الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


– الماركسية و النسويّة - الفصل الأوّل من الكتاب 30 – لشهرزاد موجاب

شادي الشماوي

2018 / 3 / 3
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الفصل الأوّل من الكتاب 30 – الماركسية و النسويّة – لشهرزاد موجاب
الماويّة : نظريّة و ممارسة
عدد 30 / مارس 2018
شادي الشماوي
الماركسيّة و النسويّة

تجميع و نشر
شهرزاد موجاب
-------------------------------
https://www.4shared.com/file/c9sJysuWca/__-___-_.html

مقدّمة المترجم :

ها قد بلغنا العدد 30 من " الماويّة : نظريّة و ممارسة " ! ها قد بغلنا مراكمة هامة أخرى في مشروعنا ما كنّا نتوقّع بلوغها فمثلما أفصحنا عن ذلك في مقدّمة الكتاب 20 ، إنطلقنا في العمل الدؤوب يحدونا أمل إنجاز هدف كنّا نعدّه كبيرا و كبيرا جدّا حينها ألا وهو ترجمة و إخراج و نشر كتب عشر أو أعداد عشر من " الماويّة : نظريّة و ممارسة ". و إنهمكنا في الإشتغال على ما برمجنا له و أحيانا الإشتغال على ما كان يبدو لنا في لحظة ما ضروريّا و إن لم يكن مبرمجا سلفا فألفينا أنفسنا بعد ردح من الزمن نتجاوز الكتب العشرة بل و ضاعفنا العدد المنتظر . و بعد ذلك خلنا أنّنا لن نتوصّل إلى إعداد كتب أخرى لذلك لم نتعهدّ فى مقدّمة الكتاب العشرين بغير مواصلة بذل قصارى الجهد ، و لحسن الحظّ خاب ظنّنا و ها قد غدت مجموعة كتبنا تعدّ ، مع هذا الكتاب الجديد ، ثلاثين كتابا أو ثلاثين عددا من " الماويّة : نظريّة و ممارسة " ، و لحسن الحظّ أيضا فاجأتنا مفاجأة سارة طاقتنا على تحمّل المشاق كما فاجأتنا قدرتنا على الإنكباب على العمل بتركيز قدر الإمكان و بلا كلل و لا ملل لساعات و ساعات طوال .
و من نافل القول أنّ تعريجنا على المشاق ليس بحثا عن مجد ذاتى أو ما شابه أو جلبا للتعاطف أو طلبا للإعتراف بأي فضل ، فهذا أبعد ما يكون عن فهمنا للواجب الشيوعية و التعاطى مع علم الشيوعية ، و إنّما نتغيّى من ذلك جعل المتردّدين على ولوج معترك الدراسة و البحث في الماركسيّة و مضامين كتبنا و مقالاتنا المتصلة بالمواضيع الإيديولوجية و السياسيّة الحارقة داخل الحركة الشيوعية العربيّة و العالميّة التي تجد نفسها في الوقت الراهن في مفترق طرق ، يُقدمون على ذلك و لا يتهيّبون الخوض في أمّهات القضايا الإيديولوجية و السياسيّة و لما لا يقدمون على نقدها أو على خوض مغامرة التأليف أو الترجمة أو كلاهما و المساهمة في النهوض بمهمّة إنشاء جيش من المثقّفين الثوريّين المتسلّحين و المناضلات و المناضلين و الجماهير العريضة بعلم الشيوعية ، النظريّة الثوريّة في عصرنا هذا ، عصر الإمبرياليّة و الثورة الإشتراكية ، التي دونها لن توجد حركة شيوعيّة ثوريّة حقّا ، لا شيوعيّة زائفة – تحريفيّة أو دغمائيّة - و إن تطلّب ذلك المشاق و التضحيات الجسام . فهذه مهمّة من أوكد المهام الملقاة على عاتق الشيوعيات و الشيوعيين في سبيل تفسير العالم تفسيرا علميّا و توجيه و قيادة نضالات الشعوب – و التعلّم منها و نحن نقودها - من أجل تغيير هذا العالم ثوريّا بإتّجاه عالم شيوعي ليس ممكنا وضروريّا فحسب بل مرغوب فيه أيضا. و بالقيام بهذا الواجب الشيوعي نسلك الطريق الصحيح الذى رسمه إنجلز حين أوضح أنّه :
" سيكون واجب القادة على وجه الخصوص أن يثقّفوا أنفسهم أكثر فأكثر فى جميع المسائل النظريّة و أن يتخلّصوا أكثر فأكثر من تأثير العبارات التقليديّة المستعارة من المفهوم القديم عن العالم وأن يأخذوا أبدا بعين الاعتبار أنّ الاشتراكية ، مذ غدت علما ، تتطلّب أن تعامل كما يعامل العلم ، أي تتطلّب أن تدرس . و الوعي الذى يكتسب بهذا الشكل و يزداد وضوحا ، ينبغى أن ينشر بين جماهير العمّال بهمّة مضاعفة أبدا..." ( انجلز ، ذكره لينين فى " ما العمل ؟ ")
و إنّه لمن دواعى سرورنا ، بمناسبة 8 مارس 2018 ، أن نقدّم للقرّاء في هذا الكتاب الجديد ، الكتاب 30 أو العدد 30 من " الماويّة : نظريّة و ممارسة " ، بحوثا أكاديميّة متّصلة بواحدة من أهمّ قضايا الثورة الشيوعية و تحرير الإنسانيّة جمعاء ألا وهي قضيّة تحرير نصف السماء ، قضيّة تحرير النساء ، بعدما أوردنا في العدد المفرد ل" تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتارية العالمية : الماركسيّة – اللينينيّة – الماويّة " ، العدد الثامن من " الماويّة : نظريّة و ممارسة " منذ سنوات مواقفا و تحاليلا ، و ما نشرناه من نصوص في غاية الأهمّية لا سيما منها نصّ بوب أفاكيان ، رئيس الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتحدة الأمريكيّة " الخلاصة الجديدة و قضية المرأة : تحرير النساء و الثورة الشيوعية – مزيدا من القفزات و القطيعة الراديكالية " و منها كذلك بيانات منظّمات نسائيّة ثوريّة خاصة منظّمة نساء 8 مارس ( إيران – أفغانستان ) . و هذه البحوث الأكاديميّة الواردة في الكتاب الجديد ألّفها أكاديميّون ماركسيّون و صفتهم الأخيرة هي التي جعلت الأستاذة الجامعيّة و الكاتبة و الناشرة شهرزاد موجاب توحّد بينهم في كتاب حمل من العناوين المثيرة عنوان " الماركسيّة و النسويّة " ( و إصطفينا من جملة مصطلحات أخرى رأينا أنّها لا تؤدّى المعنى المرجوّ مصطلح " النسويّة " كتعبير دقيق عن التنظير لتحرير المرأة ) . و قد أتى هذا الكتاب خطوة متقدّمة نحو إعادة بعث و تعزيز الحركات النسويّة الثوريّة المستندة إلى الماركسية أو الشيوعيّة و تضمّن تحاليلا لجملة من المعضلات المتّصلة بتاريخ إضطهاد النساء و إستغلالهنّ و تواصله في الواقع العالمي الراهن و أشكاله القديمة و الجديدة و آفاق النضال التحرّري كما إنطوى على تحاليل و نقد للتنظيرات و الممارسات التي سادت في العقود الأخيرة سواء في صفوف الماركسيين أو مدّعى الماركسيّة أو في صفوف الحركات النسائيّة البرجوازيّة بشتّى ألوانها .
و نتوقّع أن يواجهنا أحدهم بسؤال يظنّه محرجا لنا ، " هل أنّ هذه البحوث الأكاديميّة صادرة عن ماويين و ماويّات حتّى تضمّنوها في مجلّة " الماويّة : نظريّة و ممارسة " ؟ و لا نجد حرجا أبدا في الإجابة بكلّ رحابة صدر بنقطتين أولهما أنّ من المساهمين في بحوث هذا الكتاب ماويّ شهير تمّ الإعلان عن إنتمائه علنيّا عبر العالم عقب وفاته و نقصد أمير حسنبور و بيان الحزب الشيوعي الإيراني ( الماركسي- اللينيني- الماوي ) الوارد كملحق ثاني لكتابنا هذا الذى نضع بين اديكم ( و ليس لكتاب شهرزاد موجاب الصادر بالأنجليزيّة ) لا يدع ظلاّ للشكّ في ذلك ؛ و قد أنف لمريم جزايرى وهي مساهمة أخرى في الكتاب أن صاغت بحثا قيّما لمجلّة حركة عالميّة جمعت أحزابا و منظّمات ماويّة بين 1984 و 2006، الحركة الأممية الثوريّة و مجلّتها " عالم نربحه " ( أعدادها متوفّر على موقع الفكر الممنوع بالأنجليزيّة ) ترجمناه ونشرناه منذ سنوات على موقع الحوار المتمدّن و عنوانه " الإسلام إيديولوجيا و أداة في يد الطبقات المستغِلّة " و أيضا بات من المعلوم لدى القاصي و الدانى أنّ الجامعيّة الكاتبة و الناشرة ، شهرزاد موجاب ، رفيقة درب أمير حسنبور ؛ و بالمناسبة نلفت النظر إلى أنّ للحزب الشيوعي الإيراني ( الماركسي – اللينيني – الماوي ) و الأكاديميين المنتيمن إليه أو المتعاطفين معه أو أصدقائه فضلا عن غيرهم من مناضليه و مناضلاته عبر العالم ، مساهمات جليلة في حقل قضيّة المرأة و الشيوعية جعلت بوب أفاكيان ذاته في نصّه الذى مرّ بنا ذكره يؤكّد على أهمّية تلك المساهمات و يثمّن الجهود المبذولة . و نظرة على الكتب والمقالات بموقع الحزب الإيراني و بموقع منظّمة 8 مارس ( إيران – أفغانستان ) على الأنترنت تمكّننا من التأكّد من ذلك. لهذا الحزب وثائق جمّة ذات بال و لسوء الحظّ أنّها غير متوفّرة إلاّ باللغة الفارسيّة ، منها المتعلّقة بموضعنا هنا و منها مثلا المتعلّقة بنقد الأطروحات التحريفيّة و الإصلاحيّة و من ذلك نقد أطروحات عبد الله أوجلان و حزب العمل الكردستاني ، لذلك يتعذّر علينا ترجمتها . و لذلك نغتنم الفرصة لنناديكم أيّتها الشوعيّات وأيّها الشيوعيون و الباحثون عن الحقيقة و تحرير الإنسانيّة المتمكّنون من اللغتين الفارسيّة و العربيّة ( أو الفارسيّة و الأنجليزيّة أو الفارسيّة و الفرنسيّة ) و نشدّ على أياديكم للإضطلاع بمهمّة الترجمة مساهمة منكم في نشر علم الشيوعية و تطويراته و دفع النقاشات المثمرة بغاية تفسير العالم تفسيرا علميّا صحيحا و تغييره من وجهة نظر الشيوعية الثوريّة .
هذه هي النقطة الأولى من إجابتنا أمّا النقطة الثانية فمفادها أنّنّا وإن نشرنا بحوث مؤلّفين غير ماويين في مجلّة ماويّة - و نمضى أبعد من ذلك مؤلّفين برجوازيين و حتّى رجعيين - لا نعتقد جازمين أنّ ذلك يضيرنا في شيء طالما أنّنا نقدّم للبحث أو نعلّق على موضوعه أو ننقده من منظور علم الشيوعيّة ؛ و إن قدّم إضافة و أمسك بحقائق أو جملة حقائق نبرزها و نثنى عليه . و هذه مسألة مبدأ ، حسب فهمنا لعلم الشيوعية و من يتطلّع إلى التعمّق في مسألة نظريّة المعرفة و الحقيقة ماركسيّا ، يحتاج إلى الإطلاع على الصراع الدائر حولها صلب الماويين عبر العالم و إلى الإطلاع على جدالات ناظم الماوي بهذا الصدد عربيّا و من لديه مشكلة مع هكذا مبدأ فليعد إلى مؤلّف لينين " مصادر الماركسية الثلاثة و أقسامها المكوّنة الثلاثة " ضمن عدّة مراجع أخرى .
و من البداية ، نحيط القرّاء علما بأنّنا ما سعينا أصلا إلى ترجمة الكتاب برمّته وهو يقع في 392 صفحة و مردّ ذلك ليس إلى أنّنا لا نرى أنّ جميع ما ينطوى عليه من مقالات في منتهى الأهمّية و ليس إلى أنّنا نخشى الإنغماس في عمل ترجمة بمثل هذا الحجم ، و إنّما إلى خيار لنا واعي و مقصود و نعدّه مناسبا الآن لمشروعنا فنحن لم نختر سبيل ترجمة الكتب برمّها ، من ألفها إلى يائها ، عمدا فشغلنا الشاغل ، بناءا على قراءتنا لواقع الحركة الشيوعية العربيّة و حاجياتها في الوقت الراهن هو التفاعل مع مجريات الصراع الإيديولوجي و السياسي عربيّا و عالميّا و توفير مادة تساهم في رفع المستوى الإيديولوجي و السياسي و دحض التحريفية و الدغمائيّة و رفع راية علم الشيوعية الحقيقيّة سلاحا بتّارا لفهم العالم و تغييره راديكاليّا من منظور الشيوعية الثوريّة . و قد يكون متابعو ما نخطّه قد لاحظوا أنّ كتبنا في الغالب الأعمّ تشتمل على مقالات منتخبة من هنا و هناك وحدتها تقوم على الموضوع المعالج . و في موضوع الكتاب الحالي ، إصطفينا خمسة ( و قد نضيف إليها بحوثا أخرى مستقبلا إذا لمسنا الحاجة إلى ذلك ) بحوث قدّرنا أنّ فائدتها كبيرة بالنسبة للحركة الشيوعية العربيّة و الحركة النسويّة العربيّة . ولا يعنى أنّنا لا نحثّ على الإطلاع على الكتاب بأكمله و على الكتب و المجلاّت و مواقع الأنترنت التي نستقى منها مادة النصوص التي نعرّب . و كي نشجّع على قراءة كامل محتويات كتاب شهرزاد موجاب ، قمنا بترجمة فهرسه كاملا كما صدر في الطبعة الأنجليزيّة . أمّا الفصول الخمسة المكوّنة للعامود الفقري لكتابنا الجديد هذا فعدا الفصل الذى ورد كمقدّمة و الفصل الذى ورد كخاتمة ، لم نحتفظ بالترتيب كما في الكتاب الأصلي . و أرفقتا تلك الفصول الخمسة بملحقين سبق لنا نشرهما على صفحات الحوار المتمدّن و حالئذ أضحت محتويات الكتاب 30 ، أو العدد 30 من " الماويّة : نظريّة و ممارسة " ، إضافة إلى هذه المقدّمة للمترجم :
الفصل 1 : الماركسيّة و النسويّة - شهرزاد موجاب
الفصل 2 : الثورة و النضال من أجل المساواة بين الجنسين - مريم جزايري
الفصل 3 : الديمقراطية و النضال النسوي - سارا كربنتار
الفصل 4 : الأمّة و القوميّة و النسويّة – أمير حسنبور
الفصل 5 : الجندر بعد الطبقة – تريزا أل. أبارت
الملاحق :
1- التنظير لسياسة " النسوية الإسلامية " – شهرزاد موجاب
2- الحزب الشيوعي الإيراني ( الماركسي – اللينيني – الماوي ) بصدد وفاة أمير حسنبور : " بيان حول عشق متمرّد "
-----------------------------------
الماركسيّة و النسويّة

تجميع و نشر شهرزاد موجاب ، كتب زاد ، لندن 2015

فهرس الكتاب كما صدر في طبعته الأنجليزية

1- مقدّمة : الماركسيّة و النسويّة
شهرزاد موجاب

الجزء الأوّل : الطبقة و العرق في النسويّة – الماركسيّة
2- العلاقات الجندريّة
فريغا هوغ

3- ماركس ضمن النسويّة
فريغا هوغ

4- البناء إنطلاقا من ماركس : أفكار حول " العرق" و الجندر و الطبقة
هيماني بنرجي

الجزء الثاني : الكلمات المفاتيح للنسويّة - الماركسيّة
5- الديمقراطيّة
سارا كربنتار

6- التمويل
جامى ماغنوسون

7- الإيديولوجيا
هيمانى بنرجى

8- الإمبرياليّة و المراكمة البدائيّة
جوديت وايتهاد

9- التقاطع
داليا د. آغيلار

10- قوّة العمل
هيلان كولاي

11- الأمّة و القوميّة
أمير حسنبور

12- بطرياركيّة / بطرياكيّات
كوكم ستغارى

13- الإنجاب
ميشال مورفى

14- الثورة
مريم جزايرى

15- نظريّة الموقف
سنتيا ككبورن

16- خاتمة : الجندر بعد الطبقة
تريزا أل. آبرت

- قراءات مقترحة
- عن المؤلّفين
- جدول في قائمة

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

الفصل الأوّل : " الماركسيّة و النسويّة "

شهرزاد موجاب

( مقدّمة كتاب " الماركسيّة و النسويّة " ، تجميع و نشر شهرزاد موجاب ، كتب زاد ، لندن 2015 )

[ من تعريف مقتضب بالمؤلّفة و الناشرة بالصفحة الأولى من الكتاب :
شهرزاد موجاب أستاذة قسم الإرشاد و التعليم العالي و تعليم الكبار وهي مديرة سابقة لمعهد الدراسات النسائيّة و الجندريّة في جامعة تورنتو ، كندا . و تشمل مجالات بحثها و تدريسها دراسات السياسات التعليميّة و الجندر و الدولة والشتات و ما بين القوميّات ؛ و النساء و الحرب و العسكرة و العنف ؛ و النضال من أجل المساواة بين الجنسين و مناهضة العنصريّة و الإستعمار و الإمبرياليّة ؛ و الماركسيّة و المساواة بين الجنسين و الثورة .]
-------------------------------------
حكايات ، نظريّات و إمكانيّات
قدّمنا هذا الكتاب للطباعة في 2014 بمناسبة مائويّة " الحرب الكبرى " التي تسبّبت أثناءها الدول الرأسماليّة في دمار هائل للحياة و الممتلكات في كلّ ناحية من أنحاء العالم . و قد جدّت حرب عالميّة ثانية و كان نطاق تدميرها أوسع في غضون حياة جيل ، و تتواصل إلى يومنا هذا في مناطق ممتدّة من البلقان إلى الشرق الأوسط إلى أفريقيا ، وهي تهدّد أنحاء أخرى من العالم . و في حين تنشغل الدول و وسائل الإعلام و الأكاديميّات و عديد المنظّمات غير الحكوميّة في إحياء ذكرى الحرب العالميّة الأولى، على الأرجح لن يتذكّر أحد ما قالته الإشتراكية و النسويّة ، مارى وايت أوفنغتون ( 1865- 1951) ، قبل أشهر من إندلاع المجزرة الجماهيريّة :
" الإشتراكية و النسويّة هما الحركتان الأعظم اليوم . فالواحدة تهدف إلى القضاء على الفقر و الأخرى إلى تحطيم إستعباد النساء . و كلاهما حركتان عالميّتان . لا يهمّ مدى تخلّف الأمّة التي تزورون ، ستجدون هناك ثوريّون يعلنون أنّ الفقر غير ضروريّ ، و أنّ تنظيما كبيرا يسعى إلى تحطيم الرأسمال الخاص و بناء ثروة مشتركة تعاونيّة . و عبر الحضارة الغربيّة ، و حتّى في قلب الشرق ، تجدون أيضا المرأة الثوريّة تحدّث أخواتها المستعبدات عن مساعى النساء لبلوغ حرّيتهنّ و كسب حقّ الحياة ، ليس وفق فهم الرجل للسعادة و الحقّ بل وفق فهمهنّ . إنّ للأفكار أجنحة و هي تطير بسرعة عبر الكوكب و نحن نتعلّم التفكير لا في حدود العائلة أو الأمّة أو العرق بل في المصلحة العامة للإنسانيّة و عذابها العام . " ( أوفنغتون 1914 : 143 )
لقد شدّدت أوفنغتون على أنّ " العلاقة النسويّة بالإشتراكيّة مسألة أهمّيتها عميقة بالنسبة لعديد النساء الإشتراكيّات ..." . و كانت على صواب . قبل سنوات ثلاث من ذلك ، قد أرست النساء الإشتراكيّات 8 مارس كيوم عالمي للمرأة العاملة ، و بعد ثلاث سنوات ، تركّزت أوّل دولة إشتراكيّة و نهضت النساء بدور نشيط فيها . و على الجبهة النظريّة ، عشرون سنة قبل أوفنغتون ، نشر فريديريك إنجلز " أصل العائلة و الملكيّة الخاصة و الدولة " (1884 ) ، و سنوات قبل هذا العمل المعلم الكبير ، جرى نشر كتاب أوغست بابل ، " النساء و الإشتراكية " ( 1879 ) . و هنا لا أسعى إلى كتابة تاريخ العلاقة بين النسويّة والإشتراكية أو الماركسيّة. فمن المعلوم جيّدا أنّ هذه العلاقة كانت في آن معا تصادميّة و بنّاءة، و اليوم نلفيهما منفصلتين . و بينما دافعت فلويد دال عن أوفنغتون التي تعرّضت إلى النقد على يد المناهضات للنسويّة ، كتبت تقول:" إذا لم توجد علاقة ضروريّة بين النسويّة والإشتراكيّة، سيكون مع ذلك من المنصوح به إيجاد هذه العلاقة ". ( دال 1914 : 353 )
و قد تغيّرت الإشتراكيّة و النسويّة منذ زمن أوفنغتون لكن أفكارها البسيطة و ذات الدلالة ظلّت و لا تزال على أجندا الكثيرين المتطلّعين إلى وضع نهاية لكلّ من " الفقر " و " الإستعباد " . و كانت ثورة أكتوبر 1917 في روسيا بالنسبة إلى العديد من الناس تحقيقا لهذا الحلم . فقد جعلت هذه الثورة الماركسيّة التيّار السائد في صفوف نظريّة و ممارسة الإشتراكيّة و قسّمت العالم إلى كتلة إشتراكية و كتلة رأسماليّة . و بالرغم من القفزات الكبرى بإتجاه تحرير النساء ، فإنّ التجارب الإشتراكيّة للقرن الأخير إنتهت لمّا أعيد تركيز الرأسماليّة أوّلا في الإتّحاد السوفياتي (1956) ، و بعد عقدين، في الصين (1976 ). (1)
لقد كان إنهاير الإتحاد السوفياتي و شرق أوروبا أواخر ثمانينات القرن العشرين و بداية تسعيناته فرصة لتدقّ البرجوازيّة الطبول معلنة " نهاية التاريخ " ، نهاية قُبرت فيها الإشتراكيّة ( و تقريبا عادة ما يتمّ الخلط بينها و بين الشيوعيّة في وسائل الإعلام و في التواصل الشعبي ) و ظهرت الرأسماليّة مظفّرة . و خلال القرن الماضي ، جلب كلّ نجاح حقّقته الإشتراكيّة العديد من الناس إلى قضيّة الحرّية كما أسفر كلّ تراجع عن مغادرة العديد من المتحمّسين القطار الإشتراكية . (2) و إثر تداعى الإتحاد السوفياتي الذى نقده في العقود الأخيرة عدّة ماركسيّين على أنّه " رأسماليّة دولة " أو " إمبرياليّة إشتراكية "، تعرّضت نظريّة و ممارسة الإشتراكية و معها الماركسيّة إلى موجة جديدة من التفحّص و النبذ ، من ضمن آخرين ، من قبل نسويّات . (3) و اليوم ، يدافع الكثيرون عن الرأسماليّة و يبحثون عن تبرير طريقة إنتاج هذا النظام الاقتصادي – الاجتماعي للثروة و كذلك للفقر و الجوع و لتدمير البيئة .
لم يكن مسار النسويّة مضطربا جدّا إلاّ أنّه لم يكن كذلك ببساطة متباينا . فعلى عكس الماركسيّة التي بلغت سلطة الدولة و وجّهت بناء الإشتراكيّة لبضعة عقود في عدد من البلدان ، ساهمت النسويّة بصورة بارزة في إصلاح النظام البطرياركي من خلال الحركات النسائيّة من أجل الحقوق المتساوية داخل إطار الدولة القائمة . و بينما كانت الماركسيّة مقبولة بتردّد في هوامش الأكاديميّات الرأسماليّة ، كانت النسويّة تنتشر ، مع بدايات سبعينات القرن العشرين ، من خصوصيّة المنظّرين الأفراد و إشهار سياسة الشوارع إلى برامج منح الشهائد ، و قد نمت لتصبح مجالا معرفيّا عالميّا ، مع أنّها لا تزال تلقى مقاومة . و قد تحدّت الأكاديميّات النسويّات تحدّيا جدّيا الطبيعة البطرياركيّة لكافة المعارف السابقة . و في خلاف جلي مع الماركسيّة ، توجد النسويّة اليوم بمئات النساء و برامج الدراسات الجندريّة و مئات المجلاّت الأكاديميّة و صناعة إشهار قويّة بما يسمح لها بأن تدرّب أجيالا جديدة من الأكاديميّات و الأنتلجنسيا النسويّة . و مع ذلك ، إن خرجت الماركسيّة عن الخطّ مع دولة " إشتراكيّة " كان من المفترض فيها أن تخطّط ل " إضمحلالها " الخاص ، فإنّ النسويّة ، حسب بعض النسويّات ، لقيت قبولا و رفعت مكانتها الأكاديميّة ( أزنشتاين 2009 ). و اليوم ، فيما تزدهر برامج دراسات الجندر و النساء في التعليم العالى ببلدان الغرب ، فإنّ مناهضة النسويّة سائدة في الثقافة الشعبيّة و وسائل الإعلام حيث تُلفظ النسويّة حتّى من قبل بعض اللواتى تصفن أنفسهنّ بانّهنّ نسويّات ، على أنّها " متطرّفة " و على أنّها " معارضة للذكور " ( هامر 2002 ) . و في إطارات أخرى ،- مثلا ، في إيران و تركيا – هناك إهتمام كبير بالنظريّة و البحث النسويين كمجال للنضال ضد السياسات الجندريّة البطرياركيّة للدولة و للأجندا المعادية للنسويّة . في إيران ، تستخدم التيوقراطيّة الإسلاميّة مناهضة المسيحيّة الأمريكيّة للنسويّة في هجومها ضد النسويّة ( موجاب 2015) .
و الاهتمام بالمزج بين المواقف النظريّة للماركسيّة و النسويّة الذى لم يشهد ضعفا منذ بداية القرن الماضي ، يغذّيه بروزهما كمشروعين تحريريين كبيرين . (4) لكن هذه الصلة الوثيقة تقيّدها الإلتزامات النظريّة المتباينة التي هي في حدّ ذاتها إلتزامات سياسيّة و إيديولوجيّة . نظريّا ، لم تكن الماركسيّة و النسويّة قط بعيدتين عن بعضهما مثلما هو الشأن في الوقت الحاضر .
و فكرة مجتمع بلا إضطهاد جندري و إستغلال طبقي سابقة تاريخيّا للنسويّة و للماركسيّة . و بالفعل ، النزاعات حول الجندر و الصراعات الطبقيّة معا تمثّلان محرّك كامل تاريخ الإنسانيّة . و منظور إليها ضمن التاريخ المديد للإنسان العاقل / الهومو سابينس ( قبل حوالي مائة ألف سنة ) ، النزاعات الجندريّة و الطبقيّة ( و كذلك الملكيّة الخاصة و العائلة و التجارة و الحرب و الجيوش و الدول و القوانين و الكتابات ) تقع بين تشكيلات إجتماعيّة ذات جذور حديثة ، يعود تاريخها إلى زهاء 8 إلى 10 آلاف سنة . و هذا القرب الزمني يثير مسألة بسيطة على حيويّتها : لماذا تبقى العلاقات الجندريّة البطرياركيّة على قيد الحياة و حتّى تزدهر بالرغم من المقاومة المنتشرة و التقدّم النظري ؟
النسويّة في آن معا إنتاج و هي منتجة للتنوير و ثوراته الديمقراطيّة البرجوازيّة ، في حين أنّ الماركسيّة قد ظهرت في إطار إفتكاك البرجوازيّة للسلطة و صعود الطبقة العاملة . موقعان طبقيّان يفرّقان بين الإثنين ، واحد يبحث عن التحرّر ضمن الإطار القانوني و السياسي للنظام الرأسمالي و الآخر يبحث الشيء عينه من خلال نفي العلاقات البرجوازيّة . ملخّصا تجربة السنتين الأولتين من الثورة الإشتراكيّة ، أشار لينين إلى أنّ " من المظاهر الأساسيّة المميّزة للرأسماليّة " هو أنّها " تمزج بين المساواة الشكليّة و اللامساواة الاقتصادية و بالتالى الإجتماعيّة . " ( لينين 1982 : 84 ) و حتّى المساواة الشكليّة ، إلى الدرجة التي تمّ التوصّل إليها في المجتمعات الرأسماليّة ، لم يجرى الحصول عليها دون مقاومة . لقد إستغرق إقناع الدولة بمنح النساء حقّ الإقتراع قرنا من النضال المنظّم . و رغم أنّ البلدان الإشتراكية قد منحت النساء بعدُ مساواة قانونيّة واسعة النطاق و قطعت خطوات بإتجاه مساواتهنّ الإقتصاديّة و الإجتماعيّة ، فقد تميّز تحويل العلاقات الجندريّة بالتسويات و التراجعات و ظلّت البطرياركيّة على قيد الحياة إلى إعادة تركيز الرأسماليّة .
و قد وفّرت النظريّة الماركسيّة أدلّة لفهم تعقيدات تفكيك الطبقات و البطرياركيّة . المجتمع كلّ و الظواهر الإجتماعيّة الطبقيّة و الجندريّة و العرقيّة و الدينيّة و غيرها بعيدة عن أن تكون مستقلّة إذ هي في علاقة تحديد و صراع كنظام ، نظام إجتماعي أو نمط إنتاج . و لها كذلك لطريقة إستمرار هذا النظام و مكوّناته دلالتها فقط بإعادة إنتاجها . في دراسته للإنتاج الرأسمالي ، مثلا ، أشار ماركس إلى أنّه " حينما ينظر إليها ... ككلّ مترابط ، و كتدفّق بتجدّد لا هوادة فيه ، كلّ سيرورة إجتماعيّة للإنتاج هي ، في الوقت نفسه ، سيرورة إعادة إنتاج. " ( ماركس 1983 : 531) و من هذا المنظور ، يمكن رؤية البطرياركيّة ككلّ مرتابط ، كسيرورة إجتماعيّة للإنتاج و إعادة الإنتاج تراتبيّة جندريّة متميّزة بسيطرة الذكور . سلطة الذكور تشبه كثيرا الحكم الطبقي فهي تمارس من خلال كلّ من القمع و القبول ؛ و يخلق القبول بواسطة العائلة و الدين و الإيديولوجيا و الثقافة و اللغة و الأدب و الفنّ و الفلكلور و التعليم و جميع المؤسّسات الثقافيّة الأخرى ، في حين أنّ العنف الجسديّ يقترفه الذكور و تقترفه الشرطة و الجيوش و القانون و المحاكم . لا وجود لفصل واضح بين الإثنين ؛ و على سبيل المثال ، تقترف العائلة العنف بينما تفرز قبولا .
و تتكهّن الجدليّة أنّ مثل عهذا النظام سيكون مفعما بالتناقضات ، و الجندريّون في علاقات نزاع و إعتماد متبادل . ضمن تشكيلات إجتماعيّة أخرى ، الطبقة و العرق و الدين ، يستمرّون هم كذلك فقط بإعادة إنتاج نفسها . و يحدث أن لا تقدر ديناميكيّة الإنتاج و إعادة الإنتاج هذه ، الضروريّة في أي نظام ، أن تستأثر بصفة مناسبة بفكرة الطبقة و الجندر و العرق أو الجنسانيّة " المتقاطعة " . ( آغيلار 2012 ؛ بانرجي 2001 )
و كشفت تجربة الإشتراكية في القرن الأخير تعقيدات نفي ديناميكيّة إنتاج و إعادة إنتاج النظام الرأسمالي و تعويضه بنظام شيوعي . لقد كانت الإشتراكيّة ، في فهم ماركس ، فترة إنتقاليّة طويلة بين الرأسماليّة و الشيوعيّة أثناءها تستمرّ الطبقات و العلاقات الرأسماليّة في الوجود في نزاع مع العلاقات الشيوعيّة التي ينبغي أن تخلق عن وعي . و هذا يشمل تفكيك نظام إجتماعي ببناء نقيضه . و بالنسبة إلى ماركس ، يعنى هذا الإنتقال لا أقلّ من ما سمّاه القضاء على كلّ الإختلافات الطبقيّة ، " " هذه الإشتراكية إعلان للثورة المستمرّة ، الدكتاتورية الطبقية للبروليتاريا كنقطة ضرورية للقضاء على كلّ الإختلافات الطبقية ، و للقضاء على كلّ علاقات الإنتاج التى تقوم عليها و للقضاء على كلّ العلاقات الإجتماعية التى تتناسب مع علاقات الإنتاج هذه ، و للقضاء على كلّ الأفكار الناجمة عن علاقات الإنتاج هذه ".( ماركس 1969 ). و مثل هذا التدخّل في الواقع الاجتماعي يحتاج إلى بعض الإختراق النظري . وسياسيّا ، مثل هذه الإنقطاعات في ديناميكيّة الإنتاج و إعادة الإنتاج تلقى عداءا قوميا و عالميّا في الوقت نفسه ، من الذين لهم مصلحة و رهان في إستمرار بقاء الرأسماليّة . و إن كان هذا الصراع سياسيّا بجلاء و يتعاطى مع علاقات سلطة ، فإنّه مع ذلك ليس أقلّ دلالة في حقول الفلسفة و الإيديولوجيا . و هذا النضال هو ما تسمّيه الكتابات الماركسيّة " المسألة الجوهريّة في الفلسفة " – أي جدليّة المادة و الفكر ، و كذلك بقيّة العلاقات الجدليّة ، كتلك القائمة بين الضرورة و الحرّية و الشكل و المضمون و الخاص و العام .(5) و إيديولوجيّا ، مسألة بدائل الرأسماليّة تعتمد على المواقع الطبقيّة .
و ليست النظريّة النسويّة ، بكلّ تنوّعها اليوم ، ملتزمة بنفي الرأسماليّة ، فبعض المنظّرين لا يرون العلاقات الجندريّة كنظام ( بطرياركي ) ، بينما ينبذ آخرون فكرة تحرير النساء أو التحريرعلى أنّها " روايات كبرى " . و حتّى إختزاليّة أكثر هي النسويّة التي تفصل العلاقات الجندريّة بالرأسمالية و تقلّص الجندر إلى مسائل ثقافيّة . هذه النسويّة تجد سلوانا في إستبعاد الإطار المفاهيمي للحركات النسائيّة للقرن العشرين بما في ذلك مفاهيم الإضطهاد و الإستغلال و الإخضاع و التبعيّة و التضامن و المميّة في زمن تنخرط فيه أصوليّات دينيّة و ينخرط فيه السوق في " حرب ضد النساء " على الصعيد العالمي . و ليس بوسع هذه التطوّرات أن تشرح بالمصطلحات النظريّة و حسب ؛ فهذه المواقف النظريّة ليست تعويضا لمبادئ على طريقة لاكوهن أو سقوط و إرتفاع " أمواج " في النظريّة و السياسة النسويّة . و بينما قدّمت النسويّة فعلا مساهمات عظيمة في فهمنا للعلاقات الجندريّة منذ الإلتواءات و المنعرجات النظريّة لثمانينات القرن العشرين ، فإنّ فصلها بين الرأسماليّة و البطرياركيّة جهد سياسي يقوّض المكاسب النظريّة في فهمنا للعلاقات الجندريّة . و تضمن هذه السياسة تركيز النسويّة في الليبراليّة – في أفضل الأحوال – و النظريّة الديمقراطيّة و روابطهما بالسوق .
من المعلوم جيّدا أنّ تيّار الحتميّة الإقتصاديّة في الماركسيّة ، و بأكثر بداهة ، في الحركات الشيوعيّة قد قلّص العلاقات الجندريّة إلى علاقات طبقيّة . و هذه القراءة للماركسيّة و التي هي عادة مناهضة للجدليّة في منهجها ، تقوم على الخلط بين الطبقة و الجندر و تقليص السياسي إلى افقتصادي . فهي تخفق في تقدير أنّ الطبقة ليست الجندر و أنّ الجندر ليس الطبقة ، إلاّ أنّ الصراع حول العلاقات الجندريّة ( البطرياركيّة ) صراع سياسي في صفوف الطبقات و في ما بينها . و هكذا ، ليس من العسير إيجاد مواقف طبقيّة متباينة تختلف حول كيفيّة و مدى وجوب تغيير النظام البطرياركي . و مع ذلك ، فإنّ الموقف الطبقي الإختزالي ليس أوّليّا نتيجة عدم تعوّد الماركسيين على النسويّة ؛ هو بالأحرى مرتبط بفهمهم غير الجدلي للماركسيّة . و من ثمّة ، في حين أنّ المعرفة الواسعة التي أنتجتها النسويّة ضروريّة لتجديد الماركسيّة و الحركة الشيوعيّة ، لإغنّ خلاصة جديدة من المستبعد أن تنجز دون مقاربة جدليّة للماركسيّة ذاتها .
الطابع السياسي للصراع حول إنقسامين تاريخيين كبيرين ، الجندر و الطبقات ، بديهي كذلك في تواصل معاداة النسويّة و معاداة الشيوعية أينما وُجدا . و هذا منحوت أيضا في النزاعات التي لا تنتهى ضمن كلّ أفق نظري ، الماركسية و النسويّة ، و فيما بينهما . و بدلا من كونها مسألة فئويّة ، سياسة التنظير سياسة إنقسامات ، قطيعة ، إلتواءات و تقدّم و تراجع و ليست سيرا خطّيا إلى الأمام . و هذا هو الحال لأنّ و فقط لأنّ الواحد جدليّا ينقسم على الدوام إلى إثنين . و أرى في تنوّع أو ثراء المعرفة النسويّة اليوم بذورا من الفكر المحافظ . و مفكرّة في تجربتى الحياتيّة للعقود الخمسة الماضية ، لأدركت كيف أنّ فىلامواجهة البطرياركيّة ، أهمّ عنصر وعي – أي النظريّة – متخلّف عن " الواقع المادي " أو المادة ، و أحيانا يوجد في نزاع معه . و على سبيل المثال ، أجد أنّ التثقيف في العلاقات الجندريّة للنسويّة و تخلّيها عن مشاريع التحرير يتعارض مع هجوم الرأسماليّة على النساء عبر العالم .
و على خطى ماركس ، أدركت أنّنا نصنع تاريخنا الخاص لكن ليس في ظروف نختارها ؛ بل في ظروف نواجه بها وهي معطاة و منقولة لنا مباشرة من الماضي ( ماركس 1979 : 103 ؛ بالعربيّة صفحة 138 من الجزء الأوّل من ماركس و إنجلز " مختارات في أربعة أجزاء " ، دار التقدّم ، موسكو) . و هذه الجدليّة تجد صداها في جدليّة أخرى : " الحرّية " ، وفق هيغل ، هي وعي " الضرورة " . لكن الضرورة – يعنى ظروف الماضي و الحاضر – لا يمكن تغييرها من خلال الوعي أو التأويل فقط . تنخرط النظرية النسويّة المعاصرة في تأويل الواقع أو تفسيره لكن ، كما قال ماركس في سياق آخر ، الرهان هو تغييره . بكلمات أخرى ، يحدث التغيير عندما تتحوّل المادة إلى وعي و يتحوّل الوعي إلى مادة . إنّ الوعي النسوي حصيلة ظهور النساء كقوّة إجتماعيّة و سياسيّة جديدة و تصميمهنّ على تغيير الواقع المادي للعلاقات الجندريّة الإضطهادية و غير العادلة . و قد غيّر هذا الوعي ، من خلال ممارسة الحركات النسائيّة عبر العالم ، العلاقات الجندريّة بالصراع من أجل " الحقوق " بيد أنّه أخفق في تفكيك تراتبيّة العلاقات الجندريّة . و دعونى لأتوسّع في هذه الأفكار بكتابة نفسي في هذا التاريخ . (6)
الحياة عبر الإمبريالية و الأصوليّة : إنقلاب السى آي آي لسنة 1953 و " ثورة " 1979
تتداخل حياتى مع إنقلاب السى آي آي لسنة 1953 و ثورة 1979 في إيران . لقد قبض إسماعيل خوي ، شاعر إيراني ، بصورة جميلة و معبّرة و مجازيّة تجربتى في المشاركة في ثورة 1979 في إيران .
فرحة سقوط قطرة مطر
و حزن سقوطها في مستنقع .
و يعكس هذا تجربتى لأكثر من ثلاثين سنة قبل الآن ، " بفرح كنت أشاهد ولادة قطرة مطر [ الثورة ] ، ليتّضح لى بقسوة سقوطها البشع في هاوية " – صعود النظام الإسلامي للسلطة في إيران . (7)
ولدت بشيراز ، إيران ، سنة 1954 أي سنة بعد الإنقلاب الذى نظّمته السى آي آي و الذى أعاد إلى السلطة الحكم الملكي الفاشل لمحمد رضا شاه بهلوي و أرسى هيمنة الولايات المتحدة على البلاد . و من نتائج ذلك ، تنامى التعصير المنظّم على يد الدولة بإتّجاه أمركة الحياة الإجتماعيّة و السياسيّة و الاقتصادية . وتنحدر والدتى من طبقة وسطى و ينحدر أبى من عائلة متعلّمة من الفئة العليا من الطبقة الوسطى ؛ و جدّى من والدتى كان متعلّما و شجّع بناته الأربع الكبريات على تحصيل العلم و العمل و الحياة العامة النشيطة . و علّمهنّ أن تكون مستقلاّت و أن تغادر في الحال أزواجهنّ إن تبيّن أنّهم مضطهِدون . و كان لأمّى حق إختيار زوج المستقبل ، أبى ، الذى إلتقته لمّا كان مدرّبها في كرة السلّة . و ما كانت ترتدى حجابا . و في الواقع هي من جيل شهد الأمّهات تنزعن الحجاب بالقوّة ، في ظلّ حكم رضا شاه في 1936 ، و الإرتداء الإجباري للحجاب يفرض بالقوّة على بناتها عقب تركيز التيوقراطية الإسلاميّة الراهنة في 1979 . و كانت جميع خالاتى و عمّاتي من الجيل الأوّل من النساء اللواتى تمتّعن بالتعليم العام في إيران .
و لقد تأثّر تفكير جدّى من أمّى بالثورة الدستوريّة في إيران ( 1906- 1911) ، أوّل ثورة ديمقراطية كبرى في آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينيّة . و طوال تلك السنوات ، أنشأت نساء في طهران و بعض المدن الكبرى جمعيّات تعليميّة و ثقافيّة ، في حين أصدر بعض رجال الدين فتاوى ضد مشاركة النساء في الحياة العامة و خاصة ضد تعليم النساء . و دافعت الصحافة الثوريّة عن حقوق النساء بما فيها حقّ الإقتراع . و عندما كان عمر جدّى 12 سنة ، تقدّم ممثّل لمحافظة من محافظات البلاد في الجلسة العامة الثانية للبرلمان الإيراني الجديد بعريضة تطالب بالإعتراف بحقوق النساء في افقتراع . زمنها ن فقط بلدان أربعة قد منحت النساء حقوق الإقتراع . و كتب مراسل جريدة التايمز اللندنيّة في طهران للقرّاء البريطانيين ليعلمهم سنة 1911 أنّ " انصار منح النساء حقوق الإقتراع [ في بريطانيا ] يجب أن يتعلّموا بإمتنان أنّه حتّى في وسط محاكمات و إضطرابات فارس [ إيران ] الآن ... وُجد بطل لقضيّة النساء في البرلمان الفارسي " ( ذكرته آفارى 1996 : 203 ).
و والداي من أوائل المتمتّعين بالنظام التعليمي العمومي المموّل و المدار كلّيا من قبل الدولة ، فكانا مغتبطين جدّا بالثقافة الحديثة و إرتأيا نمط حياة أمريكي لأطفالهما . و صحبة أقربائي تعرّفت على الموسيقى و الفنّ و الشعر و الرياضة و حياة منضبطة و منظّمة كما رفعها كمثل عليا برنامج " النقاط الأربعة " للولايات المتحدة و الدعاية الأمريكيّة في أوج الحرب الباردة في بلد له حدود مع جنوب الإتّحاد السوفياتي . لقد نشأنا على الفلام الأمريكيّة و إدخال الأوبيرا الطويلة لستينات القرن العشرين إلى بلاد فارس و إنطلاق بثّ التلفزة الوطنيّة و عروض مثل " مكان بيتون " و " أيّام من حياتي " أو " البيت الصغير في البراري " – و كذلك الموضة و مجلاّت " العناية بالمنزل " . في هذا الجوّ ، كان من المتوقّع منّى أن أكون امرأة إيرانيّة شابة " تشبه المريكيّات ". و في معهد خاص للبنات شهير في طهران ، كان البعض منّا يرتدى ثيابا على الموضة الأمريكيّة ، جينز أزرق و قميص أبيض ضيّق و كان العلم الأمريكي مطبوع على صدورنا . و بعد 15 سنة تقريبا ، لمّا كنت أجرى أبحاثا لأطروحة دكتوراه حول تاريخ الحركة الطلاّبيّة الإيرانيّة ، غكتشفت بعض تسجيلات الأرشيف عن قمع دمويّ لواحدة من المسيرات الطلاّبيّة المناهضة لأمريكا في جامعة طهران . و فجأة شعرت كما لو أنّنى تلقّيت ضربة على قبّعة رأسى . كان عليّ أن أجلس و أفرك عينايا لأجل رؤية ذلك اليوم صورة بعد الأخرى . و تذكّرت يوما كنت فيه صحبة والدى قرب جامعة طهران . كان لدى قميص أبيض يحمل علما أمريكيّا . و فجأة سمعت أصواتا لمجموعة من الطلبة كانوا يصرخون بشعارات مناهضة لأمريكا مشيرين إلى قميصي . لحظتها لم أفهم إحالتهم ؛ فقط بعد 15 سنة ، في مكتبة جامعة إلينوا ، تمكّنت من تجميع شتات قسم ضائع منحياتى .
لقد وضع إنقلاب السى آي آي نهاية لإثنتي عشرة سنة ( 1941 – 1953 ) من الحركات الإجتماعيّة في البلاد ، فترة فاصلة يطلق عليها بعض افيرانيين " ديمقراطية لم تكتمل " . ( جافيد 1956 [ و ستارن كالندار : 1977] ) ، و خلالها كانت النساء ناشطات و لديهنّ منظماتهنّ و مجلاّتهنّ الخاصة . و وجدت كذلك محاولة فاشلة أخرى لقسم من البرلمانيين اليساريين لمنح النساء حق الإقتراع . في بدايات خمسينات القرن العشرين ، وُجدت حركة شعبيّة قادها الوزير الأوّل المنتخب و الشعبي د. مصدّق لتأميم الصناعة النفطيّة الواقعة تحت سيطرة البريطانيين ما ادّى إلى نزاع بين الولايات المتحدة و المملكة المتّحدة [ بريطانيا ] و الشاه من جهة ، و الإيرانيين من الجهة الأخرى . و قد شجّعت معركة التأميم حركات مشابهة مناهضة للإمبريالية في الشرق الأوسط . و كان أحد أعمامي مسؤولا عن تنظيم المحافظة التابع لحزب تودا ( حزب جماهير إيران ) ، وهو منظّمة موالية للسوفيات تدافع عن حقوق العمّال و النساء و الفلاّحين و الأقلّيات . و قد تمّت الإطاحة بمصدّق بفعل إنقلاب السى آي آي سنة 1953 ، و تُبع الإنقلاب بإطلاق موجة من القمع .
عندما كنت بمعيّة أقربائي و كنت أكبُر ، لم يكن عمّى و لا أحد غيره في العائلة يتحدّث عن تك السنوات أو عن الدور البارز لعمّى في سياسات اليسار في المحافظة . ففي السنوات الموالية للإنقلاب عمّت صنصرة صارمة لكافة الأفكار المعادية للنظام الملكي و المعادية للإمبريالية و قد دعّمت الولايات المتحدة الشاه ليكوّن شرطة سياسيّة سرّية من نوع السى آي آي] هدفها كشف أي نشاط معارض .
و كان والدى في موقع منعزل عن أقربائي و كنت من المعارضة المناهضة للنظام الملكي و المناهضة للإمبريالية للجيل الجديد . و مع إلتحاقي بالمعهد في بدايات سبعينات القرن العشرين ، كان الجوّ السياسي قد تغيّر بصفة ملحوظة . فتحت رعاية إدارة كنيدى ، شرع الشاه ، في 1963 ، في سلسلة إصلاحات أطلق عليها إسم " الثورة البيضاء " و كانت غايتها تعزيز حكمه و منع النضالات الثوريّة كالتى جدّت في كوبا و الفتنام أو الجزائر . و إضافة إلى افصلاح الزراعي ، مُنحت النساء أخيرا حقّ الإقتراع و سُمح لهنّ بالإلتحاق بمحو أمّية الجيش و بعض المواقع الإداريّة العليا . و الملك ، مثل أبيه ، قد أدرك أنّ النساء قوّة سياسيّة جديدة و خطيرة و وجب إخماد نارها . و كحلفائه الأمريكان ، كان حذرا إزاء حركات النساء كأرضيّة خصبة للنشاط الشيوعي .
حينها كانت الجامعات مختلطة و كان الجوّ السياسي أكثر حيويّة . و عندما إلتحقت بالمعهد ، تحوّلت الحركة الطلاّبيّة من السياسة الإصلاحيّة ل " الشاه يسود و لا يحكم " إلى سياسة ثورة حمراء هدفها افطاحة بالنظام الملكي و إنشاء حكم ديمقراطي مستقلّ و بالنسبة للبعض ، إشتراكي .و بالرغم من القمع المستمرّ و الوجود السرّي للشرطة في المركّبات الجامعيّة ، ما كان ممكنا إسكات صوت الجامعات التي أضحت معروفة ب " معاقل الحرّية " . و رغم أنّ النظامين الملكيّين بهلوي كلاهما قد قمعا المنظّمات النسائيّة المستقلّة ، فإنّ تشكّل أنتلجنسيا أنثويّة ، علمانيّة تماما كان بديهيّا وقتها . و مثل عديد الطلبة ، ألهمتنى قصائد فورو فرخزاد ( 1935- 1967) . و كان فرخزاد شاعرا و مخرجا سينمائيّا له رؤية نسويّة لم يسبق التعبير عنها في ألدب و الفنّ الفارسيين. و في حين كان الشاه ينتدب نساءا في محو أمّية جيشه ، كان عدد من النساء ، و معظمهنّ طالبات ، يلتحقن بمنظّمتين أنصاريّتين ، واحدة ماركسيّة و الأخرى إسلاميّة ، كانتا تخوضان كفاحا مسلّحا للإطاحة بالنظام الملكي . و أتت المعارضة الدينيّة التقليديّة تحت قيادة الخميني الذى عارض كلّ من الإصلاح الزراعي و حق إقتراع النساء . و في المعاهد الثانويّة ، بينما زادت معلوماتنا أكثر عن الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا ، منها عن جيراننا الإتحاد السوفياتي و تركيا و العراق و أفغانستان و الباكستان و دول الخليج . و قد زاد الوجود الإمبريالي إتساعا و عمقا ، في الثقافة و التعليم و الفنون و الاقتصاد و الإدارة و التكنولوجيا و العلم . و في الثقافة المطبوعة ، كانت الأعمال الماركسيّة ممنوعة و كان إمتلاكها قد يفضى بمالكها أو مالكتها إلى السجن و التعذيب . و حتّى أسماء ماركس و إنجلز و لينين و ماو ما كان ممكنا الإشارة إليها في الفصول و قد مُحيت لمّا ظهرت في الكتب الأمريكيّة المترجمة إلى الفارسيّة . و هكذا تمّت إدارة عمليّة تغريب البلاد و أمركتها بحذر لتكون مقدّمة للثقافة و العلاقات الإجتماعيّة البرجوازيّة . و وقع هذا في ستّينات القرن العشرين في الوقت الذى كانت النساء و كان الشباب و الطلبة في أوروبا و في الولايات المتحدة في حركة تمرّد . و كان يبدو و كأنّ الغرب لم يكن أرض الثورات الديمقراطية و الحركات النسائيّة و كمونة باريس و الثورة الإشتراكية لسنة 1917 و حركات المقاومة المعادية للفاشيّة . و مع ذلك ، إستطعنا رؤية الجانب الآخر من العالم الذى كنّا نعيش في أحضانه ، من ثورة كوبا و تشى غيفارا في أمريكا اللاتينيّة إلى الصين و الفتنام في آسيا و حركات التحرّر الوطني في أفريقيا . و على الرغم من أنّ بدايات الوعي النسوي في إيران تعود تاريخيّا إلى بداية القرن العشرين ( أفارى 1996 ) ، لم يكن الأدب النسوي النامي في الغرب متوفّرا ضمن الكتب المترجمة .
و منحتنى الحكومة الإيرانيّة منحة دراسة جامعيّة لمواصلة الماجستار في المجال المزدهر للإدارة الجامعيّة . و إلتحقت بجامعة إيلنوا بأربانا شنباي ، بالولايات المتحدة . و إتبارا لكونى أتيت من العاصمة طهران وهي مدينة يعدّ سكّانها حوالي خمسة ملايين نسمة وقتها ، بدت لى مدينة شنباين – أربانا مدينة صغيرة مزدجة غارقة في ملايين الهكتارات من حقول الذرة ، و باعثة على الكآبة و الإنهيار العصبي . إلاّ أنّه لم يمرّ وقت طويل بالنسبة لى حتّى أدركت أنّي ولجت عالما جديدا أوسع من المدينة العملاقة طهران . فقد كان المركّب الجامعي يزخر بعديد الحركات الإجتماعيّة بما في ذلك فصيل من الفصائل الراديكاليّة ، رابطة الطلبة الإيرانيين ، عضو بالكنفدراليّة العالميّة للطلبة الإيرانيين . و كانت رابطة الطلبة الإيرانيين من المنظّمات الطلاّبيّة الأفضل تنظيما و الأكثر راديكاليّة في الولايات المتحدة و أوروبا و كانت لها فروع أيضا في عدد من بلدان آسيا .
و طفقت أحضر مجموعات قراءة حول التاريخ الإيراني و حركات التحرّر الوطني و الحركات الشيوعيّة و الفلسفة الماركسيّة . و في حلقات القراءة هذه تعلّمت المنهج المادي الجدلي و التاريخي للتحليل و التلخيص و الحوار و الجدال و عرض الأفكار . و لم تكن الرابطة إيّاها منشغلة بإيران و إن كان أعضاؤها طلبة إيرانيون يمضون بالآلاف للدراسة و العودة إلى إيران كتكنوقراطيين و بيروقراطيين في مشاريع الشاه و الولايات المتحدة للتحديث و العسكرة . فبفعل النهوض الثوري لستّينات القرن العشرين ، تحوّلت هذه الرابطة الناشئة من حركة قوميّة إلى حركة أمميّة و دعّمت بنشاط الحركة المناهضة للحرب و نضالات العمّال و الفروأمريكيين و السكّان الأصليين لأمريكا و حركات التحرّر الوطني ، خاصة في ظفار ( عمان ) و فلسطين . و قد لاحظ تأثير راديكاليّة رابطة الطلبة الإيرانيين على الحركات الطلاّبيّة الأمريكية و الأوروبيّة و الحركة المناهضة للحرب ، عديد النشطاء و الأكاديميين ، بمن فيهم ميلات (1982 ) و ماتين – أسكارى (2001 ).
و بالفعل ، لم يكن في طهران و إنّما في شنباين- أربانا أين صرت معتادة ، بفضل الحركة الطلاّبيّة ، على قراءة التاريخ الإيراني و العالمي الذين لم أتعرّض لهما قبل بتاتا . فتاريخ النظام الملكي المدرّس في المؤسّسات التعليمية الإيرانيّة ما كان شيئا أكثر من الحرب بين الملوك حول الأراضي و بينهم و بين " رعاياهم " المستعبدين . الماضي ، كما روته الحركة الطلاّبيّة ، أدخل الشعب الإيراني كصانع لتاريخه . و كذلك تعلّمت شذرات من تاريخ الولايات المتحدة من منظور شعبي وهو شيء كان إعتبارا للصنصر ة صعبا إن لم يكن مستحيلا العثور عليه في إيران .
و تطوّرت النضالات الإحتجاجيّة في إيران في 1978 إلى تمرّد معادى للنظام الملكي أطاح بالشاه في فيفري 1979 . و إنخرطت رابطة الطلبة الإيرانيين بنشاط ليس فحسب في دعم هذه النضالات بل كذلك في المشاركة فيها من خلال نشاطاتها الخاصة و تعبأة الرأي العام في الولايات المتحدة لصالح الإطاحة بالنظام الملكي و إستقلال إيران عن الهيمنة الإمبريالية للولايات المتحدة . كنّا ننخرط في نشاطات مختلفة كالمسيرات و الإعتصامات و توزيع المناشير و تنظيم مهرجانات خطابيّة و حشد الدعم . و شرع العديد من الطلبة في العودة إلى إيران في خريف 1978 للإلتحاق بالثورة . و السائد في وسائل الإعلام المقروءة و المسموعة في الولايات المتحدة و أوروبا غطّى الأحداث تغطية واسعة كان معظمها يقف إلى جانب الشاه . و كنّا في رابطة الطلبة افيرانيين ، نواجه صعوبات في إقناع وسائل الإعلام الرسميّة بأنّ تبلغ صوتنا و قراءتنا للأحداث . و هرول صحفيّون من كافة أنحاء العالم و بعض المثقّفين بمن فيهم ميشال فوكو نحو إيران لأجل التثبّت من ماكان يبدو لهم صفحة جديدة في التاريخ . و ستكون هذه الثورة ذات دلالة أكبر بكثير ممّا كانت وسائل الإعلام الغربيّة أو حتّى كان المثقّفون الإيرانيّون أنفسهم يتوقّعون . لقد خلقت " نسويّة إسلاميّة " و شجّعت في كلّ الأماكن الأصوليّة الإسلاميّة ، أصوليّة طامحة إلى سلطة تيوقراطية في تحالف و نزاع مع الإمبريالية .
و عدت إلى إيران بُعيد إحلال النظام التيوقراطي محلّ النظام الملكي في 11 فيفري 1979 . و لئن كان فوكو بإكتشافه في الإسلام السياسي بديلا للصراع الطبقي و الثورات الإشتراكية ، فقد أزعجنى كإمرأة الإرتداء الإجباري للحجاب و الخضوع تماما للتيوقراطيين الذين كانوا يرون النساء كقناة فعّالة في ( إعادة ) أسلمة مجتمع " أفسدته " ، من وجهة نظرهم ، الحداثة . (8) و لم تسمح شعبويّة الثورة الناهضة للنظام الملكي للعديد من الملاحظين برؤية أنّ النساء و الجامعات و وسائل الإعلام المطبوعة و القوميّات ( عرب و بالوش و أكراد و تركمان ) و أقلّيات دينيّة و إثنيّة ( بهائيين و مسيحيين و يهود و زرادشتيين و هكذا ) كانوا يعارضون الحكم التيوقراطي . و بعض هذه المجموعات هاجمتها الغوغاء من الإسلاميين إبّان المشاركة في مظاهرات معادية للنظام الملكي . و قد ساهمت النساء في الثورة على نطاق جماهيري على أن ذلك لم يكن بمطالب التقدّم بحقوق النساء أبعد من المكاسب المحقّقة في العقود السالفة . مثّلن جنود صفّ " الثورة " المركّزة ذكوريّا و المقادة من طرف رجال الدين ( موغيسي 1994 ) . و ليس مفاجأ أنّ أوّل هجوم للنظام الجديد ضد شعب إيران كان مراسيم الخميني حول النساء ، أقلّ من شهر من تولّى السلطة ، مبعدا النساء من القضاء ( 3 مارس 1979 ) و فارضا الحجاب " غطاءا للرأس " على كافة النساء ، المسلمات و غير المسلمات ( 6 مارس 1979) . و أتى الردّ الفوري – القاضيات و قد شعرن بالإهانة بالزعم الإسلامي أنّ النساء لا يمكنهنّ تولّى القضاء ، نظّمن إضرابا و تحوّل 8 مارس ، اليوم العالمي للمرأة ، إلى إحتجاج ضخم إنتهى بعد أيّام خمسة لمّا هاجمت قوّات الحكومة المسيرات متسبّبة في جرح و إيقاف العديد من المشاركين و المشاركات . و شاركت عدّة نسويّات أوروبيّات و أمريكيّات في هذا النضال و إلتقين بالحكّام الجدد ( بمن فيهم الخميني ) و أعربن لهم عن إنشغالهنّ بشأن حقوق النساء . (9)
و كانت معظم المجموعات اليساريّة ، عى خلاف فوكو ، غير منبهرة ب " الثورة الإسلاميّة " و إن ساد الإعتقاد لديها أنّه عقب سقوط النظام الملكي ، الإمبريالية الأمريكيّة هي التهديد الأكبر للثورة . و قد أخفق اليساريّون ، و على رأسهم المجموعات الشيوعية ، في رؤية أنّ صعود التيوقراطيين إلى السلطة ، رجال الدين و غيرهم ، يساوى نهاية هذه الثورة ؛ كما أخفقت في إدراك كيف أنّ الولايات المتحدة و القوى الإمبريالية الأوروبيّة خيّرت ، في إطار زمن الحرب الباردة الشرسة ، نظاما إسلاميّا على نظام قومي أو إشتراكي ، بعيد إدراكها أنّ الشاه لا يمكن إنقاذه هذه المرّة . و في حين أدان اليساريّون قمع النساء ، أداروا ظهرهم لهنّ بدعوتهنّ إلى الفتخلّى عن مقاومتهنّ و قتال الإمبرياليّة عوضا عن التيوقراطيّة التي ساعدتها القوى اليساريّة على بلوغ السلطة ( موغيسى 1994 ؛ شاهديان 2002 ) . و بيّنت الأحداث الموالية أنّ الأوتوقراطيين ، على عكس اليساريين ، قد أدركوا أهمّية النساء كقوّة سياسيّة جبّارة و كانوا يقومون بكلّ ما في وسعهم لضمان ولائهنّ للدولة الإسلاميّة . و قد إعتبر اليسار مساندة النساء لقضيّة الإشتراكيّة أمرا مضمونا . و علاوة على ذلك ، كانت النظريّة الإقتصادويّة التي كانوا يدعون إليها تخلط بين الجندر و الطبقة و تضع " قضيّة المراة " في موقع ثانوي ، موقع سيعالج مع نجاح الثورة .
و إثر وصولى طهران بمدّة وجيزة ، شرعت في التدريس في جامعة لمدّة سداسي و كنت أتابع السياسات الثوريّة و العلمانيّة في جانبها المهيمن لدى الطلبة . و عقب إعلان الحرب ضد النساء ، هاجم الحكّام الجدد الحرة من أجل الحكم الذاتي في كردستان غداة السنة الإيرانيّة الجديدة في 20 مارس و في أوت أمر الخميني الجيش بسحق أعضاء الحركة . و توجّهت إلى كردستان بعد مدّة قصيرة من إيقاف إطلاق النار في نوفمبر و بقيت هناك إلى صائفة السنة الموالية . و في بدايات 1980 ، بعثت الحكومة بمجموعات حراسة مسلّحة لإخضاع الجامعات و إخراج الطلبة منها ؛ و قد أطلق على عنف الدولة هذا ، الأوسع نطاقا بكثير من عنف النظام السابق ، إسم " الثورة الثقافيّة الإسلامية " ؛ و تسبّب هذا العنف في إغلاق الجامعات لمدّة سنتين ( موجاب 1991 ) . و في ذلك الوقت ، جرى الهجوم على الصحافة التي صارت مستقلّة منذ الثورة و وُضعت تحت مراقبة الحكومة . و كانت كردستان مختلفة عن المناطق التي كانت تحت الحكم التيوقراطي . و رغم أنّ الأكراد مسلمون فقد رفضوا التيوقراطيّة و طالبوا عوضا عن ذلك بدولة ديمقراطية و فدراليّة ؛ و قد قاطعوا الإستفتاء الذى كان يسعى إلى إصباغ الشرعيّة على تشكيل الجمهوريّة الإسلاميّة . و النساء الريفيّات الكرديّات ، شأنها شأن نساء عدد من المناطق الريفيّة و القبليّة في بقيّة إيران ، لم تلبس قط الحجاب . و كانت المجموعات الشيوعيّة ناشطة في كردستان و منها الكوملى كانت القوّة السياسيّة الأكثر شعبيّة . و قد ألهم وجود نساء ضمن القوى الثوريّة التي بقيت في القرى خلال حرب الحكومة على الأكراد ، ألهم النساء الرفيّات الشابات فإلتحقت العديد منهنّ بتلك القوى . و كنت ناشطة بمعيّة ثلّة من الأصدقاء في تركيز منظّمة نسائيّة كرديّة ثوريّة ، في ربيع و صائفة 1980 . و قد كان عددا من النساء و الرجال ، شبابا و كهولا ، مهتمّين بمواصلة الثورة التي أخفقت لكن هذه المرّة كثورة إشتراكيّة .
و كان النظام الإسلامي يكرّس خطوة خطوة قمع المعارضة الثوريّة عبر البلاد . و قد حاصر آلاف النشطاء و أعدم الكثير منهم . فإضطررت إلى التوجّه إلى المنفى في 1983 محاولة عدم البقاء فيه ؛ إخترت ألاّ أستمدّ أشعارى من الماضي بل من المستقبل فحسب . (10) و في السنوات القليلة الموالية للثورة ، وُجد توافق معتبر ضمن الإيرانيين من مشارب سياسيّة متنوّعة على الحاجة إلى مقاومة سياسات الدولة الإسلاميّة و ممارساتها المعادية للنساء و ميزها العنصري الجندري . و بالفعل ، نقد الجيل الصاعد من الأكاديميّات النسويّات السياسة الجندريّة للنظام ( تبرى و يغانه 1982 ) . و في حين بالكاد كان الوضع يشهد تحسّنا بالنسبة للنساء ، عرفت عديد هذه النسويّات تحوّلا نظريّا و سياسيّا في بدايات تسعينات القرن العشرين . و تبخّر النقد و تبخّرت المقاومة لفائدة أفكار " التفاهم " و " التسامح " و " الإختلاف " و " الخصوصيّة " و " الصوت " و " التفاوض " و " التأقلم " . و في جزء منه ، كان هذا التحوّل نتيجة منعرج كبير في النظريّة الإجتماعيّة و في النسويّة وهو بدوره جاء تفاعلا مع إضطراب عالمي كبير غداة تداعى التجارب التي لم تعمّر طويلا ، تجارب الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي و الصين و شرق أوروبا و صعود الليبراليّة الجديدة . وهو كذلك إفراز للقمع أو لإنحسار الحركات الإجتماعيّة لستّينات القرن العشرين ، بما فيها حركات النساء و الطلبة و العمّال – و الأكثر دلالة – حركات السود الراديكاليّة في الولايات المتحدة و كذلك حركات مناهضة الإستعمار و التحرّر الوطني عبر آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينيّة .
و عدت إلى جوّ أكاديمي بارد في جانفى 1984 بالمركّب الجامعي بإلينوا . كانت عودة رهيبة و باعثة على الإنهيار العصبي إلى مكان تركته يحدونى أمل ثوري كبير . لم يعد مكتب رابطة الطلبة الإيرانيين في الطابق الثاني من بناية إتّحاد الطلبة موجودا هناك ؛ و غادر الأصدقاء – و قد أعدم بعضهم في إيران أو أودعوا السجن . و الإحساس بالذنب و الهزيمة لم يكن منه مفرّ . و شرعت في برناج دكتوراه في التعليم لكن لا البرنامج و لا أي درس خاص كانا مهمّين بالنسبة إليّ إلى أن سجّلت في درس " النساء و التعليم في العالم الثالث " . خلاله درسنا كتاب ماريا ميس " البطرياركيّة و مراكمة رأس المال على الصعيد العالمي : النساء في التقسيم العالمي للعمل " ، وهو كتاب نُشر حديثا زمنها لكنّنا تفحّصناه فقط كنصّ لفهم التنظيرات النسويّة ل " التطوّر " و نضالات و تضامن النساء جنوب / شمال ضد الرأسماليّة . و سرعان ما إكتشفت وجود برنامج جديد هو " الدراسات النسائيّة " . فتوجّهت في الحال إلى الإدارة المعنيّة و تحدّثت إلى مديرة البرنامج ، برنيس كارول ، و إقترحت درس قراءة معها و القيام بالتدريس لجزء من الوقت في ذلك البرنامج . و صارت القائمة على تأطيري في دراسات النساء . و بفضل ذلك البرنامج تعرّفت على آن روسو و لوراداس توراس ، ناشرين مع شندرا موهنتى ل " نساء العالم الثالث و السياسات النسويّة " . و إضافة إلى هؤلاء ، أضحت مجموعة من المثليّات الراديكاليّات و ألفروأمريكيّات جزءا من وسطى الاجتماعي و السياسي و الفكري . و من خلالها ركّزت نفسى تدريجيا في عمل المعهد و تأقلمت مع دورى كطالبة متخرّجة و أمّ و زوجة . و قد مدّتنى المجموعة بالتشجيع و التأطير في العروض و الندوات و الكلام أمام جمهور .
و يمثّل الوسط الأكاديمي الذى عشت فيه أوّلا كطالبة متخرّجة منذ 1984 و لاحقا كعضوة بالكلّية منذ 1993 ، سجلاّ من التغيّرات البعيدة الأثر في المعرفة و علاقات السلطة في التعليم العالي . و بالعودة إلى إلينوا ، بعد عيش تجربة هزيمة ثورة هامة ، أردت أن أكتب و أتحدّث عن النساء و عن الطلبة و عن القوميّات في ظلّ الحكم التيوقراطي . و أضحت الآن النساء في إيران موضوعا هاما في وسائل الإعلام و الثاقفة الشعبيّة و حقوق الإنسان و مجموعات حقوق النساء و سرعان ما أمست كذلك في الدروس و صناعة النشر . لقد أردت الحديث عن العلاقة بين الدولة و الإيديولوجيا و البطرياركيّة و الدين و الطبقة و الإثنيّة و القوميّة و النسويّة . لكن عادة ما جرى تشجيعي على الحديث عن " هويّتى " و " جسدي " أو " ثقافتى " . كان يُنظر إلي كإمرأة " مسلمة " و إلى المنطقة التي أتيت منها ك " مجتمع مسلم " . بعد 1979 ، سجننى حشد من الدعاوى التيولوجيّة ،القديمة و الجديدة ، في هويّة لا تنتمى إليّ ، هويّة لم أكن أتماثل معها . لقد كانت النسبة الثقافيّة و سياسة الهويّة و ما بعد البنيويّة و ما بعد المعاصرة و منعرجات و إلتواءات أخرى في اللغة و الثقافة تشتغل لتحصر أفاقي في " الأصالة " و " الدين " و " العداء للمهاجرين " و " الإثنيّة ". و في هذا الجوّ النظري، الإنتماء السياسي إلى الأمميّة و النسويّة و الإشتراكية و الشيوعيّة و الإلحاد أو العلمانيّة لم يكن مرحّب به ، لا سيما بالنسبة للذين يبدو أنّهم يمثّلون " الآخر ".
لقد قاومت هذا التنظير المحافظ الذى كان منسجما مع المحافظة السياسيّة لليبراليّة الجديدة و الذى كان ينتشر مع بدايات تسعينات القرن العشرين إلى كلّ ركن ما كان هذا الأفق ، في فهمى ، يخدم مصالح الرأسمال و الدين ، إلتقط عديد الأشخاص و المجموعات المضطهَدَة لغة الإنتماء و الهويّة . و ألهم المنظّرون الجميع ، من النساء إلى الطلبة إلى المضطهَدين من السكّان ألصليين لأمريكا إلى المجموعات العرقيّة و افثنيّة و القوميّة ن بتجنّب " الروايات الكبرى " عن التحرّر و الصراع الطبقي . و في الوقت الذى كانت فيه الرأسماليّة منهجيّا تغزو الحدود وتخلق حدودا جديدة و كانت الحركات النسائيّة و كان الوعي النسوي يصير بصفة متصاعدة عالميّا ، دفع منظّرون نحو الفهم " المكروسياسي " [ سياسي على نطاق ضيّق – المترجم ] في هذا العالم المعولم . و بما انّه من العسير إنكار هذه العولمة الفعليّة ،يتمّ تقديمها غالبا على أنّها " تبادل ما بين القوميّات " ، إطار مفهومي يظلّ داخل الحدود القوميّة ( غروال و كابلان 1994 ).
تجاه الإنتقال من الفكر المحافظ للنظريّة الإجتماعيّة غير الماركسيّة إلى إنسياق اليسار الماركسي ، الذى كنت منه ، مع السائد ، ركّزت الآن على التناقض بين نظريّتهم و ممارستهم للسياسات الجندريّة . فقد كانت المجموعات الشيوعيّة في غيران ، و في غيرها من الأماكن أيضا ، أكثر الدعاة المثابرين لأجل حقوق النساء . و مع ذلك ، قلّصت مقاربتها النظريّة للبطرياركيّة الإضطهاد الجندري إلى الإستغلال الطبقي و وجدت الحلّ للإضطهاد في ثورة إشتراكية تطيح بالرأسماليّة و، معها ، بالإضطهاد الجندري . أخفقت في تقدير أنّ الجندر ليس طبقة و أنّ الإستغلال علاقة بين الرأسماليين و العمّال ، بينما الإضطهاد الذكوري علاقة سياسيّة عابرة للطبقات فيها رجال كافة الطبقات ، بمن فيهم العمّال ، يضطهدون النساء . و كذلك أخفقت في إدراك جدليّة هذا الصراع : في حين لا يمكن تقليص الجندر إلى طبقة ، الصراع حول العلاقات الجندريّة – أي ، تفكيك البطرياركيّة – لا مناص من كونه سياسي و بالتالى ، يمثّل صراعا طبقيّا . و هكذا ، إعطاء اليسار الأولويّة لتحسين حياة العمّال و للإستقلال عن الهيمنة الإمبريالية ، نسبة لتحرير النساء ، موقف سياسي ، موقف يستهين بالدور الحيوي للنساء في التغيير الثوري ، و بذلك يتغاضى عن الطبيعة المدمّرة لممارسة سلطة جندر الذكور . و كذلك ، تشويه الشاه للنساء و أسلمة الخميني للعلاقات الجندريّة سياسيّان بقدر ما هو سياسي قمعهما للعمّال و الفلاّحين و الطلبة و الأقلّيات و الفنّانين و الصحفيّين . و أخفق اليسار في فهم أنّ إضطهاد النساء كان محوريّا في خلق ظروف الإستغلال الرأسمالي / الإمبريالي لجميع الشغّلين . و أرى أنّ هذه المقاربة مقاربة إقتصادويّة / عمّالويّة في صفوف أغلب تيّارات اليسار .
و لم تسمح النظريّة الإقتصادويّة المرتبطة بالفهم القومي للإمبرياليّة لدى اليسار بإدراك مشروع الأسلمة كصراع طبقي . بكلمات أخرى ، أخفقت تلك النظريّة في قراءة الهجوم على النساء كهجوم كامل على الطبقة العاملة ، على كلّ من النساء و الرجال . كما كشف تحليل اليسار لخطاب النظام المناهض للإمبريالية الأمريكيّة ، مقاربته الإقتصادويّة / العمالويّة ، التي حسبها تمّ حجب جدليّة العلاقات الداخليّة بين الدين و البطرياركيّة و الرأسماليّة لفائدة الثنائية البسيطة للعدوّ الداخلي / الخارجي . و مع ذلك ، و إن نالت " قضيّة المرأة " مكانة ثانويّة ، ثابرت آلاف النساء على المقاومة و قاتلن النظام التيوقراطي دون أجندا سياسيّة واضحة و تمّ سجن الآلاف منهنّ في ثمانينات القرن العشرين و أجبر الآلاف على المنفى . (11)
بالغة نهاية قصّة لا نهاية لها حول نضال النساء من أجل التحرّر ، توصّلت إلى إستخلاص أنّ النظام الرأسمالي و البطرياركي اليوم عائق ليس أمام تحرير النساء فحسب بل إلى جانب ذلك ، هو عائق أمام تحرير افنسانيّة . و لا أرى في النظريّة الماركسيّة اليوم و لا في النظريّة النسويّة الكثير من الأمل لصناعة التاريخ عبر ما أسمته أوفنغتون القضاء على الفقر و تحطيم إستعباد النساء . ثمّة إهتمام متزايد بالماركسيّة غداة تواصل الأزمة الاقتصادية الرأسماليّة ، بيد انّ الماركسيّة تحتاج إلى تجديد تعديلي و جدّي يشمل ، في جزء منه ، فهما جدليّا لما اسماه إنجلز افنقسام الكبير ألوّل في التاريخ – إنقسام المجتمع الإنساني إلى جندرين يكوّنان نظاما ترتبيّا ، نظاما بطرياركيّا .
تجاوز الواصلة في النسويّة – الماركسيّة
تعنى قصّة الحياة المرسومة بإقتضاب و جزئيّا أعلاه أنّ قرنا من النضال لربط المشروعين التحرّريّين الكبيرين ، الماركسيّة و النسويّة ، يشمل أكثر من إنشغال بالمصالح النظريّة . إنّه يوفّر أدلّة على طريقة عدم إنفصام مقاومة البطرياركيّة في بلد مثل غيران عن بقيّة العالم . فهذا النضال متجذّر في الظروف الماديّة و الفكريّة التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر و كذلك كمقاومة عالميّة للحكم الطبقي و الجبدري . و تكشف هذه القصّة كلاّ من عموميّة الإضطهاد و خصوصيّته ( الجندر و العرق و الإثنيّة إلخ ) و طابعه السياسي و الإيديولوجي و أيضا عولمة المعرفة النسويّة و نضال النساء من أجل التحرّر . و يضع هذا افعتبار موضع سؤال الإختزالات المعادية للمهاجرين و القوميّة و الدينيّة للعلاقات الإجتماعيّة للجندر بمسائل الهويّة . و النظريّة و السياسة نتاج للتقسيم العالمي للعمل الذى فيه تحكم الرأسمالية – البطرياركيّة – العنصريّة .
لقد أشرت إلى حدّ الآن إلى تيّارين متنازعين – تيّار نظري و يبتعد عن تركيب النسويّة و الماركسية ، و تيّار سياسي – أي ، تصاعد الإضطهاد الجندري و الإضطهاد الطبقي الذين يصرخان من أجل مزج الإثنين . في العلاقات الموصولة بواصلة منذ ستّينات القرن الماضي ، تعايشت الماركسيّة و النسويّة و تناقشتا و تفاعلتا و حافظتا على مجاليهما. و بالفعل ، بالواصلة أو دونها ، شكّلت النظريّتان للعالم بعضهما البعض منذ نهاية القرن التاسع عشر دون خلق إختراق نظريّ . وإلقاء نظرة على التاريخ تجلى المرونة من أجل التجديد و إدماج المزيد في الماركسيّة أكثر منه في النسويّة. فمنذ نشأتها ، إنطوت الماركسيّة على عديد الخطوات المتقدّمة في العلوم ( الإجتماعيّة ) – و على سبيل المثال ، أدمج ماركس و إنجلز نظريّة التطوّر الداروينيّة أو العمل الأنتروبولوجي لهنرى لويس مورغان ، أو إحتضان لينين لدراسة جون هوبسون للإمبريالية ، و قد أفرز هذا تحوّلا كبيرا في النظريّة الماركسيّة للرأسماليّة و لإستراتيجيا الثورة الإشتراكيّة . و بالفعل ، هذا النوع من الواصلة بين الماركسيّة و المعرفة و الفنّ غير الماركسيين قد شدّد عليه ماو تسى تونغ حينما أكّد أنّ الماركسيّة " تشمل و لايمكنها أن تعوّض " ، مثلا ، الواقعيّة في الفنّ أو النظريّة في الفيزياء ( ماو 1971 : 281) .
و بإمكان المرء أن يحاجج في نفس الإتجاه بأنّه يجب على الماركسيّة أن تشمل المساهمات النسويّة في فهم البطرياركيّة . تتقدّم النسويّات بديناميكيّاتها و قاعداتها الإجتماعيّة و نظريّاتها و مناهجها و إيديولوجيّاتها و أبستيمولوجيّاتها و نظراتها الخاصة . و تشديد الماركسيّة على أنّ الإضطهاد و الإستقلال يجلبان بعض النوسيّات في تضارب مع الجدليّة التي تميّز الماركسيّة عن النظريّات الإجتماعيّة الأخرى . و هكذا ، النظريّات النسويّة في موقع صعب لتشرّب الماركسيّة . و علاوة على التنافر النظري و أبستيمولوجي ، ترك القمع السياسي للماركسيّة آثاره على الجبهة النظريّة . فمثلا ، غداة إعادة تركيز الرأسماليّة في الصين و إنهيار الإتحاد السوفياتي ، تخلّت الكثير من النسويّات الإشتراكيّات أو النسويّات الماركسيّات عن الماركسيّة ،(12) و من ظلّت ملتزمات بنقد الرأسماليّة نحون إلى تحديد أنفسهنّ ك " نسويّات ماديّات " . و الماديّة في هذا السياق غالبا ما تفهم على أنّها تعنى " الاقتصاد السياسي " الذى يوضع في تعارض مع " الثقافة " و " اللغة " أو " الخطاب " . و مع ذلك ، هذا الفهم للمادة و الماديّة ليس ماركسيّا طالما أ،ّ الماركسيّة تفهم المادة على أنّها " واقع خارجي " – أي كلّ ما يوجد خارج ذهننا ، و هكذا مشكلة علاقة جدليّة وحدة و صراع مع الوعي ؛ و بهذا الفهم الفلسفي ، كلّ الظواهر الثقافيّة و اللغويّة و " الروحيّة " ، شأنها في ذلك شأن العلاقات الإقتصاديّة ، هي كذلك جزء من المادة أو الواقع المادي أو الخارجي .
ميولى إلى إستبعاد الواصلة في النسويّة – الماركسيّة لا ينبغي أن يفهم كرغبة في التفرقة بين الإثنين . بالأحرى ، سعيت إلى توضيح علاقة بنّاءة و مستمرّة أكثر بين هذين المجالين الكبيرين من المعرفة ، الموقعين من النضال ، و أفقي التحرّر. عبّرت إيناسا أرماند ( 1874-1920) ، النسويّة الماركسيّة الروسيّة ، عن ما قاله عدّة ماركسيين بصفة متكرّرة بكلمات و في أطر مختلفة : " إن كان تحريرالنساء لا يمكن تصوّ ره دون شيوعيّة ، فبالتالى لا يمكن تصوّر الشيوعية دون تحرير النساء تحريرا ناجزا . " ( ذكرته كليمنس 1979 : 155) لم يكن هناك أيّ ظلّ للوهم ، على الأقلّ نظريّا ، بشأن الطبيعة المعقّدة للتحرّر .
لقد أدركت أرماند و أوفغتون ، نظريا ، أن " الإستعباد " و " الفقر " لن توضع لهما نهاية في ظلّ نظام الحقوق البرجوازيّة . و كذلك له دلالته أنّ لينين قد كرّر تشديده ، عقب ثورة 1917 ، على انّ المساواة القانونيّة التامة بين النساء والرجال التي منحتها للتوّ الحكومة السوفياتيّة لم تكن لتحقّق ولن تحقّق المساواة خارج القانون ( الإجتماعية والإقتصاديّة ) بين عشيّة و ضحاها فهذا هدف لا يمكن تحقيقه إلاّ " مع الإنتصار التام للشيوعية " ( لينين 1982 : 84-85) . و هذه النظرة متجذّرة في الفهم المادي التاريخي للماضي و للمستقبل و لطبيعة الثورة الإشتراكية التي تعالج المساواة الجندريّة و الطبقيّة و العرقيّة أو القوميّة ليس كمسألة قانونيّة بل بأكثر عمق كذلك كمسألة إجتماعيّة و إقتصاديّة . و منطلقا ممّا شيّده ماركس ، أكّد لينين على أنّ الإشتراكية مرحلة إنتقاليّة طويلة بين الرأسماليّة و الشيوعيّة وهي تمزج بالضرورة بين مظاهر و خصوصيّات كلا النظامين . فالإشتراكية ، بهذا المعنى ، مجتمع طبقي فيه البروليتاريا هي الطبقة الحاكمة تمسك برؤية القضاء في النهاية على نفسها – و على جميع الطبقات – من خلال صراع طبقي مديد ( لينين 1971 : 295 ) . و قد دفعت إعادة تركيز الرأسماليّة في الإتّحاد السوفياتي في 1956 بماو تسى تونغ إلى التنظير لديناميكيّة الصراع الطبقي في ظلّ الإشتراكيّة و قد شدّد على انّ الحزب الشيوعي ، وهو في حدّ ذاته نتاج للمجتمع الطبقي و موقع " البرجوازية الجديدة " ، هو المنبع الأساسي الإيديولوجي و السياسي لإعادة تركيز الرأسماليّة . و في هذه التنظيرات ، ( إعادة ) الإنتاج في الرأسماليّة معقّدة غاية التعقيد و لا يعدّ هذا الإنتاج ذاته للتحوّل على الشيوعيّة . و في تضارب حاد مع هذه النظرة ، نجد تنظيرات أحدث للشيوعيّة على أنّها نظام جديد يظهر تقريبا بصفة عفويّة دون اللجوء إلى ثورة و فيه تتحكّم ديناميكيّة الرأسماليّة المتحوّلة إلى " إمبراطوريّة " ، جرّاء الإنتاج و سيرورات العمل الجديدين . ( 13) و يشير كلّ هذا إلى الصراعات النظريّة و السياسيّة الضخمة في ظلّ ظروف التغيّر الذى لا يتوقّف في النظام الراسمالي العالمي المعاصر . و اليوم ، قراءة الماضي و الحاضر و رسم المستقبل حمل ثقيل على كاهل كلّ الماركسيين و الماركسيّات و النسويّات .
كان إستهلالي لهذه المقدّمة بالتذكير بالحرب الإمبرياليّة قبل قرن عندما بدات مرحلة جديدة من الإستعمار و إعادة تقسيم أفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينيّة . و أنظروا إلى مجزرة غزّة على يد الدولة الصهيونيّة الإستعماريّة لإسرائيل التي وُلدت في 1948 عبر الترحيل و المصالدرة العنيفين للسكّان الفلسطينيين . و ولادة دولة إسرائيل معروفة لدي الفلسطينيين بيوم النكبة . و أنا أفكّر في فظائع زمنا و العالم الفوضوي و الظلم المستشري و العنف و الحرب و اللاقانونيّة ، لاحظت آثار نظام في هذه الفوضى . فلبّ هذا النظام ( اللانظام ) هو المنطق الرأسمالي / الإمبريالي البطرياركي العنصري و فيه أجساد النساء و حياتهنّ الجنسيّة ساحة معركة . و في هذا النظام ( اللانظام ) الاجتماعي الفوضوي ، للنساء علاقات متناقضة لكونها هدف / موضوع ، مالكة / غير مالكة أو منقذة / خائنة للثقافة و العلاقات الإجتماعيّة ؛ و تخلق هذه الفوضى الاجتماعيّة كلاّ من ظروف تحرير النساء و إخضاعهنّ .
إنطلقت مقاومة النظام هذا الإستعماري و نزاع القوى الإمبريالية حول دول من بقايا الإمبراطوريّات القديمة ، إنطلقت على الفور و في كلّ مكان على القارات الثلاث – وهي متواصلة إلى يومنا هذا . و قد ساهمت النساء بنشاط و على نطاق واسع ، في إنتفاضات في بلدان عربيّة بدأت في ديسمبر 2010 في تونس و إمتدّت عبر الشرق الأوسط و شمال أفريقيا . وُجد منظّمون و قادة و نشطاء على الأنترنت . و مع ذلك ، لم تشارك معظم النساء في هذه الإحتجاجات كأعضاء في حركات نسائيّة منظّمة مطالبة بتفكيك العلاقات الجندريّة البطرياركيّة . مع الرجال و إلى جانبهم ، نادت بتعويض الدكتاتوريّات بأنظمة ديمقراطيّة برلمانيّة و عليه تركت النظام الاقتصادي – الاجتماعي و الهيكلة الطبقيّة بلا مساس. و أنكى من ذلك حتّى، وُجدت سياسات دون مركز و دون قيادة كان يدعو إليها بفخر الكثير من الناس و منهم مجموعات شبابيّة علمانيّة . و فيما أغلبيّة الذين يعانون ةمن الفقر لم يكسبوا أيّة أرضيّة ، فقدت النساء حتّى أكثر حيث تعرّضن إلى العنف الذكوري حتّى في الشوارع و الساحات . و في غضون سنتين ، وقعت الإطاحة بالدكتاتوريّات في تونس و مصر و اليمن و ليبياو حلّت محلّها مجموعات حسنة التنظيم تعمل من أجل شكل آخر من الدكتاتوريّة ، شكل تيوقراطي . و لم تمرّ فترة طويلة في مصر – أهمّ مركز قوّة سياسيّة في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا – حتّى تجاهل الجيش المطالبة الشعبيّة بالنظام البرلماني و أقام دكتاتوريّة عسكريّة تمسك بدفّة إدارة الدولة . و في سوريا ، عوّلت المجموعات المتباينة التي عارضت نظام الأسد الدكتاتوري ، على القوى في المنطقة و على القوى الإمبريالية للحصول على الدعم العسكري و السياسي . وفي غضون سنة، تحوّلت البلاد إلى ساحة معركة بين نظام الأسد و الأصوليين الإسلاميين و الإمبريالية الغربيّة و الدول العربيّة و الإسلاميّة في المنطقة . و في غياب السياسة الثوريّة ، أدّت الإنتفاضات إلى حكم حتّى أكثر تيوقراطيّة يهدّد جدّيا النساء و الجماهير الكادحة و الأقلّيات الثنيّة و الدينيّة و حرّية التعبير و التنظيم . بدا كما لو أنّ الناس في الشوارع العربيّة كانوا ينسخون الثورة الإيرانيّة لسنة 1979 . و في حال كلّ من الثورة أفيرانيّة و ما يسمّى ب " الربيع العربي " ، غياب الوعي الثوري – أي النظريّة و السياسة و التنظيم – جعل من الممكن للإمبرياليّة و الأصوليّة الإسلاميّة أن تقمع أي نضال في سبيل تغيير ثوري . و زمن كتابة هذه ألسطر في صائفة 2014 ، كان للنزاع بين و التعايش بين هتين القوّتين اللتين فات أوانهما قد دمّر شعوب و بلدان الشرق الوسط و شمال أفريقيا . و هنا كما في أماكن أخرى من العالم ، النساء و الرجال مستعدّون لتغيير هذا الواقع الرهيب إلى سمتقبل مشرق لغالبيّة البشر . بيد أنّ الوعي أو العوامل الذاتيّة متخلّفة عن الواقع الموضوعي ما يخدم مصلحة أقلّية تحتكر العنف و السلطة السياسية و الإقتصاديّة .
كيف نقرأ هذا الكتاب
" العمل الذى أردت إنجازه و قد صرت ناضجة ، ما كان لينجز دون الثقافة النسائيّة المزدهرة أو دون دعم حركة نسائيّة ... نحتاج إلى الجرأة و نعتمد على جرأة بعضنا البعض غير أنّه عليها أن نتذكّر أنّه وجدت نساء لم تملك نوع الشبكات و نوع الثقافة و نوع السياسة في محيطها ، و نحن اليوم نملكهم و هذا في حدّ ذاته خطوة جبّارة إلى الأمام وهو شيء علينا صيانته و المضيّ به قدما ، و علينا الدفاع عنه من أجل أن ينجز جميعنا نوع العمل الذى نريد إنجازه ، و الذى يحتاج العالم منّا أن ننجزه. " ( أدويان ريتش – ذكرته لنغدال 2004 : 149).
و هذا الكتاب يتفحّص ، في إطار النسويّة و الماركسيّة ، مختارات من المفاهيم الكبرى في النظريّة الإجتماعيّة و السياسيّة . و المساهمون و المساهمات لم يقدّم لهم و لهنّ تخطيطا لكتابة فصولهم ، على أنّى كنت معتادة على أعمالهم . و يقيّم بعض المؤلّفين و بعض المؤلّفات الفصل بين الماركسيّة و النسويّة بينما يسجّل آخرون فائدة خلاصة عن طريق تفحّص المفهوم الذى إختاروه لهذا الكتاب . و يأتي المساهمون من مشارب شتّى ، و تعكس كتاباتهم عولمة كلّ من البحوث الأكاديميّة النسويّة و الماركسيّة و كذلك الحاجة الملحّة لبناء الواحد على ألاخر . كتبوا من آفاق ماركسيّة متباينة بما فيها أفاق غير غربيّة عادة ما تكون مهمّشة أو موضع سخرية في الأدب الماركسي المركزى الأوروبي أو الورومركزي . و قد كتبت معظم الفصول بشكل خاص لهذا الكتاب في حين أنّ البعض ، على غرار فصلي هوغ ، " العلاقات الجندريّة " و " ماركس ضمن النسويّة " ، و فصل بنرجى ، " البناء إنطلاقا من ماركس : أفكار حول " العرق " و الجندر و الطبقة " و خاتمة أبيرت و عنوانها " الجندر بعد الطبقة " ، قد سبق نشرها . و يتوجّه الكتاب إلى الأكاديميين و الأكاديميّات و الطلبة و النشطاء الذين لهم فضول بخصوص العلاقة الهشّة بين الماركسيّة و النسويّة ، و على المعنيّين بالإنخراط في مشروع " تسمية ألشياء بأسمائها " – أي تسمية ما هو برجوازي و عنصري بصدد النسويّة و ما هو بطرياركي و عنصري بصدد الماركسيّة ؛ و إلى الذين لهم فضول بشأن الواصلة فى النسويّة – الماركسية ، و في التحليل النسوي للطبقة و في تحليل العرق و الإختلاف بينهما . كما يتوجّه إلى الذين يبذلون جهودا للتقدّم بمعرفتنا و ممارستنا للنسويّة الثوريّة . و يهدف الكتاب إلى التذكير النظري – أي ، التذكير بمساهمة عديد النسويّات قبلنا و اللاتى كان عملهنّ ضروريّا في تشكيل أفكارنا . و مثلما يضع ذلك أدريان ريتش بطريقة لبقة جدّا ، هذا ليس ممكنا إلاّ إذا كانت لدينا الجرأة على الإشتباك مع أفكار بعضنا البعض ، و الإستعداد إلى إعادة التفكير و المراجعة و إعادة بناء الماركسيّة و النظريّة النسويّة و إعادة إحياء وعودهما الثوريّة .
و الكتاب أيضا قطيعة نظريّة مع إستعارات " الزواج و " الطلاق " التي كانت بمثابة صرخة موضة في ثمانينات القرن الماضي ، عقب نشر هايدى هارتمان لفصلها المؤسّس ، " الزواج غير السعيد بين الماركسيّة و النسويّة " الذى أصبح عنوانا فرعيّا في الكتاب الذى نشرته ليديا سرجانت ، " النساء و الثورة : الزواج غير السعيد بين الماركسيّة و النسويّة " ، الصادر في 1981. لقد إقترحت هرتمان أ،ّ هتين المقاربتين غير منسجمتين في تفسير العلاقات الجندريّة و الطبقيّة . و في جوهر هذا الإفتراق تكمن رغبة بلوغ مشروع نسوي ثوري يكون مستندا جيّدا على معرفة و تجربة النسويّة كقوّة معارضة ، معرفة نسويّة تفهم شموليّة / عموميّة البطرياركيّة و الرأسماليّة العنصريّة و فيها / و معها شتّى خصوصيّاتها – شكل من المعرفة النسويّة لا يخشى الأشكال الثقافيّة و لا يقلّص السياسة إلى الثقافة ، و لا ينزع الثقافة من السياسة .
و مثلما ناقشت إلى هذا الحدّ ، تطوّرت النظريّة النسويّة لما بعد ثمانينات القرن العشرين تطوّرا كبيرا بإتّجاه ما بعد البنيويّة و ما بعد المعاصرة و واصلت الماركسيّة السائدة الإستهانة بكلّ من محوريّة البطرياركيّة العنصريّة للنظام الرأسمالي و أهمّية النساء و نضالاتهنّ في تغيير نظا السلطة الرأسمالي العنصري . و هكذا ، يفتح " الماركسيّة و النسويّة " مجالا لحجّة أنّ خلاصة جديدة للماركسيّة و الفكر النسوي ليست ممكنة فحسب بل هي كذلك ضروريّة لأجل بعث تحدّى فعلي لكافة أشكال الإضطهاد و الإستغلال . و بإختصار ، هدف الكتاب مزدوج . هو يهدف أوّلا إلى التسجيل الدقيق للنقاشات الأبستمولوجية و المنهجيّة حول الأفكار النسويّة من أجل التغيير الاجتماعي الثوري . و يهدف تاليا إلى تقديم تحليل نسوي ماركسي متجدّد لهذه الأفكار . و في الأخير ، يسعى الكتاب إلى تقديم تحليل للنسويّة و الماركسيّة يكون متناغما تماما و مندمجا تماما بواسطة المادية الجدليّة و التاريخيّة ما يمكن أن يشكّل أساسا لكلّ من البحوث الأكاديميّة و النشاط النضالي .
و يتكوّن الكتاب من قسمين أساسيّين . القسم الأوّل ، " الطبقة و العرق في الماركسيّة و في النسويّة " يتضمّن فصولا ثلاثة أراها أساسيّة في فهم المقاربات المتجدّدة و المؤرّخة للنسويّة – الماركسية المعروضة في هذا الكتاب . و قد كتبت الأكاديميّة النسويّة – الماركسيّة الألمانيّة فريغا هوغ فصلين و لم يكن هذان الفصلان متوفّران على نطاق واسع باللغة الأنجليزيّة إلى حدّ إدراجهما في هذا الكتاب . و الفصل الثالث من هذا القسم الأوّل من تأليف النسويّة المناهضة للعنصريّة و الأكاديمية الماركسيّة هيمانى بنرجى . و بحيويّة يحاجج فصلها من أجل فهم إندماجي للجندر و الطبقة و العرق و يقدّم قراءة ماديّة جدليّة لأنطلوجيا / علم وجود و إبستيمولوجيا النسويّة – الماركسيّة .
و القسم الأساسي الثاني من هذا الكتاب ، " كلمات مفاتيح في النسويّة – الماركسيّة " ، يشتمل على مساهمة إثني عشرة أكاديميّا و أكاديميّة وهو منظّم تنظيما أبجديّا . كلّ مؤلّف / مؤلّفة قد كتب ورقة قصيرة عن المفهوم الذى إختاره . و قد جاءت هذه الفصول نتيجة عدد من إجتماعات ورشات عمل و ندوات مشتركة كان الهدف منها التنظير للمواضيع الجوهريّة للنشاط الثوري للتغيير الاجتماعي . عند إختيار " الكلمات المفاتيح " لم تكن غايتنا تغطية قائمة شاملة من المفاهيم بل بالأحرى تمثّل نماذج ضغيرة من اللبّ المفاهيمي و النقاشات – التي لم تنتهى – صلب الماركسيّة و النسويّة . و نعترف كذلك بأنّ المفاهيم المختارة ليست منفصلة بل هي ذات صلة الواحد بالآخر و تفهم بشكل أفضل في عناقيد و في حوار مع بعضها البعض . بإختصار ، يمثّل الكتاب دفاعا واضحا و صارما عن التآزر بين الفكر الماركسي و النسوي بالبناء على و حتّى تخطّى النقاشات النظريّة السابقة .
و مثلما سجّلنا أعلاه ، يسعى الكتاب إلى فتح النقاش حول هذه المفاهيم عوضا عن إنهائه أو إغلاقه . إنّه يقدّم إطارا نسويّا – ماركسيّا متجدّدا لسلسلة من المفاهيم المفاتيح الأساسيّة للعمل النسوي الثوري و يدعو الجمهور العريض و المتنامى عالميّا من الأكاديميين و الأكاديميّات و النشطاء حاليّا إلى الإشتباك مع مثل هذه الأفكار . و الخاتمة " الجندر بعد الطبقة " الذى وضعته تريزا أل أبارت يطبّق الماديّة الجدليّة في التنظير لإضطهاد النساء و إستغلالهنّ و ينقد التيّارات الراهنة في النسويّة .
عند قراءة هذا الكتاب ، تذكّروا أن هدف كلّ فصل ليس بالضرورة تقديم مراجعة أدبيّة واسعة عن كلّ موضوع ، و لا هو يهدف إلى تغطية كامل و مجموع الأدب الماركسي و النسوي . فكلّ فصل يرسم نقطة وجيزة من المدخل إلى المواضيع الأهمّ صلب و بين الماركسية و النسويّة و نقاش كلمة مفتاح معيّنة . و قد شرح المؤلّفون و المؤلّفات لماذا صارت بعض المواضيع بارزة جدّا في الماركسيّة و النسويّة . و شرحوا كيف عالجت النظريّة الماركسيّة الكلمة المفتاح و المشاكل / النقائص المثارة بشأن علاقات الرأسمالية بالجندر و الطبقة و العرق و الجنسانيّة . و من المهمّ أن نلاحظ أنّ الفروق النظريّة الدقيقة في كلّ فصل يمكن أن تعالج كحوارات متواصلة داخل الماركسيّة و النسويّة .
و أشجّع القرّاء على الإشتباك النشيط مع الكتاب بإستخدام الأسئلة التالية كمرشد للقراءة : كيف يمكننا أن نعيد التنظير للبطرياركيّة الرأسمالية من خلال تحليل كامل للعنصريّة و الإستعمار و الإمبريالية ؟ كيف يكون بوسع صياغة المفاهيم النسويّة – الماركسيّة أن تسمح لنا بتطوير فهم نسوي ثوري لفوضى الرأسماليّة و لقوى التغيير ؟ ما الذى يجعل مشروعا نسويّا ماركسيّا قابلا للرؤية و دونه لن تمكن رؤيته ؟ و لوضع ذلك بصورة مختلفة ، ما هي العلاقات غير المرئيّة التي ستكون كلّيا ، بدلا من جزئيّا ، كشفها الجهد الجماعي عند إعادة التنظير للماركسيّة و النسويّة ؟ أشجّعكم على النظر إلى منهج التحليل المادي الجدلي و التاريخي والمحاججة المستخدمة في هذا الكتاب . فهذا المنهج مفتاح في التعلّم الذى تقترحه هذه البحوث . و كلمة أخيرة : للمضيّ مع التوجّه الفلسفي و المنهجي لهذا العمل ، سيكون مفيدا نقاش هذه المواضيع و دفع الحدود النظريّة المرسومة هنا ، إختبروها في الممارسة العمليّة . و الأهمّ ، أنظروا إن كانت توفّر تعلّما يساعف في بناء عالم أفضل نستحقّه .
------------------------------------


الهوامش :
1- يمثّل بناء الإشتراكية و إعادة تركيز الرأسماليّة سيرورات صراع على عدّة جبهات ،و لا يمكن تحديده بتاريخ معيّن غير أنّه في حال الإتّحاد السوفياتي ، صار المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي نقطة تحوّل إذ أطلق فيه نيكيتا خروتشاف ، في " تقرير سرّي " ، منعرجا كبيرا في النظريّة و افيديولوجيا قيّمه الحزب الشيوعي الصيني على أنّه مشروع إعادة تركيز الرأسماليّة . و قاد الصراع حول هذا المنعرج ، مع 1963/ 1964 ، إلى أوّل إنقسام كبير صلب الحركة الشيوعية العالمية ما بعد 1917 . و أطلق الحزب الشيوعي الصيني الثورة الثقافيّة البروليتاريّة الكبرى ( 1966- 1968 و تواصلت بشكل غير رسمي إلى 1976 ) كوسيلة لمنع إعادة تركيز الرأسماليّة على النحو الذى حصلت به في الإتّحاد السوفياتي . في كلّ من 1956 و 1976 ، لجأ مهندسو إعادة تركيز الرأسماليّة إلى العنف ضد أنصار الإشتراكيّة . قبل 1956 ، شرح نقّاد حدود الإشتراكيّة السوفياتيّة على أنّها نتيجة للبقرطة ( رأسماليّة الدولة ) ، و شخصيّة أو نفسيّة ستالين ( دكتاتوريّة ) ، أو تخلّف تطوّر قوى افنتاج ( افقتصادويّة ) . إلاّ أنّ ماو تسى تونغ قد جاء بتفسير مغاير مشدّدا على طبيعة الإشتراكيّة بما هي مجتمع طبقي و بما هي مرحلة إنتقاليّة بين الرأسماليّة و الشيوعيّة ،و إستمرار الصراع الطبقي لا سيما داخل الحزب ، و دور الخطّ السياسي و الإيديولوجي و الطبيعة المحدّدة للبناء الفوقي في مسار الإنتقال من الرأسماليّة إلى الشيوعيّة . في الصين ، أكثر منه في الإتّحاد السوفياتي ، حصلت إعادة تركيز الرأسماليّة غداة صراعات سياسيّة و إيديولوجيّة محتدمة بين " أتباع الطريق الإشتراكي " و " أتباع الطريق الرأسمالي " . و للتوسّع في هذا ، أنظروا مثلا منشورات باللغات الأجنبية (1973) و غاو (2008) و هنتون (1990).
2- مثلا ، بعد سنوات ستّ من قيام جمهوريّة الصين الشعبيّة ( أكتبر 1949 ) ، زارت سيمون دى بوفوار البلاد و كتبت بالتفصيل عن التقدّم الحاصل في حياة الشعب الصيني ، لا سيما النساء . ( دى بوفوار 2001 ). و لضرب مثال آخر ، زارت جوليا كوليا كريستافا الصين إبّان الثورة الثقافيّة ووصفت الثورة الصينيّة على أنّها " ثورة نساء " ( كريستافا 1991 ) و أنظروا أيضا الهامش 12 ، أدناه .
3- من أجل نقد لهذا المنعرج النظري ، أنظروا أبارت (1996) .
4- إنشغال الماركسيّة بتحرير النساء معترف به على نطاق واسع . و قد لاحظت ميشال بارات ، على سبيل المثال ، أنّ " خارج الفكر النسوي ذاته لا وجود لتقاليد تحليل نقدي لإضطهاد النساء قد يتماشى و الإنتباه الثاقب النظر الذى يوليه للمسألة المفكّر الماركسي تلو الآخر " . ( 1983: 164 ) .
5- للمزيد حول هذا ، أنظروا كربنتار و موجاب (2011).
6- أنظروا أيضا موجاب (2000 ، 2006) .
7- إستعرت هذا التشبيه من حامد شهيديان ( 2002 : 1 ).
8- لدراسة و توثيق تقارير فوكو و كتّاب آخرين عن إيران ، أنظروا أفارى و أندرسون (2005 ) ، اللذان يحاججان ان حماسه ل" الثورة الإسلاميّة " كان متجذّرا في فهمه للحداثة و العلمانيّة . في مراجعته لهذا الكتاب ، يفصّل تسكانى فهم فوكو للثورة عن موقفه النظريّ و يقلّص كتابته المفصّلة نسبيّا عن إيران إلى " حلقة فكريّة وجيزة و إن كانت مشحونة " ( 2006 : 57 ) كما لو أنّ فوكو قد تخلّص من إلتزاماته النظريّة و السياسيّة خلال السنة التي كان فيها منشغلا بإيران حتّى بينما كان يجد تحدّيا و يردّ على النقد الذى تعرّض له من ، ضمن آخرين ، نسويّة إيرانيّة ، أتوسا ه . و الأكاديمي الماركسي المختصّ في أسلام ، ماكسيم رودنسن . و يعتقد تسكانى أنّ موقف فوكو بشأن الإسلام السياسي الإيراني تشكّل بفعل " معاداته للماركسيّة في أواخر سبعينات القرن العشرين " ( المصدر السابق : 57 ).
9- من أجل تسجيل مفصّل لهذه المعركة و المقاومة و التضامن العالميين ، أنظروا ماتين و مهاجر (2013 ) .
10- أستشهد بملاحظات ماركس حول ثورات 1848 في أوروبا : " إنّ ثورة القرن التاسع عشر الإجتماعيّة لا يسعها أن تستمدّ أشعارها من الماضي بل من المستقبل فحسب ." ( 1979 : 106 ؛ بالعربيّة صفحة 142 من الجزء الأوّل من ماركس و إنجلز " مختارات في أربعة أجزاء " ، دار التقدّم ، موسكو ).
11- الأرشيف الكبير للأدب و التقارير عن السجناء السياسيّون بالإمكان الحصول عليه من خلالف موقعى على الأنترنت " السجناء السياسيّون : فنّ المقاومة في الشرق الأوسط " WOMENPOLITICALPRISONERS.COM/ .
12- مثلا ، كلودى بروال (1977 ) التي كتبت بحماس عن التقدّم في تفكيك العلاقات الجندريّة البطرياركيّة إبّان الثورة الثقافيّة في الصين ، و أخفقت في إستيعاب إعادة تركيز الرأسماليّة و تراجعت عن ما كتبته ( أنظروا بروال و آخرون 1980 ).
13- هذه أفكار هاردت و نغرى (2000، 2004 ) ؛ و من أجل نقدها ، أنظروا ك.ج.أ. (2006 ) . و من أجل فكر حديث ذي طبيعة فلسفيّة ، عن الشيوعيّة ، انظروا دوزيناس و تزيزاك (2010).

المراجع بالأنجليزيّة :

























التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ


.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا




.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟