الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أثيوبيا: حكم ال 6% والدروس المستفادة

محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)

2018 / 2 / 28
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


إن مناسبة إستقالة هيلاميريام دسالنج من رئاسة الحكومة الإثيوبية وتنحيه عن قيادة التنظيم الحاكم، تمنحنا سانحة للتعليق، في هذا المقال، على ما يدور في إثيوبيا كأحد اهم الأقطار في افريقيا والدروس التي تعطيها تجربتها للبلدان المشابهة.
إن إشادة البعض بوطنية هيلاميريام دسالنج بتنحيه عن الحكم المصحوبة بحديثهم عن الدرس الذى تقدمه استقالته للمستبدين الآخرين فيها كثير من التسرع وتفتقد للدراية بالواقع الإثيوبى المعقد. فهيلاميريام دسالنج ترك الحكم مجبراً تحت الضغط والاحتجاجات الشعبية المتزايدة والصراع داخل الجبهة الحاكمة؛ وأن المذبحة التي حدثت لقوميات الارومو والامهرا فى عام 2015 تمت تحت إمرته (نتعرض أدناه لأحداث 2015). والدرس الصحيح الذى يجب أن يتعلمه الجميع من نهاية دسالنج هو أن الطغاة أعداء الشعوب لن يستسلموا طواعية وعن طيب خاطر. وما يجب إدراكه هو طبيعة اللعبة التي صارت تمارسها الأنظمة المستبدة: التضحية بالمسئول الأول (أو غيره من المسؤولين) وإبداله من داخلها (وحتى من خارجها) بمن يحافظ على لحمة النظام كما هي؛ وحالتى زمبابوي وجنوب أفريقيا تقف شاهدا على هذا حيث صعد للسلطة السياسية الزيمبابوي إيمرسون منانغاغوا مهندس سحق معارضى نظام موغابى والجنوب أفريقى سيريل رامافوسا وجه البرجوازية الجديدة "السوداء" التي آلت لها السلطة، فهو المحامى الذى أصبح اغنى أغنياء العالم في سنوات قليلة عقب إزالة نظام الأبارتيد.

تخضع إثيوبيا لحكم ما يسمى”الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوپية" وهى إئتلاف صورى، مكون من أربعة أحزاب، تسيطر على قيادته صفوة من قبيلة التقراى في تنظيم " الجبهة الشعبية لتحرير التقراي" وتستغله كغطاء لتعزيز هيمنتها المطلقة على الدولة الإثيوبية بعد صعودها للحكم في أوائل تسعينيات القرن الماضى بواسطة العمل المسلح إثر هزيمة النظام العسكرى لمنغستو هيلا مريام.

ليس هناك أدنى شك في أن إنتصار التقراى، الذن يشكلون 6% من السكان في الحرب الأهلية في 1991، كان انتصارا كبيراً للأقليات القومية في إثيوبيا التي عانت الويلات والحرمان في كل نواحى الحياة خلال الحكم الإمبراطورى؛ كما أن ذلك الإنتصار مثل نتيجة تراكمية لنضالات طويلة سلمية ومسلحة قادتها الإقليات الإثيوبية (الاورومو والارتريون، الخ) ضد المركز في اديس أببا. ولكن يجيء حكم " الجبهة الشعبية لتحرير التقراي" بعد أكثر من أربعة عقود على سقوط النظام االإمبراطوري في 1974 ممارساً لسياسة الفدرالية الإثنية (ethnic federalism) والتصنيف العرقي (ethnicization)، والنتيجة هي أنه رغم الكسر النسبى لحالة العزلة والظلام الدامس والفقر المدقع (منذ سقوط الإمبراطور هيلا سلاسى) التي فرضها على إثيوبيا النظام القديم بمؤسساته ذات التكوين الإقطاعي، إلا أن شعوب البلاد ما زالت تئن تحت وطأة القهر السياسى والفاقة والمجاعات.

لم يقدم حزب” الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوپية" الحاكم أي رؤى جديدة لمسار إثيوبيا على الصعيدين السياسى والإقتصادى رغم إدعاءت الحكام بغير ذلك. قُسمت إثيوبيا في 1996 إلى تسع أقاليم على أساس ساكنيها من المجموعات العرقية وأدى التقسيم على أساس عرقى على تنامى العصبية العرقية وتقوقعت كل إثنية في إقليمها وصار كل إقليم ينظر إلى القضايا التي تواجهه بمنظار إثتى وظهرت أحزاب تم تكوينها على أساس العرق: “الجبهة الشعبية لتحرير التقراي " - "الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو" - "الحركة الديمقراطية لقومية الأمهرا" - "الحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا". والفدرالية الإثنية أدت إلى عزلة الأقاليم عن بعضها البعض رغم العامل المشترك بينها: الفقر المدقع لمواطنيها. كما أن تعيين دسالنج، الذى ينتمى إلى اقلية إثنية تقطن الجزء الجنوبى من البلاد تعتنق اللاهوت المسيحي البروتستانى التوحيدى ديناً وتمثل اقل من واحد في المائة من ال 60% من السكان المسيحيين الأرثوذكس الشرقيين والبروتستانت المثلثين، لا يعطى مؤشراً لإنفراج سياسى في تمثيل الأقليات في الحكم بقدر ما هو لافتة للحكم الذى تسيطر علية، كما مر ذكره، بقبضة محكمة” الجبهة الشعبية لتحرير التقراي“.

وعلى الصعيد الإقتصادى فإذا ما إستدعيتا تجارب الدول الأفريقية الأخرى جنوب الصحراء فسوف نجد أن إثيوبيا تحت حكم الجبهة المذكورة سارت على نفس نهج حكومات تلك البلدان في إدارة الحكم، وإنْ بدرجات متفاوتة؛ فالبرجماتية هي أسلوبها في إدارة الاقتصاد الوطنى الذى تتبعه بإحتكارها التام للقرار السياسى؛ واهم سمات البارادايم الذى تتأسس في إطاره السياسات الاقتصادية هو الاعتماد على القروض والمعونات الخارجية وتطبيق السياسات المدمرة للمؤسسات المالية الدولية.
بحلول عام 2005 اتضح فشل” الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" في التصدي لمعالجة المشاكل المستعصية التي تواجهها البلاد إذ أخذ الرفض الشعبي لنظام الحكم يتعاظم؛ وتمثل هذا الرفض في تصويت الأغلبية الساحقة من الإثيوبيين ضد النظام في انتخابات عامة أجريت في 2005 وهي النتيجة التي رفضتها الحكومة وسارعت لإعلان فوز حزبها. واتبعت الحكومة الانقلاب على نتيجة الانتخابات بحملة من البطش بالمعارضين القوميين من تنظيمات الارومو والامهرا والناشطين الإسلاميين والصحفيين ووصف الجميع بأنهم إرهابيون.

وعقب أحداث 2005 الدامية، حيث قلبت له الديمقراطية الليبرالية ظهر المجن، أخذ مليس زيناوى يروج لما أسماه " الدولة التنموية- developmental state" وأساسها النظرة الاقتصادوية (economism) التى تنفى أن السياسة هى التعبير المركز عن الاقتصاد، بمعنى أنه إذا كان الواقع الاقتصادي/الاجتماعي هو ما يحدد الوعى وبالتالي مسار التاريخ فإن هذه العلاقة الجدلية تجد تعبيرها في السياسة. وفى اعقاب التوجه الجديد انطلق فجأة العزف على مقولة " المعجزة الاقتصادية الإثيوبية" ومنشأها الغرب وغردت معها بعض النخب في دول الجنوب. والمعجزة كما يرى مروجوها تتمثل في متوسط معدلات نمو سنوية في الدخل القومى تقدر ب 6% خلال العقد الأخير، تفاصيلها كلاتي: 36% للزراعة و20% للصناعة و44% للخدمات. لكن التفاخر بالمعجزة الاقتصادية لا تدعمه القرائن الإمبيريقية فى الواقع الإثيوبى.
وقدرت المؤشرات الإحصائية للبنك الدولى أن نسبة البطالة في 2017 تقدر ب 17% ونسبة الفقر المقدرة في 2012 ب 44% انخفضت الى 17% في 2017. والبنك الدولى إعتمد على إحصائيات الوكالات الإثيوبية المتخصصة.

إن الحكمة الخالدة توصى بالتناول النقدي للإحصاءات التي تصدرها حكومات الدول وخاصة الدول الفقيرة، ومنها إثيوبيا، التي يتحكم في إدارة شؤنها الطغاة وتنعدم فيها الشفافية. والتناول النقدي للإحصاءات المحلية والعالمية ينتفع كثيراً بإجراء مقارنة النتائج بمراجعة (cross-referencing) عدة مراجع حول الموضوع الخاضع للدراسة؛ بالإضافة إلى أجراء التحقيقات والدراسات الإمبريقية الجادة للإلمام بحقيقة مكونات الإقتصاد وتأثيرها على المجتمع.

لا نريد في هذا الحيز ان نعطى رأياً قاطعاً حول صحة الاحصاءات الإثيوبية، فالرأي النهائي حول هذا الأمر ما زال يتعين الوصول إليه القيام بالمزيد من البحث والتقصى (the jury is still out)؛ لكن ما نطرحه هنا هو أن إحصائيات الوكالات الإثيوبية، التي جرى الاعتماد عليها في تحديد مؤشرات الاقتصاد الكلي، لا يعطى الواقع مؤشراً على صحتها، وحتى لو كانت تلك الأرقام صحيحة فإنها لا تشئ بحدوث طفرة اقتصادية بالمستوى الذى يروج له النظام الحاكم؛ والحقيقة هي أن إثيوبيا ظلت خلال ال 34 عام الأخيرة، منذ سقوط هيلاسلاسى، مواجهه بالتحدى الذى يفرضه التعامل مع المهام الهائلة الغير منجزة (backlog) فى الحطام (ruins) الذى ورثته البلاد من النظام الإقطاعى القديم وهى الآن في أحسن الأحوال إقتربت أو كادت أن تقترب من المستوى التنموى لكثير من الدول الأفريقية جنوب الصحراء مثل يوغندا وغانا ووتنزانيا وكينيا.

وهكذا على ضوء حقائق الواقع الإثيوبي تثور كثير من الأسئلة حول المعجزة الاقتصادية الإثيوبية المزعومة، وهى الأسئلة التي عبرت عنها مجلة الإيكونمست في عددها الصادر في الثانى من فبراير 2012 حيث علقت على الزيادة في الدخل القومى لإثيوبيا قائلة” .. رغماً عن ما يصدر من البنك الدولى وصنوق النقد الدولى والدراسات التي يجريها الاقتصاديون لصالح المانحين، فإنه غير واضح ما هي صحة الإحصائيات التي تعدها إثيوبيا. إن الحياة صارت صعبة بالنسبة للإثيوبيين في العاصمة والمدن الأخرى نسبة لغلاء المعيشة......وحتى إذا أمكن الاستفادة من تلك الإحصاءات بصورة ما، إلا أن التنبؤ بأن الاقتصاد ينمو بمعدل رقمين (double-digits)، الذى تذيعه حكومة مليس زيناوى، يبدو أنه مجرد أوهام. “

ومن هذه الأسئلة:

* كيف يمكن تفسير المجاعة الحالية التي تواجهها إثيوبيا بشكل متكرر (حالياً يعانى منها حوالى 15 مليون شخص)، فحجم الإنتاج الزراعى (إنتاج الحبوب هو الأهم في هذا القطاع) حسب” هيئة الإحصائيات المركزية الإثيوبية (CSA)“ بلغ فى المتوسط 36% من الدخل القومي. وعليه إذا كان هذا الرقم قريباً من الحقيقة، فلماذا تحدث المجاعة بهذا الحجم المأساوي.
* قدرت” هيئة الإحصائيات المركزية الإثيوبية “متوسط الزيادة السنوية في إنتاج الحبوب للفترة 2016-2017 ب 66% في حين أن متوسط معدل الزيادة لنفس السلعة والفترة، حسب البنك الدولى، في كينيا وتنزانيا كان 23% و34% على التوالي. وعليه كيف يمكن تفسير هذه الأرقام باعتبار أن الدولتين المذكورتين تمتلكان قطاعين زراعيين أكثر تقدماً مقارنة بإثيوبيا من ناحية الملكية والأساليب الفنية المستخدمة.
* إذا كان الدخل القومى يزداد بالشكل الهائل الوارد في الإحصائيات الإثيوبية، فلماذا تعتمد البلاد على معونة سنوية ثابتة، خلال الفترة 2015-2019، تقدر ب 3.5 بليون دولار، مصدرها “ المعونة الإنمائية الرسمية" – " Official development assistance (ODA)" التي يقدمها مانحون مختلفون ودول بعينها. مع ملاحظة أن هذه المعونة تمثل حوالى 8% من مجمل ما تتحصل عليه جميع دول أفريقيا جنوب الصحراء: 44 بليون لنفس الفترة.
* تكوين الدخل القومى لا يقدم توازناً معقولاً بين قطاعى الإنتاج والخدمات التى تمثل 44%. فالانحياز الكبير إلى جانب الخدمات لا يسمح بطفرة اقتصادية.

وفى الختام لابد من التأكيد على ان النمو الإقتصادى، الزيادة في حجم الإنتاج الصناعي والزراعى والخدمات أو في قيمتها، لا يعنى التنمية التي تشمل فيما تشمل التغيير الإجتماعى الذى يتضمن تحسين مستوى معيشة الناس وتحديث حياتهم الثقافية بشكل عام. لكن النمو يقود للتنمية في التحليل النهائى؛ فالعلاقة بينهما جدلية وهناك القوى المجتمعية التي تمسك بزمام الأمور هي ال (agency) التي تحدد إلى من تؤول إليه فوائد التنمية.

إن إثيوبيا جزء من البلدان الطرفية الفقيرة المغلوبة على أمرها، وهى تئن فى الوقت الحاضر تحت وطأة سيطرة الشركات العالمية الكبرى فى أكبر عملية نهب إقتصادى لدولة من دول افريقيا جنوب الصحراء. وتغلغل رأس المال العالمى في الاقتصاد الإثيوبى يشمل شراء الاراضى الزراعية التي تنزع من المجتمعات المحلية ويخصص إنتاجها للتصدير لصالح شركات التصنيع الزراعى العالمية (أو لإنتاج الزهور التى تصدر لأروبا)، والأثر السلبى لهذا الإستثمار تكشفه هجرة المواطنين نحو المدن للعمل كأجراء وأغلبهم يعيشون حياة رثة. كذلك يوجَّهَ جزء كبير من الإستثمار الخارجي لإنشاء البنى التحتية، كالاتصالات ووسائل المواصلات، التي تخدم النشاط الاقتصادي بتكوينه التابع السائد.
وإثيوبيا تحكم بقبضة أمنية شديدة القسوة والعنف؛ فنتيجة للأحوال المعيشية البائسة للمواطنين شهدت إثيوبيا في 2016 ومطلع 2018 إنتفاضات جماهيرية حاشدة ضد النظام الحاكم شملت جميع أنحاء البلاد وبشكل واسع في أكبر أقليمين فى البلاد (الأرومو والامهرا) حيث تعادل نسبة السكان فيهما أكثر من 65% من سكان البلاد. وقوبلت إحتجاجات المواطنين بالبطش العنيف والتنكيل. وهناك إشارات على أن الصراع حول السلطة السياسية أخذ منذ وقت طويل يكتسب بعداً إثنياً غذته سياسة الفدرالية الإثنية السايق ذكرها ورسخه التقوقع الإقليمى والسياسى الذى وجدت القوميات نفسها فيه؛ فالصراع المتنامى بين القوميات لا تخلو الأخبار منه، وتصعيده ظل يجد طريقاً له في الأفكار التي يروج لها المثقفون مثل البروفيسور الإثيوبى العالم الشهير جيتاشو هيلا (Getachew Haile)، المتخصص فى علم فقه اللغة (philology)، الذى كتب في إحدى مقالاته في 2006 ناقداً الحكم في إثيوبيا ليس من منطلق موضوعي يتناول السياسات، بل فقط هكذا: "إن التقراى كأقلية لا يمكن أن يحكموا الامهرا والارومو الذين يشكلون الأغلبية"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سؤال
Yousif ( 2018 / 3 / 5 - 19:57 )
الموضوع مختصر بطريقة مبتسرة. ..هل توجد تفاصيل اكتر. ..

اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري