الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 2

دلور ميقري

2018 / 3 / 2
الادب والفن


صوتُ المسيو الفرنسيّ، صدَرَ عبرَ سماعة الهاتف ينبئها بأنه سيحضر في الغد مع " فرهاد ". فلما لفظَ الاسمَ المغضوب، فإنها كبتت شتيمة كادت تفلت من لسانها. على أنها غدت على مزاجٍ رائق، بُعيدَ تنكيس سماعة الهاتف، حتى لقد اهتزّ جوّ الصالة المكتوم بضحكتها الغامرة. حصلَ ذلك، مباشرةً عقبَ عودتها من السهرة في غيليز. هاتفٌ آخر، يمتّ لعتمة أعماقها، كان قد سبقَ وألحّ عليها أن تؤوب مبكرةً إلى مقر إقامتها. تحججت إذاك لمضيفَيْها، بكونها المرافقة مَن تتعجّل في المغادرة بسبب ظروفٍ خاصة. وكانت حجّة حقيقية، ما لو فكّرنا بخطّة " سوسن خانم " للإيقاع بمرافقتها السابقة عن طريق خليفتها هذه. كأنما مكالمة " مسيو جاك " جاءت في الوهلة المأمولة، كي تسدّ ثغرةً خطيرة في الخطة: ففي حال أنّ كلّ شيء على ما يرام، لناحية الاستيلاء على المخطوطة ورضوخ " الشريفة " للمساومة، فإن أحداً لا يمكنه ضمان جانب رجلها وأنه لن يخلط الأوراق مجدداً بعدم قبوله تسليم الطفلة.
كانت المرافقة ما تني تقاوم نعاسها، وهيَ تنصتُ لأوامر الخانم الأخيرة. بدت " للّا عيّوش " في وقفتها أمام مدخل الصالة، فاغرة الفم منفوشة الشعر، أشبه بجاموسة من جواميس قريتها الأولى. لم تُعتق، في نهاية المطاف، إلا وقد طيّبت الخانمُ خاطرَها. أسقطت في حقيبتها حفنة من الأوراق الثمينة، المرقّشة بصورة أمير المؤمنين: " غداً قبل وصول الرجلين، آملُ أن تكون الكراسة المطلوبة مطوية في حقيبتك "، شددت عليها بشيء من الحدة. على الأثر، رجعت لتمسك سماعة الهاتف. كان من ضمن خطتها أيضاً، الإيعاز لمدير مكتبها ألا يحضر في الغد بدعوى أنّ وعكة طارئة ألمّت بها. من الجانب الآخر للخط السلكيّ الرقيق، انبرى للرد صوتٌ أنثويّ أكثر رقة.. صوت، اخترقت ذبذباته لبَّ داخلها فبلبله تماماً. بقيت لحظاتٍ لا تدري ما تفوه به، إلى أن نطقت الأخرى اسمها بصيغة تساؤل. أدركت الخانمُ أنّ هاتفَ منزل سكرتيرها من النوع المُحدث، المُتيح لصاحبه قراءة اسمَ المتصل. عندئذٍ أفرغت بضحكةٍ مُتكلّفة شحنةَ انفعالها، متسائلة بدَورها: " لا بدّ أنكِ عرفتِني من رجع أنفاسي، أو ربما من رائحة عطري؟! ".

*
وحدتها، كانت مقرونة بضعف الإرادة. تجعلها، كأيّ أنثى، في حاجة إلى ملء فراغ النفس عن طريق الحب؛ العاطفة الأزلية، التي شوهها الإنسان المعاصر حينَ فصلها قسراً عن العشق. شعور القوة، لم يكن يعوزها حقاً آنَ تقضي ساعات النهار في مكتب أعمالها. وليسَ الحال كذلك، حينَ تخلد منذ الغسق إلى عزلةٍ لا ينفع فيها إرادة ولا ذكاء. حينئذٍ، تبدأ أطيافُ الماضي بالهجوم ـ فعل الكوابيس في ليلٍ مضمحل ذي قمرٍ لا يُرام. فتستعيدُ ذكرياتٍ غير سعيدة، تمتدّ على رقعة القارات الثلاث، كما لو أنها أضحت رحّالةً انتهى به المطاف إلى فراش المرض الأخير. وإنها مراكش، مَن تفتحُ رجليها لكلّ العشاق بعد إغرائها لهم برحلةٍ تغدو عبثاً خارجَ إطار الرغبة.. رحلة، لا تقود سوى للقبر، طالما أنّ جهاتها أربعُ: الخواء والضياع والإحباط واليأس.
الفجرُ، ساعة طرد الأطياف والنهوض لنهارٍ لا يقل رعباً عن أيّ كابوس. تصبغ الشمسُ، بباكورة أشعتها الماجنة، رأسَ منارة " الكتبية "، الملبّس بقرميدٍ قدسيّ اللون. سيارات الأجرة، ما تنفكّ عينا مصباحيها الأماميين متوهجتين، وكأنهما تبحثان في هذه الساعة المبكرة عن زبونٍ ما. سيارات الخواص، متناثرة في أيّ رصيفٍ فارغ، غير عابئة حتى بحُرمة موقف الحافلات ذي الهيكل الحديديّ الصدئ. في المسجد، يتحسس تجارُ وباعة السوق، بين كل ركعة وركعة، مفاتيحَ محلاتهم. محترفو الغناء في الساحة، يتركون المكانَ لزقزقة العصافير كي يتبادلوا الشتائم مع العازفين، المشغولين بلملمة الآلات الموسيقية وغلّة الليل الآفل. إنها ساعة الهامشيين، أيضاً: تغادر فتيات الليل زوايا رزقهن، في طريقهن إلى شقق مشبوهة بغيَة إخلاد أجسادهن، المعبقة بعطر الأرغانة، إلى راحةِ أسرّةٍ ذاتَ ملاءات قذرة. المرددون اسمَ الله طوالَ وقتِ التسوّل، يغفلون عن حمدِهِ أثناء عودتهم إلى أوكارهم بجيوبٍ مثقلة بدراهم مسلوبة من جيوب البسطاء. فوق علب الكرتون المهملة وعربات الكارو المهجورة، يُزاحم المتشردون القرويينَ الغرباء ( القادمين إلى المدينة بقصد العلاج غالباً ) غير القادرين على تكلفة الفنادق وشقق الإيجار. الدراجات النارية، تبدأ جحافلها غزوَ المدينة الحمراء من جهاتها الأربع، المُفضية جميعاً إلى القبر.

*
تحلّ ساعة الظهيرة. يتغيّر المشهدُ قليلاً أو كثيراً.. وليسَ كذلك شخصياته، المتمسك كلّ منها بشيمته مثلما يحافظ الحصى على صلابته وهوَ قابعٌ دهراً في قاع المستنقع. في حالتها الراهنة، تجدُ " سوسن خانم " نفسَها كأحد عناصر المشهد ـ المستنقع. تبتسمُ للفكرة في مرارةٍ، مُختفيةٍ خلفَ أسنان بنصاعة اللؤلؤ. حركة يَدها، لا تكفّ عن فرد وغلق المروحة الاسبانية ذات الرسوم الرائعة، التي أعطتها شكلَ جناحَيْ طاووس. لا تكفّ عن الترويح، هامدة ساهمة، إلا مع تناهي صدى محرك سيارة عبرَ نافذة الصالة، المفتوحة على الخارج. عندئذٍ أفاقت من أفكارها، كونه نادراً مرورُ المركبات على درب الجادّة وبالأخص في فترة الظهيرة. نهضت تلقي نظرتها إلى تلك الناحية، المحتفية بالأبنية الراقية والمرفرف في فضائها أريجُ الورد والياسمين. فتخايل لعينيها، خِلَل سعف النخيل، رؤيةُ الضيفين المنتظرين، المفترَض وصولهما على حدّ الساعة الثالثة.
" إنه فرهاد، أخيراً..! "
رددت الخانم الجملة، دونما أن يكون بوسعها التأكّد من مشاعرها إن كانت مبتهجة أو شامتة. المفردة الأخيرة، ربما تُحيل أكثر إلى ما بدا من رثاثة وتعاسة في مظهر مواطنها الشاب. إلا البسمة الساخرة، المرسومة على شفتيه، فإنها ما ترين على حالها؛ مثلها في ذلك مثل قبلة الأنثى على شفتيها هيَ. على أن الخانم كانت قد ألِفَت قبلاً هذه البسمة، عازيةً إياها إلى حال الحزن، المؤثّل في طبع " فرهاد ". كذلك كان مسلكها بعيدَ تناولها الغداء مع الضيفين، تتنهّدُ بين فينةٍ وأخرى ملء رئتيها. ولعلهما كلاهما، لم يكونا أقلّ منها بلبلة في المشاعر. " مسيو جاك "، أشارَ إلى منضدة مقتضبة الحجم، تحتل مساحتها رقعةُ شطرنج رخامية مع أحجارها المصنوعة من عاجٍ ثمين: " أأنتَ تجيدين هذه اللعبة؟ "، سألها بشيء من الدهشة. قالت له مفترّة الثغر: " نعم. إنها من العادات الجيدة، النادرة، التي يحظى بها المرءُ خلال إقامته في الإتحاد السوفييتي! ". ضحك المسيو بصوتٍ عال، فيما الآخر اكتفى بالابتسام. وأردفت المُضيفة، قائلةً وهيَ تشير بدَورها إلى ناحية البار، المركون على طرف حجرة السفرة: " الفودكا أيضاً، كما هوَ معروف، من نِعَم تلك البلاد. وأعتقد ألا مانع لديكما في شرب قدحٍ، نخبَ اجتماعنا معاً في هذه المناسبة السعيدة؟ ". كانت سعيدة فعلاً، ولا غرو، بالنظر إلى أنّ خطتها ما تني تسير على قدمين راسختين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/