ينتمي إلى ثقافة تعتقد ُ أن الهجوم َ و البأس و الشدة و الاستعلاء في الخضاب و الوقاحة الشُّجاعة الإيجابية (كما يحلو للبعض أن يعتقد) و السعي إلى تحطيم الآخر هي الطريق ُ الواحدة التي لا يوجد غيرها و التي تضمن ُ التغير، و هذه للأسف مفاهيم ٌ ضحلة شائعة الانتشار، لسهولة ِ الأخذ بها، و تناسبها مع المقدرة العقلية التي تدور حول المتوسط أو تنزع ُ إلى ما هو أقل، و انسجامها مع عدوانية الشخصيات التي تتبنَّاها و ثقافتها العامة في التعاطي مع الآخر، و غياب ِ توفُّر ِ البدائل الأعلى عن المُتاح للمجموع العام الذي سيجهلها بالنتيجة.

الفهمُ الصحيح لمعنى التأهيل سيقود مجموعات ٍ كثيرة من النقاد إلى تطوير أنفسهم قدر الإمكان و باضطراد، لتبني النقد العلمي الأكاديمي الصحيح الذي سيصيب هدفه بدقة، مُحدثا ً أمرين اثنين:

- التغير المنشود.
- التقارب الإنساني.

سأكتفي بهذا العرض لنقطة ِ فك التشابك مع الشخوص الدينية،،،

،،، شاكرا ً للكريمات و الكرام من القراء وقتهم و جهدهم،،،

،،، و إلى لقاء ٍ جديد نستكمل ُ فيه ِ موضوع فك التشابك.



------------------
مواضيع ذات صلة:
*** قراءة في العلمانية – 7 – عن الطبيعة البشرية، و تشابكها مع المقدَّس.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=589216








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س