الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مُدّعي الأصالة مُقرٌ بالنّقلِ

محمد ابداح

2018 / 3 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


تحدّثنا في الجزء السابق من سلسلة قواعد النقد السياسي عن أن تلك القواعد تتكون من خمسة قواعد هي المعرفة والناقد ومحلُّ النقد، والأهداف والدوافع، وبأن سمات النقد السياسي هي البراغماتية، والإستباقية، والتناقض، وذكرنا بأن البراغماتية سببا لتفسير العديد من الظواهر والتي قد تبدو سلبية في العمل النقدي كالغموض والتناقض، وليعذرني القاريء الكريم بسسب قيامي بتقطيع المقالات على شكل مقالات قصيرة نسبيا كي يتمكن القاريء من متابعتها بيُسر وسهولة.
إن تجربة أوريل الفاشلة في إقليم كتالونيا أفرزت كتابه (الحنين إلى كتالونيا)، والذي تطرّق فيه لظروف الحرب الأهليه الإسبانية 1936-1939م، وفي عام 1941م عمل أوريل في قناة بي بي سي البريطانية كمقدم برامج سياسية مع استمراره بكتابة المقالات السياسية والرّوايات الأدبية، وفي عام 1943م أتمّ كتابة روايته (مزرعة الحيوانات) والتي نُشرت في ذات العام، ولاقت نجاحا هائلا في جميع أنحاء العالم.
نخلص ممّا سبق بأن (جورج أوريل) أو إريك بلير، صاحب رواية مزرعة الحيوانات والتي تعتبر ضمن الخمسين رواية الأكثر شهرة وتأثيرا سياسيا في القرن العشرين وفقا لصحيفة النييورك تايمز، لم تحصل على تلك المكانة من فراغ، وإنما أتت نتيجة لسعة إطلاع ومعرفة من لدنّ مؤلّفها، معرفة تاريخية من خلال دراسته العلمية الأكاديمية، وخبرته العملية من خلال عمله السياسي في شرطة المستعمرات البريطانية، وإلمامه بتفاصيل أنماط الحياة الإرستقراطية الوسطى والإقطاعية بقمة المجتمع والفقيرة في قاعه على حد سواء، مما ساهم في ولادة ونموّ وتطوّر حسّه النقدي، لذا فينبغي على الناقد السياسي التمتّع بالقدر الكافي من المعرفة والإطلاع والخبرة العملية بذات المجال، ليتمكن من تقديم نقد سياسي سليم وبنّاء، وتحليل واقعي، يُمكن البناء عليه واستخلاص نتائج وتفسيرات منطقية وحقيقية لما يدور من وقائع وأحداث، ولكي يتجنّب الناقد من إندساس التأويلات والمُغالطات لعمله النقدي لاحقا، لذا فإن ما يجعل قيمة العمل النقدي مُميّز عن غيره هو مدى تأثيره على المُتلقّي، وتتجلّى تلك القيمة الحقيقة للنقد السّياسي من خلال تحقيقها لهدف النّاقد.
- مفهوم الأصالة في النقد السياسي:
ينبغي القول بداية بأنه ليس ثمة أعمال إنسانية أصيلةٌ بذاتها، فكافة الأعمال الإبداعية البشرية بأنواعها المختلفة، هي مُحصّلة لتراكم الخبرات الإنسانية، وعليه فإن مدّعي الأصالة مُقرٌ بالنّقل، وأي عمل فكري كان أم مادي تُنسبُ أصالته لشخص ما، حتما ستجد فيه نفحة أو بصمة لأشخاص سابقين، فرواية (مزرعة الحيوانات) للكاتب أوريل والتي لاقت رواجا منقطع النظير، فكرتها أصلاً مستوحاة من سلسلة قصص كليلة ودمنة، لذا فإن جورج أوريل لم يأتي بعمل أصيل من حيث المبدأ، غير أن إعادة صياغة الأسلوب الذي قدّم فيه عمله النقدي هو من وضعُ فيه شيئا من الأصالة، أشتهر أوريل بمقولات لا تخلو من الفلسفة: (إن جميع الحكومات شريرة)، ( إن العقوبة لاتضرّ أكثر من الجريمة)، (من الضروري دائماً حماية الناس المسالمين من العنف حال تواجدهم في أية مجتمع)، (حيثما تكون الجريمة منظّمة، يجب أن تملك الدولة قانونا جنائيا قاسيا، وأن تطبّقه على الجاني)، ( أكثر صدقا من الإشاعة الكاذبة!)، ( النّفوذ السّام!).
إن جوّ النقد السياسي عموماً لا يتطلّبُ وضعاً كجوّ استحضار الأرواح، بل تفكيراً أكثرُ يقظة، فدقة التفصيل تُقصي الهواة عن التدّخل، وتُجبرهم على الإنحناء بعيدا والنبش في أكوام الأوراق التي يلقيها المحترفين في القمامة، بحثا عن أيقونات قد تسعفهم في محاولتهم لفهم ما يجري.
حينما تتفوّق الثقافة على العقيدة فيمكن للناقد عندها أن يُلوّن الثوابت والمسلمات بأغلفة مزيّفة، كي يسهل تهريبها إلى عُمق العقل المُستهدف، إن المعرفة أو عِلْمُ المَعْرِفِيَّات هو فرع للفلسفة عموما وهي دراسة نقدية في المحصّلة، وما يهم الناقد منها معرفة طريق العلوم المختلفة لإدراك الحقائق اليقينية والموضوعية وليست النفسية والوهمية، فعند علماء العرب كابن سينا وابن رشد والغزالي وغيرهم، يمكن تقسيم المعرفة إلى أولية وهي التي نسلّم بها ونُصّدقها يقيناً ولا نكتسبها ولا تحتاج لبرهان، وتجريبية وهي إحكام إدراك الحواس، واستبطانية أي المعرفة والملاحظة الذاتية للأفكار والأحاسيس العقلية مثل الشعور بالحدس، والمقبولة وهي الأحكام التي يكون ثمة إجماع حولها، وأخلاقية وهي المتفق عليها من القيم، والدلالية وهي المعرفة التي تُستنتج من خلال إعمال الفكر الإنساني، أما عند علماء الغرب كجيمس فريدريك ولالاند فتعدّ المعرفة فلسفة علمية لا حدسا للقوانين العلمية، وهي في النهاية نقدٌ لكافة العلوم ونتائجها لتحديد أساسها المنطقي لا النفسي وبيان قيمتها الموضوعية.
غير أن الغرب من أمثال غاستون باشلار، كارل بوبر، ألكسندر كواري، وبول فيرابند، اختلفوا فيما بينهم في دور العقل البشري لإدراك المعرفة، فمنهم من يقول بأن العقل يدرك المعرفة اليقينية، ومنهم ما جعل المعرفة كلها احتمالية، ومنهم ما جعل معرفة العالم مستحيلة، فانقسمت المعرفة عندهم إلى معرفة وضعية تعتمد على الأرقام باعتبار أن الأرقام لا تكذب، وتفسيرية تعتمد على الشرح، ومعرفة واقعية وليست احتمالية، استنادا على عدم تقبّل فكرة استخدام العقل للمعرفة لتبرير الحدس أو التنبّؤ.
ومهما يكن فالمَعْرِفَة هي إدراك العقل العملي والنظري لاكتشاف المجهول عن طريق التجربة، وليس ثمة تعريف متفقٌ عليه لوصف المعرفة، فبالمعرفة فقط تمكنت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية من التجسس على مكالمات القادة العسكريين الألمان، بل ومعرفة أوقات غاراتهم الجوية قبل وقوعها والتحضير لها، ممّا أسهم بإسقاط مئات الطائرت الحربية الألمانية بكل غارة، وبالمعرفة تمكنت إسرائيل من تدمير الأسطول الجوي المصري في معركة 1967م، واحتلال سيناء والجولان وكامل الضفة الغربية بما فيها القدس، وبالمعرفة تمكن الجيش المصري من عبور خط بارليف وتحرير سيناء، وبالمعرفة أيضا تمكن رجال الدّين، من مضاعة رؤوس أموالهم وحماية عروش ملوكهم وسلاطينهم، وحمل العامّة على عبادة الأشخاص، وبالمعرفة أيضا تمكنت العديد من الشعوب تخليص نفسها من عبادة الحكام، وعدم تقبلهم للفساد وعليه فالمعرفة قوة بيد الناقد السيّاسي وإن فقدها فقد قاعدة أساسية من قواعد النقد.
إن المعرفة تمنعُ من اختزال القضايا الوطنية وتجسديها في أشخاص، كما تقطع صلة الزعيم بالإله أو تنزيهه أو منحه العصمة كي يفعل بالشعب ما يشاء، وتوفّر الكثير من الحبر في تمجيدهم، إن ما يفعله بعض حكّام اليوم ورغم بشاعته فإنه قد لا يقارن بما فعله ملوك العهود القديمة كنبوخذ نصر وفرعون وداريوس وغيرهم، فمعرفتهم قابلها جهلٌ مبتذل للشعوب، كما أن المعرفة وحدها من مكّنت العديد من دول أوروبا الغربية منذ القرن السابع عشر الميلادي، على إحالة نفسها على التقاعد المبكّر بعد ضمانها لمصادر الثروات الطبيعية في أفريقيا وآسيا وأمريكيا اللاتينية، وأخذت منذ ذلك الوقت على عاتقها التفرّغ في استمتاع حكامها وشعوبها بكل تلك الثروات حتى يومنا هذا، وأما غالبية حُكام الدّول العربية وملوكها فلا يُغيّرون إلاّ ما يُمكنهم استبداله بما يضمن تدفّق النذور إلى عتباتهم المقدّسة، دون أن يزعج ذلك فقهاء الدّين ممن يعتقدون ظاهريا بأنهم يلتقون بحُكامٍ يضاهون الله في قدرتهم.
قد نسأل أنفسنا يوماً لمِ قد يكون الناقد المثقّف والطاهي الجيّد على حق في آن واحد؟ وإلى أيّ مدى قد يستجيب غباءنا المستمر للإجابة عن هذا السؤال، إن الطاهي الجيّد يعرف كيف يطهو الطّعام ويقدّمه لنا وفق رغباتنا، وأي اختلاف في النّكهة أو الجودة يسهل على أي شخص كشفه ومعرفته، لكن الناقد السّياسي الجيد هو وحده فقط من يستطيع تقديم الطعام نيّئا ويكون بالنسبة للعوام صالحٌ للأكل دوماً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية