الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عجائبية الحكي والمحكي في قصص أحمد بوزفور من خلال قصتي -سرنمة- و-طرح السر-

أحمد القنديلي

2018 / 2 / 28
الادب والفن


عجائبية الحكي والمحكي في قصص أحمد بوزفور
مـــن خلال قصتي : "سرنمـــــة " و " طرح الســــــر"

" إن العجائبي يتحدد بصفته إدراكا لأحداث غريبة " (1). ولنقل للدقة، إنه يتحدد بصفته إدراكا لشيء عصي على الإدراك. وهذا الإدراك ما هو في جوهره إلا جهل مضاعف بطبيعة الشيء المدرك. وبسبب هذه الخاصية الغريبة للعجائبي تنتهي العلاقة بين الدال ومدلوله ومرجعه على السواء، لتثبت ذاتها على نحو مجازي مضاعف داخل عالم اللغة الأدبية وليس خارجه.
ولهذا الاعتبار يمتلك العجائبي القدرة على إضفاء مفهوم نوعي متجدد للأدب ليس باعتباره تخييلا للواقع، بل باعتباره تخييلا للمتخيل، وبناء للمعنى من خلال اللا معنى.
أما هذا المعنى الذي يولده اللا معنى، فانه يصبح لا معنى مضاعفا. وهنا يكمن ســــــر كثافة العجائبـــــي؛ الشيء الذي يجعلـــــــه ممتعا على نحــــو خاص. إن كل "ما يحدث العجب يحدث اللذة" (2).
يحرص أحمد بوزفور في قصصه على الاحتفال بالعجائبي على مختلف المستويات. وهو بذلك يبني علاقته بالواقع بعيدا عن كل جاهز. إنه يؤسس تصورا للأدب ليس باعتباره تعبيرا عن فكر ما، أو تخييلا فنيا لواقع ما، بل باعتباره إنتاجا لمعنى ممكن جديد يدفع المتلقي، من حيث هو ذات متخيلة، إلى صياغته أو تمثله أو توهمه على الأقل. ولذلك، فبقدر ما لا يعتمد بوزفور الجد في الكتابة لا يعتمد الهزل. إنه يعتمد اللعب الذي يمنح لغته طاقة هائلة من السخرية.
أ ـ عجائبيــــــة المحكــــــــي:
من مظاهر العجائبي التقليدي بناء الحدث بناء محكما. وذلك على الرغم مما يمكن أن يتضمنه من وفرة في التفاصيل. وعلى العكس من ذلك تماما يبني العجائبي الحديث محكيه بطريقة مبعثرة يصعب اختزال تفاصيل الحدث في ثناياها.
تعالج قصة " سرنمة " موضوعة التهميش المادي والاعتباري للفئات الاجتماعية التي ناضلت من أجل الاستقلال دون أن تتمتع به وتنتفع منه، والتي استمرت تبعا لذلك تنتقد شكله ومضمونه، ولا تعترف بما ترتب عليه من نتائج. غير أن السرد لا يقدم تفاصيل هذه الموضوعة السياسية الهامة. فهو إذ يوهم بأهمية الموضوع، لا يلبث أن يتركه ليهتم بصاحبه، ثم لا يلبث أن يتركه هو الآخر عرضة للتيه.
ولذلك يتبعثر الموضوع الرئيس " لم يسكت، أبوه أيضا، لم يسكت حين حاولوا إغراءه بعد الاستقلال...(3) ضمن مواضيع أخرى نتعرف عليها بواسطة سرد ذاتي يتزأبق لينقلنا من عالم إلى آخر( العرس، سراق الزيت، الحافلة، الطريق، البيت، الحافلة...)
إن السرد يهذي كي ينقل حوافز متناثرة لا رابط بينها، سواء كان هذا الرابط سببيا أو منطقيا. ويرجع السبب إلى طبيعة المحكي الذي يتم في الذهن المضطرب بعيدا عن كل عالم مسرود عنه يمكن أن يوهم بواقعيته.
في قصة " طرح السر " تتضح هذه الطبيعة المبعثرة للمحكي بصورة أعمق. إن الشخصية تكثر من الأسئلة "ما الذي تخفيه النظارتان السوداوان؟ (4)" كي تفهم العالم، ولكن دون أن تستطيع إلى ذلك سبيلا. وكيف لها ذلك وهي تجهل ذاتها وتجهل أقرب التفاصيل المتصلة بها. " أين يمكن أن أكون قد كنت ؟ لا أدري، لم أقل لي" (5)
لكننا لا نلبث أن نكتشف مع هذه الشخصية المبأرة دهاليز الأشياء الغامضة. لقد كانت مهووسة بصاحبة النظارتين السوداوين، وبسيارتها البيضاء التي ستمتطيها عنوة لتلج دهاليز التعذيب والاعتقال... ولتستنطق حول أشياء تعرف بعضها و تجهل أكثرها.
تطرح قصة "طرح السر" موضوعة الاعتقال السياسي بأسلوب عجائبي يعتمد اللعب المتعدد الأشكال. تقدم شخصية المعتقل السياسي في غاية البساطة، لكي تعلي من جوهرها الإنساني، ولكي تفضح الوجه البشع لآلة القمع التي تهول من الأشياء من أجل تدمير أية فكرة بسيطة تسعى إلى تغيير العالم.
غير أن بساطة المعتقل السياسي لا تعني ضحالة فكره. ففي قمة التعذيب، وحين همَ بطرح السر كتب بيديه " قطتي صغيرة اسمها نميرة " (6).
ولأن الموضوع مبعثر، وغير مكتمل تنتهي القصة بحكي رومانسي يتحدث عن حصان أدهم ـ هو المعادل الرمزي للشخصية ـ يعدو نحو الأفق ليجد نفسه وسط مياه عميقة سوداء.
إن كل الأحداث المدركة في كلا هذين النصين غريبة. أما مصدر الغرابة فيها فمرده غياب علاقة حقيقية ممكنة بين الحوافز السردية التي من المفترض أن تنتظم كي تبنيها. وعلى سبيل المثال لا وجود لعلاقة ممكنة بين سماع الناس للحديث، وسماع سراق الزيت أيضا، أو بين وجود الشخصية في الحافلة، ووجودها في ذات الوقت في دار العرس تراقب حركة سراق الزيت.
كما لا وجود في قصة "طرح السر" لرابطة بين سقوط جدار برلين، وبناء كوميسارية في الحي، أو بين دخول الجيش الأمريكي إلى جزيرة العرب، وبطالة الخريجين... ولكن السرد يقيم العلاقات بين هذه الأشياء من أجل الإمعان في بعثرة الموضوع بما يمكن من نسج عجائبيته، وتبعا لذلك من تعميق دلالاته.
2- عجائبية الحكــــــــــي:
في كلتا القصتين "سرنمة" و"طرح السر" يعتمد السارد ضمير المتكلم. وبذلك يوهم بالتماهي بينه وبين الشخصية الفاعلة، وبينه وبين المؤلف أو السارد السيميائي كما يسميه كريزنسكي (7).
غير أننا نجد أنفسنا مطالبين بالتمييز الوظيفي بين هذه العناصر الثلاثة (المؤلف، السارد، الشخصية) اعتبارا للمسافة التخييلية القائمة بينها (8). إذ بدون ذلك تصعب مفصلة إيديولوجية المؤلف الواقعي عن إيديولوجية المؤلف النموذجي، أو إيديولوجية السارد عن إيديولوجية الشخوص القصصية.
في قصة " سرنمة " يحرص السارد على الحفاظ على الطابع السردي الخالص للمحكي، فيجعل من كلام الشخوص القصصية المفرد أسلوبيا خطابا شبه سردي. غير أن الموجهات (الضمائر) والمؤشرات الدلالية (التعابير الانطباعية المعبرة عن ذاتية الشخصية) والترقيمية (القوسان، نقط الحذف... ) هي التي تبقي على الخطاب الذاتي للمتكلم من حيث هو خطاب إيديولوجي خاص.
يوهم السارد في " سرنمة " قارئه بمعرفة كل شيء "صاحبي سكران، يبدو له الناس أطيب الناس، والناس أخبث الناس، وأبدو له مشروعا حافلا بالإمكانات." (9) ولكنه وهو يستمر في نقل التفاصيل، يتطور الحكي، فتضيق المعرفة تدريجيا.
وبذلك يستمر السارد في تقديم محكي ذي تبئير داخلي ثابت يعرض الأشياء من خلال وعيه وحده دون غيره "لا أحب أن أسمع الكذب الذي يعرف صاحبه أنني أعرف أنه كذب" (10). غير أن هذا الوعي الذي يحضر مبعثرا يقدم تبعا لذلك صورة مبعثرة للعالم "ونظر صاحبي إلي ( لابد أنه نظر إلي )" ص (11) " وتابع التشريح غالا، غالا غالا " أما أنا فتسرنمت، دوخني الضوء والحرارة واللغط ".
وفي حضور هذه الدوخة يتسرنم الحكي في الزمان دون أن يتسرنم في المكان، يتنقل بين أمكنة مختلفة: الزربية، البيضاء، الحافلة، الشارع... دون أن يبرح فضاء العرس.
في قصة " طرح السر" يهيمن السارد ليس على المحكي فقط ( خطاب السارد وخطاب الشخصيات ) بل على الحكاية وعلى عالمها المرجعي. (11)
يعتمد منذ البدء رؤية سردية من الخارج يعرف أقل مما تعرف الشخصية التي يحكي عنها سواء تلك التي هي هو كما يبدو، أو تلك التي ليست هي هو/ صاحبة النظارتين السوداوين التي بدت له امرأة فاتنة سار خلفها مرارا. والحال أنها هي التي كانت تسير خلفه.
بحضور هذه المفارقة يستحيل على السارد أن يسرد حتى ولو أوهمنا بذلك. إن السرد مشروط بمعرفة ما. أما أن تكون المعرفة مقلوبة، فهذا معناه أن السارد لا يحكي، بل يهذي..." غبت سبعة أيام، أين يمكن أن أكون قد كنت؟ لا أدري؟ لم أقل لي" "أفتح فمي كالأبله " "قال السيد ال... ورد السيد ال... وختم السيد ال..." (12)؛ ليقدم صورة غريبة عن عالم غريب يتداخل فيه الصمت بالكلام: يعبر الصمت مكان الكلام، والمتخيل مكان الواقعي، والمجازي مكان الحقيقي. فبسبب من عجائبية المرجع كما تصوره المؤلف الواقعي عجز السارد عن الحكي فتمكن من فضح المسكوت عنه بصورة مضاعفة.
ومن أجل أن يرتدي السرد اللباس العجائبي، تناص النصان معا مع خطابات مختلفة مثل الخطاب الدارج " غالا..غالا..غالا" والثقافة الشعبية "رائحة الجاوي"، "والفرنسية الممغربة" النرفزة، الطوبيس، الكوميسارية..."، والخطاب الشعري المتضمن لوحدات معجمية دارجية "وبدأت أنظر الى كلماته، كلمات جميلة تلبس المايوه"، ومع الأغنية " أحضي راسي من القومان"، ومع الخطاب الإشهاري" أنا أصبن أحسن".
إن تداخل اللغات في كلا النصين جعلهما "علائقيين بامتياز" (13). وبقدر ما ساهم هذا الطابع العلائقي في بناء كينونتهما الفنية، بقدر ماساهم في طبع العجائبي فيهما بطابع أخَاذ.
إن الأدب في جميع الأحوال شهادة من نوع خاص على الواقع والتاريخ. غير أنه حين يرتدي العجائبي لباسا يغدو شهادة على واقع أكثر جوهرية وأكثر عمقا. فلا توجد في نهاية المطاف مسافة بين الواقعي والعجائبي. إن المسافة الوحيدة الموجودة بينهما مسافة توتر تخييلية تحتاج إلى من يقاربها.













الهوامش

(1) موضوعات العجائبي ( مدخل نظري): تزفيتان تودوروف، دراسات أدبية لسانية: ع1، سنة 1987 ص: 136.
(2) الأدب والغرابة. عبد الفتاح كليطو، ص: 59، دار الطليعة، سنة: 1983. انظر أيضا العين والابرة ص: 120 وما بعدها دار الفنك 1996.
(3) مجلة آفاق( اتحاد كتاب المغرب ): ع 1- سنة 1989، ص: 29.
(4) مجلة آفاق ( اتحاد كتاب المغرب ) ع1- سنة 1992، ص: 13-14.
(5) نفسه: ص 14 و 16.
(6) نفسه: ص 15.
(7) من أجل سيميائية تعاقبية للرواية. عبد الحميد عقار، مجلة آفاق، ع 8، سنة: 1988.
(8) انظر مقال جاب لينتفلت: مستويات النص السردي آفاق،ع 8، سنة: 1988. ص 79 وما بعدها.
(9) آفاق: ع1، سنة:1989 م ص 29.
(10) نفسه ص: 30
(11) نفسه ص: 30.
(12) آفاق: ع1، سنة: 1992 ص 16.
(13) كريزنسكي آفاق ع 8 سنة 1988 ص 167.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با