الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملف الكامل لدراسة ألغاز الكون العصية

جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)

2018 / 3 / 8
الطب , والعلوم


.
تمهيد
الجانب الخفي من الحقيقة في مسألة الكون والحياة

في أعقاب محاضرة لي بعنوان" الكون المرئي محاصر بين فيزياء العلم وميتافيزيقيا الدين" نهض أحد الحضور من المتدينين المتشددين والمتشنجين وبادرني بسؤال استفزازي" هل تريدنا أن نصدق هذا الهراء؟ هل تؤمن حقاً بالانفجار العظيم البغ بانغ؟ وماهو دليلك على حدوثه؟" وقبل أن أرد وقف أحد الحضور من العلمانيين الذي لا يقل تشنجاً وتشدداً ورد على السائل" وأنت هل تؤمن بالله وما هو دليلك على وجوده؟" وثار لغط ونقاش عشوائي وردود أفعال بين معسكرين من الحضور كاد أن يتحول إلى مواجهات كلامية قد تتطور إلى تشابك بالأيدي. فأخذت الميكروفون وقلت " هل السؤال موجه لي أم للقاعة؟ " صمت الجميع فجأة ورددوا على حياء نعتذر جداً من فضلك وضح لنا هذه المعضلة. قلت:" أولاً لا يصح أن يطرح السؤال بهذه الصيغة لأنه خطأ علمي ومفاهيمي. فالإيمان حالة من الاعتقاد الذاتي غير مرهونة بعوامل ومعطيات خارجية، فالمرء يؤمن أو لا يؤمن، بغض النظر عما يتوفر لديه من معلومات وحقائق ومعطيات، فأغلب رؤاه موروثة، إلا إذا حرر عقله من قيود المسلمة الإيمانية وفتح عقله للمناقشة والتفكير والتأمل بغية التوصل إلى حقيقة ما، تدعم موقفه بتقبل أو عدم تقبل الحالة الإيمانية. فالمقاربة العلمية لا تفضي إلى موافقة أو عدم موافقة ، بين المعطيات المكتسبة والنماذج أو التنبؤات والتوقعات والتكهنات العلمية وبالتالي لا يوجد شيء إسمه " إيمان" في مثل هذه المقاربة العلمية، بل توجد نظريات وعمليات رصد ومشاهدات وتجارب ومواجهات علمية وفكرية ونقاشات وتساؤلات وشكوك وسجلات ومراجعات وطعون واختبارات ومقارنات بين مختلف المعطيات . من هنا كان يجب أن يصاغ السؤال كالتالي: هل تتقبل فكرة أن نموذج البغ بانغ، الانفجار العظيم، هو الذي يتوافق على نحو أفضل مع مجمل المشاهدات ونتائج الرصد المتوفرة والموجودة حالياً ؟ وسوف يرد الوسط العلمي بغالبيته الساحقة، وأنا منهم بالطبع، بنعم على مثل هذا التساؤل ، أو هذه الصيغة التبسيطية المختزلة ، لكن ذلك لا يعني أنها إجابة ثابتة ودائمة لا تتزحزح و لا تتغير في حال توفر معطيات جديدة تدحضها، في حين أن الطرح الثيولوجي الثاني يطرح نفسه ممثلاً لحقيقة أزلية أبدية دائمة وثابتة لا تتغير مهما طال الزمن وفي كافة الأزمان والعصور والأماكن. فالعلاقة بين العلم والدين، قد أفرزت الكثير من الكتابات والدراسات والأبحاث، وأسالت الكثير من الدماء وأزهقت الكثير من الأرواح، في حين أن هاتين المقاربتين لا يجب أن يتصادما لأنهما يتحركان في حقلين مختلفين من التفكير . فمن الجانب الديني هناك مسألة تتعلق بقيم ترتبط بالسلوك الحياتي واليومي ولها علاقة بالمعنى الذي نود إعطائه للوجود وللعالم ومسيرته . أما في الجانب العلمي فهناك مسائل عقلانية ترتبط بالرؤية لتعقيد العالم وتركيبته على كافة المستويات الزمانية والمكانية مشفعة بتنبؤات نظرية قابلة للدحض بالتجربة والاختبار والانجازات التكنولوجية وتبعاتها. فهناك من بين العلماء من هو في آن واحد عالم ومؤمن متدين و لا يجد غضاضة في ذلك ، وأنا لست من بين هؤلاء بالطبع، لكني أعرف الكثير منهم ولدي معهم نقاشات مستفيضة بيد أن هناك بعض العقول الظلامية التي تريد خلق الغموض والتنافر بين العلم والدين لغايات مبيتة وفرض قراءة دوغمائية للتساؤلات العلمية وتفسيرها بمقتضى قناعاتهم الثيولوجية فهم يحتقرون ويهينون القدرة الخلاقة عند البشر التي تجلت منذ قرون عديدة من التطور والبحث الدؤوب . وسواء تعلق الأمر ببوزونات هيغز أو الجزيئات والجينات الوراثية والحامض النوي ، أو مستقبل النحل أو تكون الصخور والكواكب والنجوم والمجرات والمادة العادية والمادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة، والموجات الثقالية أو المتطلبات الرياضياتية والتنظيرية لنظرية الاحتمالات الخ... ، فماذا يمكن للمقاربة الدينية أن تفعل إزاء كل هذه المواضيع التي لا ناقة لها فيها و لا جمل كما يقول المثل؟، لا توجد مصداقية ما للتأمل والتفكير الديني في هذه المواضيع . ومن جانبه لا يمكن،و لا يحق للعلم ، وخاصة علم الطبيعة والفيزياء والكوسمولوجيا ، أن يحشر أنفه بمسائل أخلاقية وروحانية، ويريد معرفة طبيعة الخير والشر ومعنى الحياة والنشاط اليومي البشري وممارسة الطقوس والشعائر الخ.. ، فهذه الأمور يمكن أن نجد لها مقاربات وأبحاث ومساهمات عند الدين والفلسفة وعلم الأخلاق والثقافة والحقوق وعلم النفس الخ... بعض وسائل التعبير خلقت حالة من الخلط ، المتعمد أو غير المقصود، بين الأصل الميتافيزيقي للكون وواقعه العلمي ، فلندع كل طرف يتقبل ما لديه من مقاربة بهذا الصدد و لا يؤثر أحدهما على الآخر ففي نهاية المطاف تبقى القضية مسألة شخصية محض. العلم لا يبحث عن لماذا، أي أسباب حدوث الشيء عموماً في حين يبحث في الكيف والطريقة التي تم بها نشوء ذلك الشيء ، أما الدين ففي العموم هو الذي يتعاطى مع الــ " لماذا" ، و يهتم بالجانب السببي والغايات.
وقع الدين في تناقض وخلق مفارقة عجيبة، فهو من ناحية يضفي الصفات الإطلاقية على الله الخالق ، وفي نفس الوقت يقزمه وينزله إلى مستوى المخلوقات كما ورد في الكثير من النصوص الدينية المأثورة، التوراتية والكنسية والإسلامية. وللخروج من مأزق التجسيم لا بد من مفهوم يتعالى على الفكرة التي تهيمن على تفكير البشر ، وكان ذلك المفهوم هو " التسامي" أو " الذات المتعالية". وهي الصفة التي يتحلى بها إله سبينوزا وكذلك التي أطلقتها الأديان السماوية التوحيدية المنزلة، على الله الكلي القدرة، لكنها شوهت صورته من خلال مفاهيم التجسيم والعقاب والثواب والآخرة والحساب والاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية للبشر ولكل إنسان على الأرض وفي الفضاء منذ لحظة الولادة إلى مابعد الموت، والتي فرضتها المؤسسات الدينية ورجال الدين، وهذه وظيفة تنقص من تسامي وسمو هذا الإله. لكنها من الناحية العلمية الصرف أو المحضة، صفة أو ماهية كونية تنطبق على الكون الحي المطلق اللامتناهي ، الأبدي والأزلي والسرمدي ، لأنه يجسد الوجود المطلق لكل ما هو موجود ولا وجود غيره، باعتباره كياناً مكوناً من عدد لا متناهي من الأكوان ، التي تشكل بالنسبة له، جسيمات أولية لمكوناته المادية وغير المادية، أو من مواد وماهيات ومكونات نجهلها وليست لدينا أية فكرة عنها، وما كوننا المرئي سوى جسيم أولي، لا متناهي في الصغر، من تلك الجسيمات الأولية الكونية التي تشكل بمجموعها ، إلى جانب مكونات أخرى لانعرفها ، ماهية الكون المتسامي الحي العاقل والخالد والمطلق، والدائم الحركة والتجدد إلى ما لا نهاية. لقد وصلت حدود معرفنا باللامتناهي في الصغر في كوننا المرئي إلى حد الأوتار والبرانات والكواركات وبعض الجسيمات الأولية ما دون الذرية لكننا لا نعرف لحد الآن ما هو أصغر منها، وقد يكون الأصغر هو ذلك الذي يخترق طول بلانك ويقود إلى أكوان أخرى. في حين تحددت معرفتنا باللامتناهي في الكبر بالكون المرئي الذي نعيش فيه ولا نعرف ماذا يوجد وراءه أو خارجه، أي خارج الأفق الكوني المرئي، سوى فرضيات علمية نظرية والحال إنه لايتعدى كونه أحد الجسيمات الأولية اللامتناهية في الصغر بالنسبة للكون الحي المطلق المتسامي، في إطار تعدد كوني لامتناهي.
منذ أن انصرم القرن العشرين ودخلنا في العصر العلمي والتكنولوجي المتقدم في القرن الواحد والعشرين، تغيرت نظرتنا ومفاهيمنا ورؤيتنا على نحو راديكالي تجاه معضلة أصلنا وسر الحياة ونشأتها وأصل الكون ومصيره. فنحن نمتلك اليوم ملحمة تاريخية تبدأ من اللامتناهي في الصغر ، من الجسيمات المادية الأولية والفرادة الكونية إلى الإنسان وذكاءه وما أنتجه لحد الآن من تطور وتقدم في كافة المجالات لا سيما الذكاء الاصطناعي، والسفر إلى الفضاء والوصول إلى المريخ وقبله القمر بل وخرج إلى خارج المنظومة الشمسية وبات قادراً على استكشاف الفضاء واستعمار الكواكب غير المأهولة بالسكان، ولكن في نفس الوقت فإن نفس هؤلاء البشر قادرون على تدمير كوكبهم الأرض حيث تمتد الملحمة الوجودية على مدى أربعة عشر مليار سنة تقريباً. وكل العلوم ، كالفلك والفيزياء والكونيات والكيمياء والبيولوجيا والأنثروبولوجيا والجيولوجيا والآركيولوجيا أو علم الآثار والحفريات، وعلم الأعصاب والطب والرياضيات والهندسة وغيرها من العلوم، تلتقي وتتعاضد، لتأكيد صدقية وحقيقة هذه الملحمة الوجودية.
كان القدماء، حتى مطلع القرن العشرين، يعتقدون أن الكون ساكن وثابت وأبدي ليس له بداية، ولكن مع ظهور نظرية النسبية الخاصة والعامة لآينشتين، ونظرية الكموم أو الكوانتوم ، وثبات صحة التوسع الكوني، وترسخ النظرية المعيارية في فيزياء الجسيمات الأولية ونموذج الانفجار العظيم في الفيزياء النظرية وعلم الكونيات، حتى أعيد النظر في المفاهيم البدائية السائدة وقلبت الرؤية ظهراً على عقب في كافة المسلمات التي سادت منذ عهد آرسطو إلى الثلث الأول من القرن العشرين. فلم يعد الكون المرئي خالداً وأبدياً وأزلياً ثابتاً لا يتحرك و لايتغير، رغم أنه حضي بــ "ثابت لامتغيرconstante إلا أنه سرعان من أطيح بذلك الثابت وبات يتمتع بقيمة متغيرة أو غير دائمة impermanente" ويتميز بمتغيرات مستمرة ، بتعبير آخر حصل الكون المرئي على تاريخ وسيرة ذاتية تبدأ بمولده وسوف تنتهي بموته أو بمصير ما ينتظره. وعبر هذا التحول والتطور بدا الكون المرئي حيوياً خلاقاً ومتطوراً باستمرار وبلا توقف ويجد بنفسه الحلول التي تتيح له الاستمرار دوماً نحو المزيد من التركيب والتعقيد والديمومة والإتقان والسمو. . ترسخت فكرة أن الكون المرئي بدأ بلحظة عجيبة وفريدة من نوعها ، من تفرد أو فرادة كونية ، و انفجار عظيم بغ بانغ Big Bang، بالطبع لم يكن انفجاراً بالمعنى الذي نتخيله بل عبارة عن انتفاخ سريع لجوهر أو سيرورة تضاعف حجمها مليارات المليارات المليارات المرات خلال جزء من مليار المليار المليار من الثانية، لذلك اعتقد الكثيرون أنه كان إنفجاراً وتناثراً، أو تمدداً للنقطة الصغيرة المعروفة باسم الفرادة وبدرجة حرارة 1032 وبكثافة وصلت إلى 1096 مرة أكبر من كثافة الماء، وبحجم يقل عن 10-33 من السنتمتر، أصغر بعشرة ملايين مليار المليار من حجم ذرة الهيدروجين، إلى أن وصلت إلى الحجم الحالي للكون المرئي ومازالت تتوسع وتتسارع في توسعها حتى صار نصف قطر الكون المرئي اليوم يقدر بــ 47 مليار سنة ضوئية. وبعد الانفجار بقليل ، أصبح الكون مليئاً بـ"النيوترونات" و"البروتونات" و"الإلكترونات"، إلى جانب "البوزيترونات" و"الفوتونات" السابحة في الحساء البلازمي، ومع استمرار الاتساع والتبريد بدأت تتكون الذرات، وأصبح الكون شفافاً ومرئياً بعدما كان معتماً، واستمر تكُّون الذرات المختلفة وتكثُّفها في النجوم والمجرات الكونية. انخفضت درجة حرارة الكون المرئي الوليد إلى -270C° درجة مئوية وتحللت كثافته حتى وصلت إلى متوسط معدل أقل من ذرة هيدروجين في المتر المكعب، أقل بمليار المليار مرة من كثافة الماء، ومن جراء ذلك أنجب الكون المرئي مليارات المليارات من المجرات وفي كل مجرة مئات المليارات من النجوم والكواكب والكويكبات والأقمار والأغبرة والسحب والغازات الكونية.
في إحدى تلك المجرات التي تؤثث زوايا الكون المرئي ونسيجه، هناك مجرة عادية متوسطة الحجم تسمى الطريق اللبني أو درب التبانة la voie lactée، وفي أحد أذرعها الواقعة في في ضواحيها أو في ، توجد نجمة صغيرة عادية مبتذلة تسمى الشمس، وفي أحد كواكب هذه المنظومة الشمسية التي تدور حول الشمس كوكب متوسط الحجم يسمى الأرض، هنا على وجه التحديد ولد الإنسان من غبار النجوم، ونما وتطور وصار يفكر ويتساءل حول هذا الكون وأصله ومصيره، ومحاولة كشف جماله وأناقته وسحره وهارمونيته، وفي نفس الوقت تعريض كوكبه الذي يعيش فوقه للدمار والفناء في أية لحظة.
من فراغ أو خواء يسمى بالعماء الكوني لكنه مليء بالطاقة خلق الكون المرئي الحساء الأولي المكون من الجسيمات الأولية البدئية للمادة، والضوء ومختلف الإشعاعات الكونية. وبعد الدقيقة الثالثة من ولادة الكون المرئي، نجح في تجميع مكونات جسيماته الأولية المادية لخلق الذرات الأولى من غازي الهيدروجين والهليوم، وهي العناصر الكيميائية التي كانت تكون 98% من كتلة النجوم والمجرات الأولية الوليدة ، وكانت هناك بكميات شبه متساوية، مادة مضادة تختلف عن المادة العادية بالشحنة فقط، لكنها اندثرت وفنيت جراء تفاعلها مع المادة العادية ، أو اختفت في بعد مكاني آخر غير مرئي مكونة لكون توأم معاكس الشحنة مؤلف كله من المادة المضادة. وبسبب التوسع والتفاعلات الكمومية أو الكوانتية، تشكلت العناصر الثقيلة ، الضرورية لخلق المكونات المركبة. ولكي لا يصاب الكون المرئي بالعقم وبغية أن يتيح الفرصة لنشأة الحياة والذكاء والوعي، عمل على تصنيع النجوم وتفاعلاتها النووية وتجمعاتها المجرية من سدم وحشود وعناقيد مجرية ترتبط كلها بالثقالة أو الجاذبية الكونية وتسير بقوانين الكون الجوهرية الأربعة، وهي الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوة النووية الشديدة أو القوية، والقوة النووية الضعيفة. ففي كل يوم تموت نجوم وتولد غيرها، ومن موت النجوم تولد الحياة والثقوب السوداء ومن الثقوب السوداء ربما تخلق أكوان أخرى. كما لوحظ مؤخراً بأن المجرات محاطة بهالات ضخمة من المادة السوداء أو المظلمة مجهولة الماهية، ومعها الطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة. ففي النجوم، خاصة ذات الكتلة الهائلة التي تزيد عن كتلة الشمس بملايين المرات، والمعروفة بالسوبرنوفا أو المستعرات الكبرى، يحدث التطور الكوني، وبفضل التفاعل الخيميائي النووي ، تصنع العناصر الثقيلة الضرورية للحياة لإنقاذ الكون المرئي من العقم والاندثار. فبعض الكواكب تتمتع بميزات وخصائص وشروط وظروف ملائمة لاحتضان الحياة فوقها ككوكب الأرض لأنها كواكب صلدة وفيها مياه وغلاف جوي ودرجة حرارة معتدلة وأوكسجين وكاربون وتقع على المسافة اللازمة لنشأة’ الحياة عن نجمها، فلا هي بالباردة ولا بالساخنة جداً ، أي كل ما تحتاجه الحياة للنشوء والاستمرار والبقاء. وقبل 4.55 مليار سنة، أي بعد مرور 9.15 مليار سنة من حدث الانفجار العظيم، انهارت كتلة أو غمامة غازية ضخمة في مجرة درب التبانة وأولدت تحت تأثير الجاذبية ، شمسنا وملحقاتها التسعة، حتى لو اعتبرنا بلوتون ليس كوكباً بالمعنى الصريح للكلمة، وعلى بعد 26000 سنة ضوئية من مركز المجرة. و نحو 3.8 مليار سنة من عصرنا الحالي، حدثت على الكوكب الثالث انطلاقاً من الشمس، أي الأرض، حادثة عجيبة ومذهلة تمثلت بتحول الجماد إلى مادة حية عندها نشأت الحياة في صورتها البدائية المكونة من خلية واحدة. فمن غبار النجوم غير الحية تجمعت مكونات أولية تفاعلت مع الظروف المحيطة وقادت إلى ولادة خلايا، ومن ثم جزيئات molécules حية تتكاثر بطريقة الانشطار الذاتي وفيها شكل حلزوني ملتف على نفسه من الحامض النووي المسمى ADN، أي الجينات الحاملة للمعلومات الوراثية والتي ساهمت في إحداث عمليات الانقسام والانشطار والتكاثر . وقبل 3.5 مليار سنة نشأت عن ذلك أولى أنواع البكتريا الحية وحيدة الخلية التي تفتقد للنواة وهي الأصل لكافة المخلوقات الحية على وجه الأرض كما تخبرنا نظرية التطور والانتخاب الطبيعي لتشارلس داروين . وبعد ذلك حدثت التطورات والنقلات والتحولات والقفزات التطورية بطريقة الانتخاب الطبيعي وتولدت عنها مختلف الأنواع الحية من نباتات وحيوانات وبشر.
نعود للكون المرئي ونفترض أن لديه هو الآخر حامض نووي كوني، أي ADN كوني ابتداءاَ من ولادته، ولكن ماذا كان يوجد قبل ظهوره إلى الوجود؟ يعتقد أن هناك كود أو شفرة سرية رقمية معلوماتية سبقت ظهوره المادي الفعلي لكنها شفرة سرية code secret de l’univers visible ou observable . وهو الموضوع الذي سوف نكرس له فصل كامل في هذا الكتاب. مثلما سنتحدث عن ظواهر وألغاز الكون المرئي الأخرى بالتفصيل عبر فصول الكتاب. فسوف نتناول موضوعات مهمة وجوهرية كالمادة السوداء أو المظلمة والطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة، والفراغ أو الخواء الكوني ، والثقوب السوداء والثقوب الدودية والكون الهولوغرامي وأسرار الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، والنسبية العامة والنظريات الفيزيائية المتعددة الأخرى خاصة الأوتار الفائقة والنظرية أم M ونظرية كل شيء والنظرية التوحيدية الجامعة والشاملة ونظرية الفوضى، ونظرية تعدد الأكوان وتعدد العوالم، وحقيقة الواقع والوجود، والعدم، والمكان والزمان والزمكان، والتناظر والتماثل الفائق ، والحياة خارج الأرض والحضارات الفضائية غير البشرية وغير الأرضية والتكنولوجيا والنانوتكنولوجي والضوء وغيرها من المواضيع التي يزخر بها تاريخ البشر . وإزاء هذا الطرح العلمي يوجد طرح ثيولوجي ــ ديني متزمت ومتشبث بصيغة نصية أضفىيت عليها القداسة، واعتبر أن ما تقوله هو الحقيقة المطلقة ولا حقيقة غيرها، والمتمثلة بأطروحة الخلق الرباني المباشر ، وهي رؤية خرافية ما ورائية غيبية ميتافيزيقية الأصل والماهيَّة لكنها مريحة للبشر ويسهل تقبلها كمسلمة لا تقبل النقاش أو الجدل ناهيك عن التشكيك والطعن.
"إنَّ "فكرة الله"، الخالِق للكون، تَضْرِب "جذورها المعرفية" عميقاً في "صورة المادة" التي غُرِسَت في أذهاننا، فَلَقَد فَهِمْنا "المادة"، بمعونة تلك الصورة، فَهْماً فيه من "الذاتية"، أو من "الافتقار إلى الموضوعية"، ما حَمَلَنا، ويَحْمِلنا، على الاعتقاد بوجود، وبوجوب وجود، خالِق ميتافيزيقي للكون، وإنْ اختلفنا، دينياً وفلسفياً وعِلْميَّاً، في فَهْم طبيعته، وخواصِّه، وصفاته، وفي طريقة، أو أسلوب، خَلْقِهِ للكون"، كما يقول الباحث جواد البشيتي.
ويضيف الباحث البشيتي قائلاً "فكرة الخالِق الميتافيزيقي للكون تطوَّرت، تاريخياً، حتى غدا (هذا الخالِق) في كثير من العقائد (الدينية والفلسفية) شبيها بـ "الخالِص" من "الفكر (العقل، الوعي، الشعور، "الروح"). أقول "شبيهاً"؛ لأنَّ فكرة "خالِق الكون"، في الأديان، ظلَّت، على ما بلغته من "تجريد (فكري)"، محتفظةً بشيء من "التجسيم"، وكأنَّ هذا الخالِق لا يُمْكِن فَهْمه وتصوُّره إلاَّ على أنَّه "كائن روحي لَمْ يتحلَّلَ بما يكفي مِمَّا ينتمي إلى عالَم المادة"، فقد ظلَّ شيءٌ من المادة، ومن "الجُسْمانية"، راسِبٌ في قَعْر وأسفل هذا "الفنجان" الممتلئ "روحاً". أي أن البشر كانت لديهم حاجة دفينة لاختلاق هذا الكائن الــ " الخالص " رغم صورته التجريجية في الأذهان، وهو ما استغلته وطورته واستثمرته المؤسسات الدينية بمختلف تسمياتها.
وفي الأديان السماوية الثلاثة، بَلَغَت فكرة "خالِق الكون" الدرجة العليا من "التجريد" كما في الإسلام، وفي الآية القرآنية "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنعام أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" على وجه الخصوص، فالله "ليس كمثله شيء". هنا، "الكاف" زائدة؛ لأنَّ الله "لا مِثْلَ له"، فهو لا يُشْبِهُ أيَّ شيء (أيَّ مخلوق أكان عاقلاً أم غير عاقل) وليس من شيء يُشْبِهُ الله. على أنَّ هذا الإفراط القرآني في تجريد فكرة "الخالِق" قد اقْتَرَن بما يُمْكِن أن يفهمه كثير من الناس على أنَّه "شيء من الجُسْمانية"، فالله من صفاته أنَّه "سميعٌ" و"بصيرٌ" و"عليمٌ"..؛ فإذا كان الإنسان "يَسْمَع"، فالله "سميع"، وإذا كان الإنسان "يُبْصِر"، فالله "بصير"، وإذا كان الإنسان "يَعْلَم"، فالله "عليم". وهذه الصفات الإلهية هي جميعا صفات على وزن "فَعيل"، وهو من صِيَغ المبالغة. والتنزيه القرآني لـ "الذات الإلهية"، والذي نراه على وجه الخصوص في نَبْذِ ورَفْض كل ما من شأنه أنْ يُفسَّر ويُفْهَم على أنَّه "شِرْكٌ بالله"، بدا في العبارة القرآنية "فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ" أقل قوَّةً ووضوحاً؛ لأنَّ "أحْسَن الخالقين" عبارةٌ قد تُفْهَم على أنَّها إقرارٌ من "الواحِد الأحد" بوجود غيره من الخالقين، وإنْ كان هو "أحْسَنَهُم". وعليه، قال مُفَسِّرون إنَّ عيسى ابن مريم كان يَخْلُق، فأخبر الله عن نفسه أنَّه يَخْلُق أحْسَن مِمَّا كان يَخْلُق عيسى. وقال غيرهم إنَّ المعنى هو أنَّ الله "خير الصانعين"، فالبشر "يَصْنَعون (ولا يَخْلُقون)"؛ والله "يَصْنَع" أفْضَل وأحْسَن من البشر جميعا. وكانت العرب تُسمِّي كل صانع خالِقاً. وبدا كذلك في الآية "بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ.."؛ أي كيف يكون له وَلَد ولم تَكُن له صاحبة أو زوجة؟! " كما ورد في نص الباحث الكبير جواد البشيتي المنشور في الحوار المتمدن والذي اقتبسنا منه الكثير من الاقتباسات والاستشهادات في هذه المقدمة
. ورغم تأثر القرآن بالكتب المقدسة التي سبقته وأخذ منها الكثير إلا أنه حاول التميز عنها في وصف الخالق وصفاته وأن يضفي عليه صفة الإطلاق. فالإله إيل من الإيلوهيم أو يهووه هو إله التوراة كما جاء في سفر التكوين.
"ففي التوراة، ظَهَرَ "خالِق الكون" على أنَّه من الصِّغَرِ بمكان، فهو إله بني إسرائيل فحسب، فضَّلَهم على سائر البشر، واتَّخَذَهم شَعْبَاً له، ومنحهم أرضاً ليست لهم، فَلَمْ أرَ إلهاً يَصْغُر بما قال، وبما عمل، كـ "إلههم"، فَهُمْ خلقوه على مثالهم الاجتماعي والتاريخي؛ ثمَّ جاء رَجُلٌ من بني إسرائيل يُدْعى "يسوع المسيح"، فَبَلَغَ به "التجسيد"، و"التجَسيم" و"التَمَثُّل" درجته العليا، فالله، فصيره ثالث ثلاثة هم الأب والإبن وروح القدس،. وهكذا فإن "خَالِقُ الكون" عند المسيحيين انتقلَ ليستقر، على هيئة جنين بشري ذَكَر، في رَحْم امرأة (غير متزوِّجة) هي "مريم العذراء"، فنما هذا الجنين حتى وَلِدَتْهُ "أُمُّه" على هيئة ابن الله؛ وليس من فَرْق في النوع أو الماهيَّة بين الله وابنه. جاء "يسوع المسيح" إلى شعبه، أيْ إلى بني إسرائيل؛ لكنَّه لَمْ يَجئ ليؤكِّد أنَّهم "شعب الله المختار"، وإنَّما ليؤكِّد أنَّ الله ذاته قد "تَهَوَّد"، أي أصبح يهودياً، وإلاَّ ما معنى أن يكون "ابن الله"، الذي ليس من فَرْق في النوع أو الماهيَّة بينه وبين "الله"، "أبيه"، "يهودياً"؟!، كما عبر عن ذلك الباحث جواد البشيتي. يبدو إن إله الأديان التنزيلية الثلاثة خارق القدرة ويسمح لنفسه بخرق قوانين الطبيعة التي سنها بنفسه لتنظيم عمل وحسن سير الكون ، ليجترح معجزات على يد أشخاص انتقاهم بصفة أنبياء ورسل يتمتعون بقدرات كبيرة ليس اقلها شق البحر بضربة عصا وإحياء الأموات وشفاء المرضى واستعادة البصر عند العميان، بلمسة يد أو ببصقة فم. ويضيف الباحث البشيتي في وصفه لإله الأديان قائلاً : "لقد ظَهَرَ "يسوع المسيح"، حتى في القرآن، على أنَّه يقوم بأعمال هي من اختصاص الله وحده، فهو كاد أن يَخْلُق كما خَلَقَ الله آدم من طين.. "وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ". وقيل في تفسيرها "أَنِّي (أي المسيح) أَخْلُق لَكُمْ مِنْ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْر، فَأَنْفُخ فِيهِ، فَيَكُون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّه. وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَل يُصَوِّر مِنْ الطِّين شَكْل طَيْر، ثُمَّ يَنْفُخ فِيهِ، فَيَطِير عِيَانًا بِإِذْنِ اللَّه الَّذِي جَعَلَ هَذَا مُعْجِزَة لَهُ تَدُل عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَهُ". وهنا، نرى فِعْلَ "النَفْخ" في معناه الحقيقي غير المجازي، فالمسيح كان يقف أمام الناس، يَصْنَع من "الطين (الحقيقي لا المجازي)" كائناً على هيئة طير، ثمَّ يَنْفُخَ فيه نَفْخَاً حقيقيا لا مجازيا، فـ "يطير عياناً". وكان يَفْعَل كل ذلك "بإذن الله"، أي أنَّ الله أكسبه هذه القدرة التي هي له من دون سواه حتى يُقْنِع قومه بأنَّه مُرْسَلٌ من عند الله.
مبدعو ومُطوِّرو فكرة "الخالِق الميتافيزيقي" للكون حاروا في معرفة وتبيان وشرح أوجه العلاقة بين هذا الخالِق وبين "عالَم المادة"، و"كيف" خَلَقَ وأنشأ وأبدع الطبيعة.. وحاروا أكثر في معرفة السبب الذي حَمَلَه على خَلْق الكون، فـ "عَظَمَةُ الخالِق" تَبْهَت إذا ما خَلَق الكون لـ "غاية ما".. لغايةٍ مُعْلَنة أو مُضْمَرَة، حسب تعبير الأستاذ البشيتي. ولكن من هو هذا الخالق وماهو جوهره وحقيقته وماهيته ومم يتكون وأن يتواجد ومنذ متى ، وأخيراً لماذا خلق الكون المادي وما فيه، وهل خلق الوجود من مادة سابقة للخلق أم من العدم أم من لاشيء؟ هل وجد الخلق بمجرد إرادة إلهية لا أكثر " فقال كن فيكون أم كانت هناك عملية تصنيع حقيقية ؟"
يشتمل القرآن على كثيرٍ من الأفكار والتصوُّرات الكونية، فـ "خَلْقُ السَّماوات والأرض وما بينهما" شُرِحَ وفُصِّلَ في كثيرٍ من آياته، التي يُمْكِن أن نتصوَّرها، من ثمَّ، على أنَّها "كوسمولوجيا قرآنية"، وإنْ لَمْ نَعْثُرَ في القرآن على كثيرٍ من المفردات الكوسمولوجيَّة، كمفردات "الكون"، و"الطبيعة"، و"الوجود"، و"الفضاء"، و"العَدَم". وفي سورة "فُصِّلَت"، على وجه الخصوص، نرى من "الآيات الكونية" ما يَصْلُح لاتِّخاذه أساساً أو قاعدة لـ "الكوسمولوجيا القرآنية".
وبَعْدَ قراءة متأنِّية ومختلفة لـ "الآيات الكوسمولوجية (أو الكونية)" في القرآن، أستطيع القول إنَّ خَلْقَ الله لـ "الكون" لَمْ يَكُنْ "خَلْقاً للمادة من العَدَم"، مهما حاوَل "المؤوِّلون العلميون المعاصِرون"، المتأثِّرون بنظرية "الانفجار الكبير" Big Bang وغيرها من النظريات الكوسمولوجيَّة الحديثة، إظْهار وتصوير "الخَلْق القرآني للكون" على أنَّه خَلْقٌ للمادة Matière من العدم Nothingness - Néant وفق تعبير الباحث جواد البشيتي الذي يواصل مقاربته الرائعة بمناقشة الاية القرآنية:. "إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ". لم يجادل أحد من المسلمين أو يتمعن ويفكك فحوى هذه الآية قَبْل ظهور ما يسمَّى "التأويل العلمي" للقرآن، أو لبعضٍ من آياته، في "معنى" عبارة "سِتَّة أيَّام". ولَمْ نَقِفَ على أيِّ جِدالٍ في هذا الأمر في عهد النبي على وجه الخصوص، فكلُّ من اعتنق الإسلام كان يَفْهَم "سِتَّة أيَّام" على أنَّها "أيَّامٌ أرضية (دنيوية)". وقد جاء في "تفسير الجلالين": إنَّ رَبّكُمْ اللَّه الذي خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض في سِتَّة أَيَّام من أَيَّام الدُّنْيَا، أَيْ في قَدْرهَا؛ لأنَّه لَمْ يَكُنْ ثَمَّ شَمْس. ولو شَاءَ لَخَلَقَ السَّماوات والأرض في لَمْحَة. و"الأحد"، بحسب "تفسير الجلالين"، كان أوَّلها، أي أوَّل أيَّام الخَلْق السِتَّة، و"الجمعة" كان آخرها.
والله بَعْدَ ذلك، أي بَعْدَ انتهائه من خَلْق السَّماوات والأرض، "اسْتوى على العرش"؛ لكن أين كان الله قبل ذلك، أي قبل أن يشرع يَخْلِق السَّماوات والأرض وهل كان لديه عرش يجلس عليه؟ واين يتواجد هذا العرش طالما لم يكن الكون قد خلق بعد؟ هذا السؤال ليس من الكُفْر في شيء، فقد سُئِلَ النبي (من مسلمين) السؤال نفسه؛ وقد أجاب عنه بجملة : يقول الله سبحانه وتعالى، كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي يعرفوني. ويواصل الباحث جواد البشيتي مناقشته للطرح القرآني للكوسمولوجيا بعرض الاية التالية: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ".
في "تفسير الجلالين" جاء: كان عرش الله على الماء "قَبْلَ أن يَخْلِق السَّماوات والأرض (في سِتَّة أيَّام)".
وجاء في "تفسير ابن كثير": يُخْبِر الله عَنْ قُدْرَته عَلَى كُلِّ شَيْء، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض فِي سِتَّة أَيَّام، وَأَنَّ عَرْشه كَانَ عَلَى الْمَاء. وقد قال النبي: اِقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْل الْيَمَن. قَالُوا قَدْ قَبِلْنَا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّل هَذَا الأمر كَيْف كَانَ؟ قَالَ النبي: كَانَ اللَّه قَبْل كل شَيْء، وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء، وَكَتَبَ في اللَّوْح الْمَحْفُوظ كل شَيْء. وقَالُوا للنبي: جِئْنَاك نَسْأَلك عَنْ أَوَّل هَذَا الأمر، فأجاب قائلاً: كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْء قَبْله. وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء، وَكَتَبَ في الذِّكْر (اللوح المحفوظ) كل شَيْء، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض. وسُئِلَ النبي: يَا رَسُول اللَّه، أَيْنَ كَانَ رَبّنَا قَبْل أَنْ يَخْلُق خَلْقه؟ فأجاب قائلاً: كَانَ فِي عَمَاءٍ (العَمَاء هو السَّحاب) مَا تَحْته هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ بَعْدَ ذلك (على الماء). وَقَالَ مُجَاهِد ووَهْب بْن مُنَبِّه وَضَمْرَة وَقَتَادَة وَابْن جَرِير: كان عَرْشه عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق شَيْئًا.. قَبْل أَنْ يَخْلُق السَّمَاوَات والأرض، فَلَمَّا خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض قَسَمَ ذَلِكَ الْمَاء قِسْمَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفًا تَحْت الْعَرْش وَهُوَ الْبَحْر الْمَسْجُور (أي البحر الْمَمْلُوء). وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض فِي سِتَّة أَيَّام، وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء، فَكَانَ كَمَا وَصَفَ نَفْسه تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ إلاَّ الْمَاء، وَعَلَيْهِ الْعَرْش، وَعَلَى الْعَرْش ذُو الجلال والإكرام وَالْعِزَّة وَالسُّلْطَان وَالْمُلْك وَالْقُدْرَة وَالْحِلْم وَالْعِلْم وَالرَّحْمَة وَالنِّعْمَة الْفَعَّال لِمَا يُرِيد. وسُئِلَ ابن عَبَّاس: عَلَى أَيِّ شَيْء كَانَ الْمَاء؟ قَالَ عَلَى مَتْن الرِّيح. وهذا المقطع الطويل الذي صاغه بذكاء وعمق الباحث جواد البشيتي يجعلنا نراجع النصوص ونحاول سبر تفسيراتها وتأويلاتها المختلفة والمتناقضة أحياناً. فالنبي قال أن عرش الله قبل خلق السموات والأرض كان على الماء، والماء مادة . فهل الماء من خلق الله قبل خلقه للوجود الآخر؟ ومن أية مادة كان يتكون عرشه ولماذا يطفو فوق الماء؟ السؤال لمدعي الإعجاز العلمي للقرآن هو الآتي: هل ما نُسِبَ إلى النبي من أقوال وإجابات، في "التفاسير الثلاثة"، قد جاء من مسلمين افتروا على النبي كذبا؟ إنَّه سؤالٌ ينبغي لهم إجابته قَبْل، ومن أجل، أن يصبح لـ "تأويلهم العلمي" مَنْطِقاً.
عرش الله، قَبْلَ الخَلْق، كان على "الماء"، فهل لهذا "الماء" من معنى غير الذي نَعْرِف؟!
هل هذا الماء غير الماء الذي يتألَّف الجزيء منه من ذرَّتي هيدروجين وذرَّة أوكسجين؟!
عندما سُئِلَ النبي "أَيْنَ كَانَ رَبّنَا قَبْل أَنْ يَخْلُق خَلْقه؟"، أجاب قائلاً: "كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْته هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ بَعْدَ ذلك".
إلى أنْ يقيموا الدليل (ولن يقيموا) على أنَّ هذه الإجابة قد نُسِبَت إلى النبي زوراً وبهتاناً، لا بدَّ لنا من أن نستمسك بهذا "التصوُّر الكوسمولوجي"، فالله، قَبْلَ الخَلْق، كان في عَمَاءٍ، أي في سَحاب. ومِنْ حَوْل هذا السَحاب كان "هواء".. كان من فوقه، ومن تحته، "هواء"؛ ثمَّ قام الله بـ "خَلْق" عرشه.. وقد خَلَقَه على الماء، "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.."؛ وكان "اللوح المحفوظ" أيضاً.
إنَّ الله، وقَبْلَ أن يشرع يَخْلُق السَّماوات والأرض، أو قَبْل أَنْ يَخْلُق خَلْقه، كان في "عَمَاءٍ"، من فوقه ومن تحته، "هواء"؛ وكان "ماءٌ"، وكان "اللوح المحفوظ"؛ وقام الله من ثمَّ بخَلْق عرشه، فكان عرشه على الماء.
كان الله، ولَمْ يَكُن "العرش"؛ وكان، أيضاً، "العَمَاء"، و"الهواء"، و"الماء"، و"اللوح المحفوظ"؛ ثمَّ خَلَقَ الله عرشه، فكان عرشه على الماء، ثمَّ "بدأ الخَلْق"، أي خَلْق السَّماوات والأرض؛ وقد استغرق هذا الخَلْق "سِتَّة أيَّام" أرضية. وليس في القرآن، أو في تلك الأحاديث النبوية، ما يُشير إلى أنَّ الله قد خَلَقَ (قبل خَلْقِهِ السَّماوات والأرض وما بينهما) العَمَاء، والهواء، والماء، واللوح المحفوظ.النبي قال: كَانَ اللَّه قَبْل كل شَيْء، وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء..وقال: كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْء قَبْله. وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء..
وقَوْله "كَانَ اللَّه قَبْل كل شَيْء"، و"كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْء قَبْله"، لا يتعارضان مع القول القرآني، وقوله، "وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء.."، فـ "الماء الذي عليه كان عرش الله" كان ولَمْ تَكْنْ السَّماوات والأرض وما بينهما؛ فـ "لَيْسَ إلاَّ الْمَاء، وَعَلَيْهِ الْعَرْش، وَعَلَى الْعَرْش ذُو الجلال والإكرام وَالْعِزَّة وَالسُّلْطَان وَالْمُلْك وَالْقُدْرَة وَالْحِلْم وَالْعِلْم وَالرَّحْمَة وَالنِّعْمَة الْفَعَّال لِمَا يُرِيد".
وقد قال مُجَاهِد ووَهْب بْن مُنَبِّه وَضَمْرَة وَقَتَادَة وَابْن جَرِير: كان عَرْشه عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق شَيْئًا..وجواباً عن سؤال "عَلَى أَيِّ شَيْء كَانَ الْمَاء؟"، قال ابن عبَّاس: "عَلَى مَتْن الرِّيح". أمَّا وهب بن مُنَبِّه فقال: إِنَّ الْعَرْش كَانَ قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه السَّمَوَات والأرض, ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَة مِنْ صَفَاء الْمَاء, ثُمَّ فَتَحَ الْقَبْضَة فَارْتَفَعَ دُخَان, ثُمَّ قَضَاهُنَّ سَبْع سَمَوَات فِي يَوْمَيْنِ.. ومن هذا الماء، الذي كان "على متن الرِّيح"، والذي كان عليه عرش الله، ومن "الصافي النقي" منه، قبض الله قبضة، ثمَّ فتح القبضة فارتفع "دخان"، أي ظَهَرَ "بخار الماء"؛ ومن هذا "البخار"، أو "الدخان"، خَلَقَ الله، في يومين من أيَّام الخَلْق السِتَّة، سَبْع سماوات. وذاك "الصافي النقي" من الماء هو ما يُفَسِّر "صفاء وشفافية" السماء.
وهذا "البخار"، أو "الدخان"، يمكن ويجب فهمه على أنَّه "السماء الأولى، أو البدائية، أو الهُيُوليَّة" التي "سَبَّعها" الله، أي جَعَلها "سَبْع سماوات".
في "كتاب الله"، أو في "اللوح المحفوظ"، ويوم خَلَقَ الله السَّماوات والأرض، كَتَبَ الله وقرَّر أنَّ "عدد" الشهور عنده 12 شهراً. "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ".
عدد الشهور عند الله 12 شهراً.. وعدد أيَّام الأسبوع عند الله يجب أن يكون 7 أيَّام؛ وهذه الأيَّام السبعة يجب أن تكون السبت، والأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة. ويكفي أنْ نُمْعِن النظر في معاني هذه الآية حتى يتَّضِح لنا ويتأكَّد أنَّ الله قد خَلَقَ السَّماوات والأرض وما بينهما في سِتَّة أيَّام أرضية؛ فهل من "تأويلٍ" لعبارة "في سِتَّة أيَّامٍ" يَصحُّ بَعْدَ ذلك؟!
إنَّ "الخَلْقَ من العَدَم" ليس بالخَلْق الذي يقول به القرآن، فالله كان، وكان عرشه على "الماء"، ولَمْ تَكُن السَّماوات والأرض (وكان أيضاً "العَمَاء"، و"الهواء"، و"الريح"، التي على متنها كان الماء). "أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ".
هذا النص القرآني يجعلنا نسأل: هل السموات والأرض كانتا موجدتين على هيئة معينة ملتصقتين، وقرر الله الفصل بينهما؟ وهل هو الذي خلقهما على تلك الهيئة ثم قرر فيما بعد فتقهما؟ وما الغاية من ذلك؟
يستمر الباحث جواد البشيتي مناقشة النصوص القرآنية بعين الباحث اليقظ والموضوعي حيث تطرق إلى الآية التالية" "السَّماوات" و"الأرض" كَانَتَا "رَتْقًا"، أَيْ كانتا متَّصلتين، مُتلاصقتين، مُلْتَزقتين، مُتَرَاكِمتين، في ابتداء الأمر، أي قَبْل أن يشرع الله يَخْلُق السَّماوات والأرض وما بينهما. ثمَّ "فَتَقَ" الله هذه مِنْ تلك، فَجَعَلَ السَّمَاوات سَبْعًا والأرض سَبْعًا؛ وَفَصَلَ بَيْن السَّمَاء الدُّنْيَا والأرض بِالْهَوَاءِ، فَأَمْطَرَتْ السَّمَاء، وَأَنْبَتَتْ الأرض؛ وَلِهَذَا قَالَ "وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاء كُل شَيْء حَي أفلا يُؤْمِنُونَ".
"الفتق"، لغة، هو "شقُّ" الشيء، أي فصل بعضه عن بعض. قال ابن منظور في "لسان العرب": "الرَّتْقُ هو ضد الفَتْق". وقال ابن سيده: "الرَّتْقُ هو إلحام الفتْقِ وإصلاحه. نقول: "رتقه، يرتقه، رتقا، فارتتق"، أي "التَأَم". ونقول: "فتقه يفتقه فتقا"، أي شقَّه"، فالفتق خلاف الرتق.
وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة، عن ابن عباس، إنَّ المعنى هو: كانتا شيئاً واحداً. كانتا ملتصقتين، ففصل الله بينهما، ورفع السماء إلى حيث هي، وأقرَّ الأرض. وهذا القول يوجب أنَّ خلق الأرض مقدَّم على خلق السماء؛ لأنَّ الله لمَّا فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية.
وقال ابن عبَّاس: "كانت السَّماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، فلمَّا خلق للأرض أهلاً فتق السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات".
وقال عطية العوفي: "كانت السماء رتقاً لا تمطر فأمطرت، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت فأنبتت".
وقال إسماعيل بن أبي خالد: "كانت السماء واحدة، ففتق منها سبع سماوات، وكانت الأرض واحدة، ففتق منها سبع أرضين".
وقال أبو جعفر: أوْلى الأقوال، في ذلك، بالصواب، قول مَنْ قال إنَّ السَّماوات والأرض كانتا رتقاً مِنَ المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث، والأرض بالنبات، لدلالة قوله "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..".
وقال كعب: "خلق الله السَّماوات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحاً في وسطها، ففتحها بها، وجعل السَّماوات سبعاً والأرضين سبعاً".
الآية، في ضوء كل تلك التفاسير، تفيد معنيين. الأوَّل هو أنَّ السَّماوات والأرض كانتا رتقاً مِنَ المطر والنبات، ففتق الله السماء بالغيث، والأرض بالنبات. والدليل على هذا المعنى قوله "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ". والمعنى الثاني هو أنَّ السماء والأرض كانتا ملتصقتين، ففصل الله بينهما بالهواء، أو الريح، فالسماء رفعها عن الأرض بغير أعمدة (تأكيداً لقدرته) أي جعلها مُقبَّبة على الأرض مثل القُبَّة.
لقد بنى الله السماء، أي رفعها بغير عمد، وجَعَلَهَا سقفاً. فما معنى ذلك؟
معناه، الذي لا يختلف فيه اثنان يحتكمان إلى المنطق، هو أنَّ السماء كانت ملتصقة بالأرض، ففصلها عن الأرض إذ رفعها عنها بغير عمد، فصار بينهما هواء أو ريح.
الآية إنَّما خاطبت عقول الناس الذين أدهشتهم رؤية السماء مرفوعة عن الأرض كسقف لا أعمدة له، فقالت لهم إنَّ السماء كانت، مِنْ قَبْل، ملتصقة بالأرض، فرفعها الله بقدرته الخارقة بغير عمد ترونها. ولَمَّا فصلها ورفعها عن الأرض صار ممكنا أنْ تمطر السماء، وأنْ تنبت الأرض، وأنْ تكون حياة، فمِنَ الماء خلق الله كل الكائنات الحية. " وخلق من الماء كل شيء حي".
في تلك السورة، نَقِف على جوهر "التصوُّر الكوسمولوجي القرآني"، فقد جاء فيها: "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ".
قارِن الآن بين "التصوُّرين الكوسمولوجيين" في القرآن كما وردا في سورة "فُصِّلَت" وسورة "النازعات": في سورة "فُصِّلَت"، جاء "لقد خَلَقَ الله (للبشر) ما في الأرض جميعا (أي كل ما في الأرض) ثمَّ (أي بَعْدَ ذلك) استوى إلى السماء (أي قَصَدَها وتوجَّه وارتفع إليها، فهي كانت موجودة قبل أن يخلق منها، أو يجعلها، سبع سماوات) فسوَّاها (أي جعلها) سبع سماوات؛ وقد قال "سوَّاهُنَّ" ولم يَقُلْ "سوَّاها"؛ لأنَّ الضمير في "سوَّاهُنَّ" يرجع إلى السماء التي هي في معنى الجمع الآيلة إليه, فصيَّرها "سبع سماوات في يومين". و"سَوَّى"الشيءَ معناه: قَوَّمَه وعَدَّلَه وجَعَلَه سَويًّا؛ و"سَوَّى" العمل معناه: أَتَمَّهُ.
أمَّا في سورة "النازعات" فيقول الله إنَّه قد قام بـ "دحو (بَسْط)" الأرض، مُخْرِجاً منها ماءها ومرعاها، بَعْدَ خَلْق السماء. وهذا قد يُثير التساؤل الآتي: كيف يقوم الله بـ "دحو" الأرض مُخْرِجاً منها ماءها ومرعاها "بَعْد" خَلْق السماء، بحسب ما ورد في سورة "النازعات"، وهو الذي خَلَق (للبشر) ما في الأرض جميعا "قَبْل" أن يجعل السماء سبع سماوات، بحسب ما ورد في سورة "فُصِّلَت"؟!
إنَّ الأرض (أي كوكب الأرض) بحسب هذا "التصوُّر الكوسمولوجي القرآني"، الذي تضمَّنته سورة "فُصِّلَت"، هي أوَّل وأقْدَم شيء خلقه الله. وهي أيضا الشيء الذي اسْتَغْرَق خلقه كاملا الجزء الأعظم من مُدَّة الخَلْق (أربعة أيَّام من زمن الخَلْق الذي هو ستَّة أيَّام). ومن هذا لا بدَّ لنا من أن نَسْتَنْتِج أنَّ الأرض أقْدَم وجودا من الشمس ومن مجرَّتنا (مجرَّة درب التبَّانة) وأنَّها (أي الأرض) مهما شاخت تَظل الشمس (مع سائر الأشياء في الكون) أصغر منها عُمْراً، وبما لا يزيد عن بضعة أيَّام. ويكفي أن تَعْتَقِد بأنَّ الأرض هي أوَّل وأقْدَم شيء خلقه الله حتى تَعْتَقِد، أي حتى يجب أن تَعْتَقِد، أيضاً، بأنَّ الأرض والكون بأسره متساويان عُمْراً، وبأنَّ الفَرْق في العُمْر بين الأرض وبين سائر المخلوقات في الكون لا يتعدَّى، ويجب ألاَّ يتعدَّى، بضعة أيَّام فحسب.
والله، في سورة "النازعات"، يَنْسِب ظاهرتي "الليل" و"الضحى" إلى السماء، وليس إلى الأرض، فقد "أغْطَش (أي أظْلَم)" ليلها، أي ليل السماء، وأخْرَج (أي أظْهَر) ضحاها، أيْ ضحى السماء. و"الضحى" لغةً "ضوء الشمس"، أو "ارتفاع النهار وامتداده"، أو "وقت ارتفاع النهار وامتداده وانتصافه". لقد نَسَبَ "الضحى" إلى السماء، وإنْ قال في سورة "الشمس": "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا".
لقد رأيْنا هنا فَصْلاً لظاهرتي "الليل (الذي أظْلَمَه)" و"الضحى (الذي أظْهَرَه)" عن الأرض؛ ثمَّ فَصْلاً لهما عن "الجبال" التي قام بإرسائها (أي تثبيتها) لئلا تميد بالبشر.
وفي سورة "الأنبياء" ورد "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ". "يُغْشِي اللَّيْل النَّهَار". الله، هنا، يَذْكُر "الليل" و"النهار" مع "الشمس" و"القمر"، فَهُما، أي "الليل" و"النهار"، يدوران حَوْلَ الأرض (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كما تدور الشمس (في الظاهِر) والقمر. والليل (الدائر حَوْل الأرض) يُغْشي، أي يُغطِّي (بظُلْمَتِهِ) النهار.
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ..". النهار (أو الليل) يَجِيء، ثُمَّ يَذْهَب وَيَخْلُفهُ الليل (أو النهار) لا يَتَأَخَّر عَنْهُ لَحْظَة؛ كما قال "لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ". تَارَة يَطُول هذا، وطورا يَقْصُر ذاك. هذا يَأْخُذ مِنْ ذاك، ثُمَّ يَتَعَاوَضَانِ؛ كَمَا قال "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَار وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل"، أَيْ يَزِيد مِنْ هذا في ذاك، وَمِنْ ذاك في هذا".
الله، في سورة "النازعات"، أنْجَز، بَعْد خَلْق السماء، ثلاثة أعمال (في الأرض) هي: دحو الأرض، وإخراج الماء والمرعى منها، وتثبيت الجبال فوقها. و"دحو" الأرض ليس من معانيه (اللغوية) أنْ يُخْرِج منها ماءها ومرعاها. معناه فحسب هو "بَسْطها". ليس بعد هذا الشرح الوافي الذي أتحفنا به الباحث جواد البشيتي ما يجعلنا نتقبل كالعميان هذه المقولات الخرافية اللاعقلانية عن الأرض والسماء والماء والشمس والقمر والليل والنهار الخ...ناهيك عن خرافات القيامة والعذاب والعقاب والثواب والجنة والنار والجحيم والشياطين والجن والملائكة؟
نكتفي بهذا القدر من دراسة ومقاربة الكاتب و الباحث الكبير جواد البشيتي، ونقول هذه هي الرؤية الميثولوجية الميتافيزيقية الماورائية ، التي هي أقرب للخرافة منها للتصور العقلي، التي قدمتها الأديان المساوية بصيغ متنوعة لكنها متقاربة ومتماثلة ومتناصة أحياناً ، لا علاقة لها بما طرحته العلوم الحديثة ، الفيزيائية والكوسمولوجية، عن نشأة الكون . ونضيف أن التفكير الخرافي بدء مبكراً منذ صياغة نص التوراة في بابل من قبل حاخامات اليهود المقيمين في بابل بعد السبي البابلي لليهود وتأثرهم بأساطير بلاد الرافدين في سومر وآشور وبابل ، وضمنوها ما عرف فيما بعد بسفر التكوين عن عملية الخلق الإلهي للكون والحياة والإنسان والتي تبناها الفكر الكنسي وإن لم يشر إليها في الأناجيل الأربعة الرسمية المعتمدة من قبل الكنيسة الكاثوليكية وزادوا عليها خرافة ولادة المسيح من دون أب بمعجزة إلهية ، ثم جاء الإسلام وردد بصياغة أدبية قرآنية خاصة به نفس المقولات والأفكار الأسطورية والخرافية التي وردت في العهدين القديم والجديد.

اللهاث وراء الوهم
بالرغم مما تحقق من تقدم علمي وتكنولوجي مهم في العقود السبعة المنصرمة ، منذ أواسط القرن العشرين إلى نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، لم يتمكن العلماء من حسم معضلة الألغاز الكونية العصية القائمة منذ قرون. فالكون المرئي ، حسب آخر الإحصائيات والحسابات الكونية والعلمية المتوفرة لدينا، يتكون من مادة غير معروفة أو مجهولة الماهية بنسبة 80% والتي عرفت بإسم المادة السوداء أو المظلمة matière noire، والتي لم ترصد بعد في الكون المرئي، فلماذا لم ننجح في رصدها ؟ هل لأنها غير موجودة؟ أم لأن وجودها افتراضي محض؟ أم لأنها أعقد بكثير مما تصوره بعض العلماء؟. النماذج الكونية التي بنيت على أساس افتراض وجود هذه المادة في الكون المرئي، والتي تفترض أنها مكونة من نوع واحد من الجسيمات الأولية مادون الذرية، كثيرة. ولكن آخرون يقولون أن المادة السوداء أو المظلمة يمكن أن تحتوي على عدد من الجسيمات لكنها لا تتفاعل، أو بالكاد، مع جسيمات المادة العادية الأولية، وهذا هو التفسير الأكثر نجاعة لعدم كشفها ورصدها ومشاهدتها لحد الآن.
المجرة الجارة آندروميدا ، الأقرب لمجرتنا درب التبانة، تطرح مشكلة، فهي تدور حول نفسها بسرعة كبيرة جداً أكبر من سرعة دوران مجرتنا حول نفسها، والقوانين الفيزيائية الطبيعية الكونية التي نعرفها ونطبقها على مجرتنا، غير قادرة على تفسير تجانسها. فالثقالة أو الجاذبية الناجمة عن هذه المجرة من قبل المادة المرئية، ضعيفة جداً بحيث هي غير قادرة لوحدها لإمساك النجوم الدائرة في فلكها وضواحيها والتي تنطلق بسرعات هائلة من شأنها أن تلقيها أو ترميها خارج حدود المجرة. فلو اقتصرت المادة الموجودة فيها على المادة المرئية فيها فحسب، فمن المفترض ألا توجد مجرة آندروميدا وأمثالها من المجرات الحلزونية، لكنها موجودة، وهذا لغز كوني ويتوجب شرحه وتفسيره. ولقد افترض الفيزيائيون وعلماء الكونيات ، كتفسير وحيد ممكن، وجود نوع آخر من المادة يحيط بمجرة آندروميدا ويغطيها هي وبقية المجرات التي تبث قدراً فائضاً من قوة الثقالة أو الجاذبية، اللازمة للحفاظ على تماسك النجوم بداخلها . وهذه المادة الغريبة ، التي سميت بالمادة السوداء أو المظلمة ، تمثل نسبة 80% ، من مكونات الكون المرئي كما يعتقد نظرياً. فحسب أغلب النظريات وأبسطها تفترض ، إن هذه المادة مكونة من نوع واحد من الجسيمات الأولية التي لا تتفاعل على الإطلاق مع جسيمات المادة العادية الأولية ولكن يتعين على العلماء تشخيص هذا الجسيم واكتشافه ورصده ودراسته إلا أن جهوداً مضنية بذلت لعقود طويلة لم تنجح في تحقيق هذه الغاية. كما يوجد هناك تباين بين نتائج الرصد والمشاهدة من جهة، ومعطيات هذه النظرية من جهة أخرى، مما جعل البعض يطعن في صحة فرضية الجسيم الأولي الوحيد المكون لهذه المادة المظلمة أو السوداء. فعدم وجود حالة رصد ومشاهدة واحدة هي في حد ذاتها معلومة في غاية الأهمية تجعلنا نستنتج بعض القيود فيما يخص خصائص هذه المادة . على سبيل المثال يمكننا أن نحسب حداً أعلى من إحتمالية التفاعل بين المادة السوداء والمادة العادية، وهذه القيود تبدو متشددة أكثر فأكثر بحيث تبدو في نهاية المطاف غير موائمة وغير متوافقة مع النموذج النظري الشائع عن المادة السوداء أو المظلمة الذي يحصرها بنوع واحد من الجسيمات الأولية. يتقصى بعض العلماء سيناريوهات تستغني عن المادة السوداء وتدرس نظريات تتعدل فيها قوانين الثقالة أو الجاذبية ويختلف سلوكها عما يمليه ميكانيك نيوتن في هذا المجال لحدوث تسارعات ضئيلة جداً لا سيما في مناطق الأطراف للمجرات. فهذه المقاربة تستعيد فكرة برم أو دورانات المجرات الحلزونية حول نفسها ولكن يكتنفها بعض النقص وتتطلب، رغم ذلك، افتراض وجود مادة غير مرئية لوصف دينامكية عناقيد وحشود العديد من المجرات. بيد أن الغالبية العظمى من العلماء يتبنون فرضية المادة السوداء أو المظلمة لأنها تفسر الكثير من المشاهدات الرصدية الفلكية والكوسمولوجية كحركة المجرات داخل الحشود والعناقيد المجرية وتوزيع المادة على مستوى الكون المرئي وديناميكية المادة في لحظة تصادم عنقودين أو حشدين مجريين وكذلك تفسير ظاهرة العدسات الثقالية. ومع ذلك كان لا بد من افتراض أن هذه المادة الغامضة هي أكثر تعقيداً من الصيغة البسيطة التي وصفت بها فلا يمكن أن تكون مكونة من جسيم أولي واحد وبالتالي فهي بالضرورة مركبة. فعلى غرار المادة العادية التي تقدم نفسها بعدة صيغ وأشكال، فلماذا لايحق للمادة السوداء أو المظلمة أن تقوم بنفس الشيء؟ ولماذا يجب أن تكون أقل ثراءاً وتنوعاً من المادة العادية؟ هذه التساؤلات المشروعة دفعت بعض العلماء لتقصي هذه الإمكانية المحتملة والتي تنطوي على زج نوع آخر من القوى غير المعروفة والتي لم يتم التفكير بها من قبل، والتي من شأنها أن تتفاعل بقوة مع المادة السوداء وتؤثر عليها حتى لو كان ذلك بدرجات اضعف واخف بكثير مما تفعله تجاه المادة العادية، ولقد دعمت المشاهدات الأخيرة وعمليات الرصد لتصادم المجرات وتداخلها في السنوات الأخيرة، هذه الفرضية. ولقد فسرت التحليلات التي أجريت على نتائج الرصد أسباب غياب الإشارات المتعلقة بالمادة السوداء أو المظلمة من خلال تجارب عديدة أجريت بهذا الصدد وقدمت حلولاً لبعض الصعوبات النظرية التي طرحها النموذج المبسط. فلو وجدت المادة السوداء أو المظلمة المركبة حقاً، فإن كوننا المرئي سيكون أكثر غناً وتنوعاً وثراءاً وفتنة مما نتخيل.
وحتى إن كنا لا نعرف لحد الآن ماهية المادة السوداء الحقيقية ولا مم تتكون فبإمكاننا أن نتخيل بعض خصائصها بفضل تأثيرها الطفيف على المادة العادية من خلال المشاهدات أو المحاكاة الحاسوبية الرقمية. على سبيل المثال يمكن تصور الجسيمات الأولية المكونة للمادة السوداء أو المظلمة من النوع الأثقل من جسيمات المادة العادية الأولية. فلو لم تكن كذلك لهربت بسرعة الضوء ولما تجمعت بكثافة في بعض مناطق الكون المرئي البدئي والتي تسببت بالهيكيلية الحالية المنظورة والمرئية للكون .
من الخصائص المفترضة للمادة السوداء، كونها لاتمتص الإشعاع الكهرومغناطيسي، و لاتبث إشعاعات ضوئية مرئية، فإنها يمكن أن تكون محايدة كهربائياً أي بدون شحنة وليست حساسة إزاء التفاعلات النووية القوية أو الشديدة التي تحافظ على تماسك النوى الذرية، إذ بخلاف ذلك ، كان يمكن لنا أن نلحظ ونرصد إشارات تفاعلية للمادة السوداء مع جسيمات مشحونة كهربائياً للطاقات الفائقة في الإشعاعات الكونية ، في حين يمكن نظرياً للمادة السوداء أن تتفاعل على نحو طفيف مع التفاعلات النووية الضعيفة بيد أنها نادرة جداً كما أظهرت التجارب المختبرية ذلك في الآونة الأخيرة.
كما نعرف الآن أن المادة السوداء مستقرة على المستوى الكوني الكبير وهي لاتتفكك أو تتفتت إلى مكوناتها الأولية الجسيمية.لأن المحافظة على الشحنة في النوى الجسيمية الأولية هو الذي يمنع التفكك والتفتت، فالإلكترون مستقر في تكوينه ومحافظ على شحنته. والتفاعلات من الندرة بمكان بحيث يصعب، إن لم نقل يستحيل، رصدها، وما يعزز هذه الفرضية هو اكتشاف مجرات قزمة تابعة لمجرتنا درب التبانة وتدور في محيطها بعيداً عن مركزها.
الجانب الغامض للفوتونات:
إزاء الفشل في الكشف عن المادة السوداء رصدياً، اتجه بعض العلماء إلى نماذج أخرى أقل كلاسيكية من هذه المادة ، وافترضوا أن لهذه الأنواع من المادة السوداء أو المظلمة عدة أنواع من الجسيمات الأولية وهي تتعاطى مع قوة كونية جوهرية مجهولة لا تتفاعل مع المادة العادية التي نعرفها. ويوجد لدى بعض هذه الجسيمات الأولية السوداء أو المظلمة، نوع من الشحنة الداكنة أو المعتمة charge sombre ، جاذبة أو مستقطبة، ونابذة أو طاردة أو نافرة مع كونها كهربائياً محايدة . وعلى غرار الجسيمات الأولية العادية في المادة العادية التي تحتوي على شحنة كهربائية بوسعها بث الفوتونات، أي جسيمات الضوء الحاملة للتفاعلات الكهرومغناطيسية، فإن تلك الجسيمات الأولية السوداء أو المظلمة الافتراضية المحملة بالشحنة المعتمة أو الداكنة يمكنها هي أيضاً بث فوتونات معتمة أو داكنة سوداء غير مرئية. كما توجد قوانين تشبه قوانين المادة العادية دون أن تكون نسخة طبق الأصل عنها ، وإن إيقاع تبادل الفوتونات السوداء أو المعتمة هو أقل وأضعف بكثير من تبادلات فوتونات المادة العادية . فعند هذه الأخيرة، تتيح عمليات تبادل الفوتونات للجسيمات تبادل الطاقة بينها، ولهذا الفعل تأثير كبير ومهم على تشكل وتكون المجرات. فغمامات أو سحب الغاز داخل مجرة في طور التشكل تبث الطاقة، الأمر الذي من شأنه أن يقوم بتجميع المادة داخل الغمامة الغازية للمجرة وإن حفظ الحالة الدورانية وقياسها يمنع المادة من التقلص إلى حد معين وتكون الهيكيلية أو البنية الناجمة تتخذ شكل القرص ، وبالتالي يفترض أن يكون هناك قرص مماثل من المادة السوداء أو المظلمة على غرار المادة العادية المألوفة. والحال إنه لكي نفسر شكل المجرات ينبغي للمادة السوداء أن تتوزع على هيئة غمامة كروية أو هالة ، وهذا ما بينته نتائج الرصد في التلسكوبات الفضائية المتطورة الحديثة. وبموجب التبادلات المحدودة بين الجسيمات السوداء الأولية يتم الحد من فقدان الطاقة للهالة التي تشكلها المادة السوداء أو المظلمة. ومع ذلك يمكننا أن نتخيل بعض النماذج التي يقوم فيها جزء من المادة السوداء بتبادل فوتونات سوداء أو داكنة بكميات أكبر .
ليس هناك ما يمنع من تخيل وجود كون يحتوي على جسيم ذو شحنة سوداء موجبة ونظيره ذو الشحنة السوداء السالبة . وفي هذا النموذج سيكون الشكل أو الهيئة الكهرومغناطيسية معتمة أو داكنة تدفع جسيمات المادة السوداء أو المظلمة إلى أن تبث أو تمتص فوتونات سوداء أو معتمة. وعلى غرار جسيم المادة العادية، ونظيرها جسيم المادة المضادة، ذات الشحنة المعاكسة، حيث يفنيان بعضهما البعض ويولدان أو يحرران فوتونات، يمكن لجسيمين من المادة السوداء أو المظلمة بشحنتين معتمتين متضادتين ، أن يفنيان بعضهما البعض ويحرران فوتونات سوداء أو معتمة. وسوف تؤثر تلك التبادلات بين الفوتونات المعتمة أو الداكنة، على شكل المجرات ، ويستخدم الفيزيائيون هذه القيود القسرية لتقدير كثافة التفاعلات الكهرومغناطيسية السوداء أو المعتمة ومعدل تردد عملية الإفناء المتبادل في المادة السوداء أو المظلمة، على أن يكون ذلك التفاعل ليس قوياً لكي يحافظ على الهالة الكروية الموجودة حول، وفي، ضواحي المجرات. ولقد اقترح علماء سنة 2009، وهم لوتي آكرمان، وماثيو بيوكلي، وشين كارول، ومارك كاميونكوفسكي، من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، أن ينطوي القيد القسري المشار إليه أعلاه على أن تكون الشحنة الكهربائية المرتبطة بالتفاعل المعتم ، صغيراً جداً بحدود 1% من قيمة الشحنة الكهربائية العادية. وكل ما طرح لحد الآن يخص نوع واحد من المادة السوداء أو المظلمة ذات الجسيم الأولي المعتم أو الداكن الوحيد المشحون ونظيره المضاد ذو الشحنة المضادة ، ويبقى هذا السيناريو بسيطاً مقارنة بتعقيد وتركيب المادة العادية ، فكيف سيبدو لنا كون مكون من المادة السوداء أو المظلمة مع عدد أكبر بكثير من الجسيمات الأولية المعتمة المزودة بالشحنات السوداء أو المعتمة؟
اقترحت مجموعة من العلماء سنة 2013 في جامعة هارفارد، وهم جيجي فان، و آندريه كاتز، و ليزا راندال، وماثيو ريس ، سيناريو عن مادة سوداء أو مظلمة تتفاعل على نحو جزئي matière noire interagissant partiellement. وافترضوا أن الجزء الأهم من هذه المادة السوداء أو المظلمة مكون من الــ wimps وإن جزء صغير من المكون الأساسي يحتوي على نوعين من الجسيمات الأولية، إحداها ثقيل، والآخر خفيف، ومن جهة أخرى، وعلى غرار البروتونات والإلكترونات، فإن بإمكان تلك الجسيمات حمل شحنة معتمة وأن تتبادل فيما بينها فوتونات داكنة أو معتمة.
لا ينبغي المبالغة في تفسير الارتباطات والتوافقات إلا أن الحالة المقترحة تستدعي على الأقل وجود فوتون معتم وإلكترون معتم أو داكن، وكذلك فوتون معتم لحمل ونقل الكهرومغناطيسية المعتمة أو الداكنة التي تربط بينهم وليس مستبعداً أن تتحد وتتراكب تلك الجسيمات السوداء أو المعتمة لتكوين ذرات معتمة أو سوداء وهذه بدورها تتجمع وتتراكب لخلق جزيئات molécules سوداء أو معتمة بما في ذلك العمليات والتفاعلات الكيميائية الملازمة لها.
تم حساب حد أعلى لحصة المادة السوداء أو المظلمة التي يمكنها أن تتفاعل وتؤثر في الفوتونات السوداء أو المعتمة، في ظل القيود التي تفرضها المشاهدات الفلكية. ونتج أن هذه الحصة من المادة السوداء أو المظلمة، أنها ستحتوي على مجمل كتل يمكن مقارنته بكامل المادة العادية المرئية. ففي هذا النموذج، يوجد للمجرة ثلاث مكونات: غيمة أو سحابة أو غمامة كروية كبرى من الجسيمات الأولية من نوع الــ wimps، والتي تمثل نسبة 70% من مجمل المادة ، و قرصين مسطحين، كل واحد منهما بنسبة 15%، من المادة، أحدهما من المادة العادية ( مجرة درب التبانة التي نعيش فيها على سبيل المثال )، والآخر من المادة السوداء أو المظلمة التي تتفاعل بقوة مع نفسها . ويكون القرصان متوازيين ومتطابقين على مستوى واحد، وبهذا توجد مجرة من المادة السوداء أو المظلمة تتعايش وتتواجد في نفس الحيز المكاني لمجرة درب التبانة المرئية، إلا أنها غير مرئية لأنها مجرة سوداء أو معتمة. بيد أن هذه المجرة الخفية لا تشكل نجوم داكنة أو معتمة و لا كواكب كبيرة سوداء أو معتمة. قد يتساءل البعض هل بالإمكان لمثل هذه الأجسام السماوية الهائلة الكتل أن ترصد من خلال تأثيرات العدسة الثقالية lentille gravitationnelle، لأن من شأن هذه الأجرام والأجسام الفضائية المعتمة ، أثناء حنيها وتحديبها للزمكان المحلي، أن تحرف الضوء القادم إلينا من نجوم المادة الطبيعية العادية.
إن إفتراض وجود قطاع زمكاني معتم ومركب يوفر إمكانيات غنية وبتبعات فلكية مهمة ومثيرة، يطرح مشكلة، والإشكالية هي كيف يمكن اختبار هذه النماذج النظرية الافتراضية تجريبياً؟ لذا فالمشكلة التي تواجهنا الآن هي أن العلماء والفيزيائيين يبحثون عن مادة سوداء أو مظلمة مركبة، ولكن بنفس طريقة البحث عن المادة السوداء أو المظلمة من نوع الــ wimps، باستخدام كواشف رصد موجودة تحت الأرض ، والحال أنه يجب العمل على رصدها على نحو مباشر بأجهزة أخرى مخصصة لذلك ومتطورة تكنولوجياً. فقرص المادة السوداء أو المظلمة موجود في نفس المستوى المكاني لقرص مجرة المادة العادية التي نعرفها في درب التبانة لكنه يترجم بكثافة مادة سوداء مركبة أهم وأكبر بكثير من كثافة قرص المادة السوداء من نموذج نوع الــ wimps البسيط ، يترتب على ذلك توفير فرص رصد أكبر بكثير، حتى لو كان غياب الإشارة الدالة على ذلك يظهر أن هذه الإحتمالية ضعيفة جداً في الوقت الحاضر. فإلى جانب تجارب ومحاولات الرصد المباشر، يأمل العلماء والفيزيائيين أن يخلقوا مادة سوداء في مسرعات ومصادمات الجسيمات العملاقة من نوع LHC والأجيال المستقبلية في طور الإنشاء من المسرعات ومصادمات الجسيمات والتي ستكون أقوى وأكبر منه بكثير، وهم يدرسون في الوقت الحاضر جميع النماذج المتوفرة نظرياً ، البسيطة والمركبة، لأنهم لا يعرفون على وجه الدقة كيفية تعاطي وتفاعل المادة السوداء أو المظلمة مع المادة العادية.
وفق معادلة آينشتين الشهيرة عن العلاقة بين الكتلة والطاقة E=mc2، يمكن لمسرع ومصادم الجسيمات العملاق LHCعلى الحدود الفرنسية السويسرية بالقرب من جنيف أن يجري تجارب على النوع الثقيل أو المركب من المادة السوداء أو المظلمة المنتجة مختبرياً. فكلما كانت كتلة الجسيم الخاضع للتجربة كبيرة كلما احتاج إلى طاقة أكبر. لن تكون جسيمات المادة السوداء أو المظلمة المنتجة مختبرياً مرئية داخل مسرع الجيسمات بالطبع، وإلا لن تسمى مظلمة أو سوداء أو معتمة أو داكنة لأنها تخترق الكواشف بدون تفاعلات مع محيطها المادي العادي المرئي ولكن بإمكان العلماء والباحثين أن يستنتجوا وجودها على نحو غير مباشر. وبموجب قانون حفظ الطاقة، بإمكان العلماء المقارنة وحساب فائض الطاقة ، بين طاقة التصادم وطاقة جميع الجسيمات الناتجة عن التجربة ، أي جراء التصادم. فلو افتقدنا كمية من الطاقة في الحصيلة النهائية فربما يكون جسيم من الطاقة السوداء أو المظلمة غير المرصود أخذ جزءاً من الطاقة ، أي الجزء الناقص. هناك بالطبع تفسيرات أخرى لفقدان الطاقة مثل تسرب جسيم بين معدات الكواشف أو نيوترينو يفلت ولا يتفاعل إلا نادراً الخ ... وعلى المحك العملي يحسب العلماء عدد التصادمات وطاقاتها اللازمة التي من شأنها أن تنتج بصمة خاصة من الطاقة المفقودة مع أو بدون مادة سوداء أو مظلمة ، ومن ثم القيام بالمقارنة بين المعطيات.
لم يتم لحد الآن رصد بصمة غير مرئية من المادة المظلمة في مسرع ومصادم الجسيمات LHC، مما يؤكد أن تفاعلات هذه المادة الغريبة مع المادة العادية نادرة جداً لو حدثت يوماً ما، وهذا غير مؤكد في الوقت الحاضر لكنه ليس مستحيلاً، والمحاولات مستمرة بغية العثور على هذه المادة مختبرياً في تجارب الطاقات الفائقة، في المستقبل القريب أو البعيد. وفي نفس الوقت يقوم المختبر الوطني غران ساسو Gran Sasso في إيطاليا ، بملاحقة المادة السوداء أو المظلمة بمعية كاشف الجسيمات المعتمة الأكثر حساسية في العالم إلى اليوم وهو Xénon IT إكسينون آي تي ، الذي بدأ العمل به عام 2015، وهو مكون من تقعر يحتوي على طن من مادة أو عنصر الإكسينون Xénon السائل بدرجة حرارة C°-95، فلو دخل جسيم من مادة سوداء في تصادم مع ذرة من الإكسينون فسوف يولد إشارة داخل الكاشف الفائق الحساسية ، ولقد نشرت أولى النتائج بهذا الصدد عام 2017 وكانت مشجعة لكنها تحتاج للتدقيق والتكرار. تجدر الإشارة إلى أن الفيزيائيون يفترضون بأن تفاعلات المادة السوداء أو المظلمة مع المادة العادية، على ندرتها، هي أقوى بكثير من الثقالة أو الجاذبية ، التي هي أضعف القوى الكونية الجوهرية الأربعة ، إلا أن تلك التفاعلات من الضعف بمكان بحيث تستعصي على الرصد والكشف المباشر لحد الآن. لأنه إذا كانت المادة السوداء لا تتفاعل إلا على نحو تجاذبي أو ثقالي فسوف لن يكون سهلاً رصدها عبر مثل هذه التجارب.

التحدي الدائم
هناك لغز دائم في الوقت الحاضر متمثل بالمادة السوداء أو المظلمة والطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة، طالما لم نكتشف بعد ماهية كل منهما ومكوناته. لذا فهناك حالة ضرورية وعاجلة للكشف عن طبيعة هذين المكونين الجوهريين للكون المرئي لكن الأمر يعتمد على عدد كبير من العوامل والشروط والمعايير والمعطيات التي يجب توافرها لتحقيق هذه الغاية. ففرضية وجود مادة سوداء أو مظلمة، لا سيما النوع المركب منها، يقدم الكثير من التفسيرات للعديد من الألغاز الكونية والفلكية ، ما يفسر سبب تركيز العلماء على تجارب ومحاولات حثيثة ومقاربات متعددة لإثبات وجودها.
2-
شيفرة الكون المرئي الخفية Le Code Scret de L’Univers
هل للكون المرئي حامض نووي ADN على غرار البشر؟ ما يعني أنه كان حي؟ وهل لهذا الكون المرئي شيفرة سرية أو كود سري رقمي معلوماتي يشبه الكود الحاسوبي أو الكودبار code barre خفي سبق ولادته ، أي قبل الانفجار العظيم avant le Big Bang؟ سؤال يطرحه العلماء اليوم على ضوء المستجدات العلمية والكشوفات والمشاهدات الأخيرة، خاصة بعد انتشار فرضية " الكون المعلومة L’univers information" وصار لا بد من معرفة أصل هذه المعلومة وماهيتها وهل هي مجرد معلومة حاسوبية رقمية افتراضية أم ذاكرة معلوماتية مختزنة في صيغة مشفرة تحمل الموروث الكوني برمته ما سبق الانفجار العظيم ؟ وعلى مدى أكثر من قرن تعاقب العلماء على تعقب هذه الشيفرة أو الكودي الكوني بأدوات ولغة الرياضيات التجريدية ، وتصدى علماء رياضيات وفيزياء فطاحل لهذه المعضلة و لهذا التحدي الصعب ، وكان من أبرزهم أولر Euler، وريمان Riemann، وبولتزمان Boltzmann وغيرهم كثيرون. وتبعاً لذلك ظهرت أو صيغة أو معادلة رياضية للشيفرة اللغزية العميقة والصعبة للغاية التي ما تزال تسحر وتفتن علماء الرياضيات والفيزياء.
كانت الشيفرة سابقاً بصيغة تسمى صيغة ويلر
التي قال عنها قال عنها الفيزيائي ريتشارد_فاينمان بأنها "جوهرتنا" و أنها " الصيغة الأكثر شهرة في الرياضيات ، وتتكون من :
e : عدد أويلر = ...2.7182
π : النسبة بين محيط الدائرة إلى قطرها
i : العدد التخيلي
العددان 1 و 0 بالأرقام العربية
ثم تطورت إلى الصيغة التالية:

وهذه معادلة رياضية تعتبر الأصعب والأكثر لغزية في تاريخ العلم والرياضيات والفيزياء الكونية وتعرف بإسم " دالة زيتا ريمان La fonction Zeta de Riemann، وهي التي فتحت الطريق لما يعرف بالبحث عن شيفرة الكون الخفية، فلم ينجح لحد الآن أي عالم رياضيات في حلها على نحو نهائي وقاطع وكل الحلول عبارة عن اجتهادات ومقترحات وصلت كلها إلى طرق مسدودة أو حلول نسبية. من الصعب شرحها وتبسيطها بلغة مفهومة للجميع ولكن يمكننا القول أنها قدمت الأساس العلمي الرياضي لطريقة البحث عن الأصل للكون المرئي وما قبله، أي قبل الانفجار العظيم البغ بانغ. فكل العلوم الرياضياتية مبنية على العلاقات القائمة بين قوانين الفيزياء وقوانين الأعداد الرياضية فلا بد لكل نظرية علمية فيزيائية من مقابل رياضي وإلا مآلها الفشل والنسيان. وهذه الصيغة السحرية تتوافق تماماً مع ما يسميه فيزيائيو اللامتناهي في الصغر، " أثر نواة الحرارة" والتي تصف كيفية توزيع الطاقة داخل جزيئات العناصر في توازن حراري بدرجة حرارة معينة. تطورت الأبحاث المرافقة وأخذت صيغة أوسع وأشهر عرفت بصيغة بولتزمان formule de Boltzmann، وهي التي ستفتح الطريق العملي والتجريبي لما نبحث عنه ألا زهو الكود السري أو الشفرة السرية للكون المرئي البدئي ولقد أوصى بولتزمان أن تكتب هذه الصيغة على قبره ليطلع عليها العالم بأسره لأهميتها وهي : S=k logW، ونستنتج من تحليها العميق أن الفوضى أو اللانظام entropie، لا مادي، ما يعني أن كل شيء في الوجود مشفر على نحو غامض ولغزي ، وعند تطبيقها على علم الكونيات وعلى الكون المرئي يتضح لنا أن الكون المرئي ليس أبدياً و لا أزلياً ، وكان ذلك الاستنتاج قد ظهر في القرن التاسع عشر ولنا أن نتصور مدى صعوبة تقبل ذلك آنذاك.
نتائج الرصد والمشاهدة التي وفرتها لها تلسكوبات فضائية متطورة تكنولوجياً مثل كوب COBE، سنة 1989 ، وبلانك Planck، اليوم عام 2017، تؤكد بما لايقبل الجدل أن الكون الأولي البدئي L’Univers Primordial إتسم بتوازن مدهش ثرموديناميكي ــ ديناميكا حرارية ــ thermodynamique، كلما توغلنا في ماضي الكون المرئي وصولاً إلى لحظة الانفجار العظيم. والحال ، يفترض أنه كان هناك توازن في مستوى بلانك ، أي في لحظة أو زمن بلانك ، وهي تمثل جزء من الثانية يقدر بــ عشرة من مليون من مليار المليار المليار من الثانية، وهو رقم لايمكن للناس العاديين غير الرياضيين أن يتخيلوه أو يدركوه ويستوعبوه، عندما كان الكون المرئي في لحظة البغ بانغ ، الانفجار العظيم، في حالة فيزيائية خاصة جداً ، حالة غريبة، لم تعد موجودة اليوم ولا يوجد لها آثار تدل عليها في الوقت الحاضر، وهي الحالة التي يسميها علماء الفيزياء النظرية وعلماء الكونيات بحالة الــ "ك م س KMS" التي تحدثنا عنها باقتضاب في مؤلفات سابقة لنا عن الكون. التسمية جاءت من الحروف الأولى لأسماء ثلاث علماء هم الذين بنوا رياضياتياً الصيغة الرياضية لهذه النظرية الافتراضية وهم كوبو Kubo، و مارتن Martin، و شفينغرSchwinger، التي تصف حالة الكون قبل بدايته.
فحالة الــ "ك م س KMS" هي حالة التوازن في نظام ما وتطوره. ويترتب على ذلك تأثير مثير ومدهش: فعندما يكون نظام ما في حالة الــ "ك م س KMS"، بمعنى أن يكون توازنه ، ثابت أو مستقر، وتطوره ديناميكي ، ومرتبطان أحدهما بالآخر، عندئذ سيكون الزمن لهذا النظام هو في آن واحد زمن واقعي حقيقي ( ولهذا يتطور هذا النظام داخل حدود معينة )، وزمن متخيل أو خيالي imaginaire، ( ولهذا السبب يكون النظام متوازناً ) بتعبير آخر يغدو زمن مثل هذا النظام الذي هو في حالة الــ "ك م س KMS"، زمن مركب temps complexe.
من هنا يعتقد قسم من العلماء أن الكون المرئي قبل ولادته، أي قبل الانفجار العظيم البغ بانغ، كان في حالة الــ "ك م س KMS". فكما ذكرنا سابقاً قبل 13.82 مليار سنة وربما 14 مليار سنة ضوئية، كان الكون في حالته البدئية ساخناً جداً 100000 مليار المليار المليار درجة مئوية حيث كان الحساء الأولي البدئي يغلي بهذه الدرجة الحرارية المهولة وكانت مادته التكوينية الأولية في حالة تماثل وموحدة في جميع الأجزاء لذلك كان الكون الوليد بعد الانفجار العظيم في حالة توزان ثرموديناميكي ــ توازن ديناميكي حراري ــ وهذا الوضع هو الذي دفع بعض العلماء إلى افتراض أن الكون المرئي قبل ولادته كان في حالة الــ "ك م س KMS"، ما يعني بتعبير آخر أن الزمن كان مركباً ولم يكن واقعياً قبل حدوث الانفجار العظيم ، بمعنى أن الزمن الذي نعرفه ونقيسه ونحسبه لم يكن موجوداً بعد. حب اعتقاد أغلب الفيزيائين اليوم. وبتعبير أدق كان الزمن قبل الانفجار العظيم يتأرجح بين الاتجاه الواقعي ، الذي نعرفه، والاتجاه الخيالي الذي لا ندركه، ولم يأخذ قراره بعد باي اتجاه سوف يتجه بسهمه ــ المعروف باتجاه سهم الزمن ــ إن هذا التقلب والتأرجح في الزمن في ماهيته البدئية هو الذي وصفته رياضياً صيغة نظرية الــ "ك م س KMS"، وهذه الصيغة الرياضياتية لحالة الــ "ك م س KMS" تشبه تماماً وتتطابق كلياً مع دالة زيتا ريمان المذكورة أعلاه. ونجد دالة زيتا ريمان كذلك في حالة إشعاع الجسم الأسود التي نظر لها بلانك وكانت الأساس في ظهور الميكانيك الكمومي أو الكوانتي. وكل الحلول الافتراضية تتواجد أو محصورة بين الــ الصفر 0 و الواحد 1 الثنائي binaire، وهي اللغة المستخدمة حالياً في الحواسيب والكومبيوترات أي اللغة الانفورماتيك أي المعلوماتية. فحسب ريمان فإن الأصفار ــ أي الحلول ــ للدالة ستتركز على خط مستقيم متخيل أو خيالي وهو الخط المستقيم الحرج droite critique، الذي يعرفه علماء الرياضيات جيداً . بمعنى أن هناك زمن يسبق زمن بلانك المذهل في قصره لذلك فإن حالة الــ "ك م س KMS"، هي التي تصف سلوك الكون المرئي قبل وقوع الانفجار العظيم أي قبل ولادة الكون المرئي البدئي. وهنا علينا أن نبحث عن اللحظة الصفر l’Instant Zéro، أو الفرادة البدئية Singularité initiale التأسيسية، على حد تعبير علماء الرياضيات والتي انطلق منها الوجود المادي للكون المرئي قبل لحظة أ زمن بلانك قبل 13.820 مليار سنة، حيث استعاد الكون المرئي شيفرته الوراثية المسجلة في الحامض النووي الكوني رقمياً في ذاكرته الوراثية ، أي ما كان موجوداً قبله ، بمعنى وجود كون سابق لكوننا المرئي مثل انتقال المعلومات الوراثية الجينية من الأب إلى الأبناء . وللحديث بقية.
3-
ماذا لو إن الانفجار العظيم لم يحدث أو غير موجود؟
يشكل عنوان هذا الفصل استفزازاً للقسم الأعظم من الوسط العلمي الفيزيائي يكاد أن يعادل خطيئة نكران الله عند المؤمنين. فالأغلبية الساحقة مؤمنة ومقتنعة على نحو قاطع بأن النظرية الكوسمولوجية المعيارية عن بدء الكون وحدوث الانفجار العظيم، استناداً إلى معادلات النسبية العامة لآينشتين، يساوي حقيقة مطلقة وراسخة لاتقبل النقاش أو الرد أو المجادلة والسجال. علينا أن نتذكر أن التفاعلات والتركيبات النووية nucléosynthèse الأولية البدئية ، أي تشكل نوى الذرات البدائية الأولية ، هي العمود الفقري والدعامة الرئيسية التي تستند عليها نظرية البغ بانغ النموذجية وهي أحد مفاتيح فهم ولادة وأصل الكون المرئي أو المنظور.
في علم الفلك والكوسمولوجيا، يكون رصد ومشاهدة الكون البعيد بمثابة الرحلة داخل الزمن والعودة إلى الماضي:
هل السفر عبر الزمن ممكن، ولو من الناحية النظرية؟ نعم هذا ما يقوله لنا العلم الحديث بعيداً عن روايات وأفلام الخيال العلمي. فهناك في النسبية الخاصة والعامة لآينشتين مبدأ يسمى تباطؤ الزمن مع السرعة، ما يعني أنه كلما تسارع الجسم في حركته واقترب من سرعة الضوء ، كلما تضائل الزمن بالنسبة له فيما يبقى الزمن يجري في إيقاعه العادي بالنسبة للآخرين غير المسافرين بسرعات كبيرة بل يتحركون بالسرعة العادية اليومية . ولقد أثبتت لنا تحولات لورنتز في النسبية ، ــ وهي عمليات رياضية معقدة ــ أن نظرتنا المألوفة للزمان والمكان خاطئة وعلينا تغييرها كلياً. فالمدة ليست قيمة مطلقة والزمن يمكن أن يتمدد ويتقلص حسب حالة المراقب ، إذا كان ساكناً أو متحركاً ، وبالطبع حسب قيمة سرعة تحركه ولقد سمى آينشتين هذه الحالة بمفارقة التوأم. ولقد أجريت تجارب عملية علمية بساعة ذرية أثبتت صحة هذا المبدأ ، أي تباطؤ الزمن مع السرعة. فلو أخذنا توأمين بنفس العمر ووضعنا أحدهما في مركبة فضائية وتركنا الآخر على الأرض يعيش كباقي الناس. ثم تمر أربعون عاماً على التوأم الباقي على كوكب الأرض، وكان عمره 20 عاماً عند مغادرة شقيقه في المركبة الفضائية فسيكون عمره 60 عاماً عند عودة أخيه في حين أن الشقيق المسافر بسرعة فائقة لا يشيخ أكثر من عام واحد أي سنة مقابل أربعين سن تمر على التوأمين بسبب سرعة السفر ، ةلنأخذ مثال آخر لأب يترك ابنه على الأرض وعمره سنة ويغادر لمدة سنة وعمره 19 عاماً ولكن يسافر بسرعة فائقة ، فعندما يعود إلى الأرض يجد أن عمر إبنه أربعون عاماً وعمره هو 20 عاماً فقط أي أصغر من ابنه بــ 20 عاماً ، هذا إذا كانت السرعة كبيرة لكنها بحدود المعقول وليست قريبة من سرعة الضوء وهي 300000 كلم في الثانية. فلو تمكن شخص أن يعيش على متن سفينة فضائية لمدة ثمانين عاماً خارج كوكب الأرض في سفينة ترحل بسرعة قريبة من سرعة الضوء فإنه عند عودته إلى الأرض ــ إذا كانت ما تزال موجودة بالطبع ــ فسيجد أنه مر عليها 1036 سنة ، أي حوالي مائة مليون مليار المليار أكثر من عمر الكون الحالي وهو 13.85 مليار سنة أي إنه سوف يجد أن الأرض والشمس بل والمجموعة الشمسية برمتها قد انقرضت واختفت وابتلعتها مجرة أخرى هي أندرويدا أي المرأة المتسلسلة. لكننا في حياتنا البسيطة المتواضعة لا نشعر بمثل هذه التغيرات فحياتنا لاشيء مقارنة بأبعاد وقيم وحسابات وقوانين الكون المرئي الذي يحتوي على مائة مليار مجرة مثل مجرتنا درب التبانة وفي كل مجرة بين مائة إلى ثلاث مائة مليار نجم مثل نجمنا الشمس وحوله كواكب وأقمار تدور في نظام شمسي كنظامنا وإن اقرب نجم للأرض يبعد مسافة 4 سنوات ضوئية أي مايقطعه الضوء بسرعته الفائقة لمدة أربع سنوات أرضية، ولقد جسد فيلم أنترستيللر ــ ما بين النجوم ــ هذه الحالة العلمية على نحو مدهش حيث يسافر بطل الفيلم بحثاً عن كوكب ملائم لاحتواء البشر كبديل عن الأرض التي تتعرض للانقراض والعقم، ويترك ابنته الصغيرة ذات العشرة أعوام، وعندما يعود بعد رحلة دامت سنة يجد ابنته طاعنة في السن بعمر التسعين عاماً وهي جدة لعائلة كبيرة من الأبناء والأحفاد في حين مايزال هو في شبابه ولم يشخ سوى سنة واحدة فحسب . وخلاصة ذلك أننا لايمكن أن نفصل بين الزمان والمكان فهما وجهان لعملة واحدة ويمكن أن يتحول أحدهما للآخر في ظروف معينة فهما نسيج واحد يسميه آينشتين ــ الزمكان ــ فمراقب ما يرصد الزمن من زاوية معينة من الكون المرئي، يجده مراقب آخر من زاوية أخرى وبظروف أخرى على إنه مكان وليس زمان، ولو تمعنا ملياً بهذا المفهوم الجديد لاستوعبنا مدى عمق هذه الثورة العلمية التي بدأت في أوائل القرن العشرين وما زالت مستمرة وترفدنا بالعديد من المنجزات والتطورات والابتكارات العلمية والتكنولوجية التي نلمسها في حياتنا اليومية، كنظام الملاحة الفضائي الجي بي أس GPS والأقمار الصناعية والذكاء الصناعي والهواتف الذكية والقنوات الفضائية الستلايت ، وما علينا سوى أن نتأمل .
الضوء ساعي بريد:
الضوء في كوننا المرئي طاقة ـــ وهو وجه آخر للمادة والكتلة ـــ ومحدد بسرعة هي 300000 كلم/ثانية، للانتقال في الفراغ، وكلما كانت الأجسام والأجرام السماوية بعيدة عنا في الفضاء الخارجي، كلما احتاج ضوئها لزمن أطول لكي يصل إلينا، فهل سنتمكن يوماً ما من مشاهدة الضوء القادم من اللحظات الأولى لولادة الكون المرئي ، علما بأن أبعد حد زمني توصلنا إليه من خلال تحليل الأشعة الكونية الخلفية الأحفورية الميكروية المنتشرة le fond diffuscosmologique – rayonnement fossile، التي بثها الكون الوليد بعد ولادته بــ 380000 سنة بعد الانفجار العظيم، هو 13.825 مليار سنة ضوئية ، وهناك حد فيزيائي لن نتمكن بوسائلنا التكنولوجية الحالية العاجزة عن عبوره ألا وهو جدار وطول وزمن بلانك. في تلك الحقبة الزمنية الغائرة في القدم، كان الكون البدئي شديد الحرارة والكثافة إلى درجة أن كل فوتون يتحرر سرعان ما تمتصه المادة الكثيفة لذلك كان الكون معتم ومضبب opaque. ولم يغدو شفافاً إلا بعد مرور فترة من الزمن عندما تمكنت الفوتونات الضوئية من الإفلات والارتحال أو التنقل والتفاعل مع المادة ، ولكن لمعرفة بداية الكون المرئي وأصله لايجب الاعتماد على الضوء فقط. ومن السبل الجديدة التي يجب اعتمادها من أجل ذلك، هي التفاعلات النووية الأولية أو البدئية nucléosynthèses primordiale، أي تشكل النواتات أو النوى الذرية الأولى التي بدأت بعد ثواني قليلة من الانفجار العظيم. عندما كان الكون عبارة عن بلازما مكونة من إشعاعات الجسيمات الأولية المتفاعلة مع بعضها البعض قبل مرحلة التفاعلات النووية الأولية وكانت المكونات البارزة للكون المرئي هي الإلكترونات électronsومضاداتها البوزيترونات positrons والفوتونات photons والنيوترينوات neutrinos ومضاداتها antineutrinos، وبكمايت متساوية، ما عدا حفنة من البروتونات والنيوترونات ــ البريونات ــ كانت حاضرة حيث قدرت عدد الفوتونات بمليار لكل باريون .
إن النوى الذرية المنتجة فيما بعد ، وكميتها النسبية، نجمت ، عن تنافس بين مختلف التفاعلات النووية ، التفاعلات النووية للنوى الذرية الأولية أو البدئية nucléosynthèses primordiale، من جهة ، وجراء انخفاض درجة الحرارة والكثافة ، من جهة أخرى. وإن إيقاع هذا الانخفاض محكوم بمعدل التوسع الكوني expansion de l’Univers.
إن المعايير الفيزيائية التي استندت إليها التفاعلات النوية البدئية باتت مقيدة اليوم بــ : ثلاث عوائل أو مجموعات من النيوترينوات ، يقدر عمر النيتورينو بــ 885.7 ثانية، وكثافة الذرات الحالية ، أي الكثافة الباريونية، تقدر بحوالي 5x10-31، غرام في السنتمتر المكعب الواحد، وهي قيمة مستنتجة قياسات الــ anisotropies للأشعة الخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة. في تلك الحقبة الزمنية ، بين واحد بالمائة من الثانية والثانية الأولى بعد البغ بانغ الانفجار العظيم، كان الكون المرئي البدئي في حالة توازن حراري équilibre thermique. وكانت درجة الحرارة تفوق العشرة 10 مليار درجة ، والجسيمات الأولية تتحول باستمرار فيما بينها بصورة تجعل انتاج البروتونات والنيوترونات متوازناً وتحسب نسبها مقارنة بالنيوترينوات على البروتونات n/p وهي متماثلة وتساوي 1.
وعندما بلغت درجة الحرارة العشرة مليارات درجة ، بسبب توسع وتمدد الكون، تباطأت التفاعلات المنتجة للنيوترونات من البروتونات فمعدل انتاج الأولى بات اقل من معدل إنتاج الثانية وبالتالي فإن العلاقة بين النيوترينوات على البروتونات n/p انتقل من واحد 1 إلى 3/1 أي الثلث. عند ذلك الحد بدأت البروتونات والنيوترونات الفردية الناجمة عن الحساء الأولي البدئي ، بدأت بالتجمع لتكوين نوى أثقل وأكثر تركيباً . في نفس اللحظة فقد التفاعل النوي الضعيف ، وهو أحد القوى الكونية الجوهرية الأربعة المعروفة ، ــ وهي النووية الشديدة أو القوية ، والنوية الشعيفة، والكهرومغناطيسية والجاذبية أو الثقالة ــ فعاليته إذ أن لهذه القوة تأثير مهم فقط عندما تكون الجسيمات ما دون الذرية قريبة من بعضها جداً ونشطة جداً . وبسبب توسع الكون لم تعد تلك الشروط أو الظروف قائمة خاصة بالنسبة للنيوترينوات. وبما أن تلك الجسيمات غير حساسة إلا للقوة النووية الضعيفة، لم تعد قادرة على إجراء تفاعلات بنفس سرعة الإلكترونات والبوزيترونات المضادة للإلكترونات التي تتفاعل عن طريق القوة الكهرومغناطيسية الأكثر فعالية في تلك الظروف ، كما تفكك زوج النيوترينوات ومضاداتها وانفصلت عن المادة واخترقت الفضاء بدون تفاعلات مع باقي الجسيمات الأخرى تقريباً . ولم يكن بالإمكان تشكل نوى مركبة لبرهة زمنية طويلة أو دائمة ومستمرة آنذاك وصار بإمكان البروتونات والنيوترونات الاندماج مع بعضهما لتوليد نوى الديوتروم إلا أن هذه الأخيرة ضعيفة نووياً وسرعان ما تتفكك désagrégeaient.
مع استمرار تمدد وتوسع الكون المرئي انخضفت الحرارة أكثر فأكثر وتغيرت العلاقة بين النيوترينوات على البروتونات n/p وأصبحت 7/1 وانخفضت الحرارة إلى درجة تكفي للسماح بالتشكل الدائم للديوتوريوم وكذلك السماح لعدد آخر من العناصر بالتشكل جراء اتحادات مستقرة أكثر بين الجسيمات الأولية ولمدة زمنية دائمة فكل نيوترونين مع بروتون يولد نواة التريتليوم ، واتحاد بروتونين ونيوترون واحد يؤدي إلى ولادة نواة الهليوم 3 ، واتحاد بروتونين مع نيوترونين يولد نواة هيليوم 4 وهذا الأخير هو الأكثر استقراراً وإدامة من بين الغازات ولديه طاقة ترابط عالية بحيث ألحق كافة النيوترونات المتوفرة بنووى ذراته. وبذلك فإن نسبة الهليوم 4 في الكون المرئية تعتمد على قيمة العلاقة بين النيوترينوات على البروتونات n/p، في لحظة التركيب الذي ينتج الديوتوريوم وبداية تشكل النوى المركبة . فمع نيوترون وسبعة بروتونات فإن ربع البايرونات يتحول إلى هليوم 4 . ففي كل مرة يتحد نيوترون مع بروتون تبقى ستة بروتونات حرة وحيدة . وأربعة من أصل 16 بايرونات معنية بالعملية ــ 2 نيوترون و 14 بروتون ـــ يعطي نواة هليوم، وبالمحصلة النهائية هناك نواة هليوم لكل 12 نواة هيدروجين . وبما أن للبروتونات والنيوترونات نفس الكتلة أو كتل متقاربة ، فإن ربع مادة الكون المرئي تتحول إلى هليوم ولقد تأكدت هذه النسب بالمشاهدة والرصد المختبري والتجريبي.
وهكذا فإن كافة بايرونات الكون المرئي البدئي كانت على شكل بروتونات حرة ، أو نوى هيدروجين ( 75% من الكتلة ) أو في نوى الهليوم ( 25% من الكتلة) مع بعض النوى النادرة من الديوتيريوم والهليوم 3 والليثيوم 7 مازالت آموجودة. وبدرجة حرارة تقرب من 200 مليون درجة ، بعد مرور 25 دقيقة على الانفجار العظيم لم تعد التفاعلات النووية على حالها وتوقفت عمليات التركيبات النووية الأولية. واستقرت وفرة الإيزوتوب isotopes.
وكما نعرف أنه بعد مرور 380000 سنة على الانفجار العظيم تسبب التوسع الكوني في خفض درجة الحرارة وتبريد الوسط والتحقت الإلكترونات الحرة بالنوى الأولية البدئية لتشكيل أو تكوين الذرات عندما غدا الكون مرئياً شفافاً لأنه صار بوسع الفوتونات اختراقه لانخفاض احتمالية ابتلاعها أو امتصاصها من قبل المادة الكونية، عند ذلك انتهت الحقبة المعتمة opaque للكون وصار الكون مرئياً أو منظوراً. أما التكهنات بشأن وفرة بعض الذرات مقارنة بغيرها، فقد صار بالإمكان مواجهتها بالحسابات التي تجريها مختلف المواقع الفيزيائية – الفلكية sites astrophysiques . وتم تدمير الديوتيريوم الهش داخل النجوم المتولدة وتفاعلاتها النووية وقلت كمياته مع مرور الزمن ويمكننا ملاحظة ذلك بدراسة ورصد الغازات الكونية البعيدة جداً التي هي أقرب لفترة الولادة للكون البدئي. وبالعكس تنامت وفرة الهليوم 4 على مدى التطور الكوني لأنه هذه الذرة تنتجها النجوم المتولدة باستمرار أيضاً كما أكدت المشاهدات وعمليات الرصد للمجرات غير المتطورة جداً أو الزرقاء. أما الهليوم 3 فهو حالة معقدة لأنه بعض النجوم تنتجه والبعض الآخر تدمره. وبالتالي فإن كميته ووفرته من عدمها يتوقف على النماذج النجمية المتاحة والمندروسة أو المرصودة. في حين أن الليثيوم وكمياته يجب البحث عنها في النجوم القديمة وفي هالة مجرة درب التبانة. فتلك النجوم ذات الكتلة الضعيفة في الأساس، تمتلك معدل حياة طويل جداً فعمرها مديد بالمقارنة بنجوم أخرى وبعضها تكون بعد مرور مليار سنة أو اقل بعد الانفجار العظيم ويبدو الليثيوم فيها كأنه مستقل عن عمليات تنقية العناصر الكيميائية المركبة enrichissement en éléments chimiques complexes. اللييثيوم وكميته يطرح مشكلة عويصة على النظريات والنماذج الكوسمولوجية عند عرضه على نتائج الرصد والمشاهدة وتحليل الأشعة الخلفية الكونية الأحفورية الميكروية المنتشرة حيث يظهر الخلل واللاتوافق. والحال إن المادة الباريونية الطبيعية أو العادية الناجمة عن تفاعلات النوى الذرية الأولية أو البدئية nucléosynthèses لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من المحتوى الإجمالي للكون المرئي، أما باقي المكونات فعلينا، لكشفها ومعرفتها، اللجوء إلى مفهوم الكثافة الحرجة للكون ، في إطار النسبية العامة لآينشتين، حيث إن إنحناء أو تحدب الزمكان مرتبط بكثافة المادة أو الطاقة، إذ إن الكثافة الحرجة تتساوق مع قيمة الكثافة التي تقود إلى فضاء أو مكان منحني ذو إنحناء معدوم nulle على المستوى الكبير في اللامتناهي في الكبر. والجدير بالذكر إن نتائج التلسكوب الفضائي بلانك أظهرت أن الكثافة الكلية قريبة جداً من مستوى الكثافة الحرجة.
4-
الخواء الكوني

في الكون المرئي، وفي علم الكونيات أو الكوسمولوجيا، وفي الفيزياء النظرية ، هنالك شيء يعرف بــ " الفراغ الكوني" والمقصود به هو الحيز المكاني الموجود بين حشود وتجمعات وعناقيد المجرات ، وبين النجوم والغازات الكونية داخل كل مجرة، وبين الكواكب واقمارها داخل كل نظام شمسي كنظامنا. وهذا الفراغ الكوني يمتد على مسافات واسعة لايمكن تخيلها أو إدراكها فهي تقاس بمليارات السنوات الضوئية ــ أي ما يقطعه الضوء في رحلته لقطع تلك المسافات بسرعة 300000كلم/ثانية ــ . ولكن هل هو فراغ فارغ حقاً؟ بالتأكيد كلا. فهو مليء بأنواع مختلفة من الطاقة، المرئية وغير المرئية، المنظورة أو الداكنة والمعتمة، وكل ذلك هو الذي يكون النسيج الفضائي للكون أي الزمكان الكوني كما سماه آينشتين. وبمكننا تخيله وكأنه قطعة جبن غرويير الفرنسية مليئة بالثقوب التي ترمز للمجرات ، ويمكن استخدام نفس التشبيه للكون المطلق وزمكانه المطلق حيث الثقوب في هذه الجبنة الكونية هي أكوان لاتعد و لاتحصى، لامتناهية العدد، وما كوننا المرئي سوى واحد منها كما تقول نظرية الأوتار الفائقة. الوسيلة التي نقرأ فيها هذا الواقع الكوني هو الضوء رغم محدودية سرعته . الضوء يحمل رسالة تاريخ الكون وقصته ويخبرنا بمحتوياته وأحواله وهيكيليته وبنيته، ولكن بأدوات الرياضيات المعاصرة ومعادلاتها. هل يمكن أن نعثر على اقدم ضوء في الكون؟ نعم يكفي أن نشعل جهاز التلفزيون دون أن نربطه بالكابل أو بالمستقبل الهوائي اللاقط لموجات المحطات التلفزيونية ونختار محطة بذاتها ، فسوف يظهر على الشاشة نمش أسود أو نقاط فضية على خلفية بيضاء ونقاط صغيرة جداً تتراقص على الشاشة وهذا يعني أن اللاقط الهوئي يقصف باستمرار بفوتونات بالمليارات ، وإن بعضها تم بثه قبل حوالي 380000 سنة بعد حدوث الانفجار العظيم البغ بانغ قبل 13.82 مليار سنة. تطير تلك الفوتونات وترحل في الفضاء بكافة الاتجاهات ، وهي التي تكون ما يعرف في الفيزياء وعلم الكونيات بــ "FDS الخلفية الإشعاعية الكونية الأحفورية الماكروية المنتشرة le fond diffus cosmologique، وهي مصدرنا الرئيسي للمعلومات الكوسمولوجية اليوم إلى جانب عمليات الرصد والمشاهدات والتجارب المختبرية ، وبفضلها وصلت إلينا أول صورة فوتوغرافية لطفولة الكون بعد ولادته وتخضع هذه الصورة الآن إلى دراسات وابحاث وتحليلات مكثفة من قبل فرق بحث كثيرة من العلماء بمختلف الاختصاصات، خاصة تلك التي نقلها لنا تلسكوب بلانك الفضائي المتطور جداً. ولقد لوحظ في صورة الكون البدئي أن هناك تباين أو تفاوت في توزع الحرارة التي يفترض أنها متماثلة ومتساوقة ومتساوية في كل أرجاء الكون البدئي وتتراوح درجة الحرارة بين 10-5 و 10-4 كلفن بالنسبة لمتوسط القيمة ويعبر العلماء عن ذلك بــالـ" آنيزوتروبي anisotropies، لهذه الأشعة الخلفية الميكروية الكونية المنتشرة، أي إن بعض مناطق الخريطة الكونية البدئية يبدو أكثر برودة من غيره الذي يبدو اسخن. وبدراسة العلماء لهذه الظاهرة يحاولون معرفة وتحديد خصائص الكون الأولي أو البدئي الوليد. وهناك خلل أو شذوذ آخر أو تشوهات anomalies، لم تتمكن النظريات الكونية النموذجية أو المعيارية الحالية ، تفسيرها كلياً. أهم تلك التشوهات المكتشفة سنة 2004، على خارطة الكون البدئي، هي النقطة الباردة point froid، وهي منطقة في الفضاء تغطي مايعادل 20 مرة قطر القمر كامل البدر ، وهذا يحطم مبدأ التناظر والتماثل symétrie، الذي من المفترض أن تتصف به صورة الكون المرئي البدئي أو الأولي .
كثر اللغط والسجال بين الباحثين والعلماء عن اسباب ذلك الخلل والتشوهات والتباين في درجات الحرارة وتحطم التناظر والتماثل المفترض، وقال بعضهم أن ذلك ناجم عن " الصدفة " في تجمع بعض الفوتونات الباردة بدون سبب محدد ، بيد أن الاحتمالية ضعيفة جداً لكنها غير معدومة أي ليست صفراً . ففي حالة النقطة البادرة فإن إحتمالية أن تكون ناجمة عن الصدفة أو حدثت مصادفة ، هي احتمالية ضعيفة جداًبنسبة 0.5% . وفي نفس الوقت قدمت تفسيرات أخرى إحداها أغرب من الأخرى ، تتراوح بين ، الأسباب التقنية والتكنولوجية، والعطلات في أجهزة القياس والتحليل، إلى الإيحاء بأن تلك المناطق الباردة ربما تكون بوابات نحو أكوان أخرى أو نحو ابعاد كونية أخرى خفية.
في عام 2007، تصدى عدد آخر من العلماء لهذا اللغز واقترحوا فكرة تقول أن النقطة البيضاء يمكن أن تشكل ، لو ثبت وجودها، حيزاً من الفراغ الهائل أو الفائق supervide في منطقة من الفضاء الكوني ، ويقصدون بذلك وجود منطقة واسعة في الفضاء الكوني، مجردة نسبياً من المادة والمجرات. وهي منطقة خاوية ومحاطة بمحيط مليء وكثيف بالمادة والطاقة بكل أنواعها، وبعد دراسة وتفحص عميقين تمكن رهط من العلماء من إثبات حقيقة وجود هذا الفراغ الفائق، وعثروا على مؤشرات تدل على إنه هو الذي وجدوه في صورة الكون البدئي الفوتوغرافية المذهلة في الأشعة الكونية الخلفية الميكروية المنتشرة. فالضوء يتفاعل مع الفراغات البسيطة أو العادية التي ذكرناها في بداية الفصل، في حين أن الفراغ الفائق، هو هائل في سعته وأكبر بكثير من الفراغات الفضائية المألوفة والمرصودة الموجودة بين المجرات والنجوم، فهي موجودة بكثرة في الكون المرئي كما هو حال حشود وأكداس وعناقيد وتجمعات المجرات التي تضم كل واحدة منها آلاف أوملايين المجرات، حيث يقدر عدد المجرات في الكون المرئي اليوم بــ 2000 مليار مجرة . ويعتقد علماء الكونيات أن بذور تلك الفراغات الكونية الشاذة وتلك الحشود والأكداس المجرية ، قد ظهرت بصورة مبكرة في الكون المرئي، عندما أنتجت أو أولدت السيرورات والتقلبات أو الاهتزازات الكمومية أو الكوانتية العشوائية، فائضاً خفيفاً في تكاثف المادة في بعض مناطق الفضاء البدئي ، إلى جانب نقصان طفيف في كثافة المادة في مناطق أخرى. فالكتلة الأكبر للمناطق الفائضة الكثافة في المادة أنتجت بدورها جذب ثقالي attraction gravitationnelle أكبر، وقد جذب له المزيد من المادة على مر الزمن، على حساب مناطق أقل كثافة مادية ، ومن ثم تحولت بعض تلك المناطق الفائقة الكثافة إلى حشود وعناقيد وآماسات أو أكوام amas مجرية ، بينما غدت الثانية الناقصة الكثافة المادية ، فراغات فضائية .
ولفهم تأثير هذه الفراغات القليلة المادة ، على الضوء الذي يخترقها، يتعين علينا أن نتخيل مسار الفوتونات داخلها وخارجها فهي، رغم سرعتها الثابتة، وهي سرعة الضوء، تخسر أو تكسب الطاقة، كلما تقدمت أو حادت في طريقها، الأمر الذي تترجم من خلال تنوع في أطوال موجاتها المتناسب مباشرة مع درجات حرارتها. فعندما يلج فوتون فراغ ما، يتسلق المنحدر ويفقد بعض طاقته،بتعبير آخر يبرد أكثر، وفي حالة نزول المنحدر من الجانب الآخر فإن الفوتون يكتسب أو يسترجع طاقته المفقودة ، دون تغيير في سرعته، وبنفس درجة الحرارة.. في حالة أن يكون الكون ساكناً أو في حالة توسع ثابت الإيقاع. والحال أن الأمر ليس كذلك. فمنذ أبحاث إدوين هابل ، صرنا نعلم أن الكون في حالة تمدد وتوسع متسارع ، وبفضل دراسة المستعرات الكبرى السوبر نوفا من نوع Ia آي أ، ــ إنفجار النجوم الخاصة ــ أثبت العلماء أن التوسع الكوني في حالة تسارع مستمر ومتزايد ولقد عزا أغلب علماء الكونيات ذلك التسارع إلى الطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة énergie sombre وهو عنصر أو مكون كوني غير معروف ومجهول الماهية لكنه موجود في كامل الفضاء الكوني ويقوم بوظيفة مضادة للثقالة أو الجاذبية الكونية.
فالتأثير الواضح يبدو بأن فوتونات الأشعة الخلفية الكونية الأحفورية الميكروية المنتشرة ، تفقد من طاقتها عندما تخترق أو تعبر الفراغ. لذا نلاحظ على صورة تلك الخلفية الكونية مناطق أبرد ، في عمق الصورة وفي المناطق ضعيفة الكثافة، وهذه الظاهرة يسميها الفيزيائيون " تأثير ساشس – وولف effet Sachs-Wolfe intégré، المندمج. وهذا التأثير يمكن أن يطبق كذلك على المستعرات الكبرى السوبرنوفا ، ولكن في هذه الحالة الأخيرة، فإن الفوتونات، على العكس، تكتسب طاقة عند عبورها لمناطق واسعة تحتوي على فائض كتلة ، وبالتالي فهي أسخن من غيرها. إن تأثير ساش وولف المندمج effet Sachs-Wolfe intégré عادة ما يكون ضئيل جداً . وحتى في الفراغات الكبرى، يتسبب بتنويعات حرارية أقل من متوسط التقلبات والاهتزازات الكمومية أو الكوانتية للخلفية الأحفورية الميكروية المنتشرة. والحال أن هذه الأخيرة ، الناجمة عن اختلافات طفيفة في الكثافة داخل الكون البدئي الوليد، في لحظة انبثاق الضوء، لا تتغير إلا بنسبة تقل عن واحد من عشرة آلاف. ولكن تم التشخيص بأنه في حالة الفراغ الهائل أو الفائق supervide فإن الاختلاف أو التنوع ، رغم صغره، كاف لإنتاج نقاط باردة. فالعثور على الفراغ الفائق في منطقة النقطة الباردة يسمح بتفسير وجود النقطة الباردة ، ولكن ليس ذلك فقط، فسوف يكون لدينا دليل مختلف عن مشاهدتنا للمستعر الكبير السوبرنوفا ، ولتسارع التوسع الكوني، لأن تأثير ساش وولف لن يكون ملحوظاً إلا في هذه الحالة الأخيرة.
مهمة شاقة:
بدأ العلماء، وما يزالون، يبحثون عن " الفراغ الكبير أو الفائق" ومدى توافقه مع " النقطة الباردة" ، منذ العام 2007. إن رصد مثل هذه البنية الهندسية ــ الجغرافية من الزمكان، في حيز مكاني شاسع جداً، أمر صعب جداً ، إن لم نقل مستحيل في الوقت الحاضر. فأغلب المشاهدات والحسابات الفلكية تعطي صوراً ثنائية الأبعاد للفضاء، وبدون معطيات دقيقة عن المسافات الفعلية الحقيقية التي تفصلنا عن الأجرام والأجسام الفضائية المرصودة. فالمجرات المختارة للمراقبة والمشاهدة والرصد، إما أن تكون متجمعة في سديم أو في حشد مجري ، أو متباعدة جداً فيما بينها على امتداد خط المشاهدة والرصد المعني والمنشود. لذا يتعين على الفلكيين وعلماء الكونيات أن يستحصلوا على معلومات إضافية عن كل مجرة بغية تقدير بعدها الحقيقي عنا، وهي مهمة غاية في الصعوبة ومكلفة جداً . في عام 2007، واستناداً إلى كاتالوغ فضائي للسماء المنظورة، NVSS-NRAO VLA SKY SURVEY، أكتشف العالم رودنك Rudnick وفريقه البحث من جامعة مينيسوتا الأمريكية،منطقة في الفضاء المرصود متطابقة تقريباً مع ّ النقطة الباردة" وتحتوي على عدد أقل بكثيرمن متوسط ما موجود في غيرها من المناطق الفضائية المأهولة بالمجرات.بالرغم من أن الكتالوغ المذكور لا يحتوي على معلومات أو معطيات عن المسافات الخاصة بكل مجرة من المجرات المرصودة، إلا أن العلماء يعرفون أن أغلب مجرات هذا الكاتالوغ بعيدة جداً عنا وبناءاً على ما توفر لديهم من معطيات ومعلومات قدموا فرضية وجود " فراغ فائق" يبعد عنا 11 مليار سنة ضوئية، أي قريب من تخوم الكون المرئي أو المنظور. هناك مشكلة تطرحها هذه الفرضية والمسافة المرتبطة بها لأن الضوء المنطلق منها اخترق وعبر منطقة الفراغ الفائق البعيدة قبل 8 مليار سنة ضوئية ، وليس 11 مليار سنة ضوئية كما تقول الحسابات، لأننا يجب أن نأخذ في الحسبان مضاعفة حجم الكون المرئي بسبب التوسع والتسارع في عملية التوسع ، منذ أن انطلق الضوء من تلك المنطقة نحونا ، وحيث لم تكون الطاقة المعتمة أو الداكنة آنذاك سوى نسبة ضئيلة من مكونات الكون البدئي في تلك المرحلة أو الفترة الغارقة في القدم، لأن الماهية الطاغية على الكون الوليد كانت عبارة عن الإشعاعات غير المرئية ، ومن ثم المادة بتكوينها الأولي ، وبالتالي قليلة التأثير على الديناميكية الكونية، وإن تأثير ساش ــ وولف المندمج من الضعف بمكان بحيث لا يمكنه أن ينتج نقطة باردة.
وبعد ذلك جرت دراسة وتحليل النتائج التي توصل إليها لورنس رودنيك وفريقه،، من خلال الفحص والتحليل الستاتيستيكي الإحصائي من أجل التأكد من صحة أن تكون تلك البنيات المتباينة في الأشعة الخلفية الميكرونية الأحفورية الكونية المنتشرة الصغيرة ( أي المناطق الباردة والساخنة نسبياً، لكنها أقل تطرفاً من درجة حرارة النقطة الباردة) ، تتوافق مع حشود وعناقيد وتجمعات أو آماسات المجرات والفراغات المكتشفة رصدياً في الزمكان الكوني في الكون المرئي.ولقد اتضح أنها كثيرة لكنها ليست بالضرورة تتطابق مع معطيات وبنية النقطة الباردة لكنها تشجع على الاستمرار المثابرة في البحث باتجاه " النقطة الباردة".وفي سنة 2010 تمكن فريق آخر من العلماء من رصد منطقة " فراغ فائق" على المسافة الكونية المفترضة وهي 11 مليار سنة ضوئية ، وأخرى تبعد عنا بمسافة 3 مليار سنة ضوئية أكتشفت سنة 2015.
وأخيراً تمكن فريق من العلماء من إثبات حقيقة وجود " الفراغ الفائق" ذو الكثافة المنخفضة في المادة يقع باتجاه " النقطة الباردة" وهذا الفراغ الفائق يقدر نصف قطره بــ 1.8 مليار سنة ضوئية وتقول النظريات الكوسمولوجية بوجود أعداد أخرى من هذه الفراغات الفائقة موزعة في أرجاء الكون المرئي . وقد يتساوق الفراغ الفائق مع النقطة الباردة ولكن ليس بالضرورة يتطابقان أو يربطهما قانون السبب والنتيجة . بالرغم من وجود هذا الفراغ الفائق المكتشف على نفط خط النقطة الباردة لكنه لا يمتلك الحجم اللازم أو المطلوب بغية معرفة درجة حرارة النقطة الباردة والتي هي أقل بكثير من متوسط درجة حرارة الأشعة الأحفورية الخلفية الميكروية الكونية المنتشرة، فمن المفترض أن يكون الفراغ الفائق أكبر بكثير من الحسابات المتوفرة عنه والذي يجب أن يكون ضعف حجمه أو أكبر منه بأربع مرات على الأقل. وربما توجد فرضيات أخرى من قبيل أن المجرات تبث إشعاعات اقل في الفضاء مما نفترض وهو السبب الذي أوجد ذلك الخلل أو التفاوت في التوزيع الحراري داخل صورة الخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة الأمر الذي من شأنه أن يقلد ظاهرة تأثير ساش ــ وولف المندمج .لذلك فإن اكتشاف الفراغ الفائق ذو الحجم المطلوب مهم وحاسم في فهم الكون على مستوى أعمق مما هو عليه اليوم .
5-
ما بعد حدود الأفق الكوني للكون المرئي:
عندما يندفع الكون بقوة دون معرفة الأسباب والدوافع والغايات يلجأ الجميع للفرضيات الأكثر غرابة وصعوبة لتفسير الظواهر الكونية وعلى رأسها التضخم الفوري الهائل ، ولم يكن بيد العلماء سوى فرضية واحدة حالياً هي الطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة l’énergie sombre، ذات القوة النابذة أو الطاردة المضادة للثقالة أو الجاذبية الكونية باستثناء العالم الفرنسي جون بيير بتي صاحب فرضية الطاقة السالبة التي تولدت إثر التفاعل بين المادة والمادة المضادة منذ بدايات الكون المرئي البدئي والتي تحتاج إلى كتاب كامل لوحدها لشرحها وهو صاحب النموذج الكوسمولوجي البديل للنموذج المعياري السائد.
هناك حقيقية علمية لاتقبل النقاش اليوم وهي أن الكون المرئي في حالة توسع، وهناك تسارع في عملية التوسع وتعزى، إما للطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة ، أو لثقالة كونية خفية أخرى هائلة غير تلك التي نعرفها والتي تعرف بــ الثقالة العملاقة gravitation massif.
عندما ننظر إلى السماء في ليلة صافية ونتأمل في هذا الفضاء الشاسع الممتد أمام أعيننا، قد يفكر البعض بالسؤال التالي: ماهي المسافات التي تفصل بين النجوم. ولقد طرح الفلاسفة والحكماء والعلماء القدماء في العصر الإغريقي هذا التساؤل . ففي القرن الثالث قبل الميلاد حاول الفيلسوف الإغريقي آريستارك دو ساموس Aristarque de Samos تقدير المسافة التي تفصلنا عن الشمس بالرغم من افتقاده لأجهزة الرصد والقياس التي نمتلكها نحن اليوم. وكانت بداية مشجعة لأنه لم يخطيء إلا بنسبة 20% . تطورت تقنيات القياس على مر القرون، خاصة التلسكوبات الحديثة، الأرضية والفضائية، مما وسع من دائرة الرصد والمراقبة والمشاهدة إلى حدود الأفق الكوني ومن ثم اثبتت التقنيات الهندسية الجيوميترية جدارتها في هذا المضمارلكنها توقفت عند حدود معينة لم تقدر أن تتخطاها. يلجأ العلماء اليوم ، لمعرفة طرق البحث في الكون المرئي، إلى ما يعرف بالسفييد Céphéides، وهي نجوم ذات سطوع ونصوع أو توهج متنوع ومتغير luminosité variable، أو إلى المستعرات من نوع آي أ Ia أي السوبرنوفا ، بغية رسم خارطة كونية دقيقة تبين بنية وهيكيلية وهندسة وشكل الكون المرئي على نحو مجسم، خاصة عن طريق المحاكاة الحاسوبية الكومبيوترية.
وبالجمع بين المشاهدة الدقيقة والرصد للضوء الذي تبثه المجرات البعيدة، مع قياسات المسافات ، اكتشف علماء الكونيات أو الكوسمولوجيين أن الكون في حالة توسع حيث تبدو المجرات وكأنها تتباعد عن بعضها البعض ذلك لأن الزمكان الذي يحتويها هو الذي يتمدد وليست هي التي تتحرك وتتباعد. وبفضل مراقبة ورصد المستعرات الكبرى السوبرنوفا وتحليل أطيافها، اثبت العلماء أن عملية التوسع الكوني تتسارع أكثر فأكثر. ولكي نفهم ذلك علينا أن نتموضع داخل الوصف الهندسي المجسم للكون المرئي الذي طوره علماء الفيزياء النظرية . فالنموذج المعياري الكوسمولوجي السائد اليوم هو نموذج الانفجار العظيم البغ بانغ الذي يصف الخطوط العريضة لتاريخ الكون المرئي ويستند في ذلك إلى نظرية النسبية العامة لآينشتين التي نشرها قبل أكثر من قرن فلقد وصفت نظريته قوة الثقالة أو الجاذبية على نحو جيومتري أو هندسي داخل نسيج زمكاني منحني أو محدب، وبتعبير آخر إن حركة الجسم في حالة السقوط الحر بفعل الجاذبية أو الجذب الثقالي attraction gravitationnelle ، كما نصت عليه نظرية نيوتن، فسرته نسبية آينشتين العامة على إنه مسار يتبع أقصر الطرق في زمكان منحني أو محدب . فهندسة الزمكان هي التي تحدد مسارات الأجسام والأجرام السماوية وبالمقابل فإن المحتوى المادي للكون المرئي يشوه الزمكان déforme l’espace-temps، لذا فإن هندسة الزمكان والمحتوى المادي مرتبطان عضوياً وكلياً في المعادلات الرياضية للنسبية العامة كما صاغها آينشتين.
لنتخيل الطاقة المعتمة أو الداكنة l’énergie sombre ونسلط عليها الضوء مجازياً. كي نحاول تفسير التسارع في التوسع الكوني. فافتراض وجود مثل هذه الطاقة المجهولة الماهية، والتي يمكن للمشاهدات الفلكية أن تحدد بعض ملامحها أو خصائصها الافتراضية، هو أحد التفاسير الممكنة المتوفرة بين أيدي العلماء. إلى جانب طاقة الفراغ l’énergie du Vide وعلاقتها بالطاقة الداكنة أو المعتمة ، والتعديلات اللازمة في قوانين الثقالة أو الجاذبية على المستويات العليا الكبيرة.
قبل التطرق إلى طبيعة وماهية الطاقة الداكنة أو المعتمة، لنراجع كيف اضطر علماء الكونيات والفيزياء النظرية إلى طرح هذه الفكرة الافتراضية وقدروا كميتها ووفرتها في الكون المرئي حيث إن كل وجود جوهري لشيء يؤثر على الخصائص الهندسية الجيوميترية للزمكان الآينشتيني ، والحال إن تحليل الأشعة الخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة يشير إلى أن الكون المرئي يتبع هندسة إقليدية في المستويات العليا الكبيرة جداً ومثل هذه الخاصية لن تكون ممكنة إلا إذا اتخذ المحتوى الكوني معدل كثافة متوسط للطاقة يسمى الطاقة الحرجة énergie critique. بعد دراسات وحسابات مستفيضة توصل العلماء إلى أن محتوى المادة الطبيعية العادية في الكون المرئي ، والمعروفة بالمادة الباريونية، التي تتألف منها المجرات والنجوم والكواكب، ومن دراسة تشكل نوى الذرات الخفيفة في الدقائق الأولى للكون ، تبين أن نسبة المحتوى المادى في الكون لا تتجاوز الـ 5%، من كثافة الطاقة الحرجة، وبالتالي فإن 95% من محتوى الكون مايزال مجهولاً لدينا، وهو موجود على شكل غير معروف. ويظهر هذا المحتوى الغامض والمجهول عندنا على نحو غير مباشر من خلال تأثيره الثقالي على المادة الباريونية. ويقسم الفيزيائيون وعلماء الكونيات هذا المحتوى الغريب والخفي اليوم، على نحو تقريبي، على الشكل التالي : 25%، من المادة السوداء أو المظلمة، و 70%، من الطاقة المعتمة أو الداكنة.
تم تأكيد وجود المادة السوداء أو المظلمة عندما تمت المقارنة بين كمية المادة الباريونية الموجودة في بعض المجرات مع كمية المادة الضرورية اللازمة لشرح الحركات الناجمة عن القوى الثقالية في نفس تلك المجرات، واتضح إن كمية المادة العادية الباريونية غير كافية لتوضيح وتفسير وشرح تلك الحركات ، لذا اتفق العلماء حول ضرورة وجود شكل جديد آخر من المادة بخصائص ثقالية مماثلة للمادة العادية ، لأنها لا تتفاعل مع المادة العادية وسموها لغرابتها وتعذر رؤيتها، بالمادة السوداء أو المظلمة. إن القوة التي تمارسها المادة السوداء أو المظلمة هي قوة جاذبة وتقوم بكبح الحركات لجسمين حرين ومتحررين من أية قوة أخرى غير الثقالة أو الجاذبية، وتمنعهما من الابتعاد عن بعضهما. ويفترض أن المادة السوداء أو المظلمة مكونة من جسيمات ، تحاول تجارب مختبرية عديدة في مسرعات ومصادمات الجسيمات أن تكتشفها وترصدها بغية معرفة طبيعتها وماهيتها. لكن ما يهمنا إلى جانب ذلك هو الطاقة المعتمة أو الداكنة وخصائصها الثقالية وهي مغايرة ومعاكسة، أي طاردة ونابذة وتم طرح فكرة وجودها عندما حاولنا قياس وحساب التغيرات في سرعة توسع الكون في سنوات التسعينات من القرن الماضي، القرن العشرين.
أكتشفت حركية الكون على المستوى المجري والنجمي في سنوات العشرينات من القرن المنصرم عند ملاحظة الطيف الضوئي القادم من المجرات البعيدة وهو ينحو نحو الأحمر بصورة منتظمة حسب ظاهرة تأثير دوبلر والتي تقول إن طول موجة إشارة صوتية أو كهرومغناطيسية تتمدد عندما يبتعد المصدر الباعث لها عن المتلقي وهذا ما اكتشفه عالم الفيزياء والفلك إدوين هابل وصاغه في قانون حمل إسمه وهو قانون هابل loi de Hubble بين سرعة هروب المجرات والمسافات بينها، فجسم سماوي تكون مسافة بعده ضعف مسافة غيره، يبتعد بسرعة مضاعفة عن سرعة الآخر ، وفي إطار النسبية العامة لآينشتين ترجم هذا القانون عند تطبيقه على الكون المرئي بأن هذا الأخير في حالة توسع وتمدد، فالفضاء الذي يحتوي المجرات هو الذي يتمدد ويتوسع وليس المجرات هي التي تتحرك متباعدة مما يولد انطباعاً بأن الأجسام فوقه هي التي تتحرك كما هو حال بالون ينفخ وعلى سطحه نقاط تمثل المجرات، فهي تكون متقاربة بين بعضها البعض قبل النفخ لكنها تبدو متباعدة عندما ينفخ البالون . وبعد حسابات دقيقة ومثابرة تم تحديد معامل ثابت هابل le coefficient de la constante de Hubble وبدقة اختلاف تقدر بــ 1% وقدر بــ 21 كلم في الثانية لكل مليون سنة ضوئية . وهكذا فإن مجرة تبعد 100 مليون سنة ضوئية يحملها التوسع الكوني بعيداً عنا بسرعة 2100 كلم في الثانية أي ما يساوي 8 مليون كلم في الساعة.ولو قمنا بعملية القياس في أي مكان في الكون المرئي ومن أية مجرة غير مجرتنا فإننا من حيث المبدأ ، سنحصل على نفس النتيجة الحسابية نظراً لثبات ومحدودية سرعة الضوء. ولكن لو أجريت التجربة في الماضي السحيق فسوف نحصل على نتيجة تختلف عما هي عليه في الوقت الحاضر، فالثابت يمكن أن يتغير مع مرور الوقت ، وذلك حسب تنوع مقاسات وحسابات التسارع والتباطؤ . فلغاية عام 1998 كان الإجماع لدى العلماء أن التوسع يجب أن يتباطأ مع الزمن ، فالمادة الطبيعية العادية الباريونية والمادة السوداء أو المظلمة يعارضان ويكبحان التوسع . ولكن في نهاية سنوات التسعينات قام فريقان من العلماء، الأول برئاسة سيئول بيرلميوتر Saul Perlmutter من مختبر بيركلي الأمريكي ، والآخر بقيادة بريان شميد Brian Schmidt وآدم ريس Adam Riess من جامعتي كامبيرا الأسترالية وبيركلي الأمريكية في كاليفورنيا، بحساب تنوعات وتغيرات سرعة التوسع الكوني بين اليوم وبضعة مليارات من السنين في الماضي، ولقد فاز هؤلاء العلماء بجائزة نوبل للفيزياء سنة 2011 عن ابحاثهم تلك التي تمحورت حول قياس مسافة وسرعة هروب المستعر الكبير من نوع آي أ supernovae de type Iaونشروا نتائج تجاربهم وأبحاثهم سنة 1998 وكانت مدهشة فلقد تبين أن التوسع في حالة تسارع وليس في حالة تباطؤ كما كانوا يعتقدون ولقد بدأت هذه الظاهر في مرحلة شباب الكون قبل 7 مليار سنة تقريباً .
لم يكن العلماء يتوقعون هذه النتيجة ، ولكن يمكن التكهن بها في إطار معادلات النسبية العامة ، فيكفي إعطاء قيمة للثابت الكوني أكبر من الصفر أو قيمة غير معدومة non nulle، وكلنا يتذكر أن الثابت الكوني ألحقه آينشتين بمعادلات النسبية العامة قبل اكتشاف حقيقة التوسع والتمدد الكوني، لكي تتناسب معادلاته مع صيغة الكون الثابت المستقر statique. وبذلك يكفي تعديل القيمة المعطاة لهذا الثابت الكوني لمعادلة ومواجهة التأثير الجاذب للمادة. إن مبادرة آينشتين بإضافته الثابت الكوني لمعادلاته هو المعادل الرياضياتي لإضافة محتوى ومكون جديد للكون ولكن بخصائص تختلف تماماً عن خصائص المادة العادية . فلهذا المكون المضاف للمحتوى الكوني كثافة طاقة ثابتة خلال التاريخ الكوني في حين أن كثافة الطاقة للمادة العادية تنقص بالتناسب مع معدل التوسع الكوني أو تمدد الزمكان ( علماً بأن الكمية الأساسية الأصلية من المادة العادية الموجودة في الكون المرئي تبقى ثابتة ، حسب قانون حفظ المادة والطاقة، في حين أن الحجم الذي يحتويها هو الذي يتغير ويزداد ) . والحال إن كثافة الطاقة المرتبطة بالثابت الكوني لا تتغير ، ما يعني أنه في حجم كون في حالة تمدد بفعل التوسع الكوني هناك خلق دائم ومستمر للطاقة. من الخصائص الغريبة المرفقة بالثابت الكوني هو جاذبيته النابذة أو النافرة أو الطاردة أو السالبة، فالضغط يحدد بأنه قوة تمارس على سطح ما، على سبيل المثال الضغط الحركي cinétique لسائل يعزى لتصادم جزيئاته على جدران الإناء الذي يحتويه والسائل يمارس ضغطاً على الجوانب ويكون ضغطاً موجباً. أما الضغط السالب فيمكن أن ينجم عن مصدر خارجي يضغط على سطح الجدران الخارجية للإناء نحو الداخل ضد السائل شريطة أن يكون اقوى من ضغط السائل على جدران الإناء الداخلية ، عند ذلك يتولد ضغط سالب . كيف يؤثر ضغط إحدى المكونات الكونية على ديناميكية الكون؟ الضغط الموجب للمادة العادية يفسر كفائض طاقة حركية cinétique يضاف إلى محصلة كثافة طاقة الكون الكلية ، وبالتالي سيعمل هذا الفائض من الطاقة على كبح التوسع وإبطاءه ، بالمقابل عندما يكون هناك ضغط سالب كذلك المرتبط مع الثابت الكوني، فإن مساهمته أو تاثيره سيكون معاكساً أو عكسياً أي سيخلق نوع من القوة الطاردة أو النابذة répulsive سيعمل على زيادة سرعة التوسع الكوني بدلاً من كبحه.
وهكذا فإن الثابت الكوني بصيغته الجديدة مقرون بضغط سالب وكثافة طاقة ثابتة ، قدرت قيمتها بفضل المشاهدات والرصد الفلكي ، ووجد أنها ضعيفة جداً. فالطاقة الموجودة في حجم يعادل حجم مسبح أولمبي ، يمكن أن يغذي مصباح بقوة وات واحد لمدة تقل عن واحد من مليون من الثانية. وحسب هذه المعطيات بدأ العلماء يفكرون بطبيعة الطاقة السوداء أو المظلمة أو المعتمة أو الداكنة . وعن ذلك نجمت إمكانية جديدة بالطبع في إطار نظرية الحقول الكمومية أو الكوانتية La théorie quantique des champs التي تصف التفاعلات الجوهرية وذلك بالجمع بين مفهوم الحقل ، كالحقل الكهرومغناطيسي، وقواعد الفيزياء الكمومية أو الكوانتية . وبذلك فإن النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات الأولية تمت صياغته في إطار نظرية الحقول الكمومية أو الكوانتية، وتم اختباره في مسرعات ومصادمات الجسيمات ، خاصة مسرع ومصادم الجسيمات العملاق LHC، التابع لوكالة الفضاء الأوروبية سيرن CERN حيث تطابقت كلياً ، وبدقة متناهية، نتائج المشاهدات والرصد مع الحسابات النظرية للنموذج المعياري. وفي إطار نظرية الحقول الكمومية أو الكوانتية كذلك، يظهر جلياً بأنه حتى في حالة غياب المادة، فإن أي حجم في الكون يجب أن يحتوي على طاقة ما،وهي التي تسمى "بطاقة الفراغ" ، وبضغط يتوافق ويتساوق مع خصائص الثابت الكوني الجديد . ولكن من أين تأتي طاقة الفراغ المشار إليها؟ حسب مبدأ الريبة او عدم اليقين أو اللادقة لهيزنبيرغ ، تأتي من زوجي الجسيمات والجسيمات المضادة التي تولد وتختفي فوراً عند فني إحداها للأخرى، مولدة طاقة، وذلك بلا توقف وفي كافة أرجاء الفضاء، ومن الممكن حساب القيمة الذاتية الخصوصية المقترنة بمجمل تلك الجسيمات الإفتراضية ، كقيم الدوران الذاتي المغزلي حول المحور أو السبين spin ، والاستقطاب والطاقة ، وهذه القيمة هي بالمعدل المتوسط تعادل صفر أو معدومة تقريباً فيما عدا الطاقة التي لاتتحلل مع التوسع الكوني لأنها مرتبطة بالفراغ.
يمكن لفرضية " طاقة الفراغ" أن تحل مسألة طبيعة " الطاقة المعتمة أو الداكنة " إلا أن القيمة العددية التي نحسبها لكثافة طاقة الفراغ ، وتلك المعطاة للطاقة المعتمة أو الداكنة في الكوسمولوجيا، لا تتطابقان ولا تتوافقان. هناك تقدير بسيط يشير إلى أن طاقة الفراغ في حيز مكاني يعادل حجم مسبح أولمبي، من شأنها أن تكفي احتياجات البشرية لمدة 1097 سنوات وهذه النتيجة تفوق 120 قيمة عددية حجمية أو قيمة التسلسل الحجمي ordres de grandeur لما هو ضروري من أجل التوافق والتطابق مع نتيجة الأرصاد والمشاهدات الكوسمولوجية. فكيف يمكن حل هذه الإشكالية؟ في الحقيقة لم يتوصل العلماء بعد إلى حساب قيمة طاقة الفراغ على نحو صارم وحاسم، في إطار نظرية الحقول الكمومية أو الكوانتية. بالمقابل، يمكن الحصول على قيمة تتوافق مع المشاهدات الكوسمولوجية من خلال تعديل بعض القيم والمعايير أو الإعدادات paramètres، ولكن لا يوجد مبدأ معروف يمكن أن يبرر ما يبدو كأنه عملية سحرية أو حيلة تتطلب تعديلاً قسرياً دقيقاً جداً لبعض الإعدادات ( لأكثر من 120 قسمة عشرية، 120 décimales، وهذا هو ما يعرف بالمشكلة الأولى المتعلقة بالثابت الكوني أو الكوسمولوجي le constante cosmologique. المشكلة الثانية تبرز عندما نشخص أن الثابت الكوسمولوجي في الكون المرئي اليوم هو في نفس سياق المادة ( العادية والسوداء أو المظلمة )، في حين أن العلاقة لهذين الكثافتين للطاقة تغيرت على مدى تاريخ الكون المرئي. يبدو إذن أن البشرية ظهرت في لحظة محددة من تاريخ الكون المرئي، وهي التي تقاربت فيها كثافتي الطاقة . حرص بعض الباحثين على تفسير هذه " المصادفة الكونية " والتي تترجم أيضاً حقيقة بأن التسارع الكوني لم يبدأ إلا مؤخراً في تاريخ الكون المرئي. هنالك عدة مقاربات لحل الإشكاليات التي يثيرها الثابت الكوسمولوجي لكن أياً منها لم تحظ بالإجماع بعد. المشكلة الأولى أعلنت حتى قبل اكتشاف تسارع التمدد الكوني في وقت كان التركيز العلمي يجري حول معرفة تباطؤ التوسع الكوني وليس تسارعه وبثابت كوني معدوم nulle أي قيمته صفر، وبالتالي تكون كثافة طاقة الفراغ المحسوبة هي الأخرى عديمة الوجود صفراً nulle، مما يناقض التقديرات المشار إليها أعلاه . ولمعالجة ذلك الخلل، أدخلت فكرة التماثل أو التناظر الجديد في نظرية الحقول الكمومية أو الكوانتية، التي تفرض أن تكون القيمة تافهة أو عقيمة وعديمة الوجود nulle، دون الحاجة لإجراء تعديلات مصطنعة . ولو وجد مثل هذا التناظر أو التماثل الجديد، فهو سيقود حتماً إلى قيمة ضعيفة تكفي لشرح وتفسير التوسع المتسارع للكون المرئي. ويكفي القول أن التناظر أو التماثل كسر وحطم في الكون. وهذا التماثل أو التناظر هو الرديف للتناظر أو التماثل الفائق supersymétrie، الذي ينص على أن كل جسيم أولي particule في النموذج المعياري يقابله جسيم فائق super particule هو بمثابة شريك فائق super partenaire له نفس الكتلة ولكن بسبين spine، دوران مغزلي أو برم ذاتي مختلف، ودورهما في طاقة الفراغ ينتفي لأنهما يفنيان بعضهما، وهكذا تكون طاقة الفراغ الكلية هي الأخرى تافهة أو معدومة أقرب إلى الصفر . ولكن للأسف لايبدو الكون المرئي في حالة تناظر وتماثل فائق supersymétrique، فلا يوجد للإلكترون مثلاً شريك فائق super partenaire وبنفس الكتلة ، فلو وجد التماثل الفائق فهو بالضرورة سيتحطم ويكون للجسيمات الفائقة الشريكة كتلة عالية . والحال أن درجة التكسير أو التهشيم المطلوبة في فيزياء الجسيمات مهمة جداً لحل مشكلة طاقة الفراغ. وتجدر الإشارة إلى أن التماثل الفائق المهشم أو المكسور brisée يمكن أن يمنحنا حلاً لمشكلة المادة السوداء أو المظلمة. وبما أن الفيزيائيين التنظيريين لم يفلحوا في حل المشكلات التي يطرحها الثابت الكوني الكوسمولوجي ، مع إشارة المشاهدات والرصد لقيمة ليست معدومة لهذا الثابت، لجأ العلماء إلى طرق أخرى، رغم كونها سبق استكشافها، للبحث عن مكونات مادية أخرى تقف وراء التوسع الكوني المتسارع. وتسمى تلك المادة الغريبة المفترضة كوانتيسونس quintessence ، المادة الجوهرية أو المادة اللبابية أو العنصر الخامس غير المعروف للمادة المألوفة العادية الخ.. مثل وجود حقل رقمي H أوالحقل العددي champ scalaire، أي الذي برمه الذاتي المغزلي حول نفسه معدوم أو صفر مثل حقل هيغز المرتبط ببوزونات هيغز ، الذي من شأنه ، افتراضياً ، أن يقود إلى حالة توسع كوني متسارع.
ماهو العنصر الخامس أو المادة الجوهرية المجهولة quintessence ؟
حين أقترحت هذه الفرضية تصدى عدد من العماء لتقديم نماذج تتطابق مع نتائج الرصد والمشاهدة الفلكية، إلا أن التطور الزمني لهذه المادة الجوهرية يختلف ولو على نحو طفيف مع الثابت الكوني الجديد أو الثابت الكوسمولوجي كما يفضل تسميته بعض العلماء لتمييزه عن الثابت الكوني الآينشتيني في بدايات القرن المنصرم. هناك عامل مهم يجب قياسه بدقة متناهية ألا وهو العلاقة بين كثافة الطاقة المعتمة أو الداكنة ، وضغطها ( بوحدات قياس أختيرت بدقة لكي تجعل العلاقة adimensionnel ذات بعد واحد) ويسمى هذا العامل بــ ( معلمة حالة الطاقة المظلمة أو الداكنة أو المعتمة paramètre d etat de de l énergie sombre) ويشار له بالحرب w وهو يساوي -1 لنموذج المادة الجوهرية quintessence.وعندما يغدو الأمر على هذا النحو فإن كثافة الطاقة المرتبطة به ليست ثابتة بل تتغير على طول التاريخ الكوني، وإن هذا التنوع والتغيير على مر الزمن هو الذي يريد أن يثبته العلماء ويجعلون منه بديهية. إن نموذج الــ quintessence، لايشرح أو يفسر المشكلة الأولى للثابت الكوزمولوجي الجديد ، لكنه يمكن أن يلقي بعض الضوء على المشكلة الثانية من خلال التزاوج بين الحقل العددي والمادة العادية أو السوداء مما سيوضح بأن كثافة طاقة الــ quintessence، والمادة هي ضمن نفس نطاق نظام ومستوى سلم القيم من حيث الحجم اليوم. وبفضل مثل هذا التزاوج فإن كثافة الطاقة للـ quintessence تكون مترابطة مع المادة على مدى انسياب التاريخ الكوني.
هنالك طريق آخر لا يقل جرأة وثورية من شأنه أن يحل المشكلتين في آن واحد وهو المقاربة الأنثروبية anthropique التي اقترحها عالم الفيزياء الشهير الحائز على جائزة نوبل عام 1979 وهو ستيفن وينبيرغ Steven Weinberg، وتفترض مقاربته أن قيمة الثابت الكوني أو الكوزمولوجي ثبتت على نحو حر في بداية تاريخ الكون. وإن قيمته قد تختلف وتتباين في أكوان أخرى متوازية أو متداخلة أو متشابكة كما تقول بذلك نظريات تعدد الأكوان في نظرية الأوتار الفائقة أو نظرية الكون التضخمي الدائم أو الأكوان الفقاعات المتجاورة . فهناك عدد ممكن من الأكوان المماثلة والمغايرة لكوننا المرئي، وحدها التي تمتلك ثات كوني له قيمة تساوي قيمته في كوننا المرئي، أو قريبة منه ، يمكنها أن تحتضن ظهور الحياة فيها وتضمن تطورها لكنها ليست بالضرورة نوع الحياة التي في كوننا المرئي، وإن التسارع في كوننا المرئي بدأ في وقت محدد لكي يوفر الوقت اللازم لنشوء البنيات والهيكيليات التي أدت إلى تكون النجوم والمجرات والكواكب وأن تكون هذه الأخيرة غنية بالمواد والعناصر الكيميائية المركبة لكي تتفاعل، ولو حدث خلاف ذلك، لما كان يمكن للحياة التي نعرفها في كوننا المرئي أن تظهر في أي من الأكوان الأخرى، وبما أننا موجودون ونناقش هذه المسألة، فهذا يعني إن أحد تلك الأكوان المتعددة تمكن من إيجاد القيمة اللازمة للثابت الكوني ، وهو كوننا المرئي، وهي القيمة التي تقارب الصفر لكنها ليست معدومة كلياً non nulle.
المقصود بالمقاربة الأنثروبية هو أن الحياة تعتمد كلياً على القيمة المعطاة للثابت الكوني. هذا ما أكده ستيفن وينبيرغ في مقاله الذي نشره عام 1987. وفي هذا المقال أعرب وينبيرغ عن أمله في تقديم القيمة اللازمة للثابت الكوني وتبيان تأثيرها المباشر على مجمل المراحل التي أدت إلى نشوء الحياة في الكون المرئي . وبدلاً من الحديث عن الحياة ، تحدث وينبيرغ في مقاله عن تأثير الثابت الكوني على ظهور أو عدم تشكل المجرات ، أي النجوم التي هي الأساس في نشوء الحياة، فبدون مجرات لاتوجد نجوم وبدون نجوم لا توجد كواكب وبدون كواكب لا وجود للحياة . وكانت مقاربة معقولة ومقبولة ومفيدة جداً للخروج من المأزق. فلقد جلبت الأنظار لتأثير قيمة الثبت الكوني أو الكوسمولوجي على تشكل المجرات وهي مشكلة بوسع وينبيرغ حلها. فالكل يعرف أن الأمر يبدأ بكرة نارية هائلة من الغازات والأغبرة ووالسحب الكونية ككرة الثلج المتدحرجة والتي تكبر كلما تدحرجت ، ولكن على المستوى الكوني، عندها سيتشكل ركام أو آماس أو تراكم من المادة الهائجة هنا وهناك، لديها كثافة أكبر مما يوجد حولها عندها سوف تمارس جذب ثقالي أقوى على المادة المحيطة وتضمها تدريجياً وتكبر معها، وباستمرار العملية تتكون كتلة إعصارية دائرة من الغاز الكوني والأغبرة الكثيفة التي يتكون منها النجوم والكواكب الغازية والصخرية الصلدة. الذي أدركه وينبيرغ هو أن ثابتاً كونياً مع قيمة مرتفعة يمكنه أن يوقف هذه العملية التراكمية ويجهضها في المهد لأن القيمة العالية للثابت الكوني يصحبها قوة جذب طاردة أو نابذة ، ولو كانت هذه الأخيرة كبيرة سيكون بوسعها منع تشكل المجرات ولن تتمكن من جذب المواد المحيط الأخف والأقل كتلة . اشتغل وينبيرغ على الرياضيات اللازمة والمرتبطة بهذه الفرضية ووجد إن ثابتاً كونياً أعلى من كثافة المادة الحالية ، أي بضعة بروتونات في المتر المكعب الواحد، كافية لبث الاضطراب والخلل في عملية تشكل المجرات، كما أخذ بالاعتبار تأثير الثابت الكوني السالب، فالتبعات في هذه الحالة تكون أكثر شدة وقساوة لأن القيمة السالب تزيد من جذب الثقالة وتعمل على انهيار الكون على نفسه حتى قبل أن تشتعل النجوم الوليدة وتبدأ تفاعلاتها النووية. من هنا تصور وينبيرغ بنية كونية أوسع بكثير من بنية وحجم كوننا المرئي ، تتكون من عدد هائل من الأكوان وإن قيمة الثابت الكوني في كل منها يختلف أو يتساوى مع ثابت كوننا المرئي، أي تنوع في القيم للثوابت الكونية في الأكوان المتعددة، مثل تعدد وتنووع المدارات التي تمتلكها الكواكب الدائرة حول الشمس. الوحيد من بينها هو الذي تصل فيه قيمة الثابت الكوني إلى الحد الذي افترضه وينبيرغ والذي هو حسب وحدات قياس بلانك حوالي 10-121، وهي قيمة ضئيلة جداً لكنها أكبر من صفر. علماً إن عدد الأكوان المفترضة نظرياً هو 10500 أو 10600، وهو رقم لايمكن تخيله أو التعامل معه حتى مع أقوى الكومبيوترات العملاقة الموجودة حالياً بين أيدي البشر .
منذ انتشار مقاربة ستيفن وينبيرغ ، قامت بعض النظريات الكونية مثل نظرية الأوتار الفائقة، وبعض نظريات التضخم الكوني الدائم ، رسخت وعززت هذا التفسير الأنثروبي موفرة إطاراً نظرياً لتوضيح تأثير الثابت الكوني أو الكوسمولوجي الجديد وشاء حظنا أن يربح كوننا المرئي القيمة الملائمة لثابته الكوني ، وإن التراكيب المتنوعة والمتعددة للثوابت ، يوفر عدد كبير من الإمكانيات فكل تركيبة تقود إلى تشكل كون كامل برمته ذو خصائص خاصة به تختلف عن غيره أو تتشابه معها ، ما يعني أن هناك أكوان توأم لكوننا تسبح في الكون المطلق اللانهائي . كما يمكن دمج نموذج الكون التضخمي الدائم مع معطيات نظرية الأوتار الفائقة وينتج عن هذا السيناريو تولد عدد لامتناهي من الفقاعات ــ الأكوان ــ حيث تنتج نماذج كونية لكل فقاعة، ونماذج كونية أخرى جراء تصادم الفقاعات ــ الأكوان ، ولكل واحد منها إعداداته وخصائصة المرتبطة به مثلما له ثوابته الخاصة، بل وقوانينه الخاصة، فمنها ما هو عقيم، ومنها ما هو حي أو متخم بالحياة، لكنها ليست بالضرورة حياة مبنية على نفس الأسس والمكونات التي تكون حياتنا في كوننا المرئي. مهما كانت جاذبية وفتنة وسحر وأناقة هذا الطرح إلا أنه لا يحظى بإجماع العلماء فهناك من يقف ضده بقوة ويصفه باللاعلمية لأنه غير قابل للاختبار التجريبي وغير خاضع للمشاهدة والرصد ــ في الوقت الحاضر بسبب تخلف أدواتنا وتكنولوجيتنا ـــ الأمر يزداد صعوبة عندما نتحدث عن تغيير قوانين الطبيعة الجوهرية الأربعة التي تسير كوننا المرئي ، وهي الجاذبية أو الثقالة ، والكهرومغناطيسية، والنووية الشديدة أو القوية ، والنووية الضعيفة. والحال أنه لايمكن لأحد في مثل هذه النماذج الكونية أن يحسب الاحتمالات، لا سيما احتمالية ظهور الحياة عند دراسة مجمل النماذج الكونية المتعددة . وهل هناك نسبية عامة تصف جاذبية الأكوان الأخرى، أي هل هناك آينشتين آخر في كل كون؟ فربما تتبع الثقالة أو الجاذبية الكونية في الأكوان الأخرى الموازية أو المجاورة أو المتداخلة أو المتشابكة أو المتباعدة، طريقاً آخر وقوانين أخرى.
هناك نموذج آخر مغاير يعرف بإسم نموذج د ج ب modèle DGP، وهي الحروف الأولى لأسماء العلماء الذين قدموه، وهم جيا دوفالي Gia Duvali، وغريغوري غاباداز Gregory Gabadadze، و ماسيمو بوراتي Massimo Porrati، وهو نموذج يعدل في قوانين الجاذبية أو الثقالة الكونية التي أرساها نيوتن وآينشتين. وهؤلاء العلماء الثلاثة أساتذة وباحثون في جامعة نيويورك، ولقد اضافو في نموذجهم الكوني بعداً مكانياً آخر للأبعاد المكانية الثلاثة المعروفة إلى جانب البعد الرابع ألا وهو الزمن ، ما يعني أن نموذج الكوني له خمسة أبعاد. في أغلب النماذج الكونية التعددية الأخرى تكون الأبعاد الإضافية صغيرة جداً غير قابلة للرصد والمشاهدة ومنطوية على نفسها كما في نظرية الأوتار الفائقة، في حين أن البعد الخامس في نموذج DGP، كبير ومفتوح على اللانهاية ، وحدها الغرافيتونات ــ وهي الجسيمات الأولية المفترضة التي تحمل الجاذبية أو الثقالة وتؤمن التفاعلات الثقالية ــ بوسعها الإفلات من الأبعاد الأربعة المألوفة، أي من الزمكان في كوننا المرئي والانتشار خارجها داخل البعد الخامس الممتد إلى ما لانهاية وبذلك يمكن أن يخرج البعد الخامس عن نطاق إدراكنا لكننا يمكن أن نحسب تاثيره من خلال الثقالة أو الجاذبية ، إلا أن النسبية العامة ليست قادرة على وصف التفاعلات الثقالية للجاذبية في أبعاد تتجاوز الزمكان الكوني المألوف ، ولكن من حسنات هذا النموذج أننا لو افترضنا إمكانية تطبيق معايير وقوانين النسبية العامة حتى في المسافات اللامتناهية، وفي البعد الخامس، فإن ذلك سوف يعطينا انطباعاً بأن التوسع الكوني يزدادا باضطراد كما ثبت لنا من المشاهدة والرصد لكوننا المرئي بأبعاده الأربعة ومع ذلك يواجه هذا النموذج عدد كبير من العقبات والصعوبات النظرية والتجريبية.
هناك من يقترح عدم اللجوء إلى فرضية المادة السوداء أو المظلمة ولا الطاقة المظلمة أو الداكنة أو المعتمة، والقول بتغير قوانين الثقالة أو الجاذبية الكونية عند حدوث التسارع ، أي عندما يكون تسارع جسم أضعف من القيمة الحرجة، وهذا هو حال نموذج الــ DGP على سبيل المثال. فمالذي يمنعنا من التفكير بإمكانية تعديل جاذبية آينشتين في المسافات البعيدة والأبعاد الإضافية، والتوسع المتسارع، دون الحاجة إلى ثابت كوني ذو قيمة غير معدومة non nulle؟ يستند البحث إلى فرضية " الجاذبية الفائقة أو الضخمة gravité massive، حيث يكون لجسيم الغرافيتون الناقل للتفاعل الثقالي ، كتلة ما، ليست معدومة أو ليست صفراً non nulle، في حين تقول الجاذبية العادية أنه ليس للغرافيتون كتلة. ففي هذه الحالة يمكن للجاذبية أن تنتشر بسرعة الضوء نظراً لقدر الغرافيتون السفر والتنقل والانتشار عبر البعد الخامس ولمسافات لا متناهية، فبصورة عامة، نجد أن الجسيمات الأولية التي تنتشر في أبعاد إضافية ينظر إليها باعتبارها جسيمات ذات كتل ضخمة ، وليس بالضرورة أحجام كبيرة، فالغرافيتونات ذات الكتلة في نموذج الــ DGP تقود في المسافات الفائقة إلى انحراف عن معايير النسبية العامة. فآينشتين نفسه عندما تراجع عن ثابته الكوني واعتبره أكبر غلطة في حياته ، لكنه كان مخطئاً في إلغائه وإزالته من معادلاته كما ثبت لنا فيما بعد ، لأن النتيجة التي خرجت له رياضياتياً جراء إضافة الثابت الكوني ذو القيمة non nulle، كانت إمكانية كامنة لظهور لانهائيات و ثقالة تشبه الجاذبية الفائقة أو الضخمة gravité massive التي تحدث عنها نموذج الـ DGP، فهناك صلة تاريخية بين الثابت الكوني والثقالة أو الجاذبية الفائقة والضخمة. وهو النموذج الوحيد الذي اقترح وجود صلة بين التسارع الكوني والتعديلات الثقالية في المسافات الفائقة للجاذبية الكونية ، ولكن لابد من إيجاد نظرية للثقالة أو الجاذبية مطورة للنسبية بحيث تكون فيها كتلة جسيم الغرافيتون ليس صفراً وليست معدومة non nulle أو غير موجودة ، لأن من شأن الكتلة التي سيمتلكها الغرافيتون في البعد الخامس أن تكون مساوية للثابت الكوني غير المعدوم القيمة non nulle. ينبغي التذكير بأن من الصعب جداً تعديل معايير وقوانين النسبية العامة حتى في المسافات الضخمة الفائقة والأبعاد المكانية الإضافية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإنتروبيا entropie مقياس لمقدار اضطراب أو عشوائية او تخلخل نظام ما، والإنتروبيا هي الفرضية السائدة حالياً لتفسير سبب مضي الوقت إلى الأمام فقط، وتشكل النجوم وتطور الكون.



6-
الإرث العلمي
لودفيغ بولتزمان، إرنيست ماخ، ماكس بلانك، ، ماكسويل، نيلز بور، على سبيل المثال لا الحصر،أسماء حفرت في ذاكرة العلماء لأجيال متتالية وأثرت على نحو مباشر على آينشتين. ففي عام 1917 شرع هذا الأخير في وصف أولى الحلول لمعادلاته التي من المفترض أن تصف الكون برمته.، بيد أنه اصطدم بنتائج أذهلته، عند اكتشافه لمدى صعوبة وتعقيد أثره النظري، فسارع إلى التراجع عن بعض الحلول وأضاف إعدادات وقيم جديدة للمعادلات كي تتلاءم مع المألوف السائد آنذاك، والذي يفرض على الجميع الاعتقاد بأن الكون ثابت ومستقر، متسق متجانس ومتماثل الخواص، وإن المادة فيه موزعة على نحو متساوي في جميع الاتجاهات والمسافات، وإن الأمر كان مقصوراً على مجرة درب التبانة فحسب لأن العلماء آنذاك لم يعرفوا غيرها ، وكل شيء خارجها عرضة للجدال والاعتراض والرفض.أضاف آينشتين كما ذكرنا سابقاً، الثابت الكوني وأعطاه قيمة صفر. لكن آينشتين تنبأ في ذلك الوقت قبل إضافة هذا الثابت أن الكون في حالة توسع وتمدد. بعد عشرة أعوام جاء إدوين هابل وأثبت صحة الحلول التي توصل إليها آينشتين في معادلاته وتراجع عنها، حين لاحظ هابل من خلال المشاهدة والرصد التلسكوبي أن المجرات البعيدة ينزاح طيفها الضوئي نحو الأحمر ما يعني ، وفق تأثير دوبلر، أنها تبتعد عنا . يتساءل العلماء دوماً حيال بعض الظواهر تساؤلات جريئة من قبيل، لماذا يبدو الكون المرئي منتظماً في حين أن ذلك يتعارض مع الثقالة أو الجاذبية. إن مثل هذه المفارقة تتطلب إيجاد تبرير فيزيائي حاسم ومقنع، انصبت جهود العلماء على إيجاد التفسير اللازم على مدى عقود طويلة، وجاء الرد سنة 1980 مع فكرة التضخم الكوني المفاجيء والهائل ـــ وربما الدائم ــ التي قدمها العالم آلان غوث Alan Guth، وهي الفكرة التي تتلخص بأن التوسع الكوني في المرحلة البدئية في بواكير الكون المرئي ، شهد مرحلة مدوية وعنيفة ، ما جعل منطقة صغيرة الحجم ومتناسقة ومتساوقة ،تأخذ الوقت اللازم لتغدو متجانسة ومتماثلة الخواص، وتتعرض لتوسع هائل انفجاري مذهل جعلها تكبر على نحو مهول وتأخذ الحجم الحالي للكون المرئي ، ألا وهي فكرة التضخم الكوني الفوري المفاجي، تلقى الوسط العلمي هذه الفكرة الافتراضية آنذاك، بترحاب لأنها وفرت المخرج المنشود من المأزق العلمي الذي وصلوا إليه، ومن ثم أخضعت لعدد كبيرة من التجارب والاختبارات لترسيخها وإثبات صحتها ومصداقيتها، كان آخرها تحليلات نتائج رصد التلسكوب الفضائي المتطور بلانك ومعطياته الجديدة عن الأشعة الكونية الأحفورية الميكروية المنتشرة ، ولكن رغم ذلك الترحيب ، فإن بعض العلماء الكوسمولوجيين لم يستسغ هذا المخرج وبدأت حملة من الاعتراضات.
علماً بأن هذه الفكرة كانت بمثابة المعجزة وهي قوية وصلدة ومتينة ومقنعة. فلقد ثبت اليوم ، بفضل التطور العلمي والتكنولوجي وتطور الأجهزة الرصدية والقياسات ، أن المادة لم توزع على نحو متناسق إلا بعد مرور 380000 سنة بعد الانفجار العظيم. وهي الفترة التي وصلتنا آثارها من خلال الأشعة الخلفية الأحفورية الكونية الميكروية المنتشرة، والتي تعطينا صورة فوتوغرافية غنية وأمينة ومذهلة لتلك المرحلة . يظهر في تلك الصورة العجيبة ، التي وصفها البعض بأنها وجه الله، أن هناك منطقة كروية تغطي، بسبب التوسع الكوني، بضعة عشرات من مليارات السنين الضوئية ويبدو فيها توزع كثافة المادة مدهشاً و لا يحيد عن متوسط القيمة ولا حتى بنسبة واحد بالمائة. والحال إنه بعد نشر نتائج الدراسة والتحليل للأشعة الخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة ، اتضح بأن التوسع والتمدد الكوني الزمكاني ضاعف المسافات بألف ضعف ، بحيث أن نقطتين متقابلتين لتلك المنطقة الكروية كانت في تلك الفترة الغائرة في القدم متباعدة ببضعة ملايين من السنين الضوئية ، ولكن خلال الــ 380000 سنة التي أعقبت الانفجار العظيم غدت من السعة بمكان، حتى بسرعة كسرعة الضوء، لم يتوفر الوقت اللازم للضوء الصادر من المنطقتين أو النقطتين المتباعدتين المتقابلتين على طرفي نقيض المنطقة الكروية داخل صورة طفولة الكون المرئي، ليقطع مثل تلك المسافة الهائلة التي تكونت إثر التوسع والتمدد الكوني. وبالتالي لم يتوفر الوقت اللازم لتبادل المعلومات بين النقطتين المذكورتين بواسطة الضوء رغم سرعته المهولة 300000 كلم/ثانية، لذا لا يوجد تفسير لكونها تمتلك نفس الكثافة تقريباً. ذلك يعني أن الكون المرئي في طفولته وفي لحظة ولادته المفترضة عند الانفجار العظيم البغ بانغ، كان متجانساً، ما يعني أن ذلك نجم عن مصادفة غير محتملة على الإطلاق. برزت هذه الفكرة في بداية سنوات الستينات على يد العالم روبرت ديك Robert Dicke تحت تسمية مشكلة الأفق problème de l’horizon، والأفق هناك، في المفهوم الكوسمولوجي، يعني المسافة القصوى التي يفترض أن تقطعها المعلومة ، التي تنتقل بسرعة الضوء، لكي تصل إلينا. من هنا فإن مشاهدة ورصد كون متجانس ومتسق homogène،على المستويات الكبرى، يوحي بأن تبادل المعلومات الضرورية للكون لتحقيق وضمان كثافة متجانسة قد حدث في مسافات تفوق المسافة المعروفة لدينا عن الأفق الكوني بكثير. لذلك جاءت فكرة ألان غوث الثورية هذه لتقديم حل لهذه المعضلة الكونية لأن المعلومات لم تنتقل بسرعة تفوق سرعة الضوء، بل إن التوسع والتمدد الكوني للنسيج الزمكاني هو الذي حدث بسرعة تفوق سرعة الضوء بكثير، ومعادلات الجاذبية أو الثقالة النسبوية الآينشتينية أن مثل هذه النقلة الاستثنائية ممكنة الحدوث لو كان الكون مليء بسيولة ذات خصائص غير محددة الماهية أو غير نمطية propriétés atypiquesلأن ضغطها يجب أن يكون سالباً ومعارضاً للثقالة أو الجاذبية والحال أن من المستحيل للمادة العادية أن تمتلك ضغطاً سالباً pression négative. وهذا ما دفع علماء الفيزياء النظرية إلى التغاضي عن هذه المعضلة أو تجاهلها وافتراض وجود شكل من المادة المتخيلة ذات الضغط السالب وسموها بــ الحقل السكالي أو العددي أو الرقمي champ scalaire ومثاله حقل هيغز المسؤول عن وجود بيزونات هيغز الشهيرة أو بوزونات الرب كما يشاع عنها والمكتشفة مختبرياً مؤخراً بعد توقع وجودها قبل نصف قرن من قبل العالم هيغزHiggs.
ماذا يحدث بوجود حقل عددي سكالي؟ ديناميكيته على منطقة تأخذ نفس القيمة في كل مكان كحال الكرة المتدحرجة على سطح أحادي البعد، فكلما كان السطح منحدراً بقوة كلما تسارع تدحرج الكرة ليصل إلى حده الأقصى الكامن . فالكرة تمتلك شكلين من الطاقة ، الأولى الطاقة الحركية énergie cinétique، بسبب الحركة التي تنتقل فيها، وطاقة كامنة أو محتملة énergie potentielle، خاصة عندما تكون الكرة المتدحرجة في أعلى قمة السطح المنحدر، أما ضغط الحقل السكالي أو العددي فهو يساوي الفرق الناجم بين الطاقة الحركية والطاقة المحتملة وبالتالي يمكن أن يأخذ قيمة سالبة.
فعلى سبيل المثال، لو أخذنا نموذج نمطي للتضخم يبدأ بدرجة حرارة 1029 أو أكثر وبأقل من 10-37 من الثانية الواحدة فإن المسافة في الكون تتضاعف مرتين وبضرب هذه المدة الزمنية اللامتناهية في الصغر بعشر مرات فإن المسافة سوف تضرب بألف 1000. وبعد مضاعفتها أو ضربها بعشرة أخرى ، أي 10-35 من الثانية ، فإن المسافات سوف تتضاعف بنسبة 1030 ، وهكذا. يكفي أن تكون هناك منطقة بقياس 10-32 من المتر تحتوي هذا الحقل يمتلك قيم ثابتة بداخله حتى يغدو مقاسه سنتمتر واحد، والذي، بفعل التوسع السابق بعد التضخم ، سوف يكبر ويتضخم أكثر بنسبة 1029، ليبلغ حجماً بمقدرا مائة مليار سنة ضوئية اليوم وهو الحجم التقديري للكون المرئي اليوم. فالتضخم مستمر طالما هناك طاقة حركية ضعيفة للحقل، لكنه سوف يتسارع لاحقاً ليبلغ حده الأدنى المحتمل وهي الحالة التي سوف تنعدم فيها الطاقة المحتملة وتفني نفسها عندها ، حتماً سيتوقف التضخم إلا أن الجانب الأسي aspect exponentiel للتوسع الكوني الناجم عن ذلك يؤدي إلى عدم الحاجة لزمن طويل ، أي لا حاجة لكي يستغرق وقتاً طويلاً من أجل أن يقوم بدوره. ولكن إذا مدد التضخم على نحو مفرط منطقة صغيرة من الفضاء، فلماذا لا تكون النتيجة هذه المرة أيضاً متجانسة تماماً؟ في هذه الحالة لا ينبغي أن يلحظ أي تفاوت للكثافة في الأشعة الخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة بعد مرور 380000 سنة بعد الانفجار العظيم وتبعاُ لذلك لن تتشكل أية مجرة .
يأتي المدد والمساعدة في هذه الحالة من العالم الميكروسكوبي ما دون الذري وبصورة غير متوقعة. فالمنطقة التي يحدث فيها التضخم، حتى لو كانت متجانسة تماماً، تخضع لتقلبات وتخلخلات واهتزازات كمومية أو كوانتية ضئيلة للفراغ. وعادة ما نتخيلها على شكل ظهورات سريعة الزوال لأزواج من الجسيمات الأولية سرعان ما تختفي في الفراغ ، ولكن هنا يحدث شيء آخر مختلف. فالحقل يترجرج أو يتقلب، أي يأخذ قيماً مختلفة على نحو طفيف هنا وهناك، بفعل اللادقة أو اللايقين الكمومي أو الكوانتي. لكنه في نفس الوقت، بدل أن يختفي آنياً أو فوراً ، فإن تلك الاهتزازات والتقلبات الكمومية أو الكوانتية سوف تجد نفسها متمددة جداً بسبب التضخم وسوف تبقى قابلة للرصد . وفي نهاية التضخم سوف يكون لديها سعة ومدى ضعيفين، وتبلغ حجماً ضخماً جداً وتبدو كما لو إنها متجمدة. ومن ثم سوف تتطور ببطء لتولد فيما بعد اهتزازات وتقلبات ذات كثافة ماكروسكوبية والتي تولدت منها المجرات، وهذه هي القوة السحرية للتضخم. وتسمح للكون المرئي أن يكون متجانساً جداً في المستويات القصوى بطريقة لا يمكن فصمها والتمتع باضطرابات وإخلالات وإرتباكات في الكثافة حيث ستتشكل بعد بضعة مئات من ملايين السنين، المجرات التي نشاهدها اليوم. والآن علينا أن نعرف ما هي بنية هذه التقلبات والاهتزازات أو التأرجحات fluctuations في الكثافة؟ من خصائص التضخم أنه يولد اهتزازات وتقلبات وتأرجحات على عدة مستويات لكنها تعددية متشابهة أو متماثلة أياً كان المستوى ، وتسمى بالتقلبات الثابتة أو اللامتغيرة المستوى، والتمايز ، أو إن الفرق في التقلبات أو الاهتزازات يعتمد على تفاصيل النموذج التضخمي، أي الشكل المحتمل للتضخم. ولقد كشفت المشاهدات الرصدية عن أن التقلبات أو الاهتزازات الكبيرة الحجم هي في المتوسط العام أكثر وضوحاً من الصغيرة. الحجم. وعلى إثر التضخم يبدو الكون المرئي كأنه فارغ من المادة. فكل ما هو موجود، عدا التضخم، سوف يجد نفسه في حالة تقلص بمعدل أو بعامل قياسي كبير على نحو خيالي بنسبة أسية تصل إلى 1090 ، مثلاً للجسيمات المادية . فكيف والحال هذه يتم مليء الكون بمحتوى مادي، وبطاقة عالية جداً ، فهذه الأخيرة لا يمكنها أن تتحول إلى شكل آخر من أشكال الطاقة ، مثل الجسيمات في نهاية هذه المرحلة.
فالتضخم ينزل مسألة حالة الكون السابقة إلى ما يشبه الكمير chimère أي الكائن الخرافي ، لأننا لايمكن أن نصل إليها.
لدينا اختيارين: إما أن يكون التضخم الكوني محدود زمنياً ، أي ستكون له نهاية، ,وإما أن يكون أبدي دائم. الفرضية الأولى ممكنة عندما يصل التضخم إلى حده الأدنى المحتمل أو الكامن حيث يبدأ بالمراوحة لبعض الوقت. والحال إنه لو كان من خصائص التضخم أن يتفاعل مع شكل آخر من المادة، فإن تلك التأرجحات والمراوحات تتوافق بالضبط مع ما يلزم لتحويل التضخم إلى جسيمات أولية جديدة. وتشير الحسابات أن تأرجحات التضخم في عمق مكمونه هي الأساس والأصل في إنتاج وافر من الجسيمات وتسمى العملية préchauffage ، أي مايسبق التسخين، ويمكن تعريف هذا المفهوم : في غياب الجسيمات فإن الكون، رغم تزوده بكثافة طاقة عالية جداً على شكل تضخم إلا أنه لايمتلك حرارة لازمة وضرورية لذلك. وللربط بين درجة حرارة معينة مع كثافة الطاقة هذه، يتوجب أن يمتليء الكون بالجسيمات وهو ما يحدث بالفعل أثناء مرحلة ماقبل التسخن préchauffage. ومن ثم، تتفاعل الجسيمات المتولدة حديثاً وتكتسب توزعاً طاقوياً يحدد بدوره درجة حرارة تعتمد هي الأخرى على مدى كثافة الطاقة: فمنم الناحية المنطقية إن إعادة التسخين ينجم عنه أن التوسع الكوني يأخذ إيقاعاً جديداً سوف يحافظ عليه لبضعة مليارات من السنين، أي حصول تباطوء في التوسع. الشيء الوحيد المطلوب من التضخم هو أن يدوم ما يكفي من الوقت لتمديد المسافات بمعدل 1030 ( الرقم الدقيق يعتمد عملياً على درجة حرارة الكون في نهاية هذه المرحلة)، لهذا يكفي للتضخم أن يدوم لجزء بسيط من الثانية ، ولا يوجد ما يمنع أن يستمر التضخم لفترة طويلة يكفي ان يكون مكمون التضخم منبسطاً والحقل عند الانطلاق يكون بعيداً بما يكفي ، وهذا أمر ليس بالمستحيل. في هذه الحال يمكن لمرحلة التضخم أن تدوم وقتاً أطول لأن عامل التمدد الذي تولده يزداد أسياً أضعافاً مضاعفة على مر الزمن، ويمكن أن يصبح غير قابل للحساب وكبير بشكل غير متناسب، ليرتفع من الحد الأدنى المطلوب وهو 1030 إلى 10100 و 10100000، و 1010000000، بمعنى أن التضخم يدخل مستوى جديد على المسافة، غير مؤكد، لكنه من الناحية الاحتمالية، أو على نحو كامن، من الكبر بمكان قد تصل المسافة إلى عشرات المليارات من السنوات الضوئية التي تحدد منطقة الكون الداخلة في نطاق رصدنا ومشاهدتنا . فماذا سنجد فيما يتعدى هذا المستوى من المسافة؟ لن يعرف ذلك أحد على نحو دقيق ولكن ربما هو كون، مرة أخرى، متنوع hétérogène كما كان عليه حاله في مستوى أدنى قبل بداية التضخم، إثر التطور الذي شهده الكون ما قبل التضخم préinflationnaire. فالتضخم يجعل من مسألة حالة الكون البدئية شبه خرافية لايمكن بلوغها وربما كانت تلك الحالة هي التي تسببت في حصول التضخم أي إن التضخم يمكن أن يمثل الحد الأقصى للمعرفة البشرية لأنها محت كل أثر للحالة السابقة للكون قبل لحظة ، وفي أثناء لحظة ولادته.
بفضل الأشعة الخلفية الميكروية الأحفورية الكونية المنتشرة، وكاتالوغ المجرات ، بات بإمكانن أن نحدد مدى قيمة الذروة وسعة التقلبات والاهتزازات في الكثافة ، الحالية والسابقة، مما سيسمح لنا بالعودة إلى حالتها الحقيقية في نهاية التضخم المفاجي الهائل والعظيم، وذلك على كافة المستويات المرصودة والمرئية أو المنظورة مما يساعد في إعادة تشكيل جزء من potentiel قوة وإحتمالية وإمكانية التضخم لأن هذا الأخير ينتقل ببطيء على تياره خلال مرحلة التضخم أو يولد تذبذبات واهتزازات وتقلبات للكثافة. ومن ثم فإن مجموع التبعات اللايقينية أو مجمل الإرتيابات في القياسات والحسابات وتحليلاتها، يمنع إعادة ترتيب أمينة للمكمونية والقدرة القصوى في المنطقة الصغيرة المنتقاة التي يمكننا القيام بذلك على نحو ينبهنا بأن الموجود ليس نموذج تضخمي ميزته واختصته أو فضلته واختارته المعطيات ، بل هي مجموع ذلك كله.
هناك حوالي 25% من النماذج المقترحة اليوم تتوافق مع المعطيات التي أثبتت صلاحيتها وتشترك كلها بأنها موضعياً مقعرة concaves وجزء صغير لكنه مهم منها محدب convexes والباقي يتموضع في منطقة وسيطة. هناك تكهن آخر مهم للتضخم تم التحقق منه وهو امتلاك الاهتزازات والتقلبات قيمة إحصائية دقيقة وهي الإحصائيات الغوسية statistiques gaussienne، وذلك من خلال بيانات ومعطيات التلسكوب الفضائي المتطور بلانك . ينبغي أن نشير إلى أن المعطيات العلمية المتوفرة تتحقق بدقة عالية عما كانت عليه تأريخياً، التنبؤات الأولى للتضخم، وهي أن الكون كان تقريباً منبسط أو " مسطح"، أي إن قوانين هندسة إقليدس ــ مجموع ثلاث زوايا لمثلث تساوي 180 درجة على سبيل المثال ـــ ما تزال صالحة على كل المستويات ، لأن الإنحناء الأساسي المحتمل هو أيضاً تعرض للإنبساط أو التسطح بفعل التوسع والتمدد الكوني. وبالرغم من هذا المؤشر الذي يترافع لصالح التضخم ، إلا أنه لايحظى بإجماع وقناعة كافة علماء الكونيات الكوسمولوجيين. لهذا قام مؤخراً بعض الفيزيائيين ، من بينهم أحد رواد نظرية التضخم، وهو بول شتاينهارد Paul Steinhardt، بنشر رسالة مفتوحة تنتقد مفهوم التضخم ويدعون فيها أن هذا المفهوم لا يرقى لمستوى نظرية علمية ، فمهما كانت النتائج التي توفرها لنا الأشعة الخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة فهناك دائماً نموذج تضخمي قادر على تفسيرها ، بعبارة أخرى لن يكون التضخم مفهوماً قابلاً للدحض . التبرير ضعيف، ولكن من الممكن لنموذج تضخمي معقد أن يعطينا كون ذو بنية وتركيبة غريبة ، وليس هذا هو الذي نرصده ونشاهده. إلى جانب أن العديد من النماذج التضخمية ، حيث تدخل في الحسبان العديد من الحقول، تعطي تنبؤات متنوعة ، أي قابلة لإعادة الترتيب والتعديل للتوافق مع أية نتائج رصدية. ولكن والحالة هذه فإن الإحصائيات للتخلخلات والاهتزازات والتقلبات لم تعد غوسية وهذا ما لا يتوافق مع المشاهدات والرصد. والحال أن المشهد الطبيعي الذي يكشف عنه الكون المرئي يتلائم ويتوافق مع سيناريو بسيط نسبياً للتضخم. فأول نموذج تضخمي اقترحه آلكسي ستاروبنسكي ، يعد من بين افضل من يأخذ بالاعتبار المعطيات الرصدية. ولنتذكر أن بعض النماذج التضخمية صيغت قبل توفر المعطيات الرصدية الأخيرة الحديثة وقبل بدء مرحلة المشاهدة الفلكية فلم يكن موجوداً أي نموذج غريب نحتاج لذكره لتفسير المشاهدات الحقيقية التي أكدت وأثبتت صحة التنبؤات الأكثر تقليدية أو آرثوذوكسية للتضخم.
فنحن الآن بحاجة للنموذج الأبسط لشرح وتفسير الواقع مما يضعف مبررات الموقعين على رسالة الدحض والانتقاد لمفهوم التضخم فأي غرابة تنشأ أو تظهر يمكن تفسيرها بنموذج تضخمي ما . وكذلك مبررهم بخصوص أن أي إنطلاقة أو بدء للتضخم لايمكن أن يحدث إلا إذا توفرت الشروط الخاصة جداً ، لكن ذلك يصطدم بمعلومة أن لا شيء يضمن أن الشروط المقصودة تسمح بحدوث سيناريوهات أخرى للتضخم وإنه يمكن توفرها بسهولة ، وهناك اسباب كثيرة تجعلنا نعتقد العكس ، ولا حتى الاعتقاد بوجود محتوى أو مكون مادي تسمح خصائصه لتلك النظريات أن تتحقق. وبالتالي يمكن التحقق واختبار التضخم على نحو أفضل وأدق وبمعطيات أفضل، يكفي التأكد والتحقق من صحة آخر توقعات أو تنبؤات التضخم ألا وهو وجود الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية ondes gravitationnellesالأولية في الكون البدئي، وإن التقلبات الكمومية أو الكوانتية للتضخم تولد اهتزازات أو تقلبات كلاسيكية للكثافة، وإن تقلبات وتخلخلات أو اهتزازات الزمكان نفسه تتعرض لنفس المصير الذي تواجهه تقلبات واهتزازات التضخم التي تولد بدورها الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية الأساسية أو الأولية ذات الحجم الكبير والتردد الواطيء أو المنخفض جداً ، ومن الصعب رصد تلك الموجات حالياً بأجهزة الأنتيرفيروميترات من نوع ليغو أو فيرجو المتوفرة حالياً ، فما رصدته تلك الأجهزة حالياً من موجات ثقالية أو موجات جاذبية هي تلك الناجمة عن تصادم ثقبين أسودين وليست الموجات الثقالية الأولية أي تلك التي تعود لبدايات الكون المرئي.
على أية حال يلاحظ أن موجات الجاذبية أو الموجات الثقالية مست وأثرت على إنتشار الفوتونات للأشعة الخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة وتركت آثاراً وبصمات عليها خاصة من خلال تغييرها لقطبيتها polarisation التي يمكن قياسها إلا أنها ضعيفة جداً ومخفية بقوة من قبل استقطاب الإشعاعات الأمامية للخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة خاصة الإشعاعات الحرارية للمناطق الباردة في مجرتنا درب التبانة.
إن هذا الاستقطاب أو القطبية هي التي رصدتها تجربة بيسيب إثنين Bicep2 كما أعتقدوا عام 2014 قبل أن يتم تكذيب هذا الإعلان المدوي، فالاستقطاب لم يكن للكون للأشعة الخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة بل لمجرتنا فالتخضم لايتنبأ مع الأسف بمدى سعة وقوة تلك الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية البدئية الأولية التي قد تكون أدنى بقليل مما يمكننا رصده أو اضعف بمليون مرة بحيث لايمكننا بالوسائل التقنية التي بوحزتنا حالياً، رصدها بدقة تامة.
هناك بدائل معدة للإطلاق لتلسكواب بلانك الفضائي المتطور مثل مشروع بريزم projet Prism، و كور بلوس Core+ لوكالة الفضاء الأوروبية ولايت بيرد Lite Bird لوكالة الفضاء اليابانية و إيبيك Epic لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا الخ وكلها تطمح بتحسيل حساسية الاستقطاب المرصود بمعدل يزيد ألف مرة . وكلها تفتح الطريق أمام إمكانية رصد الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية الأولية البدئية الأساسية ما يؤكد توقع أو تنبؤ آينشتين العبقري في وقت مبكر بوجود مثل هذه الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية الكونية الأولية وذلك سنة 1916 ما يثبت دقة وفعالية وصلابة أثره العلمي .
7-
ماذا لو أخفق النموذج التضخمي وانتفت الحاجة للمادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة؟
هل يمكننا أن نقدم وصفاً جديداً للكون المرئي وتقديم تفسير جديد للمادة دون الحاجة للمرور بفرضية التضخم الهائل أو العظيم والفوري وربما الدائم؟ وبدون اللجوء إلى فرضية الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة، والمادة السوداء أو المظلم’ وهي الألغاز الثلاثة الأكبر التي ما تزال قائمة في علم الفلك وعلم الكونيات والفيزياء النظرية المعاصرة؟ على الرغم من المعطيات وعمليات الرصد الأخيرة والمشاهدات الفلكية ونتائج تلسكوب بلانك الفضائي في رصد وتحليل الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة التي أكدت حدوث فرضية التضخم العظيم الفوري وأعطت قيم جديدة للنسب التكوينية للمادة والطاقة وتوزيعهما في الكون المرئي سواء كانت مادة وطاقة طبيعية عادية أو سوداء أومظلمة ومعتمة أو داكنة ؟ هل يستدعي الأمر اللجوء إلى فيزياء جديدة تقدم لنا نموذج معياري آخر للكون المرئي على المستويين، اللامتناهي في الكبر واللامتناهي في الصغر؟ أي الكون بحجمه الحالي الذي تتعاطى معه النسبية العامة لآينشتين، والكون الكمومي أو الكوانتي في المستوى مادون الذري ؟
مما لا شك فيه أن من أهم وأكبر الألغاز الكونية المطروحة على الفيزيائيين هو معرفتهم بالطبيعة والماهية الحقيقية للمادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة ، وقد أفترض وجودهما كمكونين أساسيين للكون المرئي منذ عقود طويلة لتفسير ما نراه لبعض الظواهر الكونية الغامضة وعلى راسها التوسع والتمدد الكوني وأسبابه وبالأخص مرحلة التضخم الكوني الهائل والمفاجيء الفوري الذي حدث في بواكير الكون المرئي ، ولكن ، حتى بعد سنوات مضنية من التجارب والأبحاث لم نتوصل بعد إلى معرفة طبيعة هذين المركبين الغامضين وهل هما موجدان حقاً ولماذا لم نكتشفهما بعد، فلقد تم اقتراح هذين العنصرين في أوقات مختلفة لشرح ما نراه في الكون، ولكن حتى بعد عقود من البحث، ما زلنا غير قريبين من فهم ما هما عليه بدقة وما إذا كانتا موجودتان حقا؟..
هناك دراسة فيزيائية جديدة إقترحت وسيلة للتخلص من فرضية وجود هذين المكونين ، أي الطاقة المظلمة أو المعتمة أو الداكنة، والمادة السوداء أو المظلمة. إلى جانب أبحاث ودراسات أخرى تنفي حدوث التضخم العظيم الفوري الهائل في الكون المرئي. العالم أندريه ميدير André Maeder الأستاذ الفخري في جامعة جنيف في سويسرا هو الذي نشر هذه الدراسة الفيزيائية الجديدة واقترح فيها ، العودة إلى المعادلات الأساسية للنسبية والجاذبية النيوتونية لإيجاد طريقة للتخلي عن نموذج الكون المظلم. وأفادت فكرته التي نشرها في مجلة الفيزياء الفلكية le journal astrophysique.، بترك المسلمات التقليدية ، وباستخدام هذه الفرضية أعاد العالم السويسري إنتاج التسارع الكوني نظرياً دون افتراض وجود الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة وراءه كسبب ومعادل للثقالة أو الجاذبية الكونية ، باعتبارها قوة جذب طاردة أو نابذة أو نافرة سالبة معاكسة للجاذبية الموجبة. وتمكن من خلالها أن يشرح ويوضح حركة المجرات داخل تجمعات وحشود وعناقيد كبيرة من المجرات بدون الإدعاء بوجود مادة سوداء أو مظلمة ، كما قدم العالم الفرنسي الكبير جون بيير بتي بتقديم نظرية جديدة في هذا المجال تتجاهل فرضية المادة السووداء والطاقة المعتمة واستعاض عنهما بفرضية الكتلة السالبة والكون التوأم المكون من المادة المضادة.
يقول العالم أندريه ميدير إن النموذج المعياري قال بفرضية منذ البداية لم تأخذ بالاعتبار برأيه، حالة موجودة في معادلات النسبية ولكن العلماء أهملوها أو لم ينتبهوا إليها ، ويقصد بذلك " الثابت أو اللامتغير في الفضاء الفارغ .، بتعبير آخر ، إن الفضاء الفارغ وخصائصه لا يتغير بفعل التمدد والتوسع أو التقلص الكونيين وقال بالحرف الواحد ما ملخصه :" فى هذا النموذج، هناك فرضية بداية لم تؤخذ فى الحسبان، فى اعتقادي". "من خلال هذا أعني بذلك ثبات الحجم في الفضاء الفارغ. أوبعبارة أخرى، فإن الفضاء الفارغ وخصائصه لا يتغيران بعد أي توسع أو انكماش في الكون المرئي ، أي هناك ما يسمى باللامتغير الزمكاني في الفضاء الكوني الفارغ l invariance d échelle de l espace vide "..
هذا القرص يخلق مصطلح التسارع الصغير الذي يمكن استخدامه لفهم الميزات التي تفسر حاليا من قبل المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة والداكنة أو المظلمة. على سبيل المثال، فإنه يفسر سرعات المجرات العنقودية استنادا إلى المادة المرئية وحدها. كما يشرح كيف تتحرك النجوم داخل المجرات، دون الحاجة إلى المادة المظلمة. هذا هو السبب في الواقع الذي دفع فيرا روبين Vera Rubin لاقتراح وجود مثل هذه المادة الجوهرية substance التكوينية في المقام الأول.
إن إدخال مفهوم الثابت أو اللامتغير في المستوى المكاني في الفضاء الفارغ يمكنه أن يفسر بوضوح الخصائص التي نرصدها ونشاهدها في الكون المرئي، ولكن هل سيدق ذلك مسماراً في نعش المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة؟ ليس الأمر بهذه البساطة الفرضية تعمل فقط للميزات والنطاقات الواسعة والكبيرة حيث لا يمكن العثور على ثبات الحجم l invariance d échelle إلا في النسبية العامة. وذلك لأن نظرية أينشتاين فارغة. ولكن مساحة فارغة ليست فارغة وفقا لميكانيكا الكموم أو الكوانتوم la mécanique quantique.
في عالم الكموم أو الكوانتوم، فإن كل جزء من الزمكان يتغير عندما يتم تمدد أو إنكماش أو إنضغاط في هذا النسيج الكوني، ففي الواقع، هناك في ميكانيك الكموم أو الكوانتوم شيء يسمى " طاقة الفراغ énergie du vide" والتي ربطت بالطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة ، رغم أن القيم المنتظرة أو المتوقعة والناجمة عن الرصد والمشاهدات والملاحظات الفلكية جاءت مغايرة ومختلفة عن القيم الكمومية أو الكوانتية النظرية . وعلى الرغم من جهلنا التام لماهية وطبيعة المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة، إلا أنهما ما يزالان أفضل نظرية علمية لشرح الكون في نموذجه المعياري المتفق عليه تقريباً ولكن المزيد من البحوث والتجارب قد تخبرنا فيما بعد فيما إذا كانت فرضية الثابت أو اللامتغير المكاني على نطاق واسع قد تشكل منافساً يعتد به للنموذج المعياري السائد.
في وقت من الأوقات بدا من الضروري حل المشاكل والمعضلات الفلكية والكوسمولوجية التي واجهتها الفيزياء النيوتنية أو ميكانيك نيوتن، والفيزياء النسبية الآينشتينية معاً، وكان الحل الذي لا مفر منه هو إضافة مكونات غير مرئية للمحتوى الكوني لحل تلك المشاكل الكبرى وتمثلت بافتراض وجود مادة لا طعم لا ولا رائحة ولا لون وتفلت من كافة محاولا وتجارب الكشف والرصد ولا يعرف عنها سوى تأثيراتها الثقالية المفترضة التي تسجل على نحو غير مباشر حتى دون أن يراها أحد أو يلمسها، وهي المادة السوداء أو المظلمة. وبقيت المادة السوداء أو المظلمة مع شقيقتها او وجهها الآخر الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة غريبين وغامضين ولغزين كونيين محيرين ناهيك عن حقيقة وجودهما الفعلي في الواقع الكوني المرئي، وربما توجدان في الواقع الخفي غير المرئي للكون المنظور. ويعرف العلماء ، بالمقابل ماذا سيترتب على غيابهما. فماذا سيعني عدم وجود مادة سوداء أو مظلمة بالنسبة لقيم وثوابت ومعطيات وقوانين ومعادلات الكون المرئي؟ بكل بساطة سيتطلب ذلك إعادة نظر شاملة وكلية في النموذج المعياري ومراجعة النظرية الثقالية في الجاذبية الكونية برمتها وتطويرها كما ذكرنا أعلاه. فهي مادة افتراضية محتملة الوجود لكن وجودها غير يقيني فهي تؤثر في التفاعلات الثقالية لكنها غير معنية بالتفاعلات الأخرى خاصة الكهرومغناطيسية ، فهي غير باريونية أي ليست مادة غير عادية. فلا هي نسبوية ، وهي أبطأ من الضوء بكثير و لا هي بالكمومية المحضة، و تتفاعل مع المكونات الجسيمية الطبيعية للمادة العادية. جاء إقحامها قسريا، فهي ضرورية للتوازن الرياضياتي من أجل تفسير الاختلاف الجلي بين المشاهدات والملاحظات الرصدية والتجريبية، من جهة، و التفسيرات، من جهة أخرى ، وذلك في إطار الثقالة أو الجاذبية النيوتنية والنسبية الاينشتينية. وكمثال على ذلك: دوران المجرات وحركاتها ، التي تبدو سريعة جداً في المناطق الخارجية أو البعيدة عن المركز، و سرعة المجرات داخل البنيات والهيكليات الكبرى التي هي الحشود والآماسات les Amas والتجمعات والعناقيد المجرية ، أو بخصوص مستوى التقلبات والتخلخلات والاهتزازات في كثافة المادة المنظورة الموجودة في الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة ، لذلك يعرف العلماء ، منذ بداية سنوات السبعينات من القرن المنصرم، أن المادة السوداء لا يمكن أن تكون مادة باريونية non baryonique .
لا يوجد أمام علماء الفلك والكونيات أو الكوسمولوجيين سوى خيارين لا ثالث لهما: إما تطوير، واستطيع أن اقول ، تثوير، نظرية الثقالة أو الجاذبية الكونية سواء بصيغتها الكلاسيكية النيوتنية، أو بصيغتها المتطورة النسبية العامة التي أتى بها ىينشتين. أو خيار إضافة مادة لديها ثقالة ولكنها لا تشع ، ويمكن أن يكون لها خصائص أخرى، كأن تكون حساسة وتتفاعل مع التفاعلات النووية الضعيفة على سبيل المثال. لقد درس العلماء باستفاضة وتعمق هذين الخيارين على مدى أربعة عقود متواصلة وبجدية تامة. الغالبية من العلماء أعتبرت " المادة السوداء أو المظلمة" فرضية عمل نموذجية معيارية لا باس بها لأنها توجت بالنجاح من ناحية التوقعات والتكهنات ومن الناحية الكمية. عدم الكشف عنها ورصدها، وبالتالي معرفة ماهيتها وطبيعتها وتركيبتها بدقة علمية، في الوقت الحاضر، يجعل منها محتوى كوني غير يقيني وغير مؤكد وقد تؤدي دراستها المعمقة إلى نشوء ثورة مفاهيمية علمية على غرار اقتحام النسبية العامة والفيزياء الكمومية أو الكوانتية عالم الفيزياء الكلاسيكية.
المشكلة إذن تكمن حالياً في الكشف والرصد المباشر لهذه المادة الافتراضية، دون جدوى، ولا نستطيع هنا الدخول في التفاصيل التقنية المعقدة الملازمة والمرتبطة بتلك التجارب والاعدادت المحيطة بها وطبيعة التفاعلات التجريبية المتعلقة بجسيمات المادة السوداء المفترضة وكيفية تعاملها وتفاعلها مع ذرات المواد الطبيعية المعروفة والحسابات المرافقة لها والمقترنة بها وهي شديدة الصعوبة والتعقيد على القاريء العادي غير المتخصص بعلوم الفيزياء الذرية أو النووية وهي تجارب كثيرة وصارمة كان آخرها في عام 2016 كتجارب : (LUX Dakota de sud,- Edelweiss Modane France,- CDMS au Minnesota,- CRESST Gran Sasso Italie - ,LHC du CERN en suisse) ،وكان عدم العثور على جسيمات جديدة كان يمكن اعتبارها جسيمات أولية للمادة السوداء أو المظلمة صدمة قوية للمتحمسين لهذه الفرضية ولأتباع نظرية التماثل أو التناظر الفائق supersymétrie، ولقد ظهرت إشارة واحد بهذا الصدد 750GeV في التلقلبات الإحصائية لجهاز أطلاس ATLAS، و CMS، لكنها اختفت على الفور.
وهناك تقنيات الرصد غير المباشر اعتماداً على إحتمالية حدوث بعض الظواهر كالذي يمكن أن ينجم عن نفي الجسيمات السوداء المظلمة ومضاداتها بعضها البعض ، على غرار ما يحصل للجسيمات والجسيمات المضادة في المادة العادية البايرونية، في حال أن تكون كثافتها كافية أو انخفاض في أعدادها ، والحالتين يولدان طاقةعلى شكل إشعاعات غاما التي يمكن رصدها في الفضاء بواسطة قمر صناعي ستلايت أو وتلسكوب فضائي يسمى فيرمي Satellite Fermi أو تلسكوب HESS، الأرضي الموجود في ناميبيا. أو عن طريق العثور على فائض جسيمات كالبوزيترونات ــ أي مضادات الإلكترونات ــ التي يمكن رصدها بواسطة تجربة AMS على متن محطة الفضاء الدولية .
مشاهدات حديثة:
تخبرنا نظرية النسبية العامة لآينشتين بأن الكتل المادية تقوم بتشويه déforment ، أو بانحناء وتحديب الزمكان بحيث تنبعج الأنسجة الزمكانية على نحو يتناسب مع كبر الكتل. فالشمس تحدث تحدبا وتشويهاً معتدلاً مقارنة بما تحدثه المجرات التي هي أكبر بمقدار مئات المليارات 1010 أو 1011 من كتلة الشمس بل وأكثر من ذلك في حالة حشود ومجموعات وعناقيد المجرات amas des galaxies، وهي أكبر بمقدار 1014 أو 1015 مرة من كتلة الشمس وربما أكبر من ذلك بكثير. فالزمكان كما قلنا ينحني ploie تحت تأثير تلك الكتل الهائلة التي تشوه distordent وتحرف الإشعاعات الضوئية التي تمر بالقرب منها . وتسمى هذه الظاهرة في المصطلح الفيزيائي بــ " العدسة الثقالية أو عدسة الجاذبية lentille gravitationnelle" بحيث يمكن للمجرات البعيدة جداً في الخلفية الكونية والتي يتعذر رصدها ، أن تغدو مرئية ، وأحياناً بعدة نسخ متكررة، ولكن صورها مشوهة فالكتل الضخمة الكائنة في مقدمة المشهد الفضائي تتصرف كما لو أنها عدسات بصرية زجاجية من هنا جاءت تسميتها بالعدسات الثقالية، والاختلاف يأتي من كتلة العدسة وانحيازها alignement، الذي يجب أن يكون دقيقاً إلى حد ما، بالنسبة للمجرة الموجودة في خلفية المشهد الكوني . ففي حالة العدسة الثقالية القوية ، نشاهد عدة صور لنفس المجرة، على شكل قوس على سبيل المثال، أما في حالة العدسة الثقالية الضعيفة، فنلحظ فقط بعض التشوه في صورة المجرة المرصودة.
التعديس الثقالي القوي يتيح رصد المجرات البعيدة جداً ، والتي لايمكن رؤيتها بغير هذه الطريقة، ومن ثم دراستها بنوع من البذخ في التفاصيل المخصصة عادة للمجرات القريبة . من هنا بات ممكناً وقابلاً للتحقيق معرفة التشكل النجمي وديناميكية الوسط ما بين النجمي لغاية التخوم البعيدة في الكون المرئي أو المنظور. أما التعديس الثقالي الضعيف فهو يشكل ثورة مشاهداتية رصدية حقيقية بمعنى الكلمة: ولأنه يعزى للتوزع في الكتل المحرفة للمسار الضوئي، فإنه يتيح إمكانية رسم خارطة غرافية cartographique دقيقة للمجرات القريبة المرصودة . وسواء تعلق الأمر بالمادة الباريونية العادية أو السوداء والمظلمة ، فإن التعديس الثقالي lentillage gravitationnelle لن يكون محسوساً إلا في الكتلة الكلية . ويقوم بتوفير معلومات ثمينة بشأن التوزع المفصل للمادة السوداء أو المظلمة التي لايمكن الوصول إليها أو رصدها بطريقة أخرى.
فالتجمعات المجرية الضخمة تحدث تعديسات ثقالية ضعيفة وقوية ، ولذلك فهي أهداف مختارة ومفضلة للرصد والمشاهدة وبمساعدة تحليل إحصائي متعمق لشكل المجرات المتواجدة في خلفية المشهد الفضائي الكوني ، فإن العدسات الثقالية الضعيفة تسمح بإعادة بناء توزيع الكتل للتجمعات المجرية. ومقارنتها بكتل المواد الباريونية ــ المادة الطبيعية العادية ــ بأشعة إكس x السينية ( الغاز الساخن ) و بالأشعة الراديوية ( موجات الصدمة ) وفي المنطقة المرئية وبالأشعة تحت البنفسجية للمجرات ، وبذلك توضع ديناميكية المادة السوداء أو المظلمة موضع البداهة من ناحية ارتباطاتها بالمادة الباريونية.
وبفضل التعدس الثقالي الضعيف يمكننا القيام بالرسم السطحي tomographies، أي بإحصاءات واستطلاعات للتوزع الإجمالي للمادة ( العادية والسوداء أو المظلمة) في الكون المرئي. يقتضي هذا التكنيك المدهش تحليل أشكال المجرات بطريقة " شرائح الزحزات الحمراء tranches redshifts " ، ومن ثم إعادة ترتيب توزيع المادة داخل كل شريحة على حدة. ولقد استخدمت هذه الطريقة للمرة الأولى سنة 2007 على معطيات تلسكوب هابل الفضائي.
إضافات بلانك التكنولوجية:
وبتفحصنا الدقيق لتأثيرات العدسة الثقالية الضعيفة على الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة وفق مبدأ متماثل، تبدو هذه الأشعة القادمة من الخلفية الكونية الغائرة في القدم، وكأنها تعرضت لتشوهات وانزياحات عبر تاريخ الكون المرئي، خاصة في مرحلة تشكل البنيات والهيكيليات الكبيرة . ومن خلال التقويمات والتقديرات الإحصائية ( في لحظات التنظيمات القصوى) بإمكاننا تشخيص الهفوات وتقصيرات التقلبات والاختلالات في الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة التي سببتها تلك البنيات والهيكيليات الكبيرة.
وبهذه الطريقة استطاع فريق البحث المكرس لمهمة تلسكوب بلانك الفضائي الحصول على أول خريطة كونية لتوزع المادة السوداء أو المظلمة في كافة أنحاء الفضاء الخارجي ، وإن هذه الصورة الرائعة قدمت العديد من النتائج العلمية . من بينها العلاقة القوية بين هذا التوزع للمادة السوداء أو المظلمة ومختلف العينات عن التجمعات والحشود المجرية، وكذلك مع العمق المجري الخارجي المرصود بالأشعة تحت البنفسجية التي تعود إلينا على نحو غير متوقع تقريباً.
الصلة بين المادة السوداء أو المظلمة و التشكل النجمي:
كما لمسنا، إن العمق الماوراء – مجري، أو خارج نطاق التجمعات المجرية المرصودة، هو بمثابة كشاف ومقتفي آثار لتاريخ المجرات ، في الرصديات تحت البنفسجية البعيدة، يتوافق مع تشكل النجوم، على مدى تاريخ تكون الهيكيليات والبنيات الكونية الكبرى. وهي الطريقة التي أوحت لعدد من فرق البحث العلمية لدراسة وتقصي الصلة القائمة بين العمق تحت البنفسجي والمادة السوداء أو المظلمة. ونجحوا في اكتشاف 10000 منطقة ناصعة في العمق تحت البنفسجي fondinfrarouge ، وكذلك للعديد من المناطق ذات الكثافة الدنيا أو الأدنى ، ومن ثم إنتقاء المناطق المتوافقة مع توزع المادة السوداء أو المظلمة. وبالتالي صار ملزماً رؤية العلاقة الكلية أو الإجمالية القائمة بين المادة السوداء أو المظلمة مع العمق تحت البنفسجي الناصع والمنخفض النصوع. وجاءت النتائج تفوق التوقعات والآمال المنشودة وذلك برصد ترابط قوي بينهما، وأظهرت الصلة المتوقعة بين الحضور المكثف والكبير للمادة السوداء أو المظلمة وتكون النجوم. وتواصلت هذه الدراسة الفريدة من نوعها، على مستويات زاوية أصغر échelles angulaires بالاستعانة بتلسكوب هيرشيل Herschel الفضائي وبمعطيات لإرصادات أرضية في تلسكوب القطب الجنوبي وتلسكوب آتاكاما Atacama Cosmology Telescope الكوسمولوجي . وهناك خطط ومشاريع وآفاق مفتوحة ورحبة مستقبلية لاستخدام طريقة التعدس الثقالي في جميع أنحاء ومناطق الفضاء الخارجي بدءاً بتلسكوب أوقليدس Euclid الفضائي الذي سيخلف بلانك من وكالة الفضاء الأوروبية والذي سيطلق سنة 2021 والمخصص لتقصي ومطاردة المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة . وعلى الأرض هناك تلسكوب LSST Larg Synoptic Survey Telescope الذي يشيد الآن في تشيلي وسيبدأ العمل سنة 2022. والذي سيمسح السماء برمتها على مدى بضعة عشرات من الأعوام ليقدم صورة مجسمة ثلاثية الأبعاد عن الكون المرئي أو المنظور. وهناك مهمة تلسكوب WFIRST Wide Field Infrared Survey Telescope الفضائية بالأشعة فوق الحمراء التابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA والتي ستنجز في أواسط 2020 وتكون مكملة لمهمة أوقليديس الأوروبية حيث سيتم رصد المناطق الصغيرة الغائرة في الكون المرئي على نحو أعمق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المادة المظلمة (Dark Matter- matière noire): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.

8-
ماذا لو أخفق النموذج التضخمي وانتفت الحاجة للمادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة؟
هل يمكننا أن نقدم وصفاً جديداً للكون المرئي وتقديم تفسير جديد للمادة دون الحاجة للمرور بفرضية التضخم الهائل أو العظيم والفوري وربما الدائم؟ وبدون اللجوء إلى فرضية الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة، والمادة السوداء أو المظلم’ وهي الألغاز الثلاثة الأكبر التي ما تزال قائمة في علم الفلك وعلم الكونيات والفيزياء النظرية المعاصرة؟ على الرغم من المعطيات وعمليات الرصد الأخيرة والمشاهدات الفلكية ونتائج تلسكوب بلانك الفضائي في رصد وتحليل الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة التي أكدت حدوث فرضية التضخم العظيم الفوري وأعطت قيم جديدة للنسب التكوينية للمادة والطاقة وتوزيعهما في الكون المرئي سواء كانت مادة وطاقة طبيعية عادية أو سوداء أومظلمة ومعتمة أو داكنة ؟ هل يستدعي الأمر اللجوء إلى فيزياء جديدة تقدم لنا نموذج معياري آخر للكون المرئي على المستويين، اللامتناهي في الكبر واللامتناهي في الصغر؟ أي الكون بحجمه الحالي الذي تتعاطى معه النسبية العامة لآينشتين، والكون الكمومي أو الكوانتي في المستوى مادون الذري ؟
مما لا شك فيه أن أهم وأكبر الألغاز الكونية المطروحة على الفيزيائيين هو معرفتهم بالطبيعة والماهية الحقيقية للمادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة ، وقد أفترض وجودهما كمكونين أساسيين للكون المرئي منذ عقود طويلة لتفسير ما نراه لبعض الظواهر الكونية الغامضة وعلى راسها التوسع والتمدد الكوني وأسبابه، وبالأخص مرحلة التضخم الكوني الهائل والمفاجيء الفوري الذي حدث في بواكير الكون المرئي ، ولكن ، حتى بعد سنوات مضنية من التجارب والأبحاث لم نتوصل بعد إلى معرفة طبيعة هذين المركبين الغامضين وهل هما موجودين حقاً ولماذا لم نكتشفهما بعد، فلقد تم اقتراح هذين العنصرين في أوقات مختلفة لشرح ما نراه في الكون، ولكن حتى بعد عقود من البحث، ما زلنا غير قريبين من فهم ما هما عليه بدقة وما إذا كانتا موجودتان حقا؟..
هناك دراسة فيزيائية جديدة إقترحت وسيلة للتخلص من فرضية وجود هذين المكونين ، أي الطاقة المظلمة أو المعتمة أو الداكنة، والمادة السوداء أو المظلمة. إلى جانب أبحاث ودراسات أخرى تنفي حدوث التضخم العظيم الفوري الهائل في الكون المرئي. العالم أندريه ميدير André Maeder الأستاذ الفخري في جامعة جنيف في سويسرا هو الذي نشر هذه الدراسة الفيزيائية الجديدة واقترح فيها ، العودة إلى المعادلات الأساسية للنسبية والجاذبية النيوتونية لإيجاد طريقة للتخلي عن نموذج الكون المظلم. وأفادت فكرته التي في مجلة الفيزياء الفلكية le journal astrophysique.، باستخدام هذه الفرضية ، حيث أعاد العالم السويسري إنتاج التسارع الكوني نظرياً دون افتراض وجود الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة وراءه كسبب ومعادل للثقالة أو الجاذبية الكونية ، باعتبارها قوة جذب طاردة أو نابذة أو نافرة سالبة معاكس للجاذبية الموجبة. وتمكن من خلالها أن يشرح ويوضح حركة المجرات داخل تجمعات وحشود وعناقيد كبيرة من المجرات بدون الإدعاء بوجود مادة سوداء أو مظلمة .
يقول العالم أندريه ميدير إن النموذج المعياري قال بفرضية منذ البداية لم تأخذ بالاعتبار برأيه، حالة موجودة في معادلات النسبية ولكن العلماء أهملوها أو لم ينتبهوا إليها ، ويقصد بذلك " الثابت أو اللامتغير في الفضاء الفارغ .، بتعبير آخر ، إن الفضاء الفارغ وخصائصه لا يتغير بفعل التمدد والتوسع أو التقلص الكونيين وقال بالحرف الواحد ما ملخصه :" فى هذا النموذج، هناك فرضية بداية لم تؤخذ فى الحسبان، فى اعتقادي". "من خلال هذا أعني بذلك ثبات الحجم من الفضاء الفارغ. أوبعبارة أخرى، فإن الفضاء الفارغ وخصائصه لا يتغيران بعد أي توسع أو انكماش في الكون المرئي ، أي هناك ما يسمى باللامتغير الزمكاني في الفضاء الكوني الفارغ l invariance d échelle de l espace vide "..
هذا القرص يخلق مصطلح التسارع الصغيرة التي يمكن استخدامها لفهم الميزات التي تفسر حاليا من قبل المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة والداكنة أو المظلمة. على سبيل المثال، فإنه يفسر سرعات المجرات العنقودية استنادا إلى المادة المرئية وحدها. كما يشرح كيف تتحرك النجوم داخل المجرات، دون الحاجة إلى المادة المظلمة. هذا هو السبب في الواقع اقترح فيرا روبين Vera Rubin وجود مثل هذه المادة الجوهرية substance التكوينية في المقام الأول.
إن إدخال مفهوم الثابت أو اللامتغير في المستوى المكاني في الفضاء الفارغ يمكنه أن يفسر بوضوح الخصائص التي نرصدها ونشاهدها في الكون المرئي، ولكن هل سيدق ذلك مسماراً في نعش المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة؟ ليس الأمر بهذه البساطة الفرضية تعمل فقط للميزات الواسعة والكبيرة حيث لا يمكن العثور على ثبات الحجم l invariance d échelle إلا في النسبية العامة. وذلك لأن نظرية أينشتاين فارغة. ولكن مساحة فارغة ليست فارغة وفقا لميكانيكا الكموم أو الكوانتوم la mécanique quantique.
في عالم الكموم أو الكوانتوم، فإن كل جزء من الزمكان يتغير عندما يتم تمدد أو إنكماش أو إنضغاط في هذا النسيج الكوني، ففي الواقع، هناك في ميكانيك الكموم أو الكوانتوم شيء يسمى " طاقة الفراغ énergie du vide" والتي ربطت بالطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة ، رغم أن القيم المنتظرة أو المتوقعة والناجمة عن الرصد والمشاهدات والملاحظات الفلكية جاءت مغايرة ومختلفة عن القيم الكمومية أو الكوانتية النظرية . وعلى الرغم من جهلنا الالم لماهية وطبيعة المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة، إلا أنهما ما يزالان أفضل نظرية علمية لشرح الكون في نموذجه المعياري المتفق عليه تقريباً ولكن المزيد من البحوث والتجارب قد تخبرنا فيما بعد فيما إذا كانت فرضية الثابت أو اللامتغير المكاني على نطاق واسع قد تشكل منافساً يعتد به للنموذج المعياري السائد.
في وقت من الأوقات بدا من الضروري حل المشاكل والمعضلات الفلكية والكوسمولوجية التي واجهتها الفيزياء النيوتنية أو ميكانيك نيوتن، والفيزياء النسبية الآينشتينية معاً وكان الحل الذي لا مفر منه هو إضافة مكونات غير مرئية للمحتوى الكوني لحل تلك المشاكل الكبرى وتمثلت بافتراض وجود مادة لا طعم لا ولا رائحة ولا لون وتفلت من كافة محاولا وتجارب الكشف والرصد ولا يعرف عنها سوى تأثيراتها الثقالية المفترضة التي تسجل على نحو غير مباشر حتى دون أن يراها أحد أو يلمسها وبقيت المادة السوداء أو المظلمة مع شقيقتها او وجهها الآخر الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة غريبين وغامضين ولغزين كونيين محيرين ناهيك عن حقيقة وجودهما الفعلي في الواقع الكوني المرئي، وربما توجدان في الواقع الخفي غير المرئي للكون المنظور. ويعرف العلماء ، بالماقبل ماذا سيترتب على غيابهما فماذا سيعني عدم وجود مادة سوداء أو مظلمة بالنسبة لقيم وثوابت ومعطيات وقوانين ومعادلات الكون المرئي؟ بكل بساطة سيتطلب ذلك إعادة نظر شاملة وكلية في النموذج المعياري ومراجعة النظرية الثقالية في الجاذبية الكونية برمتها وتطويرها كما ذكرنا أعلاه. فهي مادة افتراضية محتملة الوجود لكن وجودها غير يقيني فهي تؤثر في التفاعلات الثقالية لكنها غير معنية بالتفاعلات الأخرى خاصة الكهرومغناطيسية ، فهي غير باريونية أي ليست مادة غير عادية. فلا هي نسبوية ، وهي أبطأ من الضوء بكثير و لا هي بالكمومية المحضة و تتفاعل مع المكونات الجسيمية الطبيعية للمادة العادية. جاء إقحامها قسريا فهي ضرورية للتوازن الرياضياتي من أجل تفسير الاختلاف الجلي بين المشاهدات والملاحظات الرصدية والتجريبية مع التفسيرات ، في إطار الثقالة أو الجاذبية النيوتنية والنسبية الاينشتينية. وكمثال على ذلك: دوران المجرات وحركاتها ، التي تبدو سريعة جداً في المناطق الخارجية ، و سرعة المجرات داخل البنيات والهيكليات الكبرى التي هي الحشود والآماسات les Amas والتجمعات والعناقيد المجرية ، أو بخصوص مستوى التقلبات والتخلخلات والاهتزازات في كثافة المادة المنظورة الموجودة في الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة ، لذلك يعرف العلماء ، منذ بداية سنوات السبعينات من القرن المنصرم، أن المادة السوداء لا يمكن أن تون مادة باريونية non baryonique .
لا يوجد أمام علماء الفلك والكونيات أو الكوسمولوجيين سوى خيارين لا ثالث لهما: إما تطوير، واستطيع أن اقول ، تثوير، نظرية الثقالة أو الجاذبية الكونية سواء بصيغتها الكلاسيكية النيوتنية، أو بصيغتها المتطورة النسبية العامة التي أتى بها ىينشتين. أو خيار غضافة مادة لديها ثقالة ولكن لا تشع ، ويمكن أن يكون لها خصائص أخرى، أن تكون حساسة وتتفاعل مع التفاعلات النووية الضعيفة على سبيل المثال. لقد درس العلماء باستفاضة وتعمق هذين الخيارين على مدى أربعة عقود متواصلة وبجدية تامة. الغالبية من العماء أعتبرت " المادة السوداء أو المظلمة" فرضية عمل نموذجية معيارية لا باس بها لأنها توجت بالنجاح من ناحية التوقعات والتكهنات ومن الناحية الكمية. عدم الكشف عنها ورصدها، وبالتالي معرفة ماهيتها وطبيعتها وتركيبتها بدقة علمية، في الوقت الحاضر، يجعل منها محتوى كوني غير يقيني وغير مؤكد وقد تؤدي دراستها المعمقة إلى نشوء ثورة مفاهيمية علمية على غرار اقتحام النسبية العامة والفيزياء الكمومية أو الكوانتية عالم الفيزياء الكلاسيكية.
المشكلة إذن تكمن حالياً في الكشف والرصد المباشر لهذه المادة الافتراضية، دون جدوى، ولا نستطيع هنا الدخول في التفاصيل التقنية المقعدة الملازمة والمرتبطة بتلك التجارب والاعدادت المحيطة بها وطبيعة التفاعلات التجريبية المتعلقة بجسيمات المادة السوداء المفترضة وكيفية تعاملها وتفاعلها مع ذرات المواد الطبيعية المعروفة والحسابات المرافقة لها والمقترنة بها وهي شديدة الصعوبة والتعقيد على لاقاريء العادي غير المتخصص بعلوم الفيزياء الذرية أو النووية وهي تجارب كثيرة وصارمة كان آخرها في عام 2016كتجارب : (LUX Dakota de sud,- Edelweiss Modane France,- CDMS au Minnesota,- CRESST Gran Sasso Italie - ,LHC du CERN en suisse) ،وكان عدم العثور على جسيمات جديدة كان يمكن اعتبارها جسيمات أولية للمادة السوداء أو المظلمة صدمة قوية للمتحمسين لهذه الفرضية ولأتباع نظرية التماثل أو التناظر الفائق supersymétrie، ظهرت إشارة واحد بهذا الصدد 750GeV في التلقلبات الإحصائية لجهاز أطلاس ATLAS، و CMS، لكنها اختفت على الفور.
وهناك تقنيات الرصد غير المباشر اعتماداً على إحتمالية حدوث بعض الظواهر كالذي يمكن أن ينجم عن نفي الجسيمات السوداء المظلمة ومضاداتها بعضها البعض ، على غرار ما يحصل للجسيمات والجسيمات المضادة في المادة العادية البايرونية، في حال أن تكون كثافتها كافية أو انخفاض في أعدادها ، والحالتين يولدان طاقةعلى شكل إشعاعات غاما التي يمكن رصدها في الفضاء بواسطة قمر صناعي ستلايت أو وتلسكوب فضائي يسمى فيرمي Satellite Fermi أو تلسكوب HESS، الأرضي الموجود في ناميبيا. أو عن طريق العثور على فائض جسيمات كالبوزيترونات ــ أي مضادات الإلكترونات ــ التي يمكنهم رصدها بواسطة تجربة AMS على متن محطة الفضاء الدولية .
مشاهدات حديثة:
تخبرنا نظرية النسبية العامة لآينشتين بأن الكتل المادية تقوم بتشويه déforment ، أو بانحناء وتحديب الزمكان بحيث تنبعج الأنسجة الزمكانية على نحو يتناسب مع كبر الكتل. فالشمس تحدث تحدبا وتشويهاً معتدلاً مقارنة بما تحدثه المجرات التي أكبر بمقدار مئات المليارات 1010 أو 1011 من كتلة الشمس بل وأكثر من ذلك في حالة حشود ومجموعات وعناقيد المجرات amas des galaxies، وهي أكبر بمقدار 1014 أو 1015 مرة من كتلة الشمس وربما أكبر من ذلك بكثير. فالزمكان كما قلنا ينجني ploie تحت تأثير تلك الكتل الهائلة التي تشوه distordent وتحرف الإشعاعات الضوئية التي تمر بالقرب منها . ويتسمى هذه الظاهرة في المصطلح الفيزيائي بــ " العدسة الثقالية أو عدسة الجاذبية lentille gravitationnelle" بحيث يمكن للمجرات البعيدة جداً في الخلفية الكونية والتي يتعذر رصدها ، تغدو مرئية ، وأحياناً بعدة نسخ متكررة، ولكن صورها مشوهة فالكتل الضخمة الكائنة في مقدمة المشهد الفضائي تتصرف كما لو أنها عدسات بصرية زجاجية من هنا جاءت تسميتها بالعدسات الثقالية، والاختلاف يأتي من كتلة العدسة وانحيازها alignement، الذي يجب أن يكون دقيقاً إلى حد ما، بالنسبة للمجرة الموجودة في خلفية المشهد الكوني . ففي حالة العدسة الثقالية القوية ، نشاهد عدة صور لنفس المجرة، على شكل قوس على سبيل المثال، أما في حالة العدسة الثقالية الضعيفة، فنلحظ فقط بعض التشوه في صورة المجرة المرصودة.
التعديس الثقالي القوي تييح رصد المجرات البعيدة جداً ، والتي لايمكن رؤيتها بغير هذه الطريقة، ومن ثم دراستها بنوع من البذخ في التفاصيل المخصصة عادة للمجرات القريبة . من هنا بات ممكناً وقابل للتحقيق معرفة التشكل النجمي وديناميكية الوسط ما بين النجمي لغاية التخوم البعيدة في الكون المرئي أو المنظور. أما التعديس الثقالي الضعيف فهو يشكل ثورة مشاهداتية رصدية حقيقية بمعنى الكلمة: ولأنه يعزى للتوزع في الكتل المحرفة للمسار الضوئي، فإنه يتيح إمكانية رسم خارطة غرافية cartographique دقيقة للمجرات القريبة المرصودة . وسواء تعلق الأمر بالمادة الباريونية العادية أو السوداء والمظلمة ، فإن التعديس الثقالي lentillage gravitationnelle لن يكون محسوساً إلا في الكتلة الكلية . ويقوم بتوفير معلومات ثمينة بشأن التوزع المفصل للمادة السوداء أو المظلمة التي لايمكن الوصول إليها أو رصدها بطريقة أخرى.
فالتجمعات المجرية الضخمة تحدث تعديسات ثقالية ضعيفة وقوية ، ولذلك فهي أهداف مختارة ومفضلة للرصد والمشاهدة وبمساعدة تحليل إحصائي متعمق لشكل المجرات المتواجدة في خلفية المشهد الفضائي الكوني ، فإن العدسات الثقالية الضعيفة تسمح بإعادة بناء توزيع الكتل للتجمعات المجرية. ومقارنتها بكتل المواد الباريونية ــ المادة الطبيعية العادية ــ بأشعة إكس x السينية ( الغاز الساخن ) و بالأشعة الراديوية ( موجات الصدمة ) وفي المنطقة المرئية وبالأشعة تحت البنفسجية للمجرات ، وبذلك توضع ديناميكية المادة السوداء أو المظلمة موع البداهة وارتباطاتها بالمادة الباريونية.
وبفضل التعدس الثقالي الضعيف يمكننا القيام بالرسم السطحي tomographies، أي بإحصاءات واستطلاعات للتوزع الإجمالي للمادة ( العادية والسوداء أو المظلمة) في الكون المرئي. يقتضي هذا التكنيك المدهش تحليل أشكال المجرات بطريقة " شرائح الزحزات الحمراء tranches redshifts " ، ومن ثم إعادة ترتيب توزيع المادة داخل كل شريحة على حدة. ولقد استخدمت هذه الطريقة للمرة الأولى سنة 2007 على معطيات تلسكوب هابل الفضائي.
إضافات بلانك التكنولوجية:
وبتفحصنا الدقيق لتأثيرات العدسة الثقالية الضعيفة على الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة وفق مبدأ متماثل، تبدو هذه الأشعة القادمة من الخلفية الكونية الغائرة في القدم، وكأنها تعرضت لتشوهات وانزياحات عبر تاريخ الكون المرئي، خاصة في مرحلة تشكل البنيات والهيكيليات الكبيرة . ومن خلال التقويمات والتقديرات الإحصائية ( في لحظات التنظيمات القصوى) بإمكاننا تشخيص الهفوات وتقصيرات التقلبات والاختلالات في الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة التي سببتها تلك البنيات والهيكيليات الكبيرة.
وبهذه الطريقة استطاع فريق البحث المكرس لمهمة تلسكوب بلانك الفضائي الحصول على أول خريطة كونية لتوزع المادة السوداء أو المظلمة في كافة أنحاء الفضاء الخارجي ، وإن هذه الصورة الرائعة قدمت العديد من النتائج العلمية . من بينها العلاقة القوية بين هذا التوزع للمادة السوداء أو المظلمة ومختلف العينات عن التجمعات والحشود المجرية، وكذلك مع العمق المجري الخارجي المرصود بالأشعة تحت البنفسجية التي تعود إلينا على نحو غير متوقع تقريباً.
الصلة بين المادة السوداء أو المظلمة و التشكل النجمي:
كما لمسنا، إن العمق الماوراء – مجري، أو خارج نطاق التجمعات المجرية المرصودة، هو بمثابة كشاف ومقتفي آثار لتاريخ المجرات ، في الرصديات تحت البنفسجية البعيدة، يتوافق مع تشكل النجوم، على مدى تاريخ تكون الهيكيليات والبنيات الكونية الكبرى. وهي الطريقة التي أوحت لعدد من فرق البحث العلمية لدراسة وتقصي الصلة القائمة بين العمق تحت البنفسجي والمادة السوداء أو المظلمة. ونجحوا في اكتشاف 10000 منطقة ناصعة في العمق تحت البنفسجي fondinfrarouge ، وكذلك للعديد من المناطق ذات الكثافة الدنيا أو الأدنى ، ومن ثم إنتقاء المناطق المتوافقة مع توزع المادة السوداء أو المظلمة. وبالتالي صار ملزماً رؤية العلاقة الكلية أو الإجمالية القائمة بين المادة السوداء أو المظلمة مع العمق تحت البنفسجي الناصع والمنخفض النصوع. وجاءت النتائج تفوق التوقعات والآمال المنشودة وذلك برصد ترابط قوي بينهما، وأظهرت الصلة المتوقعة بين الحضور المكثف والكبير للمادة السوداء أو المظلمة وتكون النجوم. وتواصلت هذه الدراسة الفريدة من نوعها، على مستويات زاوية أصغر échelles angulaires بالاستعانة بتلسكوب هيرشيل Herschel الفضائي وبمعطيات لإرصادات أرضية في تلسكوب القطب الجنوبي وتلسكوب آتاكاما Atacama Cosmology Telescope الكوسمولوجي . وهناك خطط ومشاريع وآفاق مفتوحة ورحبة مستقبلية لاستخدام طريقة التعدس الثقالي في جميع أنحاء ومناطق الفضاء الخارجيبدءاً بتلسكوب أوقليدس Euclid الفضائي الذي سيخلف بلانك من وكالة الفضاء الأوروبية والذي سيطلق سنة 2021 والمخصص لتقصي ومطاردة المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة . وعلى الأرض هناك تلسكوب LSST Larg Synoptic Survey Telescope الذي يشيد الآن في تشيلي وسيبدأ العمل سنة 2022. والذي سيمح السماء برمتها على مدى بضعة عشرات من الأعوام ليقدم صورة مجسمة ثلاثية الأبعاد عن الكون المرئي أو المنظور. وهناك مهمة WFIRST Wide Field Infrared Survey Telescope الفضائية بالأشعة فوق الحمراء التابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA والتي ستنجز في أواسط 2020 وتكون مكملة لمهمة أوقليديس الأوروبية حيث سيتم رصد المناطق الصغيرة الغائرة في الكون المرئي على نحو أعمق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المادة المظلمة (Dark Matter- matière noire): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.
9-
الطاقة المعتمة أو الداكنة الحاضرة الغائبة دوماً؟
منذ أن ترسخت وثبتت صحة نظرية التوسع والتمدد الكوني ، والجميع يتساءل: إلى أين؟ هل هناك حيز مكاني أوسع من الكون المرئي الذي يتمدد هو فيه ويتسع منذ مليارات السنين؟ ومالذي يجعله يتمدد؟ ما هي القوة التي تتسبب بتمدده وتوسعه رغم وجود قوة الثقالة أو الجاذبية الكونية؟ أجمع العلماء تقريباً على أن الطاقة الداكنة أو المعتمة أو المظلمة أو السوداء énergie noir ou sombre، التي أفترضت في نهاية القرن العشرين، أنها هي التي وراء التوسع المتسارع للكون المرئي منذ مليارات السنين. إلا أن أصلها وتأثيراتها وماهيتها ما تزال كلها قيد البحث والتقصي والاستكشاف، والأفكار كثيرة بشأن ملاحقتها ومطاردتها وفهمها . والحديث عن ماهية هذه الطاقة وجوهرها الحقيقي ومكوناتها لا يقل غرابة وغموضاً ، إن لم يكن أكثر، من المادة السوداء أو المظلمة.يلجأ علماء الكونيات الكوسمولوجيين إلى هذا المكون غير المرئي لتفسير ، ليس فقط التوسع والتمدد الكوني فحسب، بل وكذلك حالة التسارع في عملية التوسع في المستويات القصوى.
لايمكن للتسارع أن يعزى لعامل الصدفة وأغلبية العلماء يعتقدون أن السبب يكمن في وجود قوة كونية تمتلك خاصيتين جوهريتين أساسيتين، الأولى هي أنها موجودة في كل مكان في المستويات القصوى الكبيرة و لا تتغير فضائياً أو مكانياً ، والثانية، أن كثافتها تبقى هي ذاتها على مدى الحقب الكونية وعلى امتداد التاريخ الكوني ، على عكس المادة الاريونية العادية التي تتناقص وتنخفض كثافتها ، وليس بإيقاع واحد بالطبع، ، وهي غير مرئية لذلك سميت بالطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة، وليس لها علاقة ، لحد الآن على الأقل، بالمادة السوداء أو المظلمة لكنها ترتبط بطاقة الفراغ والتضخم الكوني الفوري العظيم، وهي جزء جوهري من اللغز الكوني في علم الكوسمولوجيا المعاصر.
دور المستويات والحقب الكونية:
الكثير من ظواهر الكون المرئي لا تؤثر على مجريات ومسار حياتنا اليومية لا التوسع ولا التمدد ولا التسارع ولا التضخم ، لأننا لا نشعر بها فهي تحدث في مستويات عليا أو قصوى تقاس بمئات الميغاباريسك mégaparsecs، بل و لا نشعر حتى بتأثيراتها القوية في نظامنا الشمسي ، و لا حتى في مجرتنا أو في عنقود المجرات الذي يضم مجرتنا ، ففي هذه المستويات المحدودة ، تكون الأولوية والهيمنة هي لقوة الثقالة الجاذبية الكونية فالقمر والأرض والكواكب والنجوم مستمرة في الدوران في مساراتها الثابتة التي تتحكم بها قوة الجاذبية الكونية، فمجرة آندروميدا ما تزال تقترب من مجرتنا وسوف تلتحم بها بعد بضعة مليارات من السنين الضوئية . مر الكون المرئي أو المنظور بعدة مراحل طاقوية phases énergétiques في تاريخه وهي : للوهلة الأولى كانت كثافة الطاقة الإشعاعية هي المهيمنة ومن ثم جاء دور المادة قبل أن يأتي الدور للطاقة المعتمة أو الداكنة لكي تلعب دورها وتفرض نفسها في المستويات العليا. فالمرحلة الحالية من عمر الكون تسود فيها سلطة الطاقة المعتمة أو الداكنة بزحزحة طيفية redshift بمقدار z" بدرجة0.3 ، أي أنها انطلقت قبل 3.5 مليار سنة لكي تحدث التسارع التمددي الحالي للكون المرئي. ويمكن أن نتساءل متى بدأ التسارع الكوني عندها سوف نحصل على قيمة هي z=0.7، أي حوالي 605 مليار سنة في الماضي . ولمعرفة أصل الطاقة المعتمة أو الداكنة، يتطلب الأمر إجراء قياسات وحسابات دقيقة على أجرام سماوية تقع في z=0.7 وأيضاً بين z=0.7 إلى واحد 1 ، أو أكثر بغية ملاحظة الانتقال من مرحلة سابقة إلى مرحلة لاحقة في التسارع.
معادلة الحالة القائمة:
في الفيزياء، على سبيل المثال، تكون إنسيابية ما لــ fluide، سائل أو غاز مثالي أو نموذجي parfait، مميزة بعدة إعدادات وخواص ومعايير كالحرارة والكثافة أو الضغط الخ..، فمفهوم التمامية يعني أنه ناتج التفاعلات بين الجسيمات لذلك السائل أو الغاز . ونربط جميع الإعدادات والخواص والمعايير في ما يمكن أن نطلق عليه بمعادلة الحالة القائمة équation d’état، وفي الكوسمولوجيا أو علم الكونيات، فإن معادلة الحالة القائمة لأحد مكونات الكون، كالإشعاع والمادة ، (الباريونية والعادية أو السوداء والمظلمة)، أو الطاقة،( المرئية والملموسة أو المعتمة أو الداكنة) ، تربط بين ضغطها وكثافتها من خلال التعبير الرياضي P=wpc2، حيث P هو الضغط و w هو عامل معياري بدون بعد أو ثابت، خصائصي مميز لهذا المكون الكوني. وعلى المستوى الكوسمولوجي الكوني الكبير، يمكننا أن نهمل ضغط المكونات غير النسبوية ، وهي حالة المادة التي نعطيها عامل w بقيمة معدومة أو nul أي wm=0 أما ألإشعاع، وهو مكون نسبوي، فإن قيمة هذا العامل w هي WR=1/3 ، وللطاقة المعتمة أو الداكنة فإن WA=-1 حيث A يمثل الثابت الكوني ، والذي لايعتبر ذا قيمة معدومة أو صفر أو غير موجودة non nulle في حالة تسارع التمدد والتوسع الكوني أما الإشارة السالبة في معادلة الحالة القائمة فهي تشير كذلك إلى علامة سالبة، من هناك يحدث تأثير الثقالة السالبة gravité répulsive أي القوة النابذة أو الطاردة أو النافرة التي تتسبب بعملية التمدد والتوسع في الكون المرئي.
رغم غرابة هذا الوصف للطاقة المعتمة أو الداكنة والاستنتاجات الناجمة عها، لكنها لا تطرح مشكلة من ناحية الشكلية الرياضياتية ، لنموذج كوسمولوجي أو للقياسات والحسابات التي تجرى عليه، وباختصار فإن كافة مكونات الكون المرئي ( الإشعاعية والمادة بصنفيها والطاقة بنوعيها) هي موسومة ومتميزة بمعادلة الحالة القائمة المرتبطة بها. وبالرغم مما نجهله ، وهو كثير جداً، عن المادة المظلمة أو السوداء والطاقة المعتمة أو الداكنة، إلا أننا يمكن أن نضعهما في معادلات رياضية ونحسب قيمها إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة .
المستعر الأكبر السوبرنوفا ودوره:
في نهاية سنوات التسعينات من القرن المنصرم، وفي خضم التجارب وعمليات الرصد والمراقبة والمشاهدات الفلكية التي كشفت تسارع التوسع الكوني ، يعود الفضل في ذلك إلى فريقي بحث فلكي كوسمولوجي وهما High -z Supernova Team ande Supernova Cosmology Project ، فريق زد لدراسة المستعر ألأكبر السوبرنوفا ، و ومشروع المستعر الأكبر السوبرنوفا الكوسمولوجي ، اللذان قاما بقياس وحساب درجة لمعان ونصوع أو توهج السوبر نوفا، والمسافة الكونية التي أعطتها لنا قيمة الزحزحة الطيفية للضوء القادم من السوبر نوفا ريدشيفت redshift، البعيدة جداً من نوع آي أ Ia. فالنصوع أو التوهج المرصود لجسم فضائي بعيد يعتمد على لمعانه ونصوعه أو توهجه الذاتي والزحزحة الطيفية لضوئه الريد شيفت redshift، وعلى عوامل ومعايير وإعدادات كونوية كوسمولوجية أخرى ، وبالأخص مجموع كثافة المادة الــ M Ω، وكثافة الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة A Ω، ومن ثم يتم جعل المعطيات مرئية وجعلها بادية للعيان visualise les données، داخل ما يعرف بدياغرام هابل diagramme de Hubble، حيث يظهر النصوع أو التوهج الظاهر كما يبدو للراصد ويقسم على النصوع أو التوهج الذاتي وفقط قيمة الريد شيفت أي الزحزحة الطيفية للضوء. وفي هذا الدياغرام diagramme، أي الخريطة إذا جاز التعبير، توجد عدة مناطق مسموحة zones permises تتطابق مع مختلف القيم في الإعدادات والخصائص أو المعالم الكوسمولوجية paramètres cosmologiques. ويكفي أن نلحظ ونراقب أين تتموضع المعطيات لكي نحصل على قيم تقديرية للــ M Ω و للـ A Ω، أي مجموع كثافة المادة، و مجموع كثافة الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة. وكانت النتائج التي نشرت عامي 1998 و 1999، قاطعة ورسمية . فلقد توصل فريقا البحث إلى استنتاج واحد تقريباً وبدرجة موثوقة تصل إلى 99%، بأن قيمة كثافة الطاقة المعتمة أو الداكنة A Ω ليست صفراً وليست معدومة أو غير موجودة n’est pas nulle. ما يعني أن الكون المرئي هو فعلاً في حالة توسع متسارع . ولقد كانت تلك الأبحاث من الأهمية بمكان أنها جعلت العلماء شاؤول بيرلميوتر Saul Perlmutter وبريان شميت Brian Schmidt وآدام ريس Adam Reiss يحصلون على جائزة نوبل للفيزياء سنة 2011.
بعد التيقن من التسارع في التمدد والتوسع الكوني، كان لا بد من إيجاد طرق أخرى للرصد والمشاهدة غير السوبر نوفا، والتي من شأنها أن تتيح كيفية تقييم وتقدير قيم التوسع الكوني ، والقيام بعملية غربلة بين النماذج والفرضيات المتداولة، وبعضها الكثير غير المعتمدة علمياً وأكاديمياً. العامل المشترك بين ماتبقى من الطرق والمنهاج المتبعة، هو أنها تركز جميعها على البنى القصوى للكون المرئي، وبالذات التوزيع الإحصائي للمجرات في المستويات العليا الفائقة في الكون المرئي. ففي الواقع لابد من معارضة وكبح عمل وتأثير الثقالة أوالجاذبية الكونية في مجال تشكل الهيكيليات والبنيات الكونية في المستويات الكبرى، بقوة كونية أخرى أقوى من الجاذبية، وكان المرشح لذلك هو الطاقة المظلمة أو المعتمة أو الداكنة التي يقوم تأثيرها بتمديد وتوسيع تلك البنى والهيكيليات الكونية الكبرى ، وبالتالي كان لابد من حساب وقياس دقيق لتطور تشكل تلك البنيات والهيكيليات الكبيرة وفقاً للريد شيفت، الزحزحة الطيفية للضوء القادم منها ومراقبة بعض الانزياحات والانحرافات الضوئية مقارنة بما تقوم به الجاذبية أو الثقالة لوحدها.
التأرجحات أو التذبذبات الباريونية الصوتية BAO -oscillations baryoniques acoustiques ، هي موجات منتشرة في كل أنحاء الكون المرئي البدئي قبل حدوث الانفكاك والانفصال بين المادة والضوء. فاهتزازات وتخلخخلات وتقلبات الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة قادت إلى حدوث وتشكل البنى والهيكيليات الكبرى على مستوى محدد يفوق الــ Mpc 100، بيد أن الــ " التأرجحات أو التذبذبات الباريونية الصوتية BAO " هي الأخرى تركت بصماتها في مسألة توزيع المجرات في هذا المستوى الكوني المفضل الفائق. ويمكننا كشفها بحسابنا وقياسنا لـوظيفة الارتباط المعروفة بـ " دالة الترابط fonction de corrélation " ، أي العلاقات القائمة بين مواقع عشرات أو مئات الآلاف من المجرات الموزعة في أحجام وحيوزات أو مقادير مكانية هائلة.
تم حساب التأرجحات أو التذبذبات الباريونية الصوتية BAO ، بعد التنبؤ بها منذ زمن بعيد، وللمرة الأولى سنة 2005، بفضل توفر معطيات نجمت عن كشوفات كثيرة جداً للسماء بواسطة القياس الضوئي والطيفي photométrie et spectroscopie ، أعتبرت بمثابة مستويات معيارية، لأن النموذج يتنبأ جيداً بتطور حجمها وفق طريق الزحزحة الطبيفية الريدشيفت. وأي فجوة أو فارق، عن التوقعات والتنبؤات سيكون عائداً للطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة، أو لثقالة أو جاذبية مختلفة مناوئة . التشوهات في التحول الأحمر لفضاء ر.س.د. Les distorsion dans l espace des redshift RSD ، تأتي من حقيقة موجودة تقول أن المجرات تنجذب نحو مركز هالات المادة السوداء أو المظلمة الضخمة centre des halos massifs de matière noire . وإن حركتها ، التي تم قياسها بالمقياس الطيفي spectroscopie،هي متجانسة ومتماثلة الخواص isotropes باتجاه مركز الهالات . وأي تغير أو تنويع ، على المستوى الفائق، بالنسبة للإزوتروب أو تماثل الخواص، يمكن أن يؤشر على وجود الطاقة المعتمة أو الداكنة المعرقلة لفعل الثقالة أو الجاذبية. لنعد لدور العدسة الثقالية ، القوية والضعيفة، حيث يمكننا تحليل تأثير التعدس الضعيف lentillag faible- weak lensing، للاستنتاج وتوقع كمية المادة السوداء أو المظلمة في البنيات والهيكيليات الكبرى. والهدف هنا هو حساب كتلة تلك البنيات والهيكيليات وتطورها وفق الزحزحة الطيفية الريدشفت . ويمكن لتك الحسابات أن تقارن مباشرة بالتنبؤات والمحاكاة الحاسوبية بغية التحليل التفصيلي لتأثيرات الطاقة المعتمة أو الداكنة على نمو وتطور تلك البنيات والهيكيليات وفق طريقة الريدشفت الزحزحة الطيفية .
هناك علاقة موجودة بين المجرات والخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة . وبوجد الطاقة المتعة أو الداكنة،يمكننا أن نلاحظ بوضوح العلاقة القائمة بين الاهتزازات والتقلبات في المستوى الفائق للخلفية الإشعاعية الكونية الأحفورية الميكروية، وتوزع المجرات. وهي العلاقة المعروفة باسم تأثير ساشس وولف المندمج المتكامل ISW- effet Saches - Wolfe intégré - Integrated Sachs - Wolfe effect، فقبل أن تصل إلينا، قطعت فوتونات الخلفية الإشعاعية الكونية الأحفورية الميكروية المنتشرة ، عدد كبير مما يعرف بالآبار الثقالية الكامنة ، وهي تعبير عن القدرة الثقالية للجاذبية puits de potentiel gravitationnel، للتركيبات والبنيات أو الهيكليات الكونية العليا الكبيرة والفائقة. والحال أن الفوتون يكتسب طاقة عند ولوجه أحد تلك الآبار الثقالية الكامنة أو المحتملة ، ومن ثم يفقد تلك الطاقة عندما يخرج منها. والحصيلة هي صفر، فالفوتون يحتفظ عموماً إجمالياً، بنفس القدر من الطاقة. إلا أن التوسع المتسارع يمدد ويسطح étire et aplatit، كل بئر كامن ومحتمل عند اختراق الفوتون له وهو في حالة تمدد وتوسع متسارع، لذا فإن الفوتون عندما يخرج من البئر الثقالي يفقد طاقة اقل مما يكتسبه عند الدخول وبالتالي فإن حصيلته الطاقوية ليس معدومة وتعتمد على نحو مباشر على البنيات والهيكيليات الكبرى التي اجتازها منذ بداية مهمته وانبعاثه، وفي هذه الحالة لا بد من وجود ارتباط قوي وعلاقة قوية بين بعض التقلبات والاهتزازات في المستويات العليا للخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة، وتوزع المادة المسؤولة عن هذا الربح أو الكسب في الطاقة.
يعتقد كذلك أن حشود وتجمعات أو آماسات المجرات تتحسس وجود الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة . بعبارة أدق، ينبغي إيجاد إحصائية عن عددها وفق زحزحزتها الطيفية الريدشفت ومقدار كتلتها أو نطاقها الكتلي الشامل leur gamme de masse، وبقياس أو حساب تلك العوامل والمعالم الكوسمولوجية بدقة يمكننا تتبع السياق التاريخي للتوسع والتمدد الكوني مثلما هو الحال بواسطة تحقيقات كوسمولوجية sondes cosmologique مثل الــ BAO، و الــ ISW، رغم صعوبة المعرفة الدقيقة لحساب كتلة آماس أو تجمع مجرات amas de galaxies. هناك برامج ومشاريع علمية طموحة للرصد والمشادة و لسبر أغوار اسرار المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة ، السوداء أو المظلمة بأجهزة وتقنيات متطورة جداً وتكنولوجيا عالية الدقة وكاميرات فائقة الحساسية والقدرة تغطي مساحات واسعة وحقول فضائية هائلة بين أعوام 2020 و 2060 وعلى راسها التلسكوب والقمر الاصطناعي المتطور أقليديس ومهمته Mission Euclid في الكشف عن اسرار وغموض السماء وكشف الجانب المظلم وغير المرئي منها.
10-
ماذا لو أخفق النموذج التضخمي؟
في الفصلين السابقين تحدثنا عن فرضيتي المادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة كونهما مكونين افتراضيين محتملين لكنهما ليسا حتميين . فهناك نظرية جديدة تفسر الجاذبية بدون الحاجة إلى المادة المظلمة والطاقة المظلمة وهي تلغي نظرية الجاذبية الناشئة أي الحاجة إلى المادة السوداء أو المظلمة والطاقة الداكنة أو المعتمة أو المظلمة لتفسير ظواهر الكون، وذلك بالتعامل مع الجاذبية على أنها ظاهرة ناشئة بدلاً من قوة أساسية. يمكن لأي نظريات قادرة على مساعدتنا لحل التضاربات بين نظرية النسبية والميكانيك الكمومي، أن تقربنا كثيراً من فهم كوننا الفيزيائي.
وفي هذا السياق قام إريك فيرليندي، العالم المتخصص بنظرية الأوتار من جامعة أمستردام ومعهد دلتا للفيزياء النظرية، بوضع نظرية جديدة للجاذبية، وقد تُغني هذه النظرية عن الأدوار التي لعبتها المادة المظلمة والطاقة المظلمة في تفسير فيزياء الكون.
لم يتمكن الفيزيائيون المعاصرون من تفسير سبب دوران المناطق الخارجية من المجرات بسرعة كبيرة، تفوق السرعة المحسوبة بناءً على كتلة وطاقة ما تحتويه من النجوم، والكواكب، والغازات الكونية، وغيرها من المواد. وقد اعتُبرت المادة السوداء أو المظلمة أفضل تفسير حتى الآن لهذا السلوك الثقالي الغريب، وهي مادة لا يمكننا رؤيتها، ولم نكتشفها فعلياً بعد.
قدم فيرليندي تفسيراً مختلفاً لهذه الفروق في الحركة، وأطلق على نظريته الجديدة اسم الجاذبية الناشئة. وفي هذه النظرية، ليست الجاذبية قوة أساسية، بل ظاهرة ناشئة. أي إنها ناتجة عن معلومات أساسية مخزنة ضمن بنية الزمكان نفسه، وعندما تتغير هذه المعلومات الأساسية، تنشأ الجاذبية. وبهذا الصدد، قال فيرليندي في بيان صحفي من معهد دلتا: "لدينا أدلة على أن هذه الرؤية الجديدة للجاذبية تتوافق فعلياً مع الملاحظات التجريبية". وبالفعل، وباستخدام هذه النظرية، قدم توقعات دقيقة لسرعات النجوم التي تدور حول نواة درب التبانة، ونجوم في مجرات أخرى، وذلك بدون أية حاجة للمادة المظلمة. وباعتماد المبدأ الهولوغرافي في نظريته، وقد تمكن فيرليندي أيضاً من أن يفسر الطاقة المعتمة أو الداكنة أو المظلمة، وهي قوة غير مرئية تسبب تمدد الكون كما يعتقد لكن قد يكون هناك بديل آخر. فيرليندي يقول :" قد تسبب إضافة المادة انخفاض إنتروبية التشابك في كلا الزمكانين AdS وdS. في AdS ، والحال لا يوجد التشابك إلا ضمن منطقة محدودة، ويتم تخزين كل المعلومات هولوغرافياً. في dS ، حيث تتوزع المعلومات، وتخزن في كامل الحجم. ويتسبب انخفاض الإنتروبية، بسبب المادة، بإحداث تأثير ذاكرة على شكل توزيع للمعلومات.
نموذج جديد
يعتمد فهمنا الحالي للجاذبية بشكل كبير على نظرية النسبية العامة لأينشتاين. وعلى الرغم من أن هذه النظرية تفسر الكثير من ظواهر الكون، فإنها لا تعمل عند تطبيقها على المستويات ما دون الذرية الميكروسكوبية في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية، ويبرز هذا في الأوضاع "الشديدة"، مثل المنطقة قرب الثقب الأسود، أو خلال الانفجار الأعظم. ولهذا، يعتقد فيرليندي - وغيره من الفيزيائيين - أن نظرية الجاذبية تحتاج إلى تحديث.
يقول فيرليندي: "هناك الكثيرون من الفيزيائيين النظريين، من أمثالي، يعملون على مراجعة نظرية الجاذبية، وقد تم تحقيق بعض التطورات الكبيرة. ومن المحتمل أننا على وشك أن نشهد ثورة علمية جديدة، ستغير وجهة نظرنا بشكل كبير حول المكان، والوقت، والجاذبية." بالطبع، لا يزال مقترح فيرليندي هو مجرد "نظرية" وحسب، وهي بالطبع تعاني من بعض المحدوديات، بما في ذلك عجزها عن تفسير الظواهر كبيرة النطاق grandes échelles، مثل تجمع المجرات معاً، ولكنها تبقى طريقاً معقولاً نحو حل التضاربات بين الركيزتين الأساسيتين في الفيزياء الحديثة، نظرية النسبية العامة لأينشتاين، والميكانيك الكمومي أو الكوانتي، وبالتالي، فهي تستحق أن نفكر بها، حتى لو تسببت لنا ببعض الصداع. تبقى أمامنا معضلة تقبل أو عدم تقبل فرضية التضخم الكوني الفوري المفاجيء الهائل.
في 21 آذار من عام 2013، أعلنت وكالة الفضاء الأوروبية في مؤتمر صحافي نتائج القمر الصناعي أو التلسكوب الفضائي المتطور " بلانك" ولقد تمكن هذا الجهاز من تصوير أقدم شعاع كوني بكافة تفاصيله، والمقصود بذلك الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة le fond diffus cosmologique، والمعروفة باختصار الخلفية الإشعاعية الكونية، والتي وصلتنا اليوم على شكل موجات ميكروية micro-ondes، التي بثها الكون بعد الانفجار العظيم بــ 380000 سنة، ووصلتنا بعد مرور أكثر من 13 مليار سنة ضوئية ، ولقد أكد المتداخلون في المؤتمر على أن النتائج أثبتت صحة النظرية الكوسمولوجية الكونية التي يدافع عنها الوسط العلمي منذ 35 عاماً والتي تسمى بنظرية " التضخم الفوري الهائل أو العظيم l’inflation الذي حدث بعد الانفجار الكوني العظيم البغ بانغ ، ويعتقد أن هذا الحدث أدى إلى صقل الكون إلى درجة ، أننا، وبعد مضي مليارات السنين، يبدو لنا الكون المرئي متجانساً ومتسقاً ، ومن أية زواية نظرنا إليه ، وفي كل مناطقه تقريباً ، ومن جهة أخرى " تسبب في "تسطح الكون المرئي" من وجهة النظر الجيومترية أو الهندسية ، إلى الوضع الذي نراه فيه اليوم. ولقد أكد المشاركين في المؤتمر أن الرسالة الأساسية لتلسكوب بلاك الفضائي تتوافق كلياً مع التوقعات والتكهنات والتنبؤات التي وردت في أبسط نماذج التضخم الكوني وترسخ هذه الفرضية. وكان من بين المشاركين العالم بول ستينهارد Paul Steinhardtأحد المهندسين المشيدين لنظرية التضخم ، ورغم الإعجاب بالدقة العلمية التي تضمنتها النتائج التحليلية لبلانك ولكن حصل اختلاف في تفسيرها . فلقد اعترض بعض العلماء وعلى رأسهم بول ستنهارد نفسه، على أن المعطيات التي جاء بها تلسكوب بلانك الفضائي لا تميل لصالح أبسط النماذج التضخمية . وركز المعترضون على المشاكل الجوهرية التي ما تزال تواجه النظرية التضخمية والتي قد تدفع البعض للبحث عن البدائل والنظريات المنافسة عن أصل وتطور الكون المرئي.
ككل نظرية علمية، يتخلل نظرية التضخم الكوني الفوري الهائل بعض الثغرات ويواجهها بعض المشاكل باعتراف أصحابها. ولو افترضنا جدلاً أن هذا الحدث قد وقع فعلاً مباشرة بعد الانفجار العظيم البغ بانغ، فماذا سيفيدنا ذلك فيما يتعلق بتطور الكون المرئي؟ كان هناك في السابق مجرد حدس وتنبؤ وحل افتراضي قدمه البعض للخروج من مشكلة، وإعطاء تفسير بسيط، ثم جاءت نتائج تلسكوب بلانك الفضائي لتؤكد إمكانية وقوع هذه الفرضية المسماة بالتضخم الكوني الفوري الهائل L’Inflation. وبعبارة وجيزة تقول الفرضية أن هناك منطقة صغيرة من فضاء الكون البدئي المولود تواً، احتوت على نوع غريب ومتميز من الطاقة ، هي التي كانت وراء حدوث هذا التوسع المدوي المفاجيء والفوري الهائل الذي سماه العلماء التضخم الكوني. وهو مختلف وغريب وغامض ، لأن الأشكال المعروفة للطاقة العادية المألوفة ، سواء أكانت مادة أو إشعاعات، تعمل على عرقلة وكبح التوسع والتمدد الكوني بفضل قوة الشد الجاذبة في الثقالة الكونية، والحال هنا هو العكس، أي أن هذا النوع من الطاقة قام بتأثير معاكس ومضاد للثقالة أو الجاذبية الكونية وقام بتسريع عملية التمدد والتوسع الكوني الناجم عن الانفجار العظيم، ولكن مع ذلك يمكننا القول أن هذه " الطاقة التضخمية" هي مجرد مكون افتراضي أو محتمل، فلا يوجد أي دليل عملي ملموس يثبت وجود هذا النوع من الطاقة . منذ 35 عاماً تم اقتراح مئات المرشحين للعب هذا الدور وكل واحد منهم لديه معدله في التوسع والتضخم، ما يعني أن فرضية التضخم الكوني الفوري الهائل ليست نظرية علمية صارمة بل إطار نظري مرن جداً يسمح بالكثير من الحرية في التأويل والافتراض . وفق ما تمليه علينا الفيزياء الكوانتية أو الكمومية، يجب أن نكون واثقين من أن درجة حرارة وكثافة المادة، بعد التضخم، يجب أن تتنوع من مكان لآخر. فهناك تقلبات واهتزازات كمومية أو كوانتية عشوائية في تجمعات الطاقة التضخمية ، في مستويات ما دون ذرية، قد امتدت خلال التضخم إلى مناطق ضخمة متميزة ومحددة . النظرية تقول أن التضخم توقف عندما تحولت الطاقة التضخمية إلى مادة عادية وإلى إشعاعات، وفي الأماكن التي كانت فيها الطاقة التضخمية أعلى بقليل من غيرها، استمر التضخم لأمد زمني أطول بقليل. وبالتالي من المفترض أن الاهتزازات والتقلبات الكوانتية أو الكمومية للطاقة التضخمية أن تترجم على شكل مناطق متمايزة مختلفة، أكثر سخونة أو أكثر برودة، داخل الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكرونية الكونية المنتشرة التي تضم آثار تلك الحقبة الكونية.وبعد مرور 13.82 مليار سنة ، وتحت تاثير الثقالة أو الجاذبية الكونية، مازالت تلك التنوعات الطفيفة موجودة في النسيج الذي يشكل في النهاية المجرات والبنيات أو الهيكيليات الكبرى على المستويات الكونية العليا الفائقة.
إنها بداية تفسير ونقطة انطلاق لائقة ومقبولة رغم ضبابيتها وعموميتها، فهل يسمح لنا ذلك بتصنيف وترتيب وتوزيع ومعرفة عدد المجرات عبر الكون المرئي؟ وأيضاً معرفة درجة تحدب وإنحناء وتشوه الزمكان؟ أو معرفة كميات أنواع المواد المختلفة وأشكال الطاقة الأخرى التي يحتويها الكون المرئي الآن؟ الجواب هو كلا. ففكرة التضخم مرنة للغاية وكل شيء ممكن بوجودها كما يعتقد، ولكن هل بوسعها أن تخبرنا لماذا حدث الانفجار العظيم البغ بانغ، وكيف ظهرت الحزمة الأولى من المناطق المكانية في الفضاء الكوني قبل أن يغدو كوناً كما نعرفه الآن؟ الجواب هو قطعاً كلا. وحتى لو تم تأكيد حدوث التضخم لكوني الفوري الهائل علمياً ، كما أخبرنا تلسكوب بلانك الفضائي وربما سيؤكده تلسكوب أقليدس الفضائي الأكثر تطوراً من الناحية التكنولوجية والذي سيطلق سنة 2020 ويعمل لمدة عشرة أعوام لتعميق المعلومات والنتائج التي وفرها لنا تلسكوب بلانك الفضائي، بما في ذلك نظرية التضخم الكوني، هل سيخدمنا ذلك في معرفة سبب تباين المناطق الباردة والساخنة التي رصدها تلسكوب بلانك والتي سوف يرصدها بالتأكيد تلسكوب أقليدس الفضائي في المستقبل القريب.فهناك منطق هو الذي يتحكم بهذه المعلومة ، فتوزع تلك المناطق شبه متماثل ومتناظر مهما تمعنا وشددنا النظر فهذه الخاصية هي " ثابت المستوى " أو المستوى اللامتغير والفارق طفيف جداً كما أظهر لنا ذلك تلسكوب بلانك الفضائي إضافة إلى أن المتغيرات في درجة الحرارة في كل تلك النقاط المتمايزة لا يتعدى نسبة 0.01% . يقول المناوئون لفرضية التضخم الكوني الفوري الهائل والمفاجيء أن معطيات تلسكوب بلانك الفضائي والخارطة الكونية التي زودنا بها ليست بالضرورة تأكيد لفرضية التضخم الكوني.



11-
ماذا لو أخفق النموذج التضخمي؟

موجات الجاذبية أو الموجات الثقالية للكون البدئي، هل سنعثر عليها يوماً ما؟
لو كان التضخم الكوني الفوري المفاجيء الهائل حدث حقيقي في تاريخ الكون المرئي أو المنظور، فهناك خاصية محددة كان يجب أن ترصد في خارطة الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة ، لأنها خاصية مشتركة لكافة أشكال الطاقة التضخمية énergie inflationnaire، حتى في أبسك أشكالها، وفي نفس الوقت هي تخلق تنويعات وتغيرات عشوائية متوقفة على المصادفة aléatoires، داخل كثافة الطاقة التضخمية، ويفترض كذلك بالتقلبات والاهتزازات الكمومية أو الكوانتية أن تتسبب في حدوث تشوهات في نسيج الزمكان والتي من المفترض أن تنتشر على هيئة موجات انبعاجية خلال الكون بمجرد انتهاء وتوقف الضتخم الكوني الفوري الهائل والمفاجيء، بعبارة أخرى إن التضخم يجب أن يولد موجات الجاذبية أو موجات ثقالية ondes gravitationnelles، وأن يكون لها آثار قابلة للكشف والرصد. وهذه الأخيرة يمكنها أن تشكل مصدراً آخر للنقاط الساخنة والباردة على خريطة الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة ، ولو بهئية أو بروفايل آخر للاستقطاب polarisation. وبتعبير أدق، من شأن موجات الجاذبية أو الموجات الثقالية أن تجبر الضوء على أن يفضل توجها معيناً لحقله الكهربائي، والذي يعتمد بدوره هلى درجة حرارة المنطقة التي تبث هذا الضوء. والحال أنه لم يتم العثور لحد الآن على أية موجات جاذبية أو موجات ثقالية أولية بدئية ذات أصل تضخمي، وعلماء الكونيات الكوسمولوجيون يطاردونها ويبحثون عنها منذ العام 1992 بلا طائل. تجدر الإشارة إلى أن موجات الجاذبية أو موجات الثقالة الناجمة عن التضخم هي غير تلك الناجمة عن تصادم ثقبين أسودين تم اكتشافهما مؤخراً عام 2015 من قبل مرصد ليغو LIGO-Laser interferomter Gravitational wave observatory. إن نتائج تلسكوب بلانك الفضائي المتطور، عن الفوارق الطفيفة جداً بالنسبة للامتغير على نطاق واسع l invariance d échelle في توزع المناطق الساخنة والباردة ، وغياب الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية التضخمية، كانت جلية وفصيحة ومثيرة للانتباه والدهشة. فمنذ أن اقترحت فكرة التضخم الكوني الفوري المفاجيء والهائل ، تم تأكيد أبسط نماذجه من خلال المشاهدات والملاحظة ، وسرعان من هرع العلماء المؤيديون لفكرة التضخم لنجدة نموذجهم النظري برفده بنماذج أكثر تعقيداً وتركيباً للطاقة التضخمية وبثمن كبير هو نشوء مشاكل أخرى أكثر صعوبة ينبغي حلها جراء ذلك.
يفترض أن الطاقة التضخمية تنجم عن حقل ، هو التضخم، الشبيه بالحقل الكهربائي، الذي يغمر السماء ويأخذ قيمة في كل نقطة في الفضاء الكوني. وبناءاً على ذلك، فإن التضخم الاحتمالي والافتراضي الذي تخيله مقترحوه ، اعتبروه ذو جذب طارد أو ذو جاذبية طاردة gravitationnellement répulsif ، بغية تفسير تسارع التمدد والتوسع الكوني. القيمة التي يأخذها التضخم في نقطة ما، تحدد كثافة الطاقة التضخمية في تلك النقطة حسب علاقة أو معادلة يمكن نمثلها على شكل منحني يمثل جبال ثلجية . وكل نموذج للطاقة التضخمية من بين المئات ، يقترح شكلاً خاصاً لكل واحد من هذه الجبال ، والصورة الناجمة عن هذا النموذج المجسم المتخيل، هو الذي سيحدد خصائص الكون المرئي أو المنظور ، بعد التضخم، ويفترض أن يخبرنا ما إذا كان مسطحاً منبسطاً ، و لا متغير على المستوى الكبير أو على النطاق الواسع، فيما يخص التنوعات والتغيرات الحرارية.
فمنذ نشر نتائج وتحليلات تلسكوب بلانك الفضائي ، والعلماء في موقف حرج ودقيق، والخلاف ليس حول النتائج بل في التفسيرات المختلفة والمتباينة بينهم لتلك النتائج.
من البديهي القول أن كثافة الطاقة تزداد بانتظام في نفس الوقت زيادة قوة الحقل على نحو يمكننا من استنتاج قيمة أساسية للتضخم والذي تكون فيه كثافة طاقة التضخم معادلة أو مساوية للكثافة التي سجلها تلسكوب بلانك الفضائي، 10120 أكبر مما هي عليه اليوم. مجموع كثافة الطاقة المتوفرة عندما انبثق الكون المرئي من عملية الانفجار العظيم البغ بانغ.
وبوجود هذه الظروف الأساسية لمفضلة ، حيث أن الشكل الوحيد للطاقة هو الشكل التضخمي، فمن المفترض أن التوسع المتسارع يجب أن يبدأ فوراً. وخلال التضخم فإن قوة التضخم تتطور وتنمو بطريقة تجعل كثافة الطاقة تنخفض ببطء وبلطف أو بنعومة حسب المنحى التخطيطي للجبال المثلجة ومنحدراتها، من القمة إلى قاع الوادي حيث يقبع الكون الوليد ــ رمزياً بالطبع لأن الصورة مجازية ــ هذا ما ترويه لنا مناهج التعليم والتدريس ، بيد أن المشاهدات وعمليات الرصد تروي لنا شيئاً آخر وقصة أخرى.
لاحظنا إن أي منحنى تضخمي بسيط courbe inflationnaire، يجر إلى ظهور مناطق ساخنة وأخرى باردة حسب توزيع لامتغير على النطاق الواسع ، من جهة، ومن جهة أخرى ، يؤدس إلى ظهور موجات جاذبية أو موجات ثقالية من الشدة بمكان، بحيث يفترض بنا أن نرصدها فوراً. والحال هو خلاف ذلك، فالتضخم سلق طريقاً آخر أكثر وعورة لذلك لم نعثر على موجاته الثقالية لحد الآن . وبدلاً من أن يتبع شكلاً بسيطاً ومنتظماً ، ارتفع منحنى الطاقة بسرعة ليشكل جداراً في أسفل المنحدر بقيم كثافة طاقة أقل بــ 1018 ، مليار المليار مرة كثافة بلانك المتوفرة فوراً بعد الانفجار العظيم ، وفي هذه الحالة، فإن كثافة طاقة التضخم كان ينبغي أن تكون كافية لتمديد الكون لحظياً أو فوراً كما تقول فرضية التضخم. ولأنه الكون لم يتمدد كما ينبغي ، صار التضخم حراً في أن يبدأ مع أية قيمة ومن ثم يتطور بسرعة مذهلة ، والمعروف أن الكون إن لم يتمدد خلال فترة الانفجار العظيم حيث أن التضخم يكبح، فإن أية اهتزازات وتقلبات في التوزع سوف تتزايد بالضرورة، وبتزايدها سوف تمنع التضخم من الانطلاق مهما كانت طريقة تطوره. من هنا ، إما علينا أن نتقبل أن التضخم سلط طريقاً آخر غير الذي ينبغي أن يسلكه ، أو إنه لم يحدث البتة، خاصة إذا لم يوفر لنا تصوراً وشرحاً بسيطاً لما كان عليه الكون وعلى أية هيئة عند ولادته.
يقول المناوئون لنظرية التضخم الكوني الفوري المفاجيء والهائل، أن على علماء التضخم أن يراجعوا نظريتهم على ضوء المنهجية العلمية المعيارية، أي إعادة تقدير إحتمالية وقوع التضخم وفق معطيات الرصد والمشاهدات الكوسمولوجية والفلكية الحديثة والقادمة، لأن المعطيات الرصدية المتوفرة لم تأت لصالح النماذج الأبسط للتضخم بل فضلت النماذج الأكثر تعقيداً وتركيباً وآخر عائق اصطدمت به هذه النظرية هو تفسيرات وتحليلات نتائج تلسكوب بلانك الفضائي المتباينة والتي لا تصب في صالح نظرية التضخم كما يعتقد معارضوها مما يزيد من حدة المشكلة.
يتعين علينا، على سبيل المثال، أن نختبر، على نحو منطقي، هل من المعقول بالنسبة لكون ناشيء أن تتوفر لديه الظروف الأساسية المطلوبة من أجل أي نوع من أنواع الطاقة التضخمية. يجب تحقيق خاصيتين أو معلمين ومعيارين مهمين من أجل ذلك: أولاً وقبل أي شيء، وجب على التقلبات والاهتزازات الكمومية أو الكوانتية للزمكان، بعد الانفجار العظيم مباشرة، أن تحيد نفسها في منطقة كونية بعينها، وإن الفضاء الكون وصف بصورة جيدة بواسطة المعادلات الكلاسيكية لنظرية النسبية العامة لآينشتين . ثانياً يتعين أن يكون الفضاء او المكان الكوني منبسطاً بما فيه الكفاية وأن يمتلك توزيعاً منتظماً على نحو مقبول للطاقة لكي تأتي طاقة التضخم وتهيمن على كل شيء.
العديد من الأبحاث الكوسمولوجية والفيزيائية النظرية قدرت إحتمال وجود مثل هذا الفضاء أو المكان وبتلك الخصائص مباشرة بعد الانفجار العظيم ، واستنتجت أنه أمر نادر، و÷و أندر من إمكانية العثور على جبل ثلجي في وسط الصحراء . والأهممن ذلك، إذا كان سهلاً تصور انبثاق منطقة من الانفجار العظيم مسطحة ومنبسطة ومتجانسة إنطلق منها التضخم ، عند ذلك لا حاجة لمثل هذا التضخم ولا ضرورة له ، لأن الدافع الأساسي لاقتراح فرضة التضخم هو شرح وتفسير لماذا صار الكون منبسطاً ومتجانساً ، فإذا كان التضخم بحاجة لنفس الشروط والخصائص ، ولكن في منطقة بعينها محدودة من الفضاء الكوني ، فإننا لن نتقدم قيد نملة بالاتجاه الصحيح. فليس فقط أن التضخم يتطلب شروط أساسية يصعب الحصول عليها أو توفيرها ، فحسب، بل ويستحيل وقف هذا التضخم ما أن يبدأ وينطلق. إن هذا الاندفاع أو الهروب يعزى إلى اهتزازات وتقلبات كمومية أو كوانتية للزمكان، والتي تترجم بمتغيرات موضعية في قيمة التضخم ، أي مناطق أو مواقع يتوقف فيها التضخم قبل غيرها. كان هناك افتراض أن التقلبات والاهتزازات الكوانتية أو لكمومية هي فيالحد الأدنى ، ولكن في عام 1983، أظهر علماء ، ومن بينهم بول ستينهارد، الذي كان آنذاك من الرواد المنبهرين والمؤيدين لهذه الفرضية، أي التضخم، أظهروا أن قفزات مهمة bonds ، في حقل التضخم، وإن كانت نادرة، يمكنها أن تزعزع وتخلق إضطراباً في سير التضخم. وبوسع مثل هذه القفزات أن تنقل قيمة التضخم إلى ما يتعدى متوسط القيمة المعتاد ، وإطالة أمد التضخم في بعض المناطق. وإن كانت مثل تلك المناطق قليلة العدد التي يستمر فيها التضخم إلا أنها تمدد كثيراً إلى درجة أنها طغت على مجمل الفضاء. في لحظة ما، تنشأ منطقة يتوقف فيها التضخم وتكون محاطة أو مطوقة بأجزاء هائلة التي يستمر فيها الكون بالانتفاخ ، وتتكرر العملية. وفي الجزء المهم من المنطقة المتمددة، تتغير قيمة التضخم إلى أن تنخفض قيمة كثافة الطاقة ويتوقف التضخم، إلا أن متغيرات كمومية أو كوانتية أخرى، رغم ندرتها، سوف تغذي تضخماً جديداً وتخلق أحجاماً مكانية أكثر سعة ونمواً وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. وبالتالي فإن التضخم سوف يكون ابدياً مولداً عدد لامتناهي من المناطق التي يتوقف فيها التضخم، وكل واحد منها يخلق كونه الخاص به . وفي الواقع، ليس إلا في داخل تلك المناطق التي يتوقف فيها التضخم أن يتباطأ معدل التوسع الكوني بما يكفي لكي يتيح إمكانية تشكل المجرات والنجوم والكواكب، والحياة. ما ينتج عنه أن الخصائص الكوسمولوجية تتنوع وتتغير من منطقة لأخرى بسبب التأثيرات العشوائية للتقلبات والاهتزازات الكمومية أو الكوانتية. وكنتيجة لذلك، فإن الأكوان التي تنشأ لن تكون منبسطة أو مسطحة ولا متجانسة و لا غير متغيرة على النطاقات الكبيرة فيما يتعلق بتوزع النقاط الساخنة والباردة في الخلفية الإشعاعية الكونية المنتشرة. فتلك الأكوان سوف تغطي عدد لامتناهي من الإمكانيات الممكنات بعضها يختلف عنا جوهرياً والآخر ربما يشبه في بعض خصائصه أو كلها كوننا المرئي والنتيجة هي أكوان متعددة أو تعدد كوني multivers إلا أن هذا التعدد الكوني أو الكون المتعدد لا يفسر لماذا جاء كوننا المرئي بهذه الصيغة وهذا الوضع ولي غيره، وهل حصل ذلك بالصدفة؟ وهناك من العلماء من يتساءل حول إمكانية وجود منطقة غير مرئية وغير مرصودة بعد في كوننا المرئي ما زالت تتطور على هذا النحو. وبدلا من ذلك يمكن للتضخم الدائم أو البدي أن يقود إلى عالم كمومي أو كوانتي محض مصنوع فقط من الاهتزازات والتقلبات الكمومية أو الكوانتية العشوائية ، بل وحتى إذا توقف التضخم فسوف نصل إلى نفس النتيجة.
التضخم البدي أو الدائم، إما أن يقود إلى نشوء موزائيك من الأكوان المتعددة متنوعة الخصائص ، أو إلى فوضى كمومية أو كوانتية ، ولا يتنبأ بأن كوننا المرئي هو الأكثر إحتمالاً ظهوره من بين هذا العدد اللامتناهي من الأكوان.فالأحرى بالنظرية العلمية الجيدة أن توضح لنا لماذا أن ما نشاهده ونرصده قد حدث وليس شيئاً آخر غيره. لذا هناك إمكانيتان تتوفران لنا: إما أن يكون للكون المرئي أو المنظور بداية ( وهي الانفجار العظيم Big Bang كما هو متفق عليه )، أو ليس له بداية وعلينا أن نتوقع حدوث الإرتداد العظيم Big Bounce – Grande Rebond، وهي إنتقالة بين مرحلة كوسمولوجية سابقة وأخرى حالية و بعده لاحقة ، وهكذا. الرأي العام العلمي والشعبي اختار الخيار الأول ولكن لا يوجد ما يمنع وجود الخيار الثاني خاصة وإن عملية الارتداد الكوني العظيم لا تحتاج و لا تتطلب وجود فترة تضخم .
الإرتدادا العظيم يمكن أن يقود إلى نفس نتيجة الانفجار العظيم يتبعه فترة تضخم ، لأنه قبل الإرتداد هناك فترة طويلة من المخاض والتقلص والإنكماش البطيء لتسطيح وتوحيد البنيات الهندسية للكون. ولا حاجة لأن يكون لتفرة التقلص والانكماش البطيء نفس تبعات التضخم الهائل والفوري، ولنتذكر أن كونناً بدون تضخم وفي توسع بطيء سيغدو في نهاية المطاف محدباً ومحنياً وغير متسق و لا متجانس ومتنوع التضاريس بسبب تأثيرات الثقالة أو الجاذبية الكونية على الفضاء والمادة.
وكما في حالة التضخم، فإن الفيزياء الكمومية أو الكوانتية تحدث إضطرابات وتعطل سيرورات في نظريات الارتداد الكوني. فهي تعمل على إحداث تنويعات في معدل التقلص والإنكماش من مكان لآخر على نحو يجعل مناطق بأكملها ترتد ومن ثم تبدأ بالكبر والتبريد قبل غيرها . وفي بعض النمتذج فإن معدل التقلص والإنكماش المعتمد يقود إلى تنويعات في درجات الحرارة تتوافق مع الصور المرصودة من قبل تلسكوب بلانك الفضائي. بتعبير آخر حصول تقلص وإنكماش قبل الارتداد لكي تكون لديه نفس التأثيرات التي من أجلها تم اختلاق التضخم.
يجدر بنا التذكير بأن نظريات الارتداد الكوني لا تتنبأ بكون متعدد و لا تعدد أكوان . فعندما تبدأ مرحلة التقلص والإنكماش يكون الكون ممتداً وكلاسيكياً بالمعنى الذي وصفته به النسبية العامة ، ومن ثم يرتد على أعقابه قبل أن يبلغ حجماً تغدو فيه التأثيرات الكمومية أو الكوانتية مهمة جداً . وتبعاً لذلك لن تكون هناك مرحلة كالانفجار العظيم مهيمن عليها كلياً من قبل الفيزياء الكمومية أو الكوانتية و لا حاجة للجوء إلى انتقالة كمومية نحو كلاسيكية . فالتقلبات الكمومية تكبر بسرعة والتوحيد الهيكلي بفعل التقلص والإنكماش لا ينج أكوان متعددة، ولقدي أجريت تجارب محاكاة حاسوبية بكومبيوترات فائقة لوصف كون يمر من مرحلة التقلص والإنكماش إلى التوسع والتمدد دون المرور بحدث الانفجار العظيم ودون الحاجة لوجود الفرادة الكونية ، مما يفتح الطريق أمام كوسمولوجيا ارتدادية بديلة.
يعتقد المعارضون لنظرية التضخم بعدم إمكانية اختبارها وتقويمها بطريقة علمية فضلاً عن أنها تقودنا إلى التضخم الأبدي أو الدائم وإلى التعدد الكوني ولمرونته ، لا يمكن للتضخم أن يؤكد أو يدحض تجريبياً أو مختبرياً.
أما أنصار فرضية التضخم فيعتقدون أنه يمكن التخلي عن دعامة علمية أساسية وهي التدقيق التجريبي . لا يمكن لأي فرضية علمية ألا تكون غير قابلة للدحض نظرياً وبالتجربة ، وبات بعض العلماء ينادي بأن يتخلى الوسط العلمي عن شرط الاختبار والعناصر التجريبية والمختبرية التي تميزه. فالخطأ المتكرر في التجارب المختبرية يمكن أن يسقط النظرية من موقعها العلمي .
12-
البحث عن المكونات الأولية للكون المرئي
رغم كل التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تحقق لغاية العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين ، لا يزال الوسط العلمي ، بكل اختصاصاته ، عاجز عن معرفة حقيقة وطبيعة وماهية المكونات الأولية الأصغر أو اللامتناهية في الصغر، للكون المرئي. تتخذ الجسيمات الأولية التأسيسية للكون المرئي عدة تسميات ، بعضها مكتشف وخاضع للدراسة والتحليل والقياس والحسابات ، والآخر مايزال خفي أو كامن ، غير مكتشف أو غير مرئي ، وربما ليس مادياً بالمرة. فحسب نظرية الانفجار العظيم ، البغ بانغ Big Bang، التي تشكل بداية الكون المرئي كنظرية معيارية، وفق نظرية النسبية العامة لآينشتين، كانت التفاعلات الجوهرية والقوى الكونية الجوهرية الأربعة ــ الثقالة أو الجاذبية ، و القوة الكهرومغناطيسية، و القوة النووية القوية أو الشديدة، و القوة النووية الضعيفة ــ موحدة. وهي المسلمة التي تستند عليها النظرية التوحيدية الجامعة الشاملة والموحدة التي يسعى العلماء للعثور عليها والتي تتعاطى مع فيزياء الطاقات القصوى كما كانت في فجر الكون المرئي، عندما هيمنت على كل ما هو موجود آنذاك. ولكن ما أن برد الكون تدريجياً كسر التماثل أو التناظر القائم المرتبط بتوحيد القوى الجوهرية المفترض مما خلق تشوهات وعيوب توبولوجية ، وبقايا أحفورية عن تلك الحقبة الغائرة في القدم ، 13.82 مليار سنة، التي تشهد على اللحظات الأولى لولادة الكون المرئي.
النظريات التوحيدية تفترض أن كل شيء كان موحد ومجتمع في حيز واحد متسق ومتجانس. وهي كثيرة لكن أهمها هي ، نظرية الأوتار الفائقة théories des supercordes ، و نطرية الكموم الكوانتية الحلقية gravitation quantique à boucles، نظريات التضخم théories de l inflation، نظريات الكون المتعدد أو تعدد الأكوان ، ومنها الأكوان المتوازية، théories des multivers، ونظريات الماثل أو التناظر الفائق théories des super symétrie، الخ.. وبعضها من الغرابة والتعقيد بمكان بحيث يصعب، إن لم نقل يستحيل، تأكيدها وإثبات صحتها بتجارب مختبرية أو بمشاهدات رصدية فلكية أو تنبؤات قابلة للتحقيق . لقد سبق أن درسنا النظريات المعيارية الماكروسكوبية ، أي النسبية وإفرازها الانفجار العظيم، والميكروسكوبية ، أي مادون الذرية وهي فيزياء الجسيمات الأولية ، أي نظرية الكوانتوم أو الكموم . وهذه الأخيرة تصف عالم الجسيمات الكونية الأولية المؤسسة ( إلكترونات ، كواركات، فوتونات، نيوترونات، أوتار الخ..) وتفاعلاتها الجوهرية غير الثقالية .ما يعني أنها تخص فقط ثلاث قوى جوهرية كونية من أصل أربعة وتقصي أو تستبعد الجاذبية أو الثقالة، ألا وهي الكهرومغناطيسية، والنووية الشديدة أو القوية ، والنووية الضعيفة، والتي يمكنها أن تندمج وتتوحد كما تخبرنا بعض النظريات الفيزيائية، ولكن في حفل الطاقات القصوى الفائقة très hautes énergies، وتتموضع هذه في قلب النظريات التوحيدية الكبرى théories de grande unification GUT، والتي قد تقودنا إلى نظرية كل شيء la théorie de tout، والتي سماها ستفين هوكينغ النظرية أم théorie M.فهناك اعتقاد أن هذه القوى الكونية الجوهرية الثلاثة ربما كانت موحدة في ظل ظروف في غاية الخصوصية ، ولكن كيف السبيل إلى التأكد والتحقق من ذلك وإثبات صحته؟ هناك عدة طرق ومحاولات أبرزها البحث عن التماثل والتناظر السابق وبحث أسبابه وطبيعته، وتحطمه أو إنكساره، وهل ترك لنا آثاراً تدل عليه.
التناظرات الأبسط ، التي يمكن وصفها، هي الشمولية . لقد كشفت أولى الدراسات حول التفاعلات النووية القوية أو الشديدة،أن البروتون والنيوترون يبدوان وكأنهما يلعبان نفس الدور ولو طبقنا تناظراً شامل بين الجسيمين يعني أن كل البروتونات يمكن أن تتحول إلى نيوترونات وبالعكس، دون الحاجة على تعديل الصيرورات الفيزيائية ، فإن هذا التناظر يمكن صياغته ببساطة لكنه يتطلب التمييز الدقيق بين الجسيمات المعنية ، وهذا ليس هو واقع الحال في فيزياء الجسيمات حتى بالنسبة للبروتون والنيوترون.
في أواسط القرن العشرين، ولمعالجة هذه المشكلة، تم تطوير مفهوم التماثل أو التناظر المحلي أو الموضعي، وبدا مثمراً لوصف التفاعلات الجوهرية . لنأخذ مثال الإلكترون والنيوترينو الإلكتروني، المرتبطان بتحولات التماثل أو التناظر المرتبطة بالتفاعل النووي الضعيف. . فالإلكترون يمكن أن يتحول إلى نيوترينو إلكتروني شريطة أن إنبعاث جسيم أو أولي يدعى بوزون دبليو boson W تحول التناظر هنا موضعي أو محلي symétrie locale، لأن يحدث في منطقة بعينها في الفضاء. إن ضرورة إبعاث أو إصدار بوزون القياس boson de jauge، إبان التحول، الذي يمكن أن يحمل أعداداً كمومية أو كوانتية، يسمح كذلك بتحول جسيم إلى آخر مختلف. فالنموذج المعياري لفيزياء الجسيمات يصف بالضبط التفاعلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات النووية القوية أو الشديدة، والنووية الضعيفة من خلال التبادل بين جسيمات بوزونات القياس ، التي تصدر عندما تحدث هذه الأخيرة تحولات التماثل أو التناظر الموضعي أو المحلي . وهكذا فإن سيرورات التفاعلات مرتبطة مباشرة بتحولات التناظرات بين الجسيمات ، ومعطيات تلك التحولات التناظرية التي تصف تماماً تلك التفاعلات.
التناظرات المحطمة:
ولمعرفة الخلفية الفيزيائية علينا أن نقوم برحلة في عالم التناظر الفائق. لفهم التناظر الفائق؛ ينبغي علينا أولًا أن ندرك أنها – نفسها- ليست "نظرية". فالتناظر الفائق هو فقط امتداد لما يسمى بالنموذج المعياري، والذي يخبر الفيزيائيين بالجسيمات الموجودة وكيفية عملها في المستويات الأساسية. فهي بالأساس تحصي 12 جسيماً أساسياً مكتشفاً، والقوى الأربعة التي تتفاعل هذه الجُسيمات معها. للأسف لا يستطيع النَّموذج المعياري تفسير التناقضات المزعجة في آليات عمل الكون. فهو مثلًا لا يقدّم أي حلٍّ لمفهوم وحقيقة المادة المظلمة: ذلك المجهول الّذي لا يزال مرئيًا ويبدو أنه يملأ أكثر من رُبع كوننا (المصدر: ناسا). يُحاول التناظر الفائق سدَّ الثغرات في النموذج المعياري من خلال القول إن لكل جسيم من جسيمات المادة التي نعرفها، يُرافقه جسيم قِوى أثقل والعكس صحيح (المصدر: مختبر فيرمي). سيقدّم هؤلاء "الرفقاء الفائقون" (الجسيمات المرافقة) مساعدةً كبيرة في فهم النموذج المعياري. كما ستساعد في تفسير الأشياء الغامضة كالمادة المظلمة، وذلك لكون أكثر الرفقاء الفائقين خفة سيكون مرشحًا جيداً للمواد الغامضة. ربما يعتبر التناظر الفائق أفضل حلٍّ حتى للفيزيائيين - الذين ابتهجوا بتأكيد إجابات طبيعية لأسئلة الفيزياء – فهو قد يقدّم تفسيرات وحلولًا أنيقة لقصور النموذج المعياري. وقد يعمل مع المعادلات الرياضية، كما توافقت كتلة بوزون هيغز مع ما لاحظناه، إضافة إلى أن التناظر الفائق استطاع شرح سبب كون بوزون هيغز أخف بكثير مما توقع النموذج المعياري أن يكون عليه. وحتى الآن، هناك مشكلة فوضوية جدلية مع هؤلاء الرفقاء الفائقين، تتمحور المشكلة في التفاصيل القليلة الدقيقة التي لا يبدو أننا سنستطيع كشفها من خلال نفس تصادمات البروتونات التي قادتنا لبوزون هيغز. تلك التي تنبأت كل النماذج الرياضية بأنها ينبغي أن تكون هكذا – ولكنها ليست كذلك. لا ينبغي عليك أن تكون فيزيائيَ جسيماتٍ لتعرف أنها مشكلة عندما لا يوجد شيء بينما أنت تتوقع أن تجده. على الرّغم من هذا، لم يستسلم الفيزيائيون، فقد شُغِّلَ مصادم الهادرونات الكبير بطاقات أعلى عندما عاد للعمل في العام 2015، ويأمل البعض بأن التصادمات ستنتج في بعض الظواهر الرائعة، بما في ذلك إيجاد الجسيمات الفائقة في تصادمات الكتل الأكبر من تلك التي كانت متاحة في التصادمات التي تمت من قبل. مع ذلك يبحث فيزيائيون آخرون عن تفسيراتٍ أخرى في حالة تحول التناظر الفائق إلى مجرد وهم. هنا، سنرحب بما يُسمى الأكوان المتعددة. إن الفكرة الأساسية للأكوان المتعددة هي أن كوننا يُمثلُ نموذجًا واحدًا في حساء لا منتهٍ من... حسنًا، مادة؟ مهما تكن، فقد غيرت كل هذه الأكوان الموازية الطريقة التي تعمل بها، مُتتبعةً القوانين التي لديها، عشوائيًا. فقد كان كوننا محظوظًا بما فيه الكفاية ليُصبح فقط مناسبًا لخلقنا وحياتنا نحن، بالإضافة إلى الأشياء الأخرى التي يتكون منها كوننا. هذا أمر ممتع لنا؟ هذا يعني أنه ينبغي أن يكون كوننا مدهشاً ومختلفاً عن الأكوان الأخرى التالفة - ولكن بالنسبة للكثير من الفيزيائيين، فالأكوان المتعددة هي فوضَى. فكِّر أعمق قليلًا عن ما يُمكن أن توحي به هذه الأكوان المتوازية. التناظر الفائق هي المتفوقة دائمًا في الصف. فهي أخذت القوى والمواد الأساسية التي تعمل بانسجام مع بعضها البعض لتضمن لنا أنها قابلة للتنبؤ وثابتة. على الطرف الآخر، فإن الأكوان المتعددة يمكن تشبيهها بالمشهد التالي: "تناولَ الطالب مشروبًا للطاقة وذهب إلى الامتحان وحصلَ على درجةٍ عالية." ربما خمَّن الإجابات وربما هو بالفعل كان يعرفها كلها. هذا لا يهم، ولكن بإمكاننا بسهولة تتبع نجاح التناظر الفائق ليكون منهجياً و قابلاً للتنبؤ، بينما لا تملك الأكوان المتعددة أي دليلٍ لتكون ذلك الطالب العبقري- بل على العكس من ذلك، فهي كلها عبارة عن فرص عشوائية. بالنسبة لبعض العلماء، فإن هذا مقلقٌ للغاية. إذا كُنا نعيش في كون تسير الأمور فيه بطريقة واحدة بسبب أنه من الطبيعي والبديهي أن تحدث الأمور بطريقة واحدة هنا - مع العلم أنها تسير بشكل مختلف في كون آخر لنفس السبب. إذن ما هي النقطة التي سنستخلصها إذا ما كانت كل هذه الأحداث مجرد صدفة؟ توحي جميع الأشياء أننا كنا نسأل السؤال الخاطئ طوال الوقت. فالسؤال ليس: " لماذا يتصرف كوننا بهذه الطريقة؟" ولكن ربما: "كيف يتصرف كونٌ آخر غير كوننا؟". لذا فنحن الآن نفهم كلاً من التناظر الفائق والأكوان المتعددة، فهل لدينا أي أمل لمُحاولة التتوفيق بينهما؟ من المهم أن نتذكر أولًا أننا نتحدث عن نظريات تذهب لما وراء النموذج المعياري – فلا التناظر الفائق ولا حتى الأكوان المتعددة تحاول تحديد أو تعيين الجسيمات الأساسية التي لاحظناها بشكل مباشر (المصدر:Willenbrock). فهما فقط طريقتان مختلفتان لمحاولة استخلاص سبب تفاعل جسيمات المادة والقوى بهذه الطريقة التي تتفاعل بها. وبطريقةٍ ما يمكننا اختصار سؤالنا إلى شكلٍ أبسط: "هل يمكن للتناظر الفائق أن يكون موجوداً في أكوان متعددة؟" الإجابة لهذا هي: نعم، تمامًا. فكما قلنا تترك فكرة الأكوان المتعددة المجال مفتوحاً لعدد لا نهائي من الأكوان. كيف تسير الأمور فيها؟ هذا هو السؤال، إذا ما كانت مثل كوننا أو مختلفة عنه أو من نفس النوع تقريبًا أو مختلفة قليلًا- هذا مفتوح كليًا للمناقشة. من المنطقي أن نفترض أن أحد هذه الأكوان اللانهائية يسير فيه التناظر الفائق، هذا أمر محتمل وليس مستحيلاً. وكذلك كل شيء يمكن أن يحصل في الأكوان الأخرى، و إذا كان هناك ما يكفي منها - فكل شيء سيحدث. تَذكّر أن التناظر الفائق يُمثل وصفاً طبيعياً – وملاحظاتٍ مأمولةً - للطريقة التي تعمل بها الجسيمات والقوى قي كوننا. فهي ليست فكرة نظرية عن طبيعة الأكوان، على عكس ما تقدمه نظرية الأكوان المتعددة. لذا فالتناظر الفائق والأكوان المتعددة لا تناقض بعضها البعض بالضبط، وكلاهما يقدم بعض الحلول لأسئلة متشابهة. ولكنهما متصلان مع بعضهما مع أفكار مختلفة كافية لتمكننا من جعلهما يحصلان نظريًا في نفس الوقت.
من خصائص ألغاز التناظرات الفيزيائية أنها تملك القدرة على التحطيم الذاتي عفوياً في درجات الحرارة الدنيا.. لنترك مؤقتاً فيزياء الجسيمات الأولية والالتحاق بالأوساط الممغنطة في الأوساط العالية الإنفاذية ferromagnétiques كالحديد ، فكل ذرة هي بمثابة مغناطيس صغير aimant، مجهري أو ميكروسكوبي والذي يمكن للحالة المغناطيسية le moment magnétique أن تبرز لحظوياً في كافة الإتجاهات . وإن تلك الحالات المغناطيسية خاضعة بالأساس لنوعين من التفاعلات: الإهتياجات الحرارية أو ما يعرف بالتحريض الحراري agitation thermique الذي من شأنه توجيهها في جميع الإتجاهات،على نحو مستقل، و التفاعل المغناطيسي بين الحالات القائمة والذي ينحو، على العكس لتنظيمها وجعلها محاذية لها. وفي درجات الحرارة الأولى يكون التحريض الحراري هو الذي يتغلب على القوة المغناطيسية.
وفي المواد والمعادن ذات النفاذية العالية ferromagnétiques لا يحظى أي اتجاه للحالا المغناطيسية بالتفضيل . وتبعاً لذلك، يمكننا دراسة تلك المواد والمعادن من مختلف الزوايا دون نلحظ أو نلمس تعديلات مجهرية أو ميكروسكوبية . فالنظام يتمتع إذن بحالة تناظر symétrie لأنه لا متغير تحت كافة الدورانات. .
عندما تنخفض الحرارة يذعن التحريض الحراري ويترك المجال للتفاعل المغناطيسي وتتجه الحالات المغناطيسية بالتدريج لتكون متحاذية في نفس الاتجاه. وتعرف هذه بالمجالات المغناطيسية domaines magnétiques، أو مناطق أو مجالات ويس domaines de Weiss، التي تكبر وتملأ في النهاية الحجم برمته وعندما تدخل مجالات ويس باتصال فيمابينها ، إبان التنامي وازدياد الحجم، تتشكل جدران في الواجهات بحيث يكون تتوجه الحالات المغناطيسية لكل مجال بالتدريج من أحدها للآخر. وفي هذه الحالة فإن وصف الإنفاذية العالية يتغير وفق زاوية المراقبة أو الرصد والمشاهدة، لأنه سينقسم إلى مجالات يفضل فيها أحد الاتجاهات وبالتالي ينكسر التناظر. وهذه الظاهرة هي مرحلة إنتقالية يرافقها تحطم عفوي للتناظر . ويمكن مشاهدة هذه الأحداث في العديد من المجالات في الفيزياء مثل فيزياء السوائل البلورية أو الكريستالية physique des cristaux liquides والأوساط فائقة السيولة millieux superfluides والمواد فائقة التوصيل أو الموصلات الفائقة superconducteurs و في فيزياء الجسيمات. إن خصوصية هذه الانتقالات المرحلية أنها تقود أحياناً إلى تكوينات مستقرة وغير قبلية non trivales،أو العيوب الطوبوغرافية défauts topologiques. ففي المواد والمعادن العالية الإنفاذية ferromagnétiques، فإن تلك العيوب الطوبوغرافية هي بمثابة جدران فاصلة أو عازلة بين المجالات.إن الثمن الطاقوي الضروري لإزالة تلك الجدران مرتفع جداً إذ يجب تغيير الحالات المغناطيسية كلياً في أحد مجالات ويس المعنية فتلك الجدران راسخة ومستقرة.
في فضاء ثلاثي الأبعاد، هناك نوعان آخران من العيوب المحددة الممكنة défauts ponctuels ودوامة من الخطوط lignes vortex وهناك تسمية أخرى لدوامة الخطوط هي " الأوتار أو السلاىسل أو الخيوط الكونية cordes cosmiques في إطار الكوسمولوجيا. وهي لا علاقة لها بالأوتار الأولية الجوهرية التي تحدثت عنها نظرية الأوتار الفائقة .
إن إنتقالات المرحلة les transitions de phase، التي يرافقها تكسر أو تحطم عفوي للتناظرات brisures spontanées de symétries، يلعب دوراً مهماً في فيزياء الجسيمات الأولية، حيث يمكن لبعض التناظرات المحلية أن تتكسر وتتحطم في درجة حرارة منخفضة، وفي تصادمات الطاقة المنخفضة كذلك. فعلى سبيل المثال، يتحطم التناظر المرتبط بالتفاعلات النووية الضعيفة بطاقة أقل من 250 غيغاإلكترونفولت gigaélectronvolts أو 250GeV والتي تعادل 1015 كلفن وهي ظروف تم التحقق منها عادة على الأرض. وتجدر الإشارة إلى أنه في مسرع ومصادم الجسيمات العملاق LHC، بالقرب من جنيف، على الحدود الفرنسية السويسرية، يتم تسريع الفوتونات ضد بعضها البعض بطاقة 14000 GeV، أي أكثر 50 مرة . إذ أن التفاعلات النووية الضعيفة مرتبطة بتناظرات محطمة في نطاقات الطاقة الاعتيادية على الأرض وإن كثافتها ضعيفة مقارنة بتفاعلات القوة النووية الشديدة أو القوية والتفاعلات الكهرومغناطيسية . لهذا السبب لا يمكن مشاهدتها في العمليات التي تلعب هي وحدها دوراً فيها مثل التفككات أو الإضمحلالات الراديوية الإشعاعية désintégrations radioactives .
من هنا نشأ التساؤل النظري: هل يوجد تفاعلات مرتبط بتحطمات تناظرية في طاقات عالية أو فائقة جداً، ولم يتم حسابها ، لأنها ضعيفة في النطاقات الممكن بلوغها من قبلنا؟ لقد قاد هذا التساؤل على تطوير نظريات التوحيد الكبرى ، والتي تم فيها توحيد التفاعلات النووية الضعيفة والنووية القوية أو الشديدة والكهرومغناطيسية ، في تفاعل واحد في طاقة قصوى فائقة تتعدى الــ 1016 GeV. وهذا التفاعل الموحد يوصف بتناظر أو تماثل التوحيد الكبير symétrie de grande unification ، والذي يضم كافة تناظرات النموذج المعياري ، والذي يتحطم ويتكسر عفوياً في هذا المستوى من الطاقة سامحاً بالعثور من جديد على الطاقات المعتادة والمتحقق منها على الأرض.
قد تبدو فكرة تماثل أو تناظر التوحيد الكبير في الطاقة القصوى ، اعتباطية للوهلة الأولى، لكنها في الواقع تنبث على نحو اعتيادي وطبيعي من بنية النموذج المعياري. التبرير المهم الأول لذلك هو إن مفاهيم التفاعلات المرتبطة بالتناظرات ، والتي يتحطم بعضها عفوياً ، هي ضرورية. والحال إن تلك المفاهيم سبق استخدامها في مستويات ونطاقات الطاقة التي يمكننا بلوغها والتي تم التحقق منها بدقة عالية . التبرير المهم الثاني هو أن بوسع نظريات التوحيد الكبير يمكنها أن تشرح وتفسر من خلال بناء عدد من خصائص النموذج المعياري مثل تكميم أو كمكمة الشحنة الكهربائية la quantification de la charge électrique، أو عبر حقيقة أن بعض جسيمات النموذج المعياري تظهر على نحو أجيال متشابهة ومتماثلة أو متطابقة وبكتل متنامية أو متزايدة ، وأخيراً ، إن شدة مختلف التفاعلات للنموذج المعياري تبدو متوافقة في الطاقة القصوى العالية مما يجعل مفهوم التوحيد الكبير في ووثيق الصلة بالموضوع ومتوافق معه. إلا أن المشكلة هي في عجم امتلاكنا التكنولوجية اللازمة للتحقق من صلاحية ، واختبار صحة نظريات التوحيد الكبير لأن ذلك يتطلب طاقة تفوق الـ 1016 GeV، وهو غير متوفر في مسرع ومصادم الجسيمات الأولية الكبير العملاق LHC لأن طاقته محددة بــ 1.4x104 GeV، لذا من الصعب، إن لم نقل من المستحيل ، حالياً إجراء مثل هذه الدراسة على الأرض ، ولكن ليس هناك ما ينع أن نأمل في يوم ما في المستقبل المنظور اختبار هذه النظريات على الأرض.
يوفر لنا علم الكونيات، الكوسمولوجيا، إطاراًللولوج إلى ظواهر الطاقات القصوى العالية. فمختلف النظريات والنماذج الكوسمولوجية الكونية تقول أن الانفجار العظيم حدث في ظروف في غاية الاستثناء والتفرد وفي غاية الكثافة والسخون، فدرجة الحرارة بلغت 1032 كلفن ما يتوافق مع طاقات بمعدل 1018 GeV لكننا نحتاج ذلك للإحداث توحيد التفاعلات الجوهرية الكونية. ورغم استحالة رصد تلك المرحلة المبكرة من عمر الكون المرئي البدئي على نحو مباشر، ولكن ربما ترك لنا نظريات التوحيد الكبرى للقوى الجوهرية بعض الآثار القابلة للرصد والمشاهدة والحساب أو القياس. فبعد الانفجار العظيم، بدأ الكون بالتوسع ، وبانخفاض درجة الحرارة والكثافة، مقارنة بما كان عليه في المرحلة التأسيسية الأساسية حيث سادت التماثلات أو التناظرات الكبرى آنذاك، إلا أن إنكساراً أو تحطماً قد حدث في هذا التماثل أو التناظر الكوني عندما بلغت الطاقة الخصائصية للكون المرئي مستوى أقل من 1016 GeV في اللحظة من 10-39 إلى 10-37 من الثانية بعد الانفجار العظيم عندها برزت عيوب طوبولوجية مستقرة تقريباً في تلك المرحلة منها الحبال او السلاسل الكوسمولوجية ــ وهي ليست الأوتار الفائقة ــ والتي ربما بالإمكان رصدها لو توفرت لدينا التكنولوجيا المتطورة اللازمة. وكان أو من تطرق إلى ذلك وتنبأ به عام 1976 هو عالم الفيزياء والكونيات البريكاني توك كيبل Tom Kibble، وفيما بعد تم تأكيد صحة ذلك التنبؤ وتوافقه مع معلوماتنا الحالية في فيزياء الجسيمات الأولية وعلم الكوسمولوجيا المعاصر حيث أعتبرت الحبال أو السلاسل الكوسمولوجية نتيجة حتمية في نظريات التوحيد الكبرى لو تمت هذه في الطاقة القصوى، وإن تأثيراتها الثقالية مهمة ، سواء على صعيد إزاحة الإشعاعات الضوئية، أو في إتبعاث الموجات الثقالية كما لوحظ ذلك عند تحليل نتائج ومعطيات تلسكوب بلانك الفضائي سنة 2009 .
وما نزال نصارع مفارقة البغ بانغ أو الانفجار العظيم لأنه يفرض علينا أن نجد مصالحة وتوافقاً بين نقيضين اساسيين ودعامتين اساسيتين للكون المرئي، وهما النسبية العامة لاينشتين والميكانيك الكوانتي أو الكمومي الغريب الأطوار لذلك اضطر العلماء إلى ابتكار نظريات علمية أخرى أكثر تعقيداً كنظرية الأوتار الفائقة ونظرية الثقالة الكمومية الحلقية ونظرية انهيار الثقوب السوداء ذات الأبعاد الربعة والتراكب والتشابك الكمومي لكيوباتيات المعلومة الآنفروماتك الحاسوبية واللجوء إلى تجارب المحاكاة الرقمية والحاسوبية الخ في محالو للعثور على ماضي واصل علمي حقيقي للانفجار العظيم.ومن بين أهم وأمتع تلك النظريات الجيدة هي نظرية التعدد الكوني والأكوان المتوازية وتعدد العوالم ، حيث هناك من يقول أنها ليست موجودة فحسب، بل وتتفاعل فيما بينها أيضاً ولكن على مستوى ونطاق الجسيمات الكمومية أو الكوانتية والتي يمكن رصده بوماً ما . كما يتوجد علينا الخوض في عالم الجسيمات الأولية للمادة وخصائصها، ومنها البوزونات.
هناك أربع قوى أساسية جوهرية في الكون المرئي هي :الجاذبية، اإلكهرومغناطيسية، القوة النووية الضعيفة، القوة النووية الشديدة أو القوية . لا تنتقل هذه القوى من جسيم لآخر بشكل آني بما أنه من المستحيل أن ينتقل شيء أسرع من الضوء حسب النسبية الخاصة. لذلك تنتشر هذه القوى في الفراغ عبر ما يعرف بالحقول.
يقترح ميكانيك الكموم أو الكونتوم أنه يمكن تمثيل هذه الحقول على أنها جسيمات تسمى البوزونات، ومنها بوزونات هيغزالمكتشفة مؤخراً . لذلك تدعى البوزونات أحيانا "جسيمات القوى" أو "حاملات القوى"، فبتبادل هذه الجسيمات بين إلكترونين مثلا نقول أن هذان الإلكترونان يؤثران ببعضهما بالقوة الكهرومغناطيسية وينطبق هذا الوصف بشكل عام على بقية القوى الأساسية حتى الجاذبية أو الثقالة نفسها ولو أن "تكميم" حقل الجاذبية ضمن جسيمات هو أمر لم يتم بعد نظرياً.
في فيزياء الجسيمات يتم وصف السلوك الإجمالي لهذه الجسيمات من خلال ما يسمى إحصاء "بوز-أينشتاين". وخلافاً للفيرميونات التي تمتلك عزماً ذاتيا (Spin) ـ الدوران المغزلي حول المحور الذاتي ــ يساوي نصف عدد فردي تملك البوزونات عزماً ذاتياً تساوي قيمته عدداً صحيحاً:(1،0،-1،-2...).
وتسمية "البوزونات" وضعها الفيزيائي بول ديراك نسبة للفيزيائي الهندي (ساتيندرا ناث بوز) والذي وضع مع آينشتاين إحصاء بوز-آينشتاين الذي يصف الخواص المميزة لهذه الجسيمات
بوز اقترح هذه الطريقة أول مرة في بحث في سنة 1924 في محاولة لتحليل خواص الفوتونات ثم أرسلها إلى أينشتاين لينشرها. ثم وسع استنتاج بوز لكي لا يقتصر على الفوتونات فقط بل يمتد ليشمل بعض الذرات التي تملك عزم لف كلي يساوي عدداً صحيحاً أيضاً.
أحد أكثر نتائج إحصاء بوز-أينشتاين إثارة هو أنه يمكن للبوزونات أن "تندمج" مع بعضها في حالة كمومية واحدة مشتركة لجميع هذه البوزونات. لهذا السبب مثلاً يمكن للفوتونات أن تشكل شعاع ليزر، و تستطيع بعض المواد تكوين ما يسمى بكثافة بوز-أينشتاين.
أما البوزونات التي تسمى "حاملات القوى" والتي تنتقل عبرها القوى الأساسية (عدا الجاذبية) كما ذكرنا فلا تتألف من أي جسيمات أخرى وتمييزا لها تدعى بالبوزونات العيارية الاربعة تملك عزم لف ذاتي(سبين) يساوي الـ(1) و قد رصد جميع هذه الجسيمات تجريبياً:
1-الفوتون:أو حامل القوة الكهرومغناطيسية ،كلما تفاعلت الجسيمات المشحونة مع بعضها يتم تبادل الفوتونات ويمكننا القول أن معظم نفعله في حياتنا يعتمد على تبادل الفوتونات،إنه ببساطة "كمات" صغيرة من الطاقة الكهرومغناطيسة.
2- الغلوونات: يتوسط تفاعلات القوى النووية القوية حيث تربط الكواركات ببعضها لتشكل البروتونات و النيوترونات و أيضا يضم البروتونات و النيوترونات مع بعضها في نواة الذرة.
3-بوزون W: و هو أحد نوعي البوزونات العيارية التي تتوسط القوى النوية الضعيفة تم اكتشافه عام 1983،و هو مشحون كهربائيا و يقوم بتغيير تركيب الجسيم بحد ذاته حيث يحول البروتونات إلى نيوترونات و بالعكس عن طريق القوى الضعيفة سامحا بحدوث تفاعلات الاندماج و جاعلا النجوم تستمر في الاشتعال.
4- بوزون Z: و هو أحد نوعي البوزونات العيارية التي تتوسط القوى النوية الضعيفة لكنه معتدل كهربائيا.
و بالإضافة لما ذكر سابقا هناك بوزونات متوقعة و لكنها لا تزال بدون دليل تجريبي واضح (بعد):
-بوزون هيغز: بحسب النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات فإن بوزون هيغز يمثل حقلاً منتشراً في كل مكان هو حقل هيغز. هذا الحقل مسؤول عن وجود كتلة في بعض الجسيمات المادية. في الرابع من تموز عام 2012 أعلن العلماء في مسرع ومصادم الهادرونات الكبير اكتشافهم لجسيم يشبه في صفاته بوزون هيغز،لا تزال الاختبارات جارية للتعرف أكثر على مواصفات الجسيم بشكل أفضل. وقد أُكد لاحقا أنه يعتقد أن عزم اللف الذاتي لهذا الجسيم يساوي الـ (0) و لهذا يصنف على أنه بوزون.
- الغرافيتون: و هو جزيء نظري لم يتم بعد رصده تجريبيا،حيث أن القوى الأساسية تم تفسيرها من خلال البوزونات العيارية،و قد كان هذا الجزيء محاولة طبيعية لتفسير الجاذبية(القوة الرابعة) بنفس الطريقة و من هذه المحاولة نتج جسيم الغرافيتون الذي يتوقع أنه يملك عزم لف ذاتي تساوي قيمته الـ(2)،و يتوقع أن عدم قدرتنا على رصد هذا البوزون بعد تأتي من أنه ليس مقيد بشروط الزمان و المكان التي نختبرها.
-البوزونات المركبة: بعض البوزونات تتكون عند اجتماع جسيمين أو أكثر لتشكيل جزيء ذو عزم لف ذاتي قيمته تساوي عدد صحيح مثل:
-الميزونات: يتشكل الميزون عند اجتماع اثنان من الكواركات مع بعضها،بما ان الكواركات هي من الفيرميونات و لديها عزم لف ذاتي يساوي قيمة نصف صحيح فإنهما إذا اجتمعا فسيكون عزم اللف الذاتي (السبين) للجزيء الناتج(و هو مجموع السبين للجزيئين المجتمعين) سيكون عددا صحيحا،مما يجعل الجزيء الناتج بوزوناً.
-ذرة الهيليوم-4: هذه الذرة تحوي على بروتونين و إلكترونين و نيوترونين،و إذا تم جمع كل عزم اللف الذاتي الخاص بهم ستحصل على عدد صحيح، و منه فإنها بوزون. لذلك فمن الخواص المثيرة للهيليوم-4 أنه يتحول إلى سائل-فائق (يسيل دون أي مقاومة أو لزوجة) عند تبريده إلى درجات حرارة منخفضة جدا مما يشكل مثالا رائعا على إحصاء بوز-أينشتاين بشكل عملي. ويمكننا أن نلاحظ أن أي جزيء مركب مكون من عدد زوجي من الفيرميونات سيشكل بوزون،لأن مجموع عدد زوجي من الأعداد التي قيمتها نصف صحيحة سيشكل دوما عدد صحيح بالنسبة لقيمة السبين.
أما نظرية الأوتار الفائقة فهي باختصار
يتخذ كل من ميكانيك الكم (quantum mechanics - mécanique quantique) و النسبية العامة (general relativity - relativité générale) نهجين مختلفين عند النظر إلى الكون. يشعر العديد من الفيزيائيين بوجوب وجود طريقة يُمكن لها أن تُوحد النظريتين. إحدى النظريات الكونية المرشحة لهذا، هي نظرية الأوتار الفائقة (superstring theory - théorie des supercordes)، أو اختصاراً، نظرية الأوتار (string theory - la théorie des cordes). دعنا نُلقي نظرة مختصرة على وجهة النظر المعقدة هذه.
وتر واحد، لا جسيمات.
يتعلم الأطفال في المدارس الابتدائية عن وجود البروتونات، و النترونات و الالكترونات، وهي الجسيمات دون الذرية الأساسية التي تؤلف كل المادة كما نعرفها اليوم. قام العلماء بدراسة كيفية تحرك هذه الجسيمات وتفاعلها مع بعضها البعض، لكن هذه العملية أدت إلى عدد من التناقضات.
و وفقاً لنظرية الأوتار، فإنّ هذه الجسيمات دون الذرية (subatomique particules) غير موجودة. إلا أنه، يتم استبدال هذه الجسيمات بأوتار مهتزة صغيرة جداً إلى درجة لا يمكن معها رصد هذه الأوتار بالاعتماد على الأجهزة الموجودة اليوم. و يُمكن لأي من هذه الأوتار أن يكون عبارة عن حلقة مفتوحة أو مغلقة. فكل نوع من الاهتزازات التي يقوم بها الوتر يعود إلى نوع معين من الجسيمات و يُحدد كلاً من حجم الجسيم وكتلته.
كيف تقوم الأوتار باستبدال الجسيمات النقطية؟ عند المستوى دون الذري، هناك علاقة بين التردد الذي يهتز وفقاً له شيء ما وبين طاقة ذلك الشيء. و في الوقت نفسه، وكما تُخبرنا معادلة اينشتاين الشهيرة E=m*c^2، هناك علاقة بين الطاقة و الكتلة و بالتالي توجد علاقة بين تردد اهتزاز الجسم و بين كتلته و مثل هذه العلاقة تُعتبر امراً مركزياً في نظرية الأوتار.
* تقييد أبعاد الكون
فتحت نظرية اينشتاين في النسبية العامة الباب أمام أن يكون الكون متعدد الأبعاد، لأنّه لا يُوجد تقييد ما على كيفية عمله. تعمل النسبية ضمن فراغ بأربعين بُعدا بالأسلوب ذاته لعملها في فراغ رباعي الأبعاد. إلا أن نظرية الأوتار تعمل فقط ضمن فراغ من عشرة أو إحدى عشر بعداً. و إذا تمكّن العلماء من إيجاد أدلة تدعم نظرية الأوتار، فسيقومون بالحد من عدد الأبعاد التي يُمكن لها أن تُوجد في الكون.
يُمكننا ملاحظة أربعة أبعاد فقط. إذاً، أين هي الأبعاد المفقودة التي تتنبأ بها نظرية الأوتار؟
يفترض العلماء أنّ هذه الأبعاد قد تكورت ضمن فضاء مضغوط جداً. و إذا كان الفضاء صغيرا، بحجم من رتبة الأوتار (أي من مرتبة 10^-33 سنتمتر)، فلن نتمكن من رصد هذه الأبعاد.
من ناحية أخرى، يُمكن تصور الأبعاد الإضافية على أنّها كبيرة جداً بالنسبة لنا و بالتالي لن نستطيع قياسها، كما يحتمل أن تكورت الأبعاد الأربعة بشكلٍ صغير جداً داخل هذه الأبعاد الكبيرة.
* البحث عن أدلة
في عام 1996، قام الفيزيائيان الفلكيان آندريو سترومنجر Andrew Strominger، من معهد الفيزياء النظرية في سانتا باربارا و كومرون فافا Cumrun Vafa من هارفارد بمحاكاة ثقب أسود يمتلك كمية زائدة من الاضطراب أو الانتروبي (enthropy). مثل هذا الثقب تمَّت محاكاته قبل عقدين من ذلك العام من قبل الفيزيائيين جاكوب بيكنشتين Jacob Bekenstein و ستيفن هوكينغ Stephen Hawking. و في ذلك الوقت، لم يستطع أحد معرفة السبب الكامن وراء امتلاك الثقب الأسود لانتروبي كبير جداً.
الثقب الأسود الذي تمّ إنشاؤه من قبل فافا وسترومنجر Strominger و Vafa، لم يعتمد على فكرة الثقوب السوداء التقليدية الموجودة في مراكز المجرات مثل مجرتنا درب التبانة. و بدلاً من ذلك، فتلك الثقوب تعتمد خلال محاكاتها على نظرية الأوتار،مما يُقدم صلة وصل بين النظرية المعقدة و بين القوة الأساسية "الثقالة"، المسؤولة عن الثقوب السوداء. فمن خلال الاعتماد في تأسيسها على نظرية الأوتار بدلاً من الجسيمات التقليدية، قدمت هذه الفكرة مقداراً أكبر من المصداقية للنظرية الموحدة (théorie unificatrice - unifying theory).
على الرغم من إمكانية أن تكون نظرية الأوتار النظرية "النهائية" –نظرية كل شيء –غير معروفة،إلا أنها بالمقابل أصبحت منافساً قوياً لتفسير و شرح الأعمال الداخلية للكون.
الثقوب السوداء حقيقة فيزيائية أم وهم افتراضي
تبين مما سبق أن بحثناه في الحلقات السابقة، بأن هناك ثقوباً سوداء لامتناهية في الصغر، مادون ذرية، وهناك ثقوباً سوداء لامتناهية في الكبر وبينهما عدة مستويات وأحجام لمليارات من الثقوب السوداء الأخرى المختلفة والمتنوعة ، ومنها ثقوب سوداء بحجم كوننا المرئي برمته ، بل ربما يكون كوننا المرئي ليس سوى ثقب اسود فائق يحتوي بداخله كل هذه المحتويات المحيطة بنا، ومنه يمكننا الولوج إلى أكوان ــ ثقوب سوداء عملاقة أخرى. وبالتالي يتعين وضع مسألة الثقوب السوداء في سياقها الحقيقي في الأفق الكوني.
على مدى عقود طويلة بحث العلماء عن بصيص ضوء في مجمل الثقوب السوداء بكل أحجامها من الميكروسكوبية مادون الذرية إلى تلك التي يصل حجمها بحجم كوننا المرئي، مروراً بتلك التي يصل قطرها إلى عشرة كيلومترات أو تلك التي يصل حجمها بما يعادل نظامنا الشمسي أو حتى بحجم مجرة بكاملها، فلا يوجد جواب على سؤال ما هو أكبر ثقب أسود موجود اليوم؟ أغلب المتخصصين بالثقوب السوداء وفي مقدمتهم ستيفن هاوكينغ، سوف يجيبون بجملة ساخرة لكنها معبرة وذات دلالة، وقد تكون إجابة علمية لو أتيحت الظروف لإثباتها وهي جملة: " إن كوننا المرئي ما هو إلا ثقب أسود مهول لو نظرنا إليه من خارجه". ولكي ندرك أن مثل هذا المفهوم ليس جنونياً أو ناجم عن مخيلة مجنونة، علينا أن نتذكر العناصر الأساسية لعلم الكونيات أو الكوسمولوجيا الحديثة وهي ثلاث تتيح لنا ، بفضل وبمساعدة الإنجازات الفيزيائية النظرية والتجريبية، أن نقدم تفسيراً منطقياً مقبولاً ونقوم برسم تاريخ الكون المرئي: هروب أو تباعد المجرات، والوفرة النسبية للعناصر الخفيفة، وهي الهيدروجين والدوتيريوم والهليوم، والتي لم تتكون داخل النجوم بموجب تفاعلات نووية كما هو حال باقي العناصر، ورصد الأشعة الكونية الخلفية الميكروية الأحفورية المنتشرة، ومؤخراً، اكتشاف الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية ، حيث أن المعطيات الثلاثة الأولى تثبت لنا أن الكون في حالة تمدد وتوسع مطرد منذ ما يربو على الخمسة عشر مليار سنة، انطلاقاً من مرحلة متناهية الكثافة والسخونة إلى درجة أن تكونت فيها فرادة كونية singularité كانت منطلقاً لما صار يعرف بالانفجار العظيم أو البغ بانغ. عمليات الرصد والمشاهدة والتجارب المختبرية كشفت لنا جانباً من ماضي الكون المرئي، بيد أن النظرية وحدها هي التي تعطيناً تصوراً عن مستقبله ومصيره الافتراضي. لأن الجاذبية أو الثقالة تهيمن على تنظيم البنيات المادية على المستوى الكبير جداً، أي اللامتناهي في الكبر، كما تقدم لنا نظرية النسبية العامة لآينشتين نماذجاً مقبولة للجيوميتري الكونية géométrie cosmique أو الهندسة والصيغة التكوينية للكون المرئي والظروف التي أحاطت بماضيه. أما فيما يخص التطور الكوني المستقبلي فهناك رؤيتان متناقضتان تتنافسان وتتواجهان، الأولى تقول بكون في حالة توسع وانقباض أو تقلص وانكماش ومحدود في الزمان والمكان، والثانية تقول بكون في حالة تمدد وتوسع دائم ولا محدود وهو كون لانهائي. وبين هذين المصيرين يلعب متوسط كثافة المادة دور الحكم. فلو كان متوسط كثافة المادة أقل من القيمة الحرجة، وهي 10-29 غرام في السنتمتر المكعب الواحد ــ أي ما يعادل ست ذرات هيدروجين في المتر المكعب من المكان ــ فإن الحقل الثقالي الكوني لن يكون بالقوة الكافية للحفاظ على تماسك وترابط المادة، عندها سوف يتمدد الكون إلى ما لانهاية. أما في الحالة المعاكسة، فإن الجاذبية أو الثقالة ستنتصر على التوسع وسوف ينكمش الكون ويتقلص عند حد معين وينهار على نفسه بعد مائة مليار سنة ــ 1011 ــ في ما يشبه البغ بانغ Big Bang المعكوس والذي يسمى الإنكماش العظيم بغ كرونش Big Crunch .وأياً كان المصير الذي سيواجهه الكون المرئي، فإن للثقوب السوداء دور أساسي تلعبه في هذا المجال. سبق للعالمان فريمان دايسون Freeman Dyson و جمال إسلام Jamal Islam، الأول من معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برينستون، والثاني من جامعة لندن، أن تساءلا عن تطور الكون المرئي على المدى البعيد ، بخصوص كون مفتوح وغير محدود وذو تمدد وتوسع مستمر ودائمي، ووجدا نظرياً ورياضياً، أن هناك صيرورات فيزيائية تحدث على مدى زمني طويل جداً لدرجة أنها لم تبدأ بعد منذ خمسة عشر مليار سنة من عمر الكون المرئي وسوف تدخل حيز الوجود آجلاً أم عاجلاً. وهكذا في نهاية 1027 سنة تكون النجوم المنطفئة قد اتجهت نحو مراكز المجرات وتشكل ثقوباً سوداء مجرية الحجم 1011 م . ومن ثم ستشتت حركات المجرات داخل العناقيد المجرية Les Amas طاقاتها المدارية على شكل إشعاعات ثقالية ، وبعد 1031 سنة ستسقط المجرات في قلب الحشود المجرية لتندمج مكونة ثقوباً سوداء مجرية فائقة الأحجام 1015م . وعلى مستوى زمني أطول بكثير تبدأ الصيرورة المعاكسة بإنجاز عملية التفكك أو التحلل الكمومي أو الكوانتي désintégration quantique للثقوب السوداء حيث ستتبخر الثقوب السوداء النجمية stellaires بحدود 1067سنة ، أما الثقوب السوداء المجرية super galactiques فسوف تتفكك بعد 1097سنة، في حين ستتفكك الثقوب السوداء المجرية الفائقة supergalactiques بعد 10106 سنة ، وبصفتها المخازن القصوى للطاقة الكونية والأنثروبي ، فإنها ستغدو مماثلة analogues للثقوب البيضاء التي ستعيد محتوياتها من المادة للكون الخارجي ولكن على نحو منحط dégradée من إشعاع الجسم الأسود. وتساءل العالم فريمان ديسون أنه، بالرغم من الظرف غير الملائم لكون مكرس لا محالة للذوبان والانحلال والبرودة، ربما توجد حضارات كونية متطورة يمكنها أن تبقى على قيد الحياة من خلال استرجاعها لطاقة الثقب الأسود . إن هذا السيناريو التخيلي يتواجد في تناقض تام مع إحدى تنبؤات النظريات المعاصرة لفيزياء الجسيمات physique des particules، التي تقول أن البروتون ليس خالداً بل سوف يتفكك بعد 1032 سنة . من هنا فإن تحلل البنيات المادية والأنظمة الحية في الكون المرئي تبدأ قبل بدء إعادة الثقوب السوداء لطاقتها.
ولو درسنا تبعات كون في حالة تمدد وتوسع ومن ثم تقلص وانكماش expansion et contraction ، محدود ومحصور في الزمان ومحدود في المكان، فإن المعدل المتوسط للكثافة لكون يبدو مغلقاً ، هو ثقب أسوط بقطر 1023م حيث سيبلغ قطره الــ 40 مليار سنة ضوئية، والحال إن أكبر مسافة مقطوعة من قبل الضوء لحد الآن في الكون المرئي، لم تتجاوز الخمسة عشر مليار سنة ضوئية. وهذا يعني أن الكون المرئي موجود داخل قطر rayon أو شعاع شوارزشيلد Schwarzschild، ما يعطينا الانطباع بأننا نعيش داخل ثقب اسود فائق الحجم بقدر كوننا المرئي أي أن كوننا المرئي يمكن أن يكون نوع من أنواع الثقوب السوداء.
هناك الكثير من الحجج النظرية التي تدعم أطروحة أو وجهة النظر التي تقول بأن الكون المرئي هو ثقب أسود يحتوي بداخله على عدد هائل من الثقوب السوداء. كما تجدر الإشارة إلى أن كوناً مرئياً من النوع المغلق وفيه اتساع وتقلص أو انكماش، يمتلك أفق حدث كما هو الحال مع الثقب الأسود أي حدود معينة للزمكان توجد بداخله أحداث لايمكن بلوغها أبداً لأن إشاراتها الضوئية لن تصل إلينا على الإطلاق. ومرتبطة بفرادة مستقبلية singularité du futur، التي تؤدي إلى الإنكماش العظيم Big Crunch، فإن هذا الأفق الكوني ، منظور له من الداخل، هو من نفس طبيعة أفق الحدث الذي يشكل حدود الثقب الأسود الخارجية ولكن منظور له من الخارج. يمكننا والحال هذه القول بأن نفترض أنه إذا كان الكون المرئي مغلقاً clos فذلك يعني وجود عالم خارجي مقابله، يبدو كوننا المرئي حينئذ مجرد منطقة مخفية في عمق ثقب أسود أكبر منه بكثير . وهذا يفتح أفقاً واسعاً أمام دراسات كوسمولوجية قادمة في مجال نظرية تعدد الأكوان ، ويسمح لنا أن ندرس كيفية تحول كوننا المرئي إلى ثقب أسود دون أن نشعر بذلك. ونتساءل ، هل كان كوننا المرئي منذ البدء ثقباً أسود أولي أو بدئي داخل كون خارجي عنه أوسع وأشمل؟ وهل يمكن أن يكون نتيجة لانهيار نجم هائل الضخامة، أكبر من نظام شمسي بأكمله، على نفسه 1023 ؟ في هذه الحال لن يكون الكون ألأوسع الخارجي فارغاً ، بل هناك مجرات بأكملها ، وربما أشكال مجهولة من مواد غير معروفة، يمكن أن تقع من الكون الخارجي وتنبثق أو تظهر داخل كوننا المرئي. والنتائج الأكثر جذباً attrayante في الكون ــ الثقب أسود، هي الكشف عن سلوكيات غير متوقعة وغير مألوفة وغير عادية للمادة داخل الثقب الأسود. النسبية العامة تتنبأ بأن التقلص أو الإنكماش الثقالي contraction gravitationnelle لجرم سماوي هائل ولكن تحت مستوى إشعاع شوارزشيلد سيستمر إلى حد الانسحاق في فرادة مركزية ، ولكننا نعلم أن النسبية العامة نظرية غير كاملة ، وبغياب نظرية أكمل عن الثقالة الكمومية أو الكوانتية théorie de de la gravitaion quantique فإننا نجهل ماهية القوانين التي تسير وتتحكم بمصير المادة داخل ثقب أسود. فنموج الكون ـ الثقب الأسود من نوع المتوسع والمنكمش تعاقبياً، يمكن أن يثبت أن الانهيار الثقالي داخل الثقب الأسود يمكن أن يتوقف او يقطع قبل بلوغ الفرادة بسبب مقاومة قصوى وأخيرة من جانب المادة لا نعلم خصائصها بعد في الوقت الحاضر، مثل تفاعلات نابذة أو طاردة تظهر لبرهة زمنية قصيرة تعمل على ارتداد المادة في النجم المنهار، وعلى غرار كون كامل، تجعله يتأرجح بين حالة فائقة الكثافة وحالة متمددة تملأ داخل كرة شوارزشيلد، ومثل هذا السلوك يمكن أن يبدو بديهياً يوما ما بفضل النظرية الجامعة لكافة أنواع التفاعلات الجوهرية حيث يتم تصفية الفرادات الثقالية نهائياً. ومن شأن هذا النموذج للكون ــ الثقب الأسود أن يعالج موضوع وحدة الكون. فماهو وضع عالمنا بالنسبة للكون المفتوح الخارجي الأشمل والأوسع؟ وهل يمكننا أن نتعاطى مع نوع من المراتبية الكونية أو التسلسل الهرمي للأكوان؟ مثل اللعبة الروسية La poupée Russe ، أي كون في بطن كون من الأكبر إلى الأصغر ؟ النظريات الحديث تحدثت عن الأكوان ــ الفقاعات univers –Bulles وعن الكون المطلق والأكوان النسبية أو الأكوان ــ الجسيمات وكل واحد منها هو بمثابة كون متكامل على غرار كوننا المرئي لكنه ليس سوى جسيم كوني في جسم الكون المطلق الحي.
13-
ماذا لو ولد كوننا المرئي من رحم ثقب أسود عملاق؟
كان وما يزال جدار بلانك الحد الفاصل الذي يمنعنا من الإطلالة على ما وراءه ، أي ما قبل حدث الانفجار العظيم البغ بانغ Big Bang، فمجرد التفكير بشيء إسمه " قبل" يعني أن هناك أصل آخر للكون المرئي يسبق ولادته الرسمية المثبتة في شهادة ميلاده ، أي بتاريخ حدوث الانفجار العظيم. من بين السيناريوهات المطروحة، وهي عديدة، هناك من يتحدث عن فرضية غريبة لكنها ليست مستحيلة، بل وممكنة الحدوث، تقول أن ثقباً اسود عملاق ، ربما بحجم الكون المرئي نفسه، قد إنهار على نفسه بفعل جاذبيته المهولة ، وكان موجوداً في كون رباعي الأبعاد، سبق الانفجار العظيم الذي شكل بداية كوننا المرئي، وتسبب في ولادته وانبثاقه من الجهة الأخرى للثقب الأسود ، الذي يمكن أن نسميه الثقب البيض، ولكن من أين جاء هذا الكون السابق لكوننا المرئي والذي احتوى الثقب الأسود العملاق الذي انهار على نفسه وأدى إلى حدوث البغ بانغ؟
في الفصل السابع من كتابه " الجمهورية" طور الفيلسوف الإغريقي أفلاطون مفهوم " الكهف" على نحو رمزي . لقد تخيل كيفية إدراك العالم من قبل أشخاص مقيدين منذ الأزل في مواجهة جدار في عمق كهف مظلم أو معتم ، وخلفهم لهيب شعلة يعكس على الجدار ظلال لمختلف الأشياء على الجدار وهي بالطبع ظلال ثنائية البعاد أو ذات بعدين مكانيين ، وهي الأشياء الوحيد التي رآها هؤلاء السجناء المقيدين في حياتهم كلها وهي تمثل واقعهم الوحيد الذي يعرفونه فأغلالهم أو قيودهم تمنعهم من رؤية العالم الحقيقي خارج الكهف المظلم والذي له بعد وحجم أكبر وأكثر تنوعاً من العالم الذي يعرفونه ، وهو بعد غني بتركيبته وتعقيده ، وإن تعرفهم عليه يمكن أن يتيح لهم معرفة مايرونه منعكساً على الجدار أمامهم على نحو أفضل ودقيق. ، فماذا لو كان علماء الكونيات الكوسمولوجيون هم قرائن وأشباه لسجناء كهف أفلاطون؟ هل يعيش البشر في كهف كوني أعد لهم منذ اللحظات الأولى للكون المرئي الذي يحتويهم؟
ففي السيناريو الكلاسيكي ، انبثق كوننا المرئي من الانفجار العظيم البغ بانغ عن حالة كانت غاية في الكثافة والسخونة ، وهو السيناريو الذي يفسر العديد من المشاهدات الرصدية ويقدم لنا رؤية مقبولة عن العالم الذي نراه ونعيش فيه ، ألا أن لهذا النموذج حدوده وتعتريه الكثير من جوانب القصور والغموض ، لذا من الضروري جداً معرفة تلك الحدود والألغاز وفهم طبيعته ومحدوديته ومحاولة تجاوزه ، لا سيما وأن هناك عدة معضلات تحاول أن تنسفه وتتطيح به ، منها: الحالة التضخمية، وإنهاك الضوء المنبعث من مكوناته الأولى عند وصوله إلينا، وحكاية التضخم الأبدي الدائم، وسراب الأبعاد الأربعة Mirag 4-D ، والثقوب السوداء ، ومفهوم الكون المرآة، والكوسمولوجيا التعاقبية الحلقية ، والبغ بانغ البارد، النقيض لنموذج البغا بانغ الساخن جداً ، والكون المنكمش أو المتقلص عند بلوغد حده التوسعي الأقصى الخخ.... وأول ما سيثر فضولنا هو معرفة ما هو أصل الانفجار العظيم البغ بانغ، وما هي بدايته الحقيقة وماذا كان يوجد قبله. فالسيناريو البديل له يخبرنا بوجود حقبة زمنية تسبقه حيث كان يوجد بعد مكاني إضافي ، ويتوقع هذا النموذج البديل أن هناك آثار تدل عليه يمكن اكتشافها ورصدها وهي ملحوظة وقابلة للرصد والمشاهدة إذا ما توفرت لدينا التكنولوجيا المتطورة اللازمة لذلك. فنموذجنا القياسي أو المعياري المألوف يمتلك ثلاث أبعاد مكانية وبعد رابع زماني ونسميه الكون ثلاثي الأبعاد ، لكن في السيناريو البديل يعتبر هذا النموذج الكلاسيكي المعياري مجرد ظل لعالم رباعي الأبعاد المكانية وله بعد خامس زماني . ويفترض هذا النموذج البديل أن كوننا المرئي جاء نتيجة إنهيار جرم سماوي عملاقفي نهاية حياته ، في مكان ما داخل كون أوسع واشمل ذو أربعة ابعاد مكانية ، وإن عملية الانهيار والانفجار لهذا الجرم السماوي العملاق قد حوله إلى ثقب أسود عملاق رباعي الأبعاد ، الجزء الثلاثي الأبعاد شكل الإطار الذي احتوى كوننا المرئي ، ولقد توصل العلماء إلى المعادل الرياضياتي ، أي المعادلات الرياضية التي تصفه وتوضح فضائه وزمانه. ولقد طور بعض علماء الفيزياء في الآونة الأخيرة نظرية جديدة تعرف بالمبدأ الهولوغرافي principe holographique، الذي يمثل تشابهاً مع الهولوغراف الكلاسيكي، الذي يسمح بتسجيل المعلومات عن حجم مجسم على سطح ذو بعدين ــ كالقرص الحاسوبي مثلاً ــ وإعادة بثه مجسماً فيما بعد. إن المبدأ الهولوغرافي قادنا إلى إعداد وتطوير تقنيات رياضياتية يستطيع العلماء بفضلها ترجمة حالة مركبة ومعقدة إلى أخرى أكثر سهولة وقابلة للوصف . إن هذا النوع من التحول الرياضياتي يرافقه تغيير في عدد الأبعاد المكانية بين وصفين لحالتين معطاة مسبقاً. فبوسع الباحثين مثلاً حل معادلات ديناميكية السوائل dynamique des fluides ببعدين واستخدام الحلول لفهم ما يحدث داخل نظام أكثر تركيباً وتعقيداً مثل نظام الثقب الأسود الثلاثي الأبعاد، أي أن هناك قابلية للتبادل interchangables . لذا فإنه من الناحية الرياضياتية ، هناك تبادل للأدوار بين الوصفين ، فالسائل يمكن أن يكون شبيه تام للثقب الأسود في الصيغ الرياضياتية المذكورة أعلاه.
لقد لقي نموذج المبد-ا الهولوغرافي ترحيباً ونجاحاً لدي الكثير من الفيزيائيين الذي اعتبروه عملية تحول رياضياتية عادية . فربما صيغت قواعد الكون في لعبة أبعاد متنوعة أخرى مغايرة لما نعرفه ونألفه ، وترجمت بالأبعاد الثلاثة التي ندركها ، وربما نعتقد نحن كذلك، ولكن على خطأ، على غرار سجناء كهف أفلاطون، أن الفضاء الخارجي ثلاثي الأبعاد بينما في واقع الأمر يوجد بعد مكاني رابع لا ندركه ، والذي إذا أخذناه بالاعتبار سوف يسمح لنا بفهم أفضل وأعمق للكون المرئي. من فوائد هذا النموذج البديل ، أي الكون الرباعي البعاد المكانية، أن دراسته بالتفصيل يمكن أن يساعدنا على الإجابة على عدد من التساؤلات والمسائل الحاسمة عن أصل وطبيعة الكون المرئي ، منذ بدايته المفترض بابغ بانغ ــ الانفجار العظيم ــ حيث تقول النظرية المعيارية الكلاسيكية أنه أعقبه فوراً تضخم هائل عظيم ومفاجيء ، أي مرحلة توسع سريع للفضاء الكوني تضاعف خلالها حجم الكوني الأولي البدئي الوليد بمعدل 1078 مرة، بل وأكثر من ذلك بكثير حسب قياسات أخرى ، إلا أن هذا الحدث الافتراضي لا يحمل إلينا آية معلومة علمية إضافية عن أصل البغ بانغ ــ الانفجار العظيم ــ ويطرح بدوره تساؤلات أخرى بحاجة إلى إجابات ، في حين أن النموذج البديل رباعي الأبعاد المكانية يخبرنا كيف بدأ الانفجار العظيم ولا يحتاج لفرضية التضخم الفوري الهائل والمفاجيء .
يصف علماء الكونيات الكوسمولوجيون تاريخ الكون المرئي انطلاقاً من الآن وصعوداً في الزمن إلى الوراء ، إلى جزء من مليار المليار المليار من الثانية بعد الانفجار العظيم الباغ بانغ، استناداً إلى بعض المعادلات الرياضية ، ومنها معادلات النسبية الخاصة والعامة لآينشتين بالطبع، ومعها خمسة معايير أو عوامل متغيرة أو إعدادات مستقلة . وتضم تلك المعايير والإعدادات، كثافات المادة العادية ، والمادة السوداء أو المظلمة، والطاقة المعتمة أو الداكنة والمظلمة، وكذلك سعة amplitude وذروة ومدى وفرة ، وشكل التخلخلات والاهتزازات والتقلبات الكمومية أو الكوانتية داخل الكون البدئي الأولي الوليد . ويصف هذا النموذج الكوني بنجاح عدد من المشاهدات التي تتوافق مع آلاف من نقاط القياس التي تغطي مستويات أو نطاقات تتراوح بين مليون وعشرة مليار سنة ضوئية ، لغاية الحد المعلوم من الكون المرئي أو المنظور. وبالرغم من هذا النجاح الرصدي، إلا أن هناك الكثير من الثغرات العمقة التي ما تزال قائمة فتاريخ الكون المرئي ملء بالثغرات والنقاط الغامضة واللغزية وتساءلات جوهرية عن طبيعة الكون وماهيته الحقيقية ، والعديد من العقبات والمشاكل والتحديات التي لم نستطع بعد الإجابة عليها أو معالجتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو أخذنا محتوى الكون المرئي، فإن المشاهدات الرصدية الفلكية والحسابات الرياضياتية، تكشف لنا أن المادة العادية في الكون تعادل فقط 5%من الكثافة الكلية لطاقة الكون المرئي. المادة السوداء أو المظلمة، وهي شكل مجهول من المادة ، نستنتج وجودها من تاثيراتها الجاذبية الثقالية ، تمثل 25%. وإن الــ 75% الباقية من محتويات الكون المرئي هي عبارة عن طاقة معتمة أو داكنة أو مظلمة أو سوداء ، سمها ما شئت، ذات طبيعة غي مشخصة وغير معروفة ، أي مجهولة ، والتي يعتقد أنها هي السبب وراء تسارع توسع وتمدد الكون المرئي.
وكما قلنا في فصول سابقة، أن هناك عدد من الفرضيات والاحتمالات اقترحت بخصوص طبيعة وماهية المادة السوداء أو المظلمة والطاقة الداكنة أو المعتمة أو المظلمة ن ونسبها . لكن و لا واحدة من تلك الافتراضات والاحتمالات قادرة على شرح لماذا تكون مقاديرها وخصائصها مرتبة ومحددة بدقة متناهية لكي تتوافق مع نتائج الرصد والمشاهدة.
ليس المحتوى وحده هو الذي يطرح علينا تحدياً بل وكذلك بعض التنويعات والمتغيرات الجوهرية المتعلقة بتوزيع المادة والحرارة والطاقة في الكون المرئي كما ظهر لنا ذلك من خلال دراسة وتحليل نتائج الخلفية الإشعاعية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة التي انكب عليها الكثير من العماء والفرق العلمية البحثية المتخصصة ، لا سيما بعد حصولهم على نتائج مثيرة ومدهشة من التلسكوب الفضائي بلانك ، وهي الشعة الكونية التي بدأ الكون المرئي الوليد ببثها بعد مرور 380000 سنة من الانفجار العظيم وما زالت تحتفظ ببصمات التقلبات والاهتزازات والتخلخلات في كثافة الكون البدئي الأولي ، وتظهر النتائج التي وفرها لنا ستلايت بلانك ، أن الحرارة في تلك الأشعة ، موحدة température uniforme، في كل أنحاء الفضاء الكوني والمتغيرات أو التفاوتات هي ذات سعة ضعيفة جداً بنسبة واحد من ستون ألف . ونظراً لشساعة المسافات الفاصلة بين مختلف مناطق الكون، وسرعة التوسع الكوني، فإن بعض تلك المناطق لكم تكن، ولا في أية لحظة أو وقت من الأوقات، على صلة واتصال بعضها ببعض فكيف يمكن إذاً تفسير هذه الوحدة والتماثل في درجات الحرارة؟ كما إن دراسة تلك الأشعة الأحفورية الخلفية الميكروية الكونية المنتشرة يظهر أن هناك إنحناء أو تحدب فضائي شبه مسطح في النطاق المكاني الكبير ما يعني أن هندسته إقليدية، فلماذا جاء الكون بهذا التشكل الجيومتري الخاص أو هذا التكوين الهندسي المعين configuration géométrique particulière، وليس شكلاً هندسياً آخر ؟
كلما تعمقنا في فهم الانفجار العظيم كلما سهل علينا إعطاء أجوبة على عدد من التساؤلات . من هنا كانت مقاربة التضخم فعالة في شرح البنية أو الهيكيلية الكونية على نطاق كبير لأنها تسهم في " تسطيح" الكون تاركة كل المناطق المقعرة في الزمكان . وبفضل هذا التمدد والتوسع الكبير والسريع ، فإن بعض مناطق الكون المرئي ، التي تبدو متباعدة عن بعضها كثيراً، بحيث لايمكن أن يكون بينها أي اتصال، ، يمكن أن يحدث فيها صلات من نوع ما مما يفسر التناسق والتجانس homogénéité، في درجات الحرارة في الخلفية الكونية الإشعاعية الميكروية المنتشرة . فالتضخم الفوري الهائل ضخم التقلبات والاهتزازات والتفاوتات الكمومية أو الكوانتية الصغيرة جداً للكثافة وجعلها بأحجام كونية كبيرة. وانطلاقاً من تلك التقلبات والاهتزازات الكمومية انبثقت البنيات الكونية الكبرى كالمجرات والنجوم. وهكذا كان التضخم عبارة عن صيغة أو مثال ونموذج مثمر جداً ولكن كيف حدثت الظاهرة التي تتطلب طاقة هائلة ؟ النموذج المعياري يقول أن الكون البدئي كان يحتوي على مثل هذه الطاقة الضرورية لإشعال أو إطلاق التضخم أو هي التي تجسدت على شكل تضخم كوني وجسيمات أولية افتراضية ، بيد أن هذا التضخم لا يحل مشاكلنا العديدة الأخرى بل يدفعها إلى مستوى ثانوي. فنحن ما زلنا بحاجة لوصف علمي دقيق ومقبول ما قبل التضخم في اللحظة 10-36 من الثانية الأولى بعد الانفجار العظيم ، لذا تبدو الظواهر الكمومية أو الكوانتية هنا مهمة جداً بحث لم تعد المعادلات الرياضية التابعة للنسبية العامة صالحة ، ويحتاج الأمر إلى نظرية كوانتية أو كمومية للثقالة أو الجاذبية وهي المفتقدة والغائبة في الوقت الحاضر رغم حاجتنا الماسة لها. لذا يمكنن القول أن أكبر تحدي يواجه علم الكونيات الآن هو الفهم الحقيقي للانفجار العظيم نفسه والظهور المفاجيء والعنيف للمكان والزمان والمادة والطاقة من حالة مكثفة للغاية تسمى " الفرادة singularité" والتي تجعل كافة قوانين الفيزياء عندا عاجزة وغير صالحة ولا نمتلك الوسائل والأدوات اللازمة لوصف ما حدث قبل واثناء وبعد الفرادة الكونية و لا يوجد ما يجعلنا نعتقد بأن هذه الفرادة هي التي أنجبت وأولدت كوننا المرئي بهيئته المنتظمة التي نراه عليها الآن ، بدلا من انبثاق كون فوضوي عشوائي تبدو آثاره وبصماته واضحة على خلفيته الإشعاعية الأحفورية الميكروية المنتشرة وتباينات وتفاوتات في توزع درجات الحرارة. وبالتالي هل يمكن للتضخم أن ينهي مفارقة " الفرادة"؟ فالفرادات هي عبارة عن حالات فريدة وشاذة وغريبة لكنها ليست مجهول كلياً من قبل العلماء فهي تتشكل كذلك في أعماق ومراكز الثقوب السوداء،وهي بقيا النجوم الهائلة الكتل المنهارة على نفسها . فكل النجوم هي عبارة عن افران ومفاعلات نووية ضخمة تنصهر بداخلها وتندمج العناصر الخفيفة وعلى رأسها الهيدروجين ، وعملية الدمج النووي هي التي تغذي النجم خلال أغلب فترات حياته ووجوده وتقارع أو تعارض عملية الإنهيار الثقالي للنجم ، ولكن عندما يستهلك النجم كامل وقوده النووي ويحرق كل ما لديه من هيدروجين عندها تنتصر الثقالة أو الجاذبية الذاتية وتقرر إنهاء حياة النجم وموته. وإذا كانت كتلة النجم المعني تساوي أو تزيد على عشرة أضعاف كتلة الشمس فإنه سينهار على نفسه قبل انفجاره على شكل مستعر أكبر سوبرنوفا . وإذا كانت كتلة النجم أكبر بكثير من عشرة اضعاف ، أي 15 ضعف أو أكثر من كلتة الشمس، فإن السوبرنوفا المستعر الأكبر يترك وراءه قلب مكثف جداً بحيث لا توجد أية قوة يمكنها أن توقف انهياره وسوف يتقلص وينكمش إلى درجة أو نقطة ما دون الصفر nulle أو البطلان عديم الوجود أو الإبطال، بتعبير أدق ، إلى " فرادة" تشكل ثقباً اسود. إن فرادة الثقب الأسود تكون محجوبة أو مغطاة بسطح ذو بعدين يسمى أفق الأحداث الذي يرسم حدود اللاعودة لأي شيء يعبره: فالمادة والضوء واي شيء آخر يتم جذبها بقوة إلى داخل الثقب الأسود بمجرد عبورها لفق الأحداث ودفعها باتجاه الفرادة حيث أن داخل الثقب السود وأعماقه مقطوع عن الكون.
وكما في ّ فرادة" البغ بانغ الانفجار العظيم، فإن قواني الفيزياء لم تعد مطبقة أو صالحة في " فرادة" الثقب السود ،ولكن على عكس البغ بانغ، فإن الثقب السود محاط بأفق الأحداث وهو سطح يمنع خروج اية معلومات عن الفرادة ويحميها من عمليات الرصد الخارجية ومن التاثيرات الكارثية التي يمكن أن تحدث لها والتي لم تكن متوقعة من قبل بمجرد وجود مراقبة ورصد ومراقب وراصد خارجي ، وهو الأمر الذي يسمى بالرقابة الكونية .
وبما أنها لا تتفاعل مع كل ما هو خارجها، فإن الفرادة في داخل الثقب الأسود لا تثير أية اضطرابات و لا تعطل قوانين الفيزياء التي تصف كل ما هو خارجها . ويبدو الثقب الأسود من بعيد بنية بسيطة مصقولة موحدة المعالم ومعرفة بكتلتها ولحظتها الحركية moment cinétique، وشحنتها الكهربائية. ويسميه علماء الفيزياء بالهيئة الملساء أو الصلعاء . فرادة البغ بانغ ــ الانفجار العظيم ــ ليست محمية بأفق أحداث وبالتالي تسمح بدراستها ومقاربتها رغم المخاطر المتوقعة ، لكن السيناريو الكوسمولوجي البديل المقترح يفترض وجود شيء معادل لأفق الحدث في الثقب الأسود لكنه يختلف عنه كلياً لأنه يتمتع بأبعاد مكانية ثلاثة ، وليس بعدين فقط، فهو يشبه الغلاف المحيط بالفرادة الكونية للانفجار العظيم . ولكي يكون قرين افق الحدث الخاص ببغ بانغ ثلاثي الأبعاد فإن الجرم الكوني الذي ينهار على نفسه ، ويولد فرادة الكون المرئي، يجب أن بتمتع بالضرورة ببعد إضافي مكاني ، أي بمكان آخر ، ما يعني أنه كجسم كوني ، لنفترض أنه ثقب أسود عملاق في كون أوسع وأكبر ، لا بد أن يتواجد داخل كون رباعي الأبعاد المكانية إضافة إلى البعد الزماني الخامس.
إن فكرة وجود بعد مكاني رابع قديمة بقدم نظرية النسبية العامة نفسها ، أي عمرها قرن كامل من الزمن، وكان قد اقترحها العالم الفيزيائي الماني ثيودور كالوزا Theodore Kauza سنة 2019 وتوسع بها العالم السويدي أوسكار كلاين Oskar Klein سنة 1920 وكانا قد انطلقا من فكرة توحيد النسبية العامة مع الكهرومغناطيسية . ولكن لم يكتب لها النجاح وتم إهمالها لأن غضافة بعد مكاني رابع صعبة الإدراك والتقبل من قبل الوسط العلمي آنذاك ولم تنطق من جديد إلى في سنوات الثمانينات مع تطور نظرية الأوتار الفائقة ، ولجأ إليها علماء لاستخدامها في تشكيل كوسمولوجيا الأكوان المتعددة ، أو الأكوان البرانية univers dits branaires. فالفكرة الساسية للكون البراني هي باختصار ، أن كوننا المرئي ثلاثي الأبعاد المكانية، ليس سوى كون فرعي في إطار كون أكبر وأوسع واشمل ذو عدة أبعاد مكانية ، اربعة كحد أدنى أو أكثر لغاية عشرة ابعاد مكانية مع بعد زماني هو الحادي عشر، وهذا الكون الثلاثي البعاج هو الذي نسميه بران brane ، بينما الكون المتعددد الأبعاد فهو الفضاء الأشمل الإجمالي الكامل أو الكون الــ Bulk وما كوننا إلا عبارة عن زائدة مكانية تخرج من البران الكوني ، بمثابة سائبة لا تصدق في نطاق الكون الأوسع ، والذي يسميه العالم بريان غرين بالكون التعددي المطلق Multi univers suprême كل القوى الفيزيائية حبيسة البران ما عدا الجاذبية أو الثقالة فهي وحدها القادرة على التسرب إلى خارج البران إلى نطاق الــ Bulkا لأشمل والأكبر والأوسع . يعتقد العلماء أصحاب هذا النموذج الكوني البديل للبغ بانغ الكلاسيكي، أن الكون المطلق المتعدد الأكوان، Multi univers suprême، هو الكون الأصلي أما كوننا المرئي فهو فرع صغير فيه بمثابة جسيم أولي مثل الجسيمات الأولية المكونة لكوننا المرئي، وهو ناجم ، إما عن تصادم فقاعتين كونيتين ، أو انهيار جرم كوني عملاق من مكونات الكون المطلق ، على نفسه ، على غرار الثقب السود، وعلى نفس النسق أو الآلية، ليخلق كونناً آخر مثل كوننا المرئي ذو الثلاثة أبعاد مكانية وبعد زماني. وفي مثل هذا الكون رباعي الأبعاد يكون أفق الحدث في الثقب الأسود فيه ثلاثي الأبعاد وليس ذو بعدين كما في كوننا المرئي ذو الثلاثة أبعاد. وعبر تجربة محاكاة حاسوبية في كمبيوتر عملاق، لوحظ نموذج الكون الموديل البديل ، وعبر نمذجة إنهيار أحد نجومه العملاقة ذات الأربعة ابعاد مكانية، ، بمساعدة المبدأ الهولوغرافي، ، نتج، من بين عدة ظروف مختلف ومتغيرات مدمجة، أن المادة المقذوفة أثناء الإنهار النجمي، يمكن أن تشكل بدورها بران ذو ثلاثة ابعاد مكانية على أفق الأحداث المجسم الثلاثي البعاد ، وإن هذا البران في حالة توسع بطيء ، وبالتالي فإن كوننا المرئي هو ذلك البران ذو الأبعاد المكانية الثلاثة ، ويتوافق مع هولوغرام لجرم كوني رباعي البعاد المكانية ينهار على نفسه على شكل ثقب أسود . عندها تخفى علينا " فرادة" البغ بانغ الكوني وتسجن إلى الأبد خلف أفق الأحداث الثلاثي البعاد.
وهكذا من خصائص وميزات هذا النموذج الكوني البديل هو أنه يتخلص من الفرادة العارية singularité nue، التي أنجبت كوننا المرئي أو المنظور الثلاثي الأبعاد المكانية . ولكن ماذا عن باقي المشاكل الكوسمولوجية الأخرى كالشكل الهندسي المسطح تقريباً ، والتوحيد البنيوي الكبير للهيكيلية الكونية grande uniformité du cosmos، ؟ يترتب على ذلك أن كوننا المرئي لم يعد بحاجة لفرضية التضخم الكوني الهائل والفوري المفاجيء فالكون المطلق اقدم بما لا يقاس من الفترة الزمنية التي يفرضها علينا نموذج البغ بانغ الانفجار العظيم لكوننا المرئي. فكل نقاط ومناطق الكون المرئي كانت على اتصال مسبق وكان لديه الوقت الكافي لبلوغ هذا التوازن البادي للكون المرئي. وإذان كان الكون الكامل المطلق متسق ومتجانس فبإمكان كوننا المرئي ثلاثي الأبعاد، الذي هو جزء منه ، أن يرث هذه الخصلة والخاصية ، أي التجانس. والحال أنه، كلما كانت كتلة النجم رباعي الأبعاد المكانية كبيرة وهائلة، كلما كان البران الناجم عنها مسطحاً هندسياً ، من هنا نستنتج لماذا يبدو كوننا المرئي ثلاثي الأبعاد مسطحاً هندسياً لأنه ناجم عن إنهيار نجم هائل الكتلة. وفي نفس الوقت يلغي أو يزيل الآثار الضارة للتفرد الأصلي أو الفرادة الأساسية. يبق أمامن التحقق من صحة النموذج الكوني البديل وصلاحيته من خلال إعادة الفحص والتحليل الدقيق لمعطيات ونتائج الشعة الخلفية الميكروية الكونية المنتشرة . ففي خارج البران المكون لكوننا، يحتوي الفضاء الكامل في الكون المطلق الكامل المادة التي تجذب في جوارها كل شيء نحو الثقب الأسود نتيجة للجاذبية الثقالية . ويمكن البرهنة على أن هذا الفائض من المادة يخلق اهتزازات وتقلبات على البران التي ستقوم بدورها تشويه الخلفية الإشعاعية الكونية في نسب ضعيفة لكنها قابلة للقياس والفرق بين الحسابات التي أجريت على هذا النموذج الكوني البديل ومعطيات تلسكوب بلانك الفضائي لا تتجاوز الــ 4%، كما يمكن لهذا التنويع أن يكون نتيجة لتأثيرات جانبية ثانوية لم يمكن العلماء من تحديدها بعد.
ولكن يبقى السؤال الأزلي : الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة؟ وهي نفس المعضلة التي تقول : إذا كان الله هو خالق الكون فمن الذي خلق الله؟ وهنا ايضاً يطرح التساؤل: من أين جاء الكون الكلي المطلق الذي أنجب كوننا المرئي؟ لنعد إلى أفلاطون وكهفه ، للبحث عن إجابة. فعندما يخرج سجناء أفلاطون من كهفهم أعماهم توهج الشمس الشديد ولم يدركوا فوراً حقيقة ما يحيط بهم واحتاجوا لوقت لكي يتأقلموا مع سطوع ولمعان أشعة الشمس وتوهجها ، ففي البداية لم يكن بوسع السجناء سوى إدراك الظلال والتأثيرات المباشرة ولكن فيما بعدوا تمكنوا من رؤية القمر وماهية النهار والليل والفصول ، وفهموا طبيعة الظلال التي كانوا يروها وحدها ولا شيء غيرها لكن دون أن يدركوا من أين تأتي قوة الشمس مثلما لا ندرك نحن البشر ماهية الكون الكامل المطلق البراعي الأبعاد المكانية أو المتعدد البعاد المكانية لكنهم يعرفون أين يبحثون عن الأجوبة.
14-
ماذا كان، وماذا سيحدث ، قبل وبعد، الانفجار العظيم البغ بانغ؟
من المعروف أن نظرية الأوتار الفائقة هي نظرية كوانتية أو كمومية، في المستويات والنطاقات ما دون الذرية الميكروسكوبية، إلا أن أنصارها تطبيقها حاولوا على العالم الماكروسكوبي والأبعاد والنطاقات والمستويات العليا أو الكبيرة في الكون المرئي، وتبين لهم أن الانفجار العظيم ، البغ بانغ، ليس هو بداية الكون، بل مجرد مرحلة إنتقالية بين حالتي كونيتين متميزتين، سابقة وحالية ، وربما لاحقة فيما لو تكرر نفس السيناريو واتضح أن الكون المرئي حلقي تعاقبي دوري .
الفنان التشكيلي بول غوغان Paul Gauguin، طرح تساؤلات وجودية عميقة : من أين أتينا؟ من نحن ؟ إلين أين نحن ذاهبون؟ وكان ذلك بمثابة وصيته البلاستيكية التشكيلية ، وما زالت تلك التساؤلات تمسنا في الأعماق، وعلى راس المهتمين بها هم علماء الكونيات الكوسمولوجيين ، وعلى الأخص السؤال الأول ، وأعتقدوا لفترة طويلة من الزمن أنهم وجدوا الجواب في نظرية الانفجار العظيم البغ بانغ الذي وسم بداية الكون المرئي ، ولكن هل حقاً كان ذلك الحدث الكوني هو بداية كل شيء، أم أن اللكون موجود على هيئة ما قبله؟ قبل نصف قرن من الآن كان مجرد طرح مثل هذا السؤال بمثابة إحراج ويعرض سائله للسخرية فلقد كان من المحرمات تقريباً فلا معنى لمثل هذا التساؤل لأن الأديان تكفلت بتقديم إجابة شافية وقاطعة وحاسمة عنه من خلال أطروحة الخلق الرباني المباشر من العدم وبإرادة إلهية وبآلية كن فيكون. مع مرور الوقت تغير الزمن وتغيرت الذهنيات وتقدم البشر علمياً وتكنولوجياً ، فغدا من الطبيعي جداً أن يطرح العلماء مثل هذه التساؤلات بلا إحراج ولا تخوف أو تردد خاصة سؤال : ماذا كان يوجد قبل البغ بانغ والت-امل والتفكير في الموضوع على نحو جدي -ن حدث ذلك بفضل جهود بعض العلماء وجرأتهم ومثابرتهم وتقصيهم للحقائق عبر التجريب والافتراض والاحتمالات والحسابات الرياضياتية واقتراح النظريات العلمية الجريئة والثورية. النسبية العامة لآينشتين تقول أن كوناً في حالة توسع لا بد وأن يكون قد بدأ بانفجار عظيم بغ بانغ، ما يعني محدودية الزمن الذي ظهر بالتزامن مع الفضاء أو المكان الكوني والطاقة والمادة .
عند لحظة الولادة، كان الكون مركزاً ومكثفاً في نقطة صغيرة للغاية بحيث يمكننا تطبيق قواني الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، في حين أن النسبية العامة ليست نظرية كمومية لذلك تتعطل قوانين عند تلك المرحلة على مستوى الانفجار العظيم. ثم جاءت نظرية الأوتار لتواصل المشوار العلمي للدعامتين الاساسيتين للفيزياء المعاصرة لتحاول تقديم وصف كمومي أو كوانتي للثقالة أو الجاذبية ، وذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ونجحت في صياغة نموذجين كونيين يفترضان وجود كون سابق لكوننا المرئي قبل الانفجار العظيم البغ بانغ وحيث لا يوجد للزمن ، لا بداية ولا نهاية ويمكن أن نعثر عن آثار مرئية أو مرصودة لتلك الحقبة .
إن هذه النافذة المفتوحة ، التي تطل على فترة ما قبل الانفجار العظيم ومعرفة ما حدث قبله ، هي امتداد لجهود ألفية تعاقبت على مر السنين ، وفي جميع الثقافات، على يد فلاسفة وثيولوجيين أو رجال دين وفقهاء ومفكرين وفنانين ، تصدوا لمسألة بداية الزمن وأصل العالم. ومحاولة سبر أسرار الوجود ، منذ أشكال الحياة الأولى وتكون النجوم والمجرات والكواكب ومعرفة التركيبات الأولية للعناصر والجسيمات والجزيئات الأولية ، والمضي صعوداً لمعرفة الطاقة التي تسود الفضاء البدئي ، فهل ستستمر هذه السيرورة إلى الأبد أم إنها ستصل إلى جذور تنبت في مكان ما، وفي زمان ما؟ أغلب الفلاسفة القدماء ، خاصة الإغريق ، ناقشوا مسألة بداية الزمان وكان آرسطو يؤيد فكرة عدم وجود بداية ، فلو لم ينبث الكون من العدم فهذا يعني أنه موجوداً منذ الأزل وإن الزمن ينبغي أن يمتد إلى ما لا نهاية في الماضي كما في المستقبل، في حين يؤكد القديس أوغسطين على نقيض ذلك ويؤكد أن الله هو الموجود خارج المكان والزمان وهو قادر على خلقهما مثلما خلق وشكل كافة أوجه العالم والزمن نفسه هو جزء من عملية الخلق الرباني فهو لم يكن موجوداً قبل عملية الخلق الإلهي.
غندما استقر رأي أغلبية العلماء والكوسمولوجيين على اعتبار البغ بانغ نظرية كوسمولوجية معيارية على المستوى أو النطاق الكوني الكبير ، لم يتمكنوا من سد الثغرات الكثيرة التي تعتورها وتقف حجر عثرة أمام إطلاقيتها واعتبارها النظرية العلمية الوحيدة الصالحة والشافية المثبتة عليماً ومختبرياً وتجريبياً عن اصل الكون وبدايته، وإنها تشكل " اللحظة التأسيسية والأساسية البدئية للكون المرئي، رغم إشكالية " الفرادة " التي لا يحبذها العلماء والفيزيائيون. كما اتفق العلماء على أن تلك اللحظة البدئية كانت في غاية السخونة والكثافة ، ودارات حول هذه المسلمة معظم النماذج الكوسمولوجية التي وصفت تلك المرحلة الكونية بأشكال مختلفة ومتنوعة، منذف جورج لوميتر ونموذجه عن الطرة البدائية وانتهاءاً بآينشتين ونموذجه الكوسمولوجي الكوني المبني على اساس نظريته النسبية العامة. وكان لومتر قد أشار وشدد سنة 1931، على ضرورة اللجوء إلى الميكانيك الكمومي أو الكوانتي لوصف اللحظات الأولى للكون المرئي البدئي الأولي لأنه كون كمومي أو كوانتي بامتياز. المفارقات والثغرات ، بل والتحديات اليت وسمت نموذ الانفجار العظيم استدعت إدخال تعديلات وإضافات جوهرية عليه كما يقول العالم غابرييل فينزيانو . كان هناك خياران لحل إشكالية التباين التي تجلت في تحليل الخلفية الإشعاعية الميكروية الأحفورية الكونية المنتشرة ، وبرز تفسيران لابد من تبني أحدهما وهما: إما أن الكون في لحظاته الأولى كان أصغر بكثير مما تفترضه الكوسمولوجيا الكلاسيكية، أو أنه أقدم بكثير مما أعطتنا القياسات والحسابات الزمنية عن عمره. ولقد فضل العلماء الاحتمال الأول أو الفرضية الأولى وهي أن الكون في لحظة نشوئه كان أصغر بكثير من التقديرات الشائعة ، لذا كان لابد من إضافة فرضية أخرى لتبرير حالته الآنية وهيئته الجيوميترية البادية اليوم من خلال الرصد والمشاهدة من هنا نشأت الحاجة لإحداث تعديل جوهري في النموذج المعياري واضطر العلماء لتفسير هذا الحدث الكون الشاذ والاستثنائي، إلى إضافة حقل قوة جديد، أي لتقديم فرضية التوسع المدوي الكبير والمفاجيء والهائل الذي أطلق عليه صفة " التضخم الكوني"، حيث كانت معظم مناطق الكون البدئي متجاورة وقريبة من بعضها البعض وإن خصائصها تماثلت وتجانست ، ومن ثم، خلال التضخم توسع الكون وتمدد بسرعة تفوق سرعة الضوء بكثير ليصل إلى حجمه الحالي. وبالتالي تباعدت مناطقه وانعزل بعضها عن البعض بمسافات هائلة بعد جزء من مليار المليار من الثانية ، فالتضخم خلق قوة ثقالة سالبة وطاردة عالية جداً في تلك الفترة الزمنية المتقدمة للكون المرئي ، أي في جزء من مليار المليار من الثانية الأولى بعد الانفجار العظيم. ومن ثم اختفت تلك القوة الطاردة واستعادت الجاذبية أو الثقالة الكونية لدورها وكان صاحب هذه النظرية هو العالم الفيزيائي آلان غوث Alan Guth، التي قدمها سنة 1981، لتفسير العديد من الظواهر الكونية المرصودة والمشاهدة بواسطة التلسكوبات الأرضية والفضائية لكن مشكلة معرفة طبيعة وماهية وأسباب التضخم الحقيقية ما زالت قائمة ومطروحة وليس لها أجوبة ناجعة ومتفق عليها. وحسب هذا النموذج النظري المرتبط بالبحث الكوسمولوجي العلمي paradigme، برد الكون المرئي إلى درجة حرارة شبه معدومة quasi-nulle، خلال مرحلة التضخم، ومن ثم تسخن من جديد لبلعب دور البغ بانغ القديم الكلاسيكي، ولكن في النموذج الكوني الكوسمولوجي التضخمي هذه المرة ، فهو ليس فريدة ، وليس مرتبطاً ببداية الزمن. ولكن هناك مشكلة تجاهله كوسمولوجيوا التضخم وهي هل للتضخم نفسه وللزمن أصل محدد وخاص؟ أما الفرضية الثانية أو الخيار الثاني فهو أن الكون المرئي البدئي الأولي اقدم بكثير مما يفترضه الكثيرون. فإذا كان الزمن لم يبدأ مع البغ بانغ الانفجار العظيم، وإذا كانت هناك حقبة زمنية طويلة سبقت مرحلة التوسع والتمدد الكوني الحالية، فهذا يعني أن الكون تمتع بفترة زمنية كافية لكي يحدث مثل هذا التجتنس والاتساق. إن مثل هذا السيناريو يصفي ويلغي ويزيل الصعوبة التي تطرها الفرادة الكونية المرتبطة بالبغ بانغ أو بالانفجار العظيم، فعندما نقترب من لحظة الانفجار العظيم فإن لتكاثف وإنضغاط المادة تاثيرات كوانتية أو كمومية هي التي تسود وتهيمن على المشهد الكوني بينما لا تأخذ النسبية العامة لآينشتين ذلك بعين الاعتبار والحسبان ، لذلك توجب على العلماء استبدال النسبية العامة لتلك المرحلة الكونية بنظرية كوانتية أو كمومية للثقالة أو الجاذبية théorie quantique de la gravitation، التي لم يفلح العلماء بالعثور عليها منذ بداية القرن العشرين ولغاية سنوات الثمانينات منه. فظهرت نظرية الثقالة الكمومية الحلقية la gravitation quantique à boucles، والتي احتفظت بالجزء الأهم من نسبية آينشتين العامة ، أي الطبيعة الديناميكية للزمكان والثبات أو اللاتغير l’invariance فيما يخص نظام الإحداثايات المستخدم ، ورغم نجاحا إلا أنها ظلت محدودة ولم تتمكن من أكممة أو تكميم الجاذبية أو الثقالة la quantification de la gravitation. المقاربة النظرية الثانية تمثلت هي نظرية الأوتار والتي تطورت فيما بعد إلى الأوتار الفائقة la théorie des cordes – la théorie des supercordes. كانت لدى الكثير من العلماء والفيزيائيين وعلماء الكونيات الكوسمولوجيين وعلماء الفيزياء النظرية وعلماء فيزياء الجسيمات الأولية ، آمال وطموحات متفائلة وحماس شديد في قدرة هذه النظرية على توضيح وشرح ماحدث بالفعل إبان البغ بانغ الانفجار العظيم. ولقد اقترحت هذه النظرية الثورية بديلاً للجسيمات الأولية الكلاسيكية على هيئة أوتار تشبه أوتار الآلات الموسيقية الوترية لكنها في غاية الصغر والدقة ومثلما تكون ملامسة وضغط وتحريك أوتار الكمان يحدث ألحان ونوتات موسيقية متنوعة فإن الوتر الكوني عند تغير تردده يقوم بزيادة وتيرة الاهتزازات augmentent la fréquence de leurs vibrations، إلا أن التأثيرات الكمومية أو الكوانتية تمنعها من المضي إلى ما تحت طول موجي محدد لا يتعدى -1034 من المتر. وبسبب عدة أنواع مختلفة من الحركات التي يقوم بها الوتر ، فإن هناك فضاء تكون أبعاده المكانية الإضافية كبيرة مقارنة بالحد المعطى أعلاه -1034 من المتر، غير مدرك indiscernable لا يمكن تمييزه عن غيره لأنه غير مرئي حيث أن أبعاده الإضافية صغيرة جداً . لنفترض أنه فضاء ذو بعدين bidimensionnel إسطواني cylindrique، وإلى جانب تردده واهتزازه وتنقل ككتلة ، بإمكان الوتر أن يلتف كالمطاط حول شكل إسطواني ، ولكن كل ذلك في اللامتناهي في الصغر. إن علاقات الترابط الكمومي les relations d inter détermination quantique تمنع وتراً أن يكون له في آن واحد وفي نفس الوقت موقع محدد ودقيق وسرعة معدومة vitesse nulle فالجسيم الأولي المحشور في فضاء ضيق restrein، يتحرك ويتنقل باستمرار ولو كان محيط الإسطوانة circonférence لا متناهي في الصغر فإن حركات الوتر حول الإسطوانة ستكون متهيجة والطاقة المرتبطة بالتحرك والتنقل ستكون عالية في حين أن الوتر الملتوي أو الملتف سيكون قليل الشد فالالتفاف والإلتواء لا يحمل سوى طاقة ضئيلة للوتر مما يخلق ضغطاً شديداً ومرتفعاً ، وبالتالي طاقة كبيرة ، والحال إن هناك نوعان من الأوتار، المفتوحة والمغلقة أو الحلقية الملتفة أو الملتوية على نفسها . ومن ثم ترسخت فكرة أن المكونات الأولية للمادة ليست نقطية pas ponctuels بل أحادية البعد أو ذات بعد واحد unidimensionnels على غرار وتر بدون سمك ، وإن اهتزازات وترددات الوتر المتنوعة يخلق جسيمات أولية متنوعة ومختلفة لكل جسيم خصائصة التي تميزه ما يعكس تنوع الترددات والاهتزازات الوترية . إن القوانين الكمومية أو الكوانتية تسمح لتلك الأوتار المهتزة وعديمة الكتلة بوصف الجسيملت الولية التي تخلقها وتفاعلاتها مع بعضها مما يؤدي إلى ظهور خصائص أخرى جديدة يكون لها دور جوهري في الكوسمولوجيا والتشكل الكوني. فالتاثيرات الكموموية أو الكوانتية تفرض على الأوتار حد أدنى من الحجم وهو كما ذكرنا أعلاه -1034 من المتروهذا الكونتوم المتناهي في الصغر هو بمثابة ثابت جديد من ثوابت الطبيعة، إلى جانب ثابت سرعة الضوء، وثابت بلانك. وهذا يلعب دوراً أساسياً وحاسماً في نظرية الأوتار بفرضه حدوداً معطاة ودقيقة ومحدد لكموم ، إذ بدون ذلك ستصبح ، إما معدومة أو لامتناهية.
إن طاقة صيغ وطرق أو وسائط الإهتزاز modes de vibration لبعض الأوتار يتوافق مع كتل بعض الجسيمات الأولية ، من جهة أخرى تقوم الاهتزازات الوترية تمنح الأوتار لحظة حركية جوهرية ذاتية أو السبين spin، وهي الحركة الدورانية البروانية أو المغزلية حول الذات أو حول المحور الذاتي ، ويمكن للأوتار إكتساب عدة وحدات من السبينات أو الحركات المغزلية البوراينة مع بقائها ذات كتل معدومة masse nulle ويمكنها أن تمثل ابوزونات وهي جسيمات ناقلة للقوى الجوهرية مثل الفوتون بالنسبة للقوة الكهرومغناطيسية. أدرك العديد من الفيزيائيين أهمية نظرية الأوتار لأكممة أو تكميم الجاذبية أو الثقالة la quantification de la gravitation باكتشاف نماذج وأنواع الترددات والاهتزازات لسبين يساوي 2 والذي تم تشخيصة باعتباره جسيماً ناقلاً للثقالة أو الجاذبية أو للتفاعل الثقالي وسمي الغرافيتون graviton،الإشكالية المطروحة هي أن معادلات نظرية الأوتار الرياضية ليست متماسكة cohérent إلا إذا كان للمكان أو الفضاء الكوني تسعة ابعاد مكانية بدلاً من ثلاثة وفي صيغ أخرى عشرة أبعاد مكانية ، إلى جانب البعد الزمني، وأن تكون البعاد الستة أو السبعة الإضافية صغيرة ومنطوية على نفسها بحيث يتعذر رصدها أو كشفها أو رؤيتها لأنها منزوية داخل مسافات لامتناهي في الصغر. هذا إلى جانب أن الثوابت التي تصف شدة القوى الجوهرية ، كالثابت الثقالي أو الشحنة الكهربائية، لم تعد تحدد عشوائياً بل تظهر في نظرية الأوتار على شكل حقول تتطور قيمها على مر الزمن . وأحد تلك الحقول الممدد le dilaton ، يلعب دوراً خاصاً فهو يحدد تطور الحقول الأخرى ، أي كثافة وشدة جميع التفاعلات ، في مختلف المراحل الكوسمولوجية . وهكذا شهدت ثوابت الفيزياء بعض التنوعات الضيئلة جداً التي يسعى علماء الفلك لإعادة حسابها من جديد اليوم من خلال مراقبة ومشاهدة ورصد الكون المرئي السحيق والبعيد جداً .
كشفت نظرية الأوتار عن وجود تناظرات كونية جديدة للطبيعة سميت بالمزدوجات أو الإزدواجيات les dualités، التي غيرت على نحو راديكالي فهمنا وحدسنا لسلوك الأجسام في النطاقات الصغيرة جداً وإحدى تلك التناظرات إزدواجية - ت T-dualité، والتي تعني بربط الأبعاد الإضافية الصغيرة والكبيرة، وهذا التناظر مرتبط بأكبر عدد ممكن من مختلف الحركات المتنوعة للأوتار مقارنة بالجسيمات النقطية. معتبرة وتراً مغلقاً " حلقة وترية" ، يتحرك ويتنقل في فضاء ذو بعدين ، أحدهما منطوي أو ملتف على نفسه على شكل دائرة صغيرة وهذا الفضاء يساوي سطح إسطوانة . فإلى جانب تردده واهتزازه، يمكن للوتر أن يتنقل على هذا السطح كما يمكنه أن يلتف مرة أو أكثر حول الإسطوانة مثل المطاط الذي يمسك التفاف أفيش مطوي. ، فالتردد والاهتزاز والتنقل والالتفاف تساهم كلها في الطاقة الكلية للوتر . وإن طاقة السلوكين الأخرين، أي الالتفاف والانتقال، تعتمد على قطر الإسطوانة بالتناسب الطردي، بطريقه تمكنه من خزن المزيد من الطاقة. وبدون المضي في توضيحات و اقتباسات نظرية تقنية معقدة ، نستطيع القول أنه حسب نموذج الإزدواجية ، فغن كون بمستوى صغير هو نعادل لكون بمستوى كبير ، إذ أن مثل هذا التناظر ، غير الموجود في النسبية العامة الآينشتينية ، يأتي في إطار محاولات التوحيد التي تسعى إليها نظرية الأوتار . أعتقد منظرو نظرية الأوتار لعدة سنوات أن نموذج الإزدواجية – ت ، لا ينطبق إلا على الأوتار المغلقة، ولكن اثبت العالم جوزيف بولشينسكي Joseph Polchinski، من جامعة سانتا باربارا ن سنة 1995، أنها صالحة ويمكن تطبيقها على الأةتار المفتوحة بتوفر ظروف معينة تسمى بشروط ديرشليت conditions --dir--ichlet حول نهايات الأوتار في عدد من الأبعاد المكانية . ةهكذا فإن نهايات وتر يمكن أن تطفو بحرية في ثلاثة أبعاد من مجموع الأبعاد المكانية العشرة في حين تكون حريتها بالحركة في الأبعاد السبعة الباقية معاقة أو موقوفة وهذه الأبعاد الثلاثة الحرة تشكل فضاءاً ثانوياً يدعى المومبران أو الــ د . بران membrane ou D-brane. لذا تخيل العالمان بيتر هورافا peter Horava و إدوارد ويتن Edward Witten سنة 1996 وهما أستاذان ، الأول في جامعة روتغيرز والثاني في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون ، أن كوننا المرئي يقع فوق أحدة تلك البرانات الــ D-brane ثلاثي الابعاد، وإن القابلية الحركية الجزئية للإلكترونات وجسيمات أولية أخرى يفسر لماذا لايمكننا أن ندرك وجود الأبعاد العشرة في الفضاء الكوني كما تقول بها نظرية الأوتار. ومن أهم إنجازات نظرية الأوتار القضاء على اللانهايات التي تمقتها هذه النظرية وتلغي كل المفارقات التي تقود إلى مثل هذه الإنهايارات. فحجمها غير المعدوم non nulle والتناظرات الجديدة المقترنة بها ، تفرض حدود تفوق الكميات الفيزيائية التي تتقاطع دوماً في النظريات الكلاسيكية، وحدود أدنى في الكميات التي تنخفض. فلو عرضنا فيلم تاريخ الكون بالمقلوب أو بالمعكوس فإن الزمكان سوف يتقلص وينكمش ونصف قطر التحدب لجميع الأبعاد المكانية سةف ينكمش ، وحسب تفسير المنظرين في نظرية الأوتار، فإن الإزدواجي – ت تمنع نصف قطر التحدب من التعاظم أو النمو إلى درجة الصفر مما يؤدي إلى حدوث الفرادة الكونية للبغ بانغ الانفجار العظيم، المعيارية. وبالتوصل إلى طول الحد الأدنى الممكن ، فإن التقلص والإنكماش يغدو من الناحية الفيزيائية، معادلاً للتوسع المكاني ، الذي يبدأ نصف قطر التحدب فيه في التزايد ، أي أن الإزدواجية – ت تعمل على حدوث عملية إرتداد للإنهاير الذي يتحول مرة أخرى إلى توسع وتمدد.
وما أن ننجح بإلغاء " الفرادة" الكونية الموجودة في النموطج الكوسمولوجي المعياري، حتى لم يعد هناك ما يمنعنا من تصور وجود للكون قبل الانفجار العظيم البغ بانغ. وبترتيب وجمع التناظرين ، التناظر الذي أدخلته نظرية الأوتار، وذلك الذي أنشأه تقهقر الزمن أو عكسه والعودة به إلى الوراء، ووفق ذلك، فإن معادلات الفيزياء تعمل على نحو معتدل عند تطبيقها باتجاه المستقبل أو باتجاه الماضي،وبهذا تخيل العلماء كوسمولوجيا جديدة لا يكون فيها الانفجار العظيم البغ بانغ هو البداية للزمن بل مجرد مرحلة انتقالية عنيفة بين حالتي للكون ، قبل التوسع المتسارع وبعده حيث التباطؤ . ومن فوائد هذا المفهوم هو إدماج فكرة النموذج التضخمي على نحو آلي أوتوماتيكياً ، أي الإقرار بوجود فترة أو مرحة تضخم متسارع قادر على تبرير التجانس الظاهر في الكون المرئي. ففي النموذج المعياري ، الذي يتسبب في التسارع هو البغ بانغ ، الانفجار العظيم نفسه، على صورة التضخم، أما في كوسمولوجيا الأوتار فإن التسارع يحدث قبل الانفجار العظيم وينجم عن التماثلات والتناظرات التي أوجدتها النظرية.
من شدة وخصوصية الظروف التي تصاحب البغ بانغ وتطرفها ، ليس بوسع أحد أن يعرف حل المعادلات الرياضية التي تصفها ، ومع ذلك خاطرت نظرية الأوتار بوصف بعض ملامح الكون السابق للانفجار العظيم . فهناك اليوم طرحين تحت الدراسة ، الأول يحمل إسم سيناريو ما قبل البغ بانغ pré-Bing Bang، والذي يفترض أن الكون السابق للانفجار العظيم ليس سوى صورة منعكسة كصورة المرآة للكون السابق لذلك الحدث. فالكون يمتد أبدياً في المستقبل كما في الماضي ، أي لا ماضي له ولا مستقبل معلوم ومحدد زمنياً، ففي حقبة سابقة كان الكون شبه فارغ ولا يحتوى سوى على غازات خالية من الإشعاعات والمادة. وإن قوى الطبيعة الفيزيائية ، المسيطر عليها من قبل التمدد ، كانت ضعيفة جداً إلى درجة أن جسيمات الغازات بالكاد تتفاعل فيما بينها ، ومع مرور والوقت، اكتسبت القوى المزيد من الكثافة والمادة ، وبدأت تتجمع ، وتراكمت في بعض المناطق على نحو أكثر كثافة من مناطق أخرى مجاورة، وعلى حسابها، وبسبب شدة تكاثف تواجدها أدت إلى خلق وانبثاق أو تشكل ثقوب سوداء التي احتجزت كميات من المادة بداخلها وسجنتها وانقسم الكون إلى مناطق وقطع غير متصلة ببعضها البعض. وفي داخل كل ثقب أسود كانت كثافة المادة دائماً أكثر ارتفاعاً، وعندما بلغت الكثافة ودرجة الحرارة والتحدب أو الإنحناء درجاتها القصوى الفائقة التي تسمح بها نظرية الأوتار، فإن تلك الكميات التكوينية ارتدت على نفسها وبدأت بالتناقص ، والبغ بانغ ليس سوى اللحظة التي حصلت فيها حادثة الارتداد والإنعكاس ومن داخل إحدى تلك الثقوب السوداء انبثق كوننا المرئي . كان هذا النموذج الذي اقترحه العالم غبرييل فينزيانو وآخرون سنة 1991، كان أو لمحاولة رصينة وجادة لتطبيق نظرية الأوتار على الصعيد الكوسمولوجي وتعرض لردود فعل واعتراضات كثيرةولكنها لم تضع الإصبع على ثغرات مهمة في بنيانه ولقد أيد العالم أندريه ليند وجود مثل هذا الثقب الأسود العملاق الذي بمقدوره أن يولد كوناً بأكمله ، وإن معادلات نظرية الأوتار تكهنت وتنبأت بوجود ثقوب سوداء من كافة الأحجام وكوننا تشكل داخل إحداها من النوع العملاق أو الضخم جداً .
علماً بأن هناك تناقض بين التصرف الفوضوي chaotique للمادة وللزمكان كما جاء في النظرية، و الإنتظام المرصود من المشاهدة والرصد للكون البدئي الأولي أو البدائي. والحال أن الحالة الفوضوية يمكن أن تنتج غازاً مكثفاً يسمى الثقب الخيطي trous de ficelle، لأوتار صغيرة وذات كتل عالية ، على وشك أن تتحول إلى ثقوب سوداء.
النموذج الثاني الذي يصف الكون السابق للانفجار العظيم هو سيناريو الإيكبيروتك Scénario de modèle Ekpyrotique، وهي صيغة مأخوذة مأخوذة من مفردة إغريقية تعني الحريق أو الإحتواء ، وهو سيناريو صاغه وطوره سنة 2000 العالم نيل توروك Niel Turok من جامعة كمبريدج، و العالم بول ستاينهارد Paul Steinhardt، من جامعة برينستونوهو الذي يوحي بأن كوننا المرئي ما هو إلا أحد البرانات أو الــ د . بران membrane ou D-brane، يطفو بجوار برانات أخرى في فضاء ذو بعد أوسع وأشمل وأكبر بكثير من البعد المكاني لكوننا المرئي، وإن الفضاء الفاصل بين البارنات يتصرف كالنابض الذي يقودها للتصادم ببعضها البعض وهي في حالة التقلص ، وإن طاقة الصدمة تحول إلى مادة وإشعاع، وهذا هو الانفجار العظيم أو البغ بانغ. وفي أحد تنويعات هذا السيناريو فإن التصادمات تحدث على نحو دوري أو حلقي وتعاقبي cyclique. وعند تصادم برانين يتولد كون جديد ذو خصائص متميزة خاصة به قد تشبه خصائص كوننا المرئي وقد تختلف عنها كلياً، كما جاء في أطروحة تعدد الأكوان التي أفرزتها نظرية الأوتار الفائقة .




15-

الأكوان المتعددة والكون العلي المطلق le multi-Univers Suprême et Absolue

هناك في الكون المرئي ما يسمى بنسيج الزمكان l’étoffe de l’espace-temps ، وهو ذو جوهر كمومي أو كوانتي مثل الجاذبية أو الثقالة في المستويات الدنيا أو في النطاقات مادون الذرية وبثلاثة أبعاد مكانية وبعد زماني، وهي ناجمة عن التشابك الكوانتي أو الكمومي l intrication quantique الذي يحدث على سطح ذو بعدين مكانيين. في سنة 2009، أخذ العالم والأستاذ الجامعي في جامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر في كندا مارك فان رامسدونك Mark Van Ramsdonk، إجازة لمدة سنة كاملة تفرغ خلالها لأغرب وأصعب لغز وتحدي في الكون الفيزياء المعاصرة ألا وهو اكتشاف الصلة بين الفيزياء الكمومية أو الكوانتية و الثقالة أو الجاذبية ، وفي نهاية الإجازة أرسل رامسدونك بحثه إلى مجلة فيزياء الطاقة الفائقة Journal of High Energy Physics ولم يتأخر الرد فالمقرر العلمي الذي طلب منه قراءة البحث قبل نشره كتب في رده أن الكاتب " مجنون cinglé" ولم يفلح الباحث في نشر بحثه الجريء في مجلة أخرى هي مجلة النسبية العامة والثقالة أو الجاذبية General Relativity and Gravitation، إذ طلب المقرر والمراجع للنص بإعادة كتابته . فاقترح الباحث والعالم الفيزيائي رامسدونك نصاً موجزاً ومختصراً لبحثه وقدمه لمؤسسة أبحاث الجاذبية أو الثقالة للمشاركة في مسابقتها العلمية ففاز البحث بالجائزة الأولى والذي يتضمن توصية لنشره في المجلة التي طالبت بإعادة كتابته وهي مجلة النسبية العامة والثقالة أو الجاذبية General Relativity and Gravitation، وهذا ما حصل بالفعل في حزيران سنة 2010. فلماذا هذا التردد والتشكيك من جانب الوسط العلمي الفيزيائي تجاه مثل هذه الأبحاث؟ لأن الحلول التي اقترحها رامسدونك لحل المشكلة التي يعجز عن حلها العلماء الكبار منذ قرن من الزمن، هي حلول لايمكن تصنيفها إلا بأنها شاذة وغير مألوفة لأنها تستند على ما صار يعرف بالتشابك الكمومي أو الكوانتي. وهو الجانب الأكثر غموضاً وغرابة في الظواهر الكمومية أو الكوانتية. شقت الفكرة طريقها وكسبت العديد من الأتباع والمناصرين في الوسط العلمي الفيزيائي من بينهم أكثر من مائة فيزيائي إجتمعوا حول مشروع يسمى كل شيء من الكيوبايت It from Qubit الذي بدأ سنة 2015، من قبل مؤسسة سايمونس للأبحاث المتقدمة للعلوم الأولية والرياضياتية fondation Simons pour l’avancement de la recherche en science élémentaires et mathématiques، وهم من اختصاصات ومشارب ومراجع مختلفة ، أحدهم يقول بأن الفضاء أو بالأصح الزمكان، في إطار وظرف النسبية العامة، مكون من شظايا ومقاطع صغيرة من المعلومات الرقمية الحاسوبية . وحسب هذه المفارقة، إن تلك العناصر المجهرية الصغيرة تتفاعل ومن تفاعلاتها تخلق الزمكان وتبعث خصائصه مثل الإنحناء أو التحدب la corboure الذي يولد الثقالة أو الجاذبية. وهذه خطورة جريئة نحو التوصل لنظرية كمومية أو كوانتية للجاذبية أو الثقالة، فمشروع " كل شيء من الكيوبايت It from Qubit"، يلخص هذه الفرضية فالــ It هو الزمكان والــ Qubit هو أصغر كمية معلوماتية ، أو الصيغة الكوانتية أو الكمومية للبايت المعلوماتي bit informatique. إن فكرة الكون المعلوماتي un univers d’information، أو أن الكون المرئي بني إنطلاقاً من معلومة حاسوبية سابقة ، قد شاعت في سنوات التسعينات على يد العالم الفيزيائي الأمريكي جون ويلر John Wheeler وتعبيره الشهير It from Bit"، فبالنسبة له أن كل الفيزياء موصوفة على المستوى الجوهري إنطلاقاً من " المعلومة d’information وبعد التطور في مجال فيزياء الكموم أو الكوانتوم ، بعد 25 عاماً من البحث والتجريب تحول البايت إلى كيوبايت وتحدثت الفكرة وتطورت لكنها بقيت مهمشة من قبل قسم مهم من الوسط الفيزيائي.
يمكننا أن نعتبر مثل هذا الطرح بمثابة شبه قطيعة مع مسلمات أرستها النسبية العامة على مدى قرن تقريباً فمن ماذا تتكون تلك البايتات و الكيوبايتات، وما نوع المعلومة التي تختزنها؟ لم يفت هذا التحدي من همة العلماء ويثبط عزيمتهم في المضي قدماً، فالمهم هو دراسة العلاقات بين البايتات نفسها ، والمفتاح على ما يبدو هو مفهوم التشابك الكمومي أو الكوانتي. بعبارة أخرى، العلاقة الغريبة بين جسيمين أوليين وبموجبها تتم حسابات على أحد الجسيمين ويكون لها تأثير فوري وفي نفس الوقت على الجسيم الآخر حتى لو كانت تفصل بينهما مسافات كبيرة . وحسب عالم الفيزياء الهندي فيجاي بالاسوبرامانيان Vijay Balasubramanian الأستاذ في جامعة بنسلفانيا ، إن خامة الزمكان l’étoffe de l’espace-temps حيكت ونسجت بالتشابك الكمومي أو الكوانتي بين عناصر مرتبطة وملازمة للزمكان ، مهما كانت طبيعتها. إن المنطق المقترن بهذه الفكرة مبني على عدد من التجارب والاكتشافات التي أجراها وتوصل إليها علماء فيزياء كبار مثل شانساي ريو Shinsei Ryu في جامعة إلينوا في الولايات المتحدة الأمريكية، و تاداشي تاكاياناجي Tadashi Takayanagi من جامعة طوكيو في اليابان. والذين برنهوا عام 2006 على بداهة حصول اتصال بين التشابك الكمومي أو الكوانتي و هندسة وبنية الزمكان الجيوميترية.
لقد نجح باحثون في الحوسبة الكمومية أو الكوانتية ، من معهد ملبورن الملكي للتكنولوجيا (RMIT)، في تطوير طريقة جديدة أثبتت قدرتها على اكتشاف التشابك الكمومي عالي الأبعاد بشكل فعال للغاية. يُعرّف التشابك في فيزياء الكم، بأنه قدرة جسيمين أو أكثر على الارتباط ببعضهم البعض بطرق تتجاوز ما هو ممكن في قوانين الفيزياء الكلاسيكية. وبالطبع فإن امتلاك معلومات عن جسيم ما، موجود ضمن مجموعة متشابكة، سيكشف لنا عن كمية (غير عادية) من المعلومات المتعلقة بالجسيمات الأخرى. هذا وقد نُشرت الورقة العلمية التي أعدها الباحثون في مجلة Scientific Reports بتاريخ 17 يونيو تحت عنوان: (High-dimensional entanglement certification) يقول الدكتور ألبرتو بيروزو Dr Alberto Peruzzo، وهو كبير الباحثين في قسم الهندسة التابع لجامعة RMIT ومدير مختبر علم الفوتونيك الكمومي التابع لمعهد ملبورن الملكي للتكنولوجيا: "لا توظف الطريقة المطورة إلا إثنين من القياسات المحلية المتعلقة بالخصائص التكميلية. ويمكن لهذه الطريقة أيضًا إثبات ما إذا كان النظام قد وصل لحالة التشابك القصوى أم لم يصل". تعتمد الحوسبة الكمومية الشاملة، بشكل رئيسي، على التشابك بين الجسيمات الفردية المستخدمة في تخزين المعلومات، أي البايتات الكمومية أو الكوانتية (أو أختصارا كيو بايت). ومن المأمول أن تساهم الحوسبة الكمومية في زيادة مضاعفة لسرعة الأداء في بعض المهام المحددة، وذلك لأن التشابك يسمح بتخزين كميات كبيرة جدًا من المعلومات، كما يسمح بمعالجتها باستخدام العدد نفسه من الكيوبايتات. يقول بيروزو: "تصادفنا مشكلة مرتبطة بهذه الزيادة تتعلق بضرورة قياس عمل الجهاز عدة مرات لمعرفة ما يفعله حقًا، أي أننا بحاجة إلى جمع كمية هائلة من المعلومات حول كيفية أداء الحواسيب الكمومية أو الكوانتية قبل أن نضعها موضع التشغيل". يقول زين هوانغ Zixin Huang، وهو طالب دكتوراه يعمل على هذه التجربة: "تقوم النماذج الحالية من الحواسيب بترميز المعلومات على هيئة نظام ثنائي. ولكن، عند الانتقال إلى حالة ذات أبعاد أعلى، يمكن أن يكون الجسيم المستخدم في تخزين المعلومات 0 و1 و2 أو أكثر، وبالتالي تتوفر لدينا القدرة على تخزين ونقل معلومات أكثر كثيراً". يتابع هوانغ كلامه قائلا: "يعاني العلماء حتى الآن من محدودية الوسائل المستخدمة في تمييز التشابك في الحالات ذات الأبعاد الأعلى. ولكن مستقبلا، عندما تصبح الحواسيب الكمومية أو الكوانتية متاحة، فمن المحتمل استخدام طريقتنا كوسيلة تساعد في إثبات ما إذا كان النظام يتضمن حالات تشابك كافية بين الكيوبايتات". ويختتم هوانغ كلامه قائلا: "من الجوهري تقليص عدد القياسات الضرورية، وفي الواقع، إننا نحتاج في التجربة إلى العدد الأقل من القياسات لكل بعد. وما يميز طريقتنا، إضافة إلى ما سبق. هو قدرتها على العمل مع أي نظام وفي أي بعد، على العكس من بقية الطرق الأخرى". التشابك الكمومي يجعل الجسيمات الكمومية أثقل قياسياً . اهم انجازين علميين في القرن العشرين هما، نظرية أينشتين للنسبية العامة وميكانيك الكموم أو الكوانتوم اللتان قامتا بتغيير نظرتنا ومكاننا في الكون للأبد! ولكنهما تبقيان منفصلتين عن بعضهما، فالنسبية العامة تصف الظواهر الكبيرة (الماكروية)، بينما تصف نظرية ميكانيك الكموم أو الكوانتوم الظواهر الصغيرة (الميكروية). يبدو أن هاتين النظريتين لا تتفقان، بالرغم من محاولات أجيال من الفيزيائيين النظريين -بينهم أينشتين نفسه-التوفيق بينهما. اليوم، يقوم فيزيائي واحد بشرح نقطة صلة، حيث يبين أن أحد الظواهر الكمومية التي تُعرف بالتشابك الكمومي ( intrication quantique - Quantum Entanglment) لها تأثير على الحقل الثقالي ( - Gravitational Field - champs Gravitationnelle)، في ورقة تعد الأولى التي تُظهِر هذا النوع من الترابط بين النظريتين. يقول ديفيد بروشي (David Bruschi) من الجامعة العبرية في القدس أن هذه النتيجة الجديدة لها آثار على كل من النسبية العامة وميكانيك الكموم أو الكوانتوم، وربما تكون خطوة اتجاه التوحيد بينهما وإيجاد نظرية تصف كل الظواهر. فكرة بروشي بسيطة من حيث المبدأ، فهي تعتمد على ظاهرة كمومية معروفة؛ وهي تواجد جسيمين كموميين في مكانين مختلفين في الوقت عينه، والتي تعتمد على مبدأ التشابك الكمومي بين الموقعين، وهو مبدأ راسخ رياضياً في ميكانيك الكموم. وتكمن فكرة بروشي الجديدة في إعادة صياغة تلك الظاهرة باستخدام رياضيات النسبية العامة، بدايةً يُفترض رياضياً حدوث "اضطراب" في الحقل الثقالي في هذه الظروف. ثم قام ببناء الصياغة الرياضية لخصائص هذا الاضطراب وكيف يتطور مع الزمن، آخذاً حالات مختلفة من التشابك الكمومي. مثل التشابك الأقصى بين الموقعين (Enchevêtrement maximal - Maximal Entanglement) والحالة القصوى المعاكسة له؛ والتي تُعرف بالحالة المختلطة ( Etat maximalement mixte - Maximally mixed state). ووجِدَ أن الاضطراب يساوي صفر في الحالة المختلطة، أما في الحالات الأخرى فإن الاضطراب ينتشر في الفراغ بمقدار متوافق مع طاقة الجملة الكمومية وزمن التشابك الكمومي. هذا النوع من الاضطراب مشابه رياضياً للموجات الثقالية ولكن على مستوى أصغر بكثير. ويمكن التفكير به على أنه كتلة مضافة لكتلة الجسيم الكمومي -في حالة التشابك- والتي يمكن قياسها من حيث المبدأ. وبالفعل قام بروشي بعمل حسابات مبدئية لمقدار الكتلة المضافة لجسيم كمومي مثل الإلكترون، والحسابات ليست مثيرة البتة. بالنسبة لجسيم مثل الإلكترون ذو كتلة من رتبة 10^-31Kg ، فإن مقدار الزيادة المتوقعة لا يتجاوز جزءً من 10^-37 kg وهي كتلة بالغة الصِغَر. ولكن يشير بروشي إلى طُرق يمكننا من خلالها زيادة الأثر، منها استخدام جسيمات ذات كتلة أعلى، تنتقل بسرعة تقارَن بسرعة الضوء (سرعة نسبية). والطريقة التي تبدو واعدة أكثر هي استخدام عدة جسيمات جميعها متشابكة كمومياً وهي ظاهرة معروفة باسم حالة نون (NooN). قام الفيزيائيون من قبل بعمل تشابك كمومي لعدة جسيمات، منشئين ظاهرة تعرف بحالات (نون) والتي تَمَكّن العلماء من تحقيقها مع 5 فوتونات ومشابكتهم كمومياً، بالتالي ليس من الصعب تصور احتمالية وجود حالات مشابهة مع جسيمات أثقل. لا تكمن أهمية الورقة في كونها تقدم نتائج قابلة للاختبار قريباً، بل بمجرد كونها تطرح احتمالية وجود هذه الظاهرة من الأساس. يبدو بروشي متفائلاً جداً بخصوص هذه النظرية، فحسب اعتقاده ستكون إحدى الخطوات الهامة في مجال توحيد النسبية العامة مع ميكانيك الكم. فأي نظرية للجاذبية الكمومية يجب أن تضمن هذه الظاهرة وتأخذها بعين الاعتبار. هذا سيساهم بإزالة التباينات النظرية الناشئة في الثقالة أو الجاذبية الكمومية أو الكوانتية ، مرشداً بذلك علماء نظريين آخرين يعملون في هذا المجال. بالطبع رصد هذا التأثير تجريبياً سيكون إنجازاً تاريخياً. ولكن هل هذا ممكن ضمن تقنياتنا الحالية؟ أو حتى هل سيكون في متناولنا بالمستقبل القريب؟ هذا السؤال سيجعل العلماء النظريين والتجريبيين يفكرون به لفترة من الزمن.
فيزيائيون يكتشفون أن الترابط الكمومي والتشابك الكمومي وجهان لعملة واحدة نشاهد في القسم الأول جسيمين غير مترابطين ولا يُمكن تحويلهما إلى حالة تشابك باستخدام عمليات غير مترابطة، وفي القسم الثاني نشاهد إمكانية حصول ذلك عندما تمتلك حالة S ترابطًا لا يساوي الصفر، وحينها يُمكن تحويل الترابط إلى تشابك بين S وA. المصدر: Streltsov, et al يُعتبر الترابط الكمومي (Cohérence quantique - Quantum coherence) والتشابك الكمومي ( Enchevêtrement quantique- quantum entanglement) ميزتين أساسيتين في الفيزياء الكمومية. وقد برهن علماء الفيزياء مؤخرًا أن الظاهرتين "متكافئتان عمليًا"، أي أنهما متكافئتان بالنسبة لكل الأهداف العملية، على الرغم من بقائهما متمايزتين من حيث المفهوم. تسمح هذه الاكتشافات للفيزيائيين بتطبيق عمل عقود من الأبحاث في مجال التشابك الكمومي على مفهوم الترابط الأكثر جوهرية (والذي تمت دراسته بشكلٍ أقل)، مما يفتح الباب أمام احتمالية تطوير مجال واسع من التقنيات الكمومية. أقرباء وثيقون يتشاركون بنفس الجذور على الرغم من أن علماء الفيزياء يعرفون مسبقًا أن الترابط والتشابك خاصيتان قريبتان من بعضهما البعض، إلا أن العلاقة التامة بينهما لاتزال غير واضحة. من المعروف جيدًا أن الترابط الكمومي والتشابك الكمومي يعودان إلى نفس الجذر وهو مبدأ التراكب (Principe de superposition quantique - superposition principle) -وهو ظاهرة تتكون فيها حالة كمومية واحدة من عدد من الحالات في نفس الوقت- ولكن ارتباطهما بهذا الجذر يكون بطريقة مختلفة لكل منهما. يتعامل الترابط الكمومي مع فكرة أن كل الأجسام تمتلك خواص مشابهة للموجة. وإذا ما تم شطر الطبيعة الموجية لجسم ما إلى قسمين، فقد تتداخل الموجتان مع بعضهما البعض بشكل ترابطي، بطريقة تُشكلان فيها حالة وحيدة تمثل تراكبًا من الحالتين. وقد تم توضيح هذا المفهوم للتراكب عبر التجربة الشهيرة "قطة شرودينغر"، والتي تكون حية وميتة في الوقت نفسه عندما تكون (في حالتها المترابطة) موجودة في صندوق مغلق. يُوجد مفهوم الترابط أيضًا في عمق الحساب الكمومي (quantum computing l informatique quantique - )، والذي يكون فيه البايت الكمومي (qubit) موجودًا في حالة تراكب مكونة من حالتين "0" و"1"، مما يؤدي إلى الحصول على سرعة كبيرة مقارنةً بالخوارزميات الكلاسيكية. على أية حال، عندما تُعاني حالة ما من تفكك الترابط، فإن كمومية الحالة ستزول بشكل طبيعي، وستختفي معها كل الفوائد. تشتمل الظاهرةُ الثانية "التشابكُ الكموميsuperposition quantique " على التراكب أيضًا. لكن الحالات الموجودة في تراكب في هذه الحالة هي حالات تشاركية بين جسيمين متشابكين بدلًا من كونها مكوّنة من تلك الخاصة بموجتين منشطرتين عن جسيم مفرد. يكمن تعقيد التشابك الكمومي في حقيقة أن الجسمين المتشابكين مترابطان بشكلٍ وثيق جدًا، بحيث أن أي قياس لأحدهما سيؤثر وبشكلٍ لحظي على الجسيم الآخر حتى ولو كانت المسافة الفاصلة بينهما كبيرة جدًا. وكما هو الحال مع الترابط، فإن التشابك الكمومي يلعب دورًا جوهريًا في التقنيات الكمومية، بما في ذلك النقل الكمومي (téléportation quantique - quantum teleportation)، والتشفير الكمومي (quantum cryptography- cryptographie quantique)، والتشفير فائق الكثافة. تحويل أحدهما إلى الآخر في ورقة علمية ستُنشر في دورية "Physical Review Letters" قدّم علماء فيزياء بقيادة جيراردو أديسو Gerardo Adesso، وهو الأستاذُ المساعد في جامعة نوتينغهام في المملكة المتحدة، ومؤلفون مشاركون من إسبانيا والهند، إجابة بسيطة، إلا أنها قوية، على السؤال المتعلق بالرابط بين هاتين الظاهرتين. فقد بيّن العلماء أن الترابط والتشابك متكافئان كميًا، أو عمليًا، ويعتمد ذلك الأمر على السلوك الذي تُنتجه النظريات المتعلقة بهاتين الظاهرتين. وصل الباحثون إلى هذه النتيجة عبر البرهان بشكلٍ عام على أن أي كمية غير معدومة من الترابط في نظام ما يُمكن تحويلها إلى كمية مساوية من التشابك الكمومي أو الكوانتي بين ذلك النظام ونظام آخر غير مترابط (incoherent- l incohérent) ابتدائيًا. يمتلك هذا الاكتشاف، والمتعلق بإمكانية التحويل بين الترابط والتشابك، بضعة تضمينات مهمة. فعلى سبيل المثال يعني ذلك أن الترابط الكمومي أو الكوانتي يُمكن قياسه عبر التشابك. وبالتالي، فإن كل المعرفة الشاملة التي حصل عليها العلماء حول التشابك يُمكن الآن تطبيقها مباشرة على الترابط، وهو المجال الذي لم يتم بحثه بنفس الجودة التي بُحِث بها التشابك (خارج إطار البصريات الكمومية أو الكوانتية ). وقد سمحت هذه المعرفة الجديدة لعلماء الفيزياء على سبيل المثال بتسوية مسألة مفتوحة ومهمة متعلقة بالقياس الهندسي للترابط: فطالما أن القياس الهندسي للتشابك عبارة عن "نغمة محدبة بالكامل"، فيُمكن قول الشيء نفسه عن قياس الترابط المرافق. ويعتبر ذلك ممكنًا وفقًا للعلماء، وذلك لأن النتائج الجديدة سمحت لهم بتحديد وقياس أحد المصدرين بدلالة الآخر. يقول أليكس ستريلتسوف Alex Streltsov من معهد علوم الضوئيات في برشلونه لموقع Phys.org: "تكمن أهمية عملنا في حقيقة أننا نُثبت وجود علاقة قريبة بين التشابك والترابط، ولم يكن ذلك نوعيًا فقط وإنما كميًا أيضًا". ويتابع: "بدقة أكبر، فقد بيّنا أن أي محدد كمي للتشابك سيقودنا إلى محدد كمي للترابط أيضًا. سمح هذا المفهوم لنا بإثبات أن القياس الهندسي للترابط هو أيضًا محدد كمي صحيح له، وبالتالي يُجيب ذلك على السؤال الذي بقي مطروحًا في الدراسات السابقة". وفي الوقت الذي تُوضح فيه النتائج أن التشابك والترابط متكافئان، يشرح الفيزيائيون أن ذلك لا يعني أنهما يشكلان الأمر نفسه، وسيبقيان مختلفين من حيث المفهوم. يقول المؤلفون المشاركون أوتام سينغ Uttam Singh، وهيمادري دهار Himadri Dhar، ومانابيندرا بيرا Manabendra Bera من معهد هاريش-تشاندرا للأبحاث في الهند: "بصرف النظر عن امتلاك التراكب الكمومي والترابط الكمومي والتشابك الكمومي للجذور نفسها، إلا أنها تبقى مفاهيم مختلفة. يُمكن على سبيل المثال أن يُوجد الترابط في أنظمة كمومية أو كوانتية مفردة، حيث لا يكون التشابك معرفًا بشكل واضح. يُعرّف الترابط أيضًا بالنسبة لأسس محددة، في حين يكون التشابك غير متغير إذا ما تغيرت الأسس المحلية. ونعتقد عمومًا أن الترابط والتشابك متكافئان عمليًا، لكنهما مختلفان من حيث المفهوم". الاتصالات الكمومية أو الكوانتية المستقبلية من المرجح أن يقود التكافؤ العملي بين التشابك والترابط إلى أثر بعيد المدى على مجالات مختلفة تتراوح ما بين نظرية المعلومات الكمومية أو الكوانتية، وصولًا إلى حقول بحث ناشئة كالبيولوجيا الكمومية والديناميكا الحرارية النانوية. ويُخطط الفيزيائيون في المستقبل لدراسة فيما إذا كان من الممكن التحويل ما بين الترابط والتشابك ومصدرٍ آخر ثالث، مصدرٍ لا يزال محل جدل كمي، لكنه، كالتشابك، يشكل نوعًا آخر من العلاقات الكمومية أو الكوانتية الموجودة بين نظامين. يقول أديسو: "خُططنا المستقبلية متنوعة. ففي الجانب النظري، نعمل على إنشاء إطار موحد لتفسير وتصنيف وتحديد كل الأشكال المختلفة للمصادر الكمومية أو الكوانتية ، بما في ذلك التشابك والترابط وما يتلوهما، ونعمل على تسليط الضوء على الروابط البينية الموجودة بين تلك المصادر من وجهة النظر العملية. سيسمح ذلك لنا بالإبحار عبر السلسلة الهرمية للمؤشرات الكمية في الأنظمة المركبة، وبتقدير العناصر الخاصة اللازمة لإجراء مهمات معلوماتية متنوعة". ويتابع: "أما في الجانب العملي فنحن ندرس تجريبيًا المخططات اللازمة لاكتشاف وتحديد وحفظ الترابط والتشابك والعلاقات الكمومية أو الكوانتية الأُخرى في البيئات الضوضائية. ونأمل أن تُلهمنا هذه النتائج بشكل جوهري لابتكار طرق فعالة للتحويل بين المصادر الكمومية أو الكوانتية المختلفة للاستفادة من الأمر في التطبيقات التقنية، وبالتالي الاقتراب أكثر من فهم مقدار امتداد العالم الكمومي أو الكوانتي في السيناريوهات الواقعية".
في عام 2013، واستناداً إلى تلك الأبحاث، أثبت عالما الفيزياء، خوان مالداسينا Juan Maldacena ، من معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، و ليونارد سيوسكند Leonard Susskind من جامعة ستانفورد، أنه في حالة اندماج أو تداخل أو تصادم ثقبين أسودين intriqués، فسوف ينجم عن ذلك ثقب دودي trou de Ver، وهو عبارة عن طريق مختصر في صلب الزمكان كما تنبأت بذلك النسبية العامة لاينشتين ولقد عرفت هذه الظاهرة في عالم الفيزياء بــ ER=EPR، وهي الحروف الأولى لأسماء العلماء الثلاثة الذي أوحوا بها وهم ألبرت آينشتين، و ناثان روزن و بوريس بودولسكي Albert Einstein, Nathan Rosen,Boris Podolskyسواء بالنسبة لفكرة الثقب الأسود أو لفكرة التشابك الكمومي التي وصفها آينشتاين ضاحكاً بأنها "نشاط مخيف يحصل بعيداً". إن هذا الإكتشاف وغيره ممن يمكن مقارنته به، يقترح ، على نحو يثير الفضول ، بأن التشابك الكمومي ، الذي يفترض أن لا وجود لأي ترابط أو اتصال فيزيائي، يمكنه أن يشكل ويجسد ويكيف الزمكان . ولكي نفهم كيف يمكن للتشابك أن يكون في صلب الزمكان، يتعين على علماء الفيزياء أن يحددوا ويعرفوا على وجه الدقة وبصورة أفضل وأعمق، ظاهرة التشابك intrication، كانت هذه الظاهرة تبدو في نظر آينشتين " شبحية" لأنها تنطوي على وجود اتصال فوري وآني بين جسيمين متباعدين جداً فيما بينهما وبسرعة تفوق سرعة الضوء ، وهذا يشكل تحدياً للنسبية الخاصة لآينشتين نفسه، والتي تقول أنه لا يوجد شيء يمكنه أن ينتقل بسرعة أكبر من سرعة الضوء ، والحال أن التشابك الكمومي يحدث بسرعة تفوق سرعة الضوء ولقد تم إثبات ذلك بعدد من التجارب بدون الحاجة لخرق مباديء النسبية الخاصة. ولقد اقترح العلماء عدة أشكال متنوعة من التشابك ، ابسطها يقول بتوزع عدة جسيمات ذات طبيعة واحدة منتشرة في الفضاء ، ترتبط ببعضها بخاصية وحيدة ( السبين والاستقطاب spin , polarisation)، إلا أن هذا النوع من التشابك لا يكفي لكي يعيد بناء وصياغة وتجسيد الزمكان ، وهناك أشكال أخرى من التشابك تكون أكثر وثيقة الصلة بالموضوع وأكثر لصاقة وتوافقاً ، حيث ليس هناك ما يمنع من تخيل تشابك بين جسيمات ذات طبيعة مختلفة ، ويجري العلماء تجارب عديدة بهذا الصدد. وما أن يفهم العلماء على نحو أفضل مختلف جوانب التشابك ويتقنونها ويسيطرون عليها ،عنده ربما سيفهم العلماء على نحو أدق كيف يمكن للزمكان أن ينبث من هذه الظاهرة ، حيث أن عملية الانبثاق أو البزوغ émergence، هي أمر يمكن أن نجده ، على سبيل المثال، في الثرموديناميكية ـ الديناميكا الحرارية ــ أو في الأرصاد الجوية أو في الحركات المجهرية الميكروسكوبية لجزيئات الهواء التي تولد الضغط وحالات أخرى على الصعيد الماكروسكوبي. والغرض هو التوصل إلى نظرية تصف الثقالة أو الجاذبية من وجهة نظر أو من زاوية كمومية أو كوانتية. بيد أن العماء الذي تصدوا لذلك ارتطموا بجدار قوي منذ أكثر من قرن لذلك فإن مجموعة مشروع " كل شيء من الكيوبايت It from Qubit"، يراهنون على فكرة " المبدأ الهولوغرافي principe Holographique" لكي ينجحوا في ما أخفق فيه قبلهم.
عملاق الفيزياء النظرية سسكايند يضع معادلة قد توحد النسبية العامة وميكانيكا الكم! التاريخ: 21-08-2016 عدد المشاهدات: 29,936 التصنيف: فيزياء وقت القراءة: 3 دقيقة, 21 ثانية إنّ حقيقة عمل أفضل نظريتين موجودتين لتفسير الكون -النسبية العامة وميكانيكا الكم- بشكلٍ مثالي كلٌ لوحدها قاد إلى واحدة من أكبر معضلات الفيزياء في يومنا هذا، فحالما تبدأ محاولة الجمع بينهما تتوقف الرياضيات عن العمل. مؤخراً توصل عالم فيزياء نظرية من جامعة ستانفورد إلى معادلة جديدة تقترح أن مفتاح الربط النهائي بين النظريتين يُمكن إيجاده في قنوات زمكانية غريبة تُعرف بالثقوب الدودية (wormholes). وهذه المعادلة بسيطة إلى درجة مخادعة: ER=EPR هذه المعادلة ليست مكونة من قيم رقمية، وعوضاً عن ذلك تُمثل أسماء بعض اللاعبين الأساسيين في الفيزياء النظرية. ففي الجانب الأيسر من المعادلة، يُشير ER إلى أينشتاين وناثان روزن Nathan Rosen في دلالة واضحة إلى الورقة العلمية التي كتباها عام 1935 حيث تصف الثقوب الدودية المعروفة تقنياً بجسور أينشتاين-روزن. أما الجانب الأيمن من المعادلة، فتُشير EPR إلى أينشتاين، وروزن، وبوريس بودولسكي، الذين كتبوا معاً ورقة عملية أخرى نُشرت في ذلك العام وتصف التشابك الكمومي (quantum entanglement). وفي سنة 2013، اقترح عالم الفيزياء ليونارد سسكايند Leonard Susskind من جامعة ستانفورد وجوان مالداسينا Juan Maldacena من معهد الدراسات المتقدمة في برينستون أن تلك الورقتان ربما وصفتا الشيء نفسه تقريباً، وهو شيء لم يأخذه في الحسبان أي أحد في السابق بما في ذلك أينشتاين. ويعود سسكايند اليوم إلى مناقشة العواقب في حال كان رأيه سليماً. لكن في البداية، دعونا ننظر إلى أجزاء هذه المعادلة المنفصلة. إن الثقوب الدودية، التي أكدتها بادئ الأمر نظرية أينشتاين في النسبية العامة، هي قنوات تصل مكانين مختلفين من الكون. ونظرياً، إذا سقطت في أحد جوانب ثقب دودي، ستظهر في الجانب الآخر منه لحظياً تقريباً حتى لو كان ذلك الجانب هو الجانب المعاكس تماماً من الكون. لكن لا تُمثل الثقوب الدودية قنوات تصلنا بمكانٍ آخر من الكون فقط، فهي بوابات موجودة بين زمانين في الكون كما وصفها كارل ساغان سابقاً: "ربما تُولد في مكان آخر من الفضاء، وربما في لحظة أخرى من الزمن أيضاً". ومن ناحية أخرى يصف التشابك الكمي كيفية تفاعل جسيمين مع بعضهما عندما يكونان مترابطين لا محالة، ويتشاركان وجودهما بشكلٍ جوهري. يعني ذلك أن أي شيء يحصل لأحد الجسيمين سيؤثر مباشرة ولحظياً في الجسيم الآخر -حتى لو كان على بعد سنة ضوئية كاملة. حسناً، دعونا الآن نجمع بين الاثنين. يقترح سسكايند في ورقته العلمية الجديدة سيناريو يأخذ فيه كلٌ من أليس وبوب الافتراضيين حفنةً من الجسيمات المتشابكة معهما -تأخذ أليس أحد عناصر الزوج، وبوب يأخذ الآخر- وبعد ذلك يسافران في اتجاهات متعاكسة في الكون باستخدام طائراتهما فوق الصوتية الافتراضية. حالما يصلان إلى مواقعهما المنفصلة، يصدم أليس وبوب جسيماتهما معاً بقوة هائلة ليتشكل لدينا ثقبان أسودان (black holes) منفصلان. يقول سسكايند إن النتيجة ستكون ثقبين أسودين متشابكين وموجودين في الجوانب المتعاكسة من الكون، وهما مترابطان مع بعضهما بواسطة ثقب دودي عملاق. يُعلق توم سيغفريد Tom Siegfried على خبر "ساينس نيوز" قائلاً: "إذا كانت ER=EPR صحيحة، فذلك يعني أن الثقب الدودي سيصل الثقبين الأسودين معاً، وبالتالي يُمكن وصف التشابك باستخدام هندسة الثقوب الدودية"، ويُردف قائلاً: "وأكثر من ذلك.... فمن المحتمل أن الجسيمات دون الذرية المتشابكة تتصل مع بعضها عبر نوع من الثقوب الدودية الكمومية". يتابع سيغفريد: "ولأن الثقوب الدودية تُعتبر تشوهاتٍ في هندسة الزمكان -الأمر الذي تصفه معادلات أينشتاين في الجاذبية- فإنّ تحديدها باستخدام التشابك الكمومي سيصيغ رابطاً بين الجاذبية وميكانيكا الكم". هل سسكايند محق؟ من المستحيل تأكيد ذلك حالياً لأنه رغم نشره لورقته العلمية على arXiv.org لجعلها متاحة ليدققها رواد الموقع، فإنها بحاجة إلى عملية مراجعة رسمية عميقة جداً. لكن يذكر سيغفريد أن سسكايند ليس الوحيد الذي يمضي في هذا المسار. ففي وقتٍ مبكر من هذا العام، جاء فريق من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا "كالتك" بفرضية مشابهة عندما حاولوا تبيان كيف يُمكن ربط التغيرات في الحالات الكمومية بانحناءات هندسة الزمكان. يقول أحد أعضاء الفريق، وهو شون كارول Sean M. Carroll، في مدونة وصفت فرضيتهم: "إن العلاقة الأكثر طبيعية بين الطاقة وانحناء الزمكان في هذا السيناريو قادمة من معادلة أينشتاين في النسبية العامة". ويُضيف: "ينص الادعاء بأقوى صوره على أنه ليس من الصعب استنتاج الجاذبية (الانحناء الزمكاني الناتج عن الطاقة/كمية الحركة) في ميكانيكا الكم -إنها عملية آلية! أو على الأقل، أكثر الأشياء طبيعيةً التي يُمكن توقعها". علينا الانتظار لمعرفة فيما إذا كانت ER=EPR صحيحة، أو رؤية فيما إذا ظهر لدينا شيء آخر متصل بالأمر، لكن من المؤكد أن هذه الفكرة مغذية للتفكير، وسيسكيند قد وقع على شيء ما هنا، فقد كتب قائلاً: "من الواضح بالنسبة لي أنه إذا كانت ER=EPR صحيحة، فستكون فكرة عظيمة جداً، ويجب أن تؤثر على أساسيات ميكانيكا الكم وتفسيره. ميكانيكا الكم والجاذبية مرتبطتان ببعضهما أكثر بكثير مما قد يتخيله المرء
التشابك الكمومي: حب على المستوى دون الذري
نتحدث عن الحب والرومانسية فغالباً ما يخطر في بالنا روابط غامضة وغير مرئية؛ ويوجد مثل هذه الروابط في العالم دون الذري أيضاً، ويعود الفضل في ذلك إلى ظاهرة غريبة وغير مألوفة تُعرف بالتشابك الكمومي (quantum entanglement). تكمن الفكرة الأساسية لهذه الظاهرة في إمكانية ترابط جسيمين مع بعضهما حتى لو كانت المسافات الفاصلة بينهما تصل إلى ملايين السنين الضوئية، وأي تغيير في أحداهما سيؤثر على الجسيم الآخر. اقترح عالم الفيزياء جون بيل John Bell عام 1964 إمكانية حدوث هذا التغيير بشكل لحظي حتى لو كانت الجسيمات بعيدة جدا عن بعضها؛ وتُعد نظرية بيل هذه فكرة مهمة في الفيزياء الحديثة، لكنها تبدو معقولة بدرجة قليلة. وقبل ظهور هذه النظرية بسنوات، بيّن أينشتاين أنه ليس باستطاعة المعلومات التحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء. وفي الواقع، وصف أينشتاين التشابك الكمومي باستخدام عبارة الفعل الشبحي عن بعد (spooky action at a distance). ووفقاً لمسؤولين من ناسا، ففي النصف الثاني من القرن الماضي، أجرى العديد من الباحثين تجارباً تهدف لاختبار نظرية بيل (Bell s Theorem)؛ لكنها باءت بالفشل لأنه من الصعب تصميم وبناء معدات بالحساسية والكفاءة المطلوبتين. لكن في السنة الماضية تمكنت ثلاث مجموعات من الباحثين من إجراء اختبارات فعالة لنظرية بيل، وكلها وجدت دلائل داعمة للفكرة الأساسية. وقد أُجريت واحدة من هذه الدراسات بقيادة كريستر شالم Krister Shalm، وهو فيزيائي في المعهد الوطني للمعايير والتقنية (NIST) في بولدر-كولورادو. استخدم شالم وزملاؤه شرائح معدنية خاصة ومبردة إلى درجة التجمد، مما يجعلها فائقة الموصلية -أي أنها لا تملك مقاومة كهربائية. وفي هذه التجربة يصطدم فوتون بالمعدن ليعيده من جديد موصلاً كهربائياً عادياً على مدار جزء ضئيل من الثانية، وبالطبع يُمكن للعلماء رؤية ذلك أثناء حصوله. سمحت هذه التقنية للعلماء بمعرفة ما إذا كانت قياساتهم لفوتون واحد تؤثر على الفوتون الآخر الموجود في الزوج المتشابك (entangled pair). وقد دعمت نتائج هذا البحث، المنشور في دورية journal Physical Review Letters بقوة نظرية بيل. وفي تصريحٍ له، يقول المؤلف المساعد في البحث فرانسيسكو مارسيلي Francesco Marsili، الذي يعمل في مختبر الدفع النفاث التابع لناسا (JPL) في باسادينا: "تشير ورقة بحثنا، إضافةً إلى بحثين نُشرا العام الماضي، إلى أن بيل كان محقاً؛ فأي نموذج لعالمٍ يحتوي متغيرات مخفية يجب أن يسمح أيضا للجسيمات المتشابكة بالتأثير على بعضها البعض عن بعد". ويُضيف مسؤولون في ناسا أن هناك أيضاً تطبيقات عملية لهذا العمل، حيث يمكن استعمال الكواشف النانوية وفائقة الموصلية للفوتونات الأحادية (SNSPDs)، التي استعملتها مجموعة شالم والتي بُنيت في NIST وJPL، في أغراض التشفير (cryptography) واتصالات الفضاء السحيق. هذا وقد ساعد مستكشف الغبار الجوي والبيئة القمرية الخاص بناسا (LADEE)، الذي دار حول القمر بين شهري أكتوبر من عام 2013 وأبريل عام 2014، في إثبات إمكانية وجود هذا النوع من الاتصالات. فقد استخدمت تجربة إثبات عمل الاتصالات الليزرية القمرية الموجودة في LADEE أجهزة موجودة على المركبة الفضائية وأيضاً أجهزة أخرى موجودة في مستقبل أرضي مشابهة لـ SNSPDs. وأثبتت التجربة أنه من الممكن بناء مصفوفة اتصالات ليزرية حساسة تمكننا من رفع وتحميل المزيد من البيانات من وإلى مجسات الفضاء البعيدة
الهولوغرامات الكونية:
كل النظريات الفيزيائية تتمتع بنفس القيمة العلمية ولكن ليس بنفس الشهرة ، وكل واحد منها تمثل مقاربة خاصة بها وزاوية تعاطي تختلف عن غيرها ولكن قد تتوصل إلى نفس النتائج والتوقعات والتكهنات ، وكل نظرية تبدأ وتطرح رؤيتها ومعادلاتها ، وتنتظر أن تؤيدها التجارب المختبرية والمشاهدات الرصدية، كلياً أو جزئياً، ويبني العالم الصناعي عليها تطبيقات تكنولوجية ما يعني أنها حزئياً صحيحة . ينطبق هذا على الهولوغرام hologramme ، في غياب نظرية الثقالة الكمومية أو الكوانتية، التي يحاول العلماء الإستعاضة عنها مؤقتاً بنظرية معادلة ولكن أكثر مطواعية وليونة وأقل صعوبة وتعقيد. أحد أهم التجسيدات لنجاح المبدأ الهولوغرافي principe holographique، هو العلاقة التبادلية بين AdS و CFTأي الصلة بين نموذج كوسمولوجي يعرف بــ" كون مضاد لسيتر univers anti-de Sitter – AdS، و وحالة خاصة في نظرية الحقول الكمومي أو الكوانتية théorie quantique des champs ، والتي تعرف بنظرية التطابق الحقولي théorie conforme des champs – CFT والصيغة الانجليزية conformal field theory، والذي يعلم على حدود الكون المضاد لسيتر، وخالي من الثقالة أو الجاذبية. وبمثل هذه المقاربة يمكننا وصف ثقب أسود من خلال ما يحدث على حدود الكون ، ولقد نجح خوان مالادسينا في إيجاد هذه العلاقة في نهاية التسعينات أثناء عمله في إطار نظرية الأوتار عند محاولته حل بعض المشاكل الحسابية لتطوير وصف كمومي أو كوانتي للثقالة أو الجاذبية.وبفضل العلاقة AdS/CFT يأمل الفيزيائيون إكتشاف نظرية مساوية للثقالة الكمومية أو الكوانتية ، مع كونها أكثر بساطة وأكثر طواعية في حالة ترك الثقالة أو الجاذبية جانباً .
السؤال هو كيف يمكن أن نصيغ نظرية كمومية للثاقلة أو الجاذبية بدون الثقالة؟ قد يأتي الجواب من الطبيعة الجوهرية للثقالة أو الجاذبية ذاتها. ففي كوننا المرئي قد تكون الثقالة أو الجاذبية والزمكان ليسوا سوى نتاج نهائي، بثلاث أبعاد للتشابك بين الكيوبايتات في فضاء لايمتلك سوى بعدين. يمكن لنظرية المعلومة الكمومية أو الكوانتية أن تساهم في هذا المشروع بفضل أداة من هذا التخصص تعرف بإسم " الشيفرات الكمومية أو الكوانتية les codes quantiques التقي تقوم بتصحيح الأخطاء. ولقد صاغ باحثوا المعلوماتية الكمومية هذه الشيفرات للمساعدة في الحفاظ على المعلومة في حالة الضياع الناجم عن التفاعلات مع تشابكات الكيوبايتات . ويقوم الحاسوب أو الكومبيوتر الكمومي l’ordinateur quantique بتشفير المعلومة ببايتات وحيدة واستخدام حالات في غاية التشابك للعديد من الكيوبايتات، ويبدو النظام متماسك وصلد ولايحدث أخطاء وبوسع تلك الشيفرات التصحيحية أن تلعب دوراً في العلاقة التبادلية بين AdS و CFT وهي العلاقة التي تقيم الصلة بين نموذج كوسمولوجي معطى هو الكون المضاد لستير univers anti-de Sitter و الحالة الخاصة لنظرية الحقل الكمومي un état de la théorie quantique des champs، الرياضيات المعنية والمرتبطة بهذه الشيفرات موجودة فيها أيضاً وبالإمكان كذلك فك شيفرة المعلومة داخل الثقب الأسود والموجودة على سطحه بالقرب من أفق الأحداث من خلال التشابك.
الإشكالية هي أن كافة قوانين الجاذبية أو الثقالة ، التي تطبق على كوننا المرئي، لا تتدخل في العالم المطهر أو المنقى من علاقات وصلات الــ AdS/CFT، هناك نوع من الثقالة الخاصة بذلك لكنها ليست نظرية الثقالة لكون في حالة توسع كالذي نعيش فيهز فالكون المضاد لسيتر لا يحتوي على مادة ، فقط ثابت كوني ذو قيمة سالبة لكي يصفه بطريقة ما ، لكنه مستقر، فهو ليس في حالة تمدد أوتوسع و لا في حالة تقلص أو إنكماش ، في حين أن الثابت الكوني لكوننا المرئي هو موجب لكي يتوافق مع المشاهدات ونتائج الرصد الفلكي المتعلقة بتوسع الكون.
وإذا كان نموذج " كل شيء من الكيوبايت It from Qubit" يستند على أسس غير واقعية كما يشكك البعض، فهل يستطيع أن يعطي نتائج مقبولة؟ لا فائدة من التركيز على نموذج تبسيطي أو تقريبي لكوننا ويراهن أصحاب هذا المشروع ، أي ــ كل شيء من الكيوبايت It from Qubit ـــ على إنه ، إنطلاقاً من لوحة مبسطة وقابلة للتعديل والتلاعب يمكن على أمد أبعد زرع التعقيدات والتركيبات المعقدة الضرورية لتطبيق النظرية الحاسوبية الرقمية الافتراضية في العالم الواقعي.
فالكون المضاد ليستر هو عالم يكون فيه الزمكان ذو تحدب أو إنحناء سالب متقعر un univers Hyperbolique. في حالة تصورنا له ببعدين مكانيين يمكننا تخيله على شاكلة قرص بوانكاريه disque de poincaré، وبإضافة بعد الزمن ، افقياً في الرسم البياني الخاص به، سوف نحصل على شكل إسطواني مليء بما يشبه الكرات ــ الفقاعات ــ وكل واحدة من هذه الأشكال هو عبارة عن فضاء قطعي Hyperbolique ، وإن هذا الكون الافتراضي يمتلك شكل من أشكال الجاذبية أو الثقالة ، ولو أطلقنا في داخله جسيم باتجاه معين، من مركزه، فسوف يعود إلى نقطة إنطلاقه بعد زمن معين ومحدد. فشاع الضوء يذهب نحو تخوم حدود المكان ــ الفضاء ــ قبل عودته في نفس الوقت . إن وصف هذا الكون هو المعادل لنظرية حقول تسمى " نظرية حقل التوافق une théorie des champs dite conforme"محددة بسطح الشكل الإسطواني ، وتنطوي على فقدان أو غياب لبعد مكاني أقل من الكون الواقعي ، وخالية من الثقالة أو الجاذبية الأمر الذي يسهل عملية الحساب الرياضياتي.
لم ينجح أصحاب المشروع في تطوير نظرية كمومية للثقالة ، ولكن هناك بعض الفوائد الإيجابية لنموذجهم الافتراضي الرقمي الحاسوبي فهو يعمل على تطبيق تقنيات واستلهام افكار مستمدة من نظرية الأوتار ومن نظرية النسبية العامة، وتطبيقها على مسائل المعلومة الكمومية أو الكوانتية، ، سوف يساعد في فهم أفضل للتشابك الكمومي أو الكوانتي ، واستيعاب الزمكان ، وسوف يساعد ذلك كثيراً في تصنيع كومبيوترات كمومية أو كوانتية ordinateurs quantiques. وبفضل ذلك صار بالإمكانية قياس الزمن داخل ثقب دودي على سبيل المثال ، وذلك من خلال تمثيله على شكل دائرة كمومية أو كوانتية ، على غرار الدائرة الكهربائية، والتي تتيح نظرية الأوتار والتشابك الكمومي إمكانية تحديد بعض مراحل هذه الدائرة الكمومية أو الكوانتية في المادة المكثفة la matière condensée ، يعتقد البعض أننا على أعتاب ثورة جديدة في الفيزياء تشبه الثورة التي اندلعت في بدايات القرن العشرين عند ظهور النسبية وميكانيك الكموم ، والثورة التي اندلعت في سنوات الثمانينات عند ظهور نظرية الأوتار الفائقة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصطلحات التشابك الكمومي (quantum entanglement): التشابك الكمومي أو الكوانتي: ظاهرة كَمّية ترتبط فيها الجسيمات الكميّة ببعضها، رغم وجود مسافات كبيرة تفصل بينها. مما يقود إلى ارتباطات في الخواص الفيزيائية المقيسة لهذه الجسيمات الكمّية. المصدر: العلوم الأمريكية. الكيوبايت الكمومي (qubit): البايت الكمومي (الكيوبايت): هو المكافئ الكمومي أو الكوانتي للبايت الرقمي الثنائي الموجود في الحساب التقليدي. لكنَّ هذا البايت الكمومي أو الكوانتي موجود في الحساب الكمومي أو الكوانتي. يُعتبر هذا الكيوبايت الوحدة الأساسية للمعلومات في الحواسب الكمومية أو الكوانتية، تماماً كما يُعتبر البايت التقليدي الوحدة الأساسية للمعلومات في الحواسب التقليدية. المصدر: معهد ميكانيك الكموم أو الكوانتوم.





16-


الحب المستحيل بين دعامتي الكون المرئي
هناك حلم لدي الفيزيائيين يدوم منذ أكثر من قرن ، فمن جهة يقف الميكانيك الكوانتي أو الكمومي، الذي يصف التفاعلات ما دون الذرية، والذي لم يهزم قط، ومن جهة أخرى تقف نظرية النسبية العامة ، التي لا تقهر، والتي تصف ديناميكية الزمكان والجاذبية أو الثقالة الكونية . إن هاتين النظريتين الفيزيائيتين الراسختين عبر مئات التجارب المختبرية والمشاهدات الرصدية ، الميكروسكوبية والماكروسكوبية، يشكلن دعامتي الفيزياء الحديثة، لكنهما يعانيان من عائق يتعذر تجاوزه ألا وهو عدم توائمهما وتلاقيهما ، أو جمعهما وتوحيدهما في نظرية واحدة . والحال أنهما من المفترض أن يتعاضدان في شرح ووصف وتفسير ما يحدث ، عند بعض الظروف الخاصة، مثل بداية الكون المرئي ، والثقوب السوداء، بعبارة أخرى، لا بد من التوصل إلى نظرية كوانتية أو كمومية للثقالة أو الجاذبية théorie quantique de la gravitation، لمعرفة اللحظات الأقدم لتاريخ الكون المرئي ، ومعرفة ما في داخل الثقوب السوداء. فهل سيتمكن العلماء يوما ما من المصالحة بين النظريتين وتزويجهما؟ الجواب هو نعم ولكن... لا بد من معرفة التشابك الكمومي أو الكوانتي والتمكن منه كلياً والتحكم بالثقوب الدودية ، الأول هو ظاهرة كوانتية أو كمومية محضة، تقول أن شيئين، ولنقل جسيمين مجهريين مادون ذريين ، يمتلكان نفس الخصائص المباشرة حتى في حالة تباعدهما بمسافات كبيرة ، بسعة الكون، وعدم وجود أية وسيلة اتصال وتواصل فيزيائي بينهما. أما فيما يخص الثقوب الدودية التي تنبأت بها النسبية العامة فهي عبارة عن طرق مختصرة في الزمكان توصل بين مناطق كونية متباعدة جداً في الزمكان ، مثل ثقبين أسودين متباعدين.
إن هذين المفهومين ، المتباينين، قد يمكننا الربط بينهما. وعبر حسابات رياضياتية تكرس للثقوب السوداء، حيث لاحظ بعض العلماء ، أن التشابك في الفيزياء الكوانتية أو الكمومية، والثقوب الدودية في النسبية العامة، يشكلان وجهان لظاهرة واحدة. بل ويمتد التقارب إلى ظواهر وحالات أخرى لدى الإطارين النظريين و لا يقتصر على الثقوب السوداء. ول نجح العلماء في سعيهم هذا فسيكون لذلك تبعات عميقة على فهمنا للكون وألغازه. ومن الافتراضات الجديدة التي يقترحها العلماء بهذا الصدد أن الزمكان نفسه، وهو من ممتلكات النسبية العامة، يمكن أن ينبث عن التشابك الكمومي بين المكونات الميكروسكوبية الأكثر جوهرية للمادة. وقد يفتح ذلك آفاقاً وممرات توحيدية بين الفيزياء الكمومية أو الكوانتية والنسبية العامة، وهي المقدمة التمهيدية اللازمة والضرورية للوصول إلى النظرية الكوانتية أو الكمومية للثقالة أو الجاذبية.
أحد أهم الفيزيائيين الذين حملوا لواء هذه المبادرة العالم الأرجنتيني خوان مالداسينا Juan Maldacena صاحب المقولة الشهيرة :" في السابق كانت الثقوب السوداء هي اللغز الأكبر، والآن لدينا الـ D-branes لكي نحسب الــ D-entropie" فالنتائج التي توصل إليها مالداسينا والفرضيات الخصة جداً التي قدمها، تحقق على نحو جلي المبدأ الهواوغلرافي وبالتالي يقدم المثال الرياضياتي الأول للأكوان المتوازية الهولوغرافية. لقد طبق مالداسينا نظرية الأوتار على كون يختلف في شكله عن كوننا ولكن تحليله أسهل بكثير.. فمن الناحية الرياضياتية تحدث مالداسينا عن شكل له حدود وسطح يتعذر خرقه يحيط كلياً بالداخل. وبالتركيز على السطح أظهر مالداسينا بوضوح وبطريقة مقنعة أن كل ما حدث داخل هذا الكون الافتراضي الخاص ، إن هو إلا إنعكاس لقوانين وسيرورة تدور على حدوده. وحتى لو لم يكن ممكناً تطبيق طريقة مالداسينا على نحو مباشر على كوننا المرئي، إلا أن نتائجه تحتفظ بخصائصها الحاسمة لأنها تقيم أسس رياضياتية صلدة ورصينة يمكن أن يبنى عليها أكون هولوغرافية.
يقول مالداسينا أن مفاهيم التشابك الكمومي والثقوب الدودية تحدث بها آينشتين نفسه ومساعديه في عدة مقالات لهم سنة 1935. ولقد عالجت تلك النصوص المنشورة عدد من الظواهر المختلفة جداً فيما بينها حتى أنآينشتين نفسه لم يتخيل أن تكون بينها اية صلات أو علاقات، بل كان آينشتين يعتقد آنذاك أن التشابك الكمومي يخون ويغدر بعدد من الإشكاليات الجوهرية الموجودة في قلب النظرية الكمومية أو الكوانتية حسب اعتقاده. والمفارقة هي أن تلك الإشكاليات ذاتها التي أشار إليها آينشتين ، هي التي بوسعها اليوم فتح طريق جديدة للتوفيق والمصالحة بين نظرية النسبية العامة التي قدمها وطورها آينشتين سنة 1915 ، والفيزياء الكمومية أو الكوانتية التي ساهم هو في تأسيسها مع ماكس بلانك منذ العام 1900 . ومن أجل فهم الصلات بين التشابك الكمومي أو الكوانتي و الثقوب الدولدية، يتعين علينا قبل ذلك أن نركز ونغوص ونتمعن في بعض خصائص الثقوب السوداء . فتلك الكينونات وصفت في إطار نظرية النسبية العامة ، والتي أظهرت كيف يمكن للمادة والطاقة أن تشوه الزمكان من جهة، ومن جهة أخرى تقول بأن القوة الثقالية هي تمظهر أو تجلي لتحدب أو إنحناء الزمكان. في أغلب الحالات يكون ذلك التحدب أو الإنحناء للزمكان ضعيف جداً يكاد يكون غير ملحوظ، لكنه يغدو هائلاً أو فائقاً داخل الثقوب السوداء. يمكننا أن نلاحظ أو نميز منطقتين : داخل الثقب الأسود، حيث حتى الشياء التي تتنقل بداخله بسرعة الضوء ، لا تشعر بشيء خاص ، لكنها سيحكم عليها ببلةغ منطقة الثقب الأسود التي يكون فيها التحدب أو الإنحناء لا نهائي حسب الفيزياء غير الكمومية أو غير الكوانتية ، أي الفرادة الداخلية singularité interne.
في عام 1916، أي بعد عام من نشر نظرية النسبية العامة، توصل العالم الفيزيائي الألماني كارل شوراتزتشايلد Karl Schwarzshchild إلى الحل البسط لمعادلات آينشتين ، والتي كان من الصعب العثور عليها وتفسيرها بسبب محدودية الرياضيات في ذلك الوقت. ولكن في عام 1935، اكتشف آينشتين وناثان روزن Einstein, Nathan Rosen، من معهد الدراسات المتقدمة في برينستون في الولايات المتحدة الأمريكية، إمكانية حدوث ثقوب دودية والتي كانت تسمى آنذاك بجسور آينتشين – روزن بين الأكوان والأزمان أو جسور إي ر ER، لكن العالمين لم يستطيعا معرفة كافة جوانبها الهندسية أو الجيوميترية ، وتطلب الأمر إنتظار سنوات الستينات من القرن الماضي كي يبدأ الباحثون والعماء في فهم معنى حل كارل شوراتزتشايلد لمعادلة آينشتين وكيف يمكن لثقب دودي أن يربط بين ثقبين أسودين. وهناك كذلك ما عرف بتكاثف آينشتين روزن فيما يخص الاتصال بين الأزمان ، الماضي والحاضر والمستقبل. بالنظر إليهما من الخارج، فإن الثقبان السودان يبدوان كأنهما كيانين مختلفين ومتمايزين متواجدين في مناطق مختلفة من الزمكان ، ولكن حسب المعادلات الرياضياتية فإن الثقبين السوداوين يحتلان نفس الداخل. أما الثقب الدولي لحل شوارتزتشايلد يختلف عن الثقوب السوداء التي تتكون في الكون إثرإنهيار النجوم الهائلة الضخمة ، وهو ، أي الثقب الدودي ، لا يحتوي على مادة بل فقط زمكان متحدب أو منحني . يعتبر أغلب الباحثين العلميين أن حل شوارتزتشايلد ذو الموقعين الخارجين deux extérieurs بمثابة شذوذ أو فضول رياضي curiosité mathématique ، بدون صلة وثيقة مباشرة مع العالم الواقعي و لا يتوافق معه، ومع ذلك تساءل الفيزيائيون النظريون بشأن تفسيره الفيزيائي.
في سنة 1962، أثبت العالمان الفيزيائيان الأمريكيان جون ويلير John Weeler و روبرت فوللر Robert Fuller ، أن الثقب الدودي الذي يربط بين السطحين الخارجيين للثقبين الأسودين ، غير مستقر، لذلك قاما بمواصلة وإطالة وتكرار الحسابات ، واتضح لهما أن الزمن يمر مثل عجينة الخبز، أي يتمطط ويتمدد étirerait ، عندها، سينتهي المطاف بأفقي الأحداث للثقبين الأسودين بالانفصال عن بعضهما ، وفي الحقيقة سيتباعدان عن بعضهما بسرعة بحيث يغدو من المستحيل استخدام ثقب دودي من هذا النوع المذكور أعلاه للسفر بين خارج ثقب أسود إلى خارج ثقب أسود آخر فالجسر سينهار قبل أن نتمكن من العبور . وفي عام 1935 ، اثناء مناقشة ظاهرة أخرى تهمنا، ألا وهي التشابك الكمومي أو الكوانتي، التي سبق لآينشتين Einstein وروزن Rosen ومعهما بوريس بودولسكي Boris Podolsky أن ناقشوها حيث نشر الثلاثة مقالاً تحت توقيع الحروف الأولى من أسمائهم EPR ، حيث حاول العلماء الثلاثة أن يثبتا في بحثهم مشكلة تواجه النظرية الكوانتية أو الكمومية بعرضهم لظاهر تبدو وكأنها تخرق مبدأ أساسي من مباديء النسبية والذي يقول أنه لا يمكن لي جسيم أو معلومة الانتشار بسرعة تفوق سرعة الضوء ، والحال أنه في الإشكالية التي عرضها العلماء الثلاثة EPR، والتي سميت بالتشابك، تتحدث عن جسمين فيزيائيين يتمتعان بعلاقات غريبة ومترابطة ومتشابهة بالرغم من تباعدهما بمسافات كبيرة إلى درجة أنه لايوجد لأية إشارة فيزيائية الوقت الكافي للانتشار من أحدهما للآخر خلال المدة الزمنية الفاصلة بينهما وتفصل بين الحسابات التي أجريت على كل منهما ونتائجها. فلنأخذ مثال بتعلق باستقاطبية فوتونات ، فعند قياس أو حساب الفوتون سوف يبدو لنا، إما أفقي أو عمودي، وعلى نحو عام، فإن حالة الاستقطاب لفوتون ، على الصعيد الرياضياتي، هو عبارة عن تركيب أو مزيج خطي combinaison linéaire " حصيلة ترجيحية une somme pondérée للحالتين المرصودين في الأساس ، لكن عندما نقيس أو نحسب الاستقطاب ، فإن هذا التراكب superposition في الحالات سوف يختفي، فالإتجاه المحسوب هو ، إما عمودي مع بعض الإحتمالية ــ التي تعتمد على الحالة الأساسية ــ أو أفقي مع الإحتمالية التكميلية أو المكملة أو الإضافية complémentaire. واليوم صار بإمكانن أن نحضر ونعد فوتونين أ ، ب ، A,B في حالة كمومية أو كوانتية تسمى متشابكة، بحيث أن القطبية المحسوبة أو المقاسة لأحد الفوتونين، ، سواء أكانت النتيجة أفقية أو عامودية، ستكون دائماً متعامدة orthogonale مع تلك المحسوبة في الفوتون الآخر. والنظام الإجمالي لديه حالة محددة ، فنحن نعرف أنه يحتوي على فوتونين ذات استقطاب متعامد ، لكننا لا نستطيع أن نقول شيئاً بخصوص الجسيمات الفردية قبل القيام بحسابات عليها.
تطلب الأمر إجراء تجربة مختبرية تتضمن إنتاج زوجين من الفوتونات المتشابكة أ ، ب ، A,B، ينطلقان باتجاهين متناقضين أو متعارضين ويبتعدان عن بعضهما. ومن ثم نقوم في لحظة ما بقياس أو حساب قطبية الجسيم أ A، فلو كانت النتيجة عمودية ، أي استقطاب عمودي، فإن حساب لإستقطاب الجسيم ب B سيكون حتماً أفقياً ، حتى لو لم تظهر اية إشارة فيزيائية معلوماتية متنقلة من الجسيم أ A إلى الجسيم ب B في الفترة الزمنية الفاصلة بين القياسين ، وهكذا يبدو أن الجسيمين يتصلان ببعضهما البعض في لحظة إجراء القياس لكي يتزامنا وينسقا معاً استقطابيتيهما آنياً ويعد ذلك انتهاكاً لقوانين النسبية وسمي ذلك بمفارقة EPR. ولحل هذا التناقض وهذه لمفارقة اقترح العلماء الثلاثة ، آينشتين وروزن وبودولسكي، أن صياغة النظرية الكوانتية أو الكمومية غير مكتملة وناقصة وإن هناك متغيرات خفية variables cachées، هي التي تعطي إنطباعاً بالتواصل والإتصال بين الجسيمين ــ الفوتونين ــ ولقد رد العالم الفيزيائي الدانماركي نيلز بور Niels Bohr على هذا الانتقاد أن المفارقة الظاهرة تكمن في تمسك آينشتين بمبدأ التموضع principe de localité. والحال ، حسب نيلز بور ، أن التشابك الكمومي ليس ظاهرة تموضعية locale: فالجسيمين يشكلان نظاماً مرتبط على نحو مستقل عن المسافة التي تبدو أنها تفصل بين الجسمين ــ الفوتونين ــ . كان التحدي هو التحقق هل أن آينشتين أم بور هو على حق . في سنة 1964، حصل العالم الإيرلندي الشمالي جون بيل John Bell على نظام اللاتساوي أو عدم المساواة système d inégalité يتعلق بالترابط الكمومي أو الكوانتي corrélation quantique، بين جسيمين أوليين وإن بالإمكان أن نختبر تجريبياً ما إذا كان اللاتساوي مرضي أو مقبول وما إذانت توجد بالفعل متغيرات كمومية خفية variables quantiques cachées، وهل بالعكس كان هناك خرق وإنتهاك لها، وهل إن التشابك الكمومي هو بالفعل ظاهرة كمومية لا محلية أو لاتموضعية phénomène non- localité quantique. كانت مثل هذه التجربة صعبة التحقيق ، ولكن في سنة 1980 قام العالم الفرنسي آلان آسبيه Alain Aspect وزملائه أن يثبتوا وبطريقة مقنعة أن لامتساويات بيل les inégalités de Bell قد تم انتهاكها. وأعقبتها تجارب أخرى بغية التأكد على نحو قطعي من طبيعة ظاهرة اللامحلية أو اللاتموضع non- localité للتشابك الكمومي l intrication quantique أو l enchevêtrement quantique .
كان التحدي يتمثل بالربط بين الثقوب الدودية والتشابك الكمومي نظراً لاختلافهما الكبير، وقد جاء الجواب من الدراسة المستفيضة والعميقة للثقوب السوداء التي قام بها العالم البريطاني ستيفن هوكينغ Stephen Hawking سنة 1974 واثبت أن الثقوب السوداء تبث إشعاعاً يشبه إشعاع الجسم السود المسخن أو الحار. لقد اهتم العالم البريطاني بظاهرة كوانتية أو كمومية تحدث باستمرار، وهي أن الفضاء الخالي من المادة ليس فارغاً البتة: فهناك عدد لامحدود من الأزواج الجسيمية ومضاداتها des paires particules-antiparticules تولد عفوياً وتختفي فوراً وبسرعة لإفناء بعضها البعض . واعتبر ستيفن هوكينغ أن بعض الأزواج الجسيمية تتشكل فوق أفق الأحداث للثقب الأسود وأخرى تبتعد وتفلت أو تهرب من هذا الكائن الكوني المخيف الذي يبتلع كل شيء ، عند ذلك يبدو الثقب الأسود بالنسبة لمراقب من خارجه وبعيد عنه وكأنه يبعث إشعاعاً على غرار الجسم السود الحار والساخن جداً ، حتى إن هذه الظاهرة تنطوي كذلك على أن للثقب الأسود درجة حرارة يمكن حسابها.
منذ القرن التاسع عشر فهم الفيزيائيون بأن درجة حرارة نظام ما تنجم عن الحركات غير المنتظمة لمكوناته الميكروسكوبية ــ المجهرية . ففي غاز ما على سبيل المثال، فإن درجة الحرارة مرتبطة باهتياج جزيئاته . والحال لو إن الثقوب السوداء تمتلك درجة حرارة، فعلينا أن نتوقع أنها تحتوي على مكونات ميكروسكوبية ــ مجهرية هي أيضاً قادرة على أن تتخذ بمجملها مختلف التركيبات والتكوينات تسمى بالـحالات الصغرى المجهرية micro états حيث أن بعضها يتوافق مع نفس الحالة الماكروسكوبية للثقب الأسود.
ولقد قادت أبحاث ستيفن هوكينغ العلماء والفيزيائيين على اعتبار الثقوب السود، منظور إليها من خارجها، تتصرف كأنها أنظمة كمومية أو كوانتية. وبالتالي عليها أن تخضع إلى جميع القوانين الكمومية أو الكوانتية . فعندما ننظر لثقب أسود ماكروسكوبي ــ كبير الحجم ــ من الخارج فعلينا أن نراقب نظاماً يمتلك عدة حالات صغرى مجهرية ممكنة ولكل واحدة منها نفس الإحتمالية لكي تحدث وتتحقق.
الثقوب السوداء المتصلة:
ومثلما يحدث في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية على نطاق كا دون الذري من تشابك كمومي وصلات بين جسيمين في الأنظمة الكمومية أو الكوانتية العادية، ليس هناك ما يمنع من أن يحدث تشابك بين ثقبين أسودين متباعدين عن بعضهما ولكل واحد منهما عدد من الحالات الصغرى المجهرية microétats، كمومية أو كوانتية ممكنة . ويمكن أن نتخيل ، حسب ستيفن هوكينغ ، تشابكاً كمومياً بين كل حالة كمومية مجهرية صغرى في الثقب الأسود مرتبطة مع مثيلتها الحالة الكمومية المجهرية الصغرى في الثقب الأسود الآخر . ولو قسنا بعض الحالات الكمومية الصغرى للثقب الأسود الأول فمن المتوقع أن يكون الحال مشابهاً في الثقب الأسود الثاني. وهذا ما يسمى بالــ " الثقوب السوداء المتصلة trous noirs connectés. ولو استفدنا من معطيات نظرية الأوتار الفائقة يمكن أن نفترض وجود حالة تشابك EPR بين الثقوب السوداء، تولد زمكان يقوم ثقب دود ــ أو جسر EPR بالربط بين داخلي ثقبين اسودين . بعبارة أخرى إن التشابك الكمومي ، على صعيد الثقوب السوداء، يخلق إتصال جيوميتري هندسي بين ثقبين أسودين . بالرغم من اعتقادنا بأن التشابك ينطوي على ترابطات بدون اتصال فيزيائي ملموس ، والحال أن الثقبين السودين المتباعدين عن بعضهما فيزيائياً، يكون متصلين ببعضهما بفضل الثقب الدودي.
ولقد صاغ العالم ليونارد سيوسكند Leonard Susskind، من جامعة ستانفورد، والعالم خوان مالداسينا Juan Maldacena هذه الإمكانية بالصيغة الرياضية التالية : ER=EPR، أي التعادل بين الثقوب الدودية والتشابك . فمن وجهة نظر الــ EPR فإن المراقبين القريبين من أفق الأحداث لكل ثقب أسود مرتبطين ببعضهم لأن الثقبين الأسودين في حالة كمومية متشابكة ، وفي منظور الــ ER فإن المراقبين مرتبطين كذلك لأن النظامين متصلين بواسطة ثقب دودي. وهذا الاستنتاج مبني على عدد الأبحاث المنشورة حول الديناميكا الحرارية للثقب الأسود أو الثرموديناميكا للثقب الأسود كالبحث الذي نشرته جامعة ألبيرتا الكندية للعالم ورنر إسرائيل Werner Israel سنة 1976 . وفي سنة 2006 قام العلماء شينساي ريو Shinsei Ryu و تاداشي تاكايانغي Tadashi Takayanagi من جامعة سانتا باربارا في كاليفورنيا بدراسة العلاقات القائمة بين التشابك و جيوميترية أو هندسة الزمكان .ونخص بالذكر مقالاً نشر مؤخراً للعلماء أحمد المهيري Ahmed Almheiri ودونالد مارلوف Donald Marolf وجوزيف بولشينسكي Joseph Polchinski وجيمس سوللي James Sully وكلهم من جامعة سانتا باربارا في كاليفورنيا الذي حثوا على التمعن عن قرب لرؤية الصلة بين التشابك الكمومي والثقوب الدودية بعد بحثهم وتعمقهم وإعادة مراجعتهم للثقوب السوداء وراجعوا المفارقة المشار إليها أعلاه.
ما هو مصير المعلومة في الثقب الأسود؟
الكل يعرف أن كل شيء يدخل في داخل الثقب السود يختفي ويضيع إلى الأبد و لا يمكن لأي شيء، ولا حتى للضوء أن يفلت من الثقب السود. ولكن هناك مسألة ضياع المعلومة. فكل شيء يعبر أفق الأحداث للثقب السود يضيع إلى الأبد بيد أن المعلومة يبدو أنها لا تضيع حقاً بل فقط بعيدة المنال ، أي لا يمكن الوصول إليها، بالنسبة لمن يتواجد خارج الثقب الأسود. إلا أن أبحاث ستيفن هوكينغ جعلت من المعلومة أقل تفاهة مما كنا نعتقد. فالمراقب خارج الثقب سوف يلاحظ أن هذا الأخير الذي يشعن سوف يفقد جزء من كتلته، وسوف يتبخر على مدى مليارات السنين إلى أن يختفي كلياً . فما هو مصير المعلومة داخل الثقب السود التي لا يستطيع شعاع هوكينغ أن ينقلها بسبب طبيعته العشوائية؟ مايزال العلماء يناقشون هذا التفصيل ، لأنه في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية ، هناك مبدأ جوهري يفرض حفظ المعلومة la conservation de l’information .فهل تخرق الثقوب السوداء وتنتهك هذا المبدأ؟ ليس بالضرورة ، كما يقلو ستيفن هوكينغ. ولقد قدم المبدأ الهولوغرافي principe holographiaue أحد عناصر الإجابة على هذا السؤال. وهو المبدأ الذي طوره العالم خوان مالداسينا سنة 1997، وهو نموذج يقيم تعادل رياضياتي بين كون ثلاثي الأبعاد تسيره الثقالة أو الجاذبية، أي الذي يحتوي على الثقوب السوداء، وكون ثنائي البعاد الخالي من الثقالة أو الجاذبية التي تحد الفضاء الثلاثي الأبعاد. وهكذا، فإن وصف تطور ثقب أسود بثلاثة أبعاد، حيث تطرح مشكلة الحفاظ على المعلومة، يمكن تحقيقه بمساعد الحقول الحية داخل فضاء ذو بعدين ، والذي لا تطرح فيه المشكلة لأنه بدون ثقالة أو جاذبية، أي لا توجد فيه ثقوب سوداء. وبالتالي ، بما أن المعلومة محفوظة في الكون ثنائي البعاد فهي كذلك بالضرورة في الكون ثلاثي الأبعاد.
وفي سنوات التسعينات اثبت ليونارد سيوسكيند أن بوسع إشعاع هوكينغ أن يحمل المعلومة إذا شكل نظاماً من جسيمات متشابكة فيما بينها. ولكن في هذه الحالة تنبثق مشكلة جديدة وهي إن كل جسيم في شعاع هوكينغ يكون مرتبطاً بنظيره الذي يسقط داخل الثقب الأسود ، والحال ، إنه وفق مبدأ يسمى المبدأ المونوغرامي monogramie للتشابك ، لا يمكن لجسيم أن يتشابك آنياً وفي نفس الوقت مع نظامين مختلفين ــ وهو هنا الجسيم القرين أو الشريك الذي يسقط داخل الثقب السود ــ ، ومجمل إشعاع هوكينغ الذي يبثه الثقب الأسود. ولحل هذه لصعوبة أو افشكالية، اقترح جوي بولشينسكي Joe Polchinski وزملائه فكرة أن تشابك الأزواج الجسيمية يكسر في مستوى أفق الأحداث للثقب الأسود. بيد أن هذه الظاهرة سوف يصاحبها تحرير جزء من الطاقة التي تصبح مهمة على مستوى جرم أو كينونة كالثقب السود في جوار أفق الأحداث وهو الأمر الذي سماه الفيزيائيون " جدار النار Mur de feu – firwall" لكن من مساويء هذا الحل أن أفق الأحداث لم يعد من حيثيات النسبية العامة، مجرد حدود افتراضية حيث لا يحدث شيء ذو خصوصية أو أهمية . إلا أن فكرة ER=EPR التي تقول أن داخل الثقب السود هو جزء لا يتجزأ من الثقب الدودي الذي يربط هذا الجرم الكوني بمثيله ، أي نظام مع نظام ، ما من شأنه أن يخفف من حدة بعض جوانب هذه المفارقة. وفي حالة أننا نشخص وجود اتصال بين الثقوب الدودية والحالات المتشابكة ، بما فيها الثقوب السوداء، فمن المجزي أن نعمم ذلك ونقول أنه في كل مرة يكون لدينا تشابك سيكون لدينا نوع من الاتصال الهندسي الجيوميتري ، وسيكون ذلك حتى في الحالات البسط عندما لا يكون لدينا سوى تشابك بين جسيمين.
وعندما نعود لمفارقة " جدار النار Mur de feu – firwall" في ما يخص التشابك بين زوجين من الجسيمات ، الأول يفلت ويهرب ، والآخر يسقط في الثقب الأسود، عند ذلك سيربط ثقب دودي بينهما ما يعني أن الفضاءين داخل وخارج الثقب الأسود سوف يرتبطان ويتصلان ببعضهما ، ولو عممنا المساواة والتعادل أو التكافؤ l équivalence بين الثقوب الدودية و التشابك الكمومي، فإن الإتصال المكاني يمكن أن يتضمن ويمس بنيات مجهرية كمومية أو كوانتية من التي لا تساير أو تتبع نظرتنا المعتادة للهندسة المكانية أو الجيوميتري. فنحن لا نعرف لحد الآن كيف نصف البنيات الميكروسكوبية في حين يمكن للتشابك الكمومي أن يقوم بذلك بطريقة أو بأخرى، ويؤدي إلى خلق أو ولادة الزمكان نفسه. كما لو أن التشابك ذاته يمكن أن يكون هو الرابط والصلة بين نظامين. فعندما تزداد كمية التشابك سيكون لدينا المزيد من الخيوط ، وبتلك الخيوط سوف ننسج خامة أو نسيج الزمكان نفسه. وفي هذا التمثل ، تدير وتسير معادلات نسبية آينشتين الاتصالات وانقطاعها بين الخيوط في حين تتكفل فيزياء الكموم أو الكوانتوم بلعب دور جوهر البناء الجيوميتري للزمكان. المطلوب هو ترسيخ وتعميق مبدأ التكافؤ بين لاتشابك الكمومي والثقوب الدولدية مما سيوفر لنا طريقاً لتطوير وصف كمومي أو كوانتي للزمكان النسبوي الآينشتيني مما سيعد الخطوة الأولى الملموسة نحو النظرية التوحيدية بين الداعمتين الفيزيائيتين ، أي النسبية العامة والفيزياء الكمومية أو الكوانتية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصطلحات كمومية أو كوانتية أساسية :
التشابك الكمومي l intrication quantique
التراكب الكمومي superposition quantique
غير محلية الكموم أو اللاتموضع الكمومي non- localité quantique
عدم اليقين الكمومي أو اللايقين الكمومي، مبدأ الريبة الكمومي l incertitude quantique
اللاإدراك الكمومي أو تعذر الحصر الكمومي l indiscernabilité quantique
التشابك الكموميl enchevêtrement quantique
الترابط الكمومي corrélation quantique
نظام اللاتساوي أو عدم المساواة système d inégalité
ظاهرة كمومية لا محلية أو لاتموضعية phénomène non- localité quantique
لامتساويات بيل les inégalités de Bell








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجفاف يقيد حياة الكولومبيين ويدفع السلطات لتقنين المياه


.. المتحدث باسم منظمة الفضاء الإيرانية: الدفاعات الجوية أسقطت ع




.. سندوتش بالتنمية البشرية.. ماما دهب بعتبر كل زبون جزء منى و


.. الأمير وليام يستأنف أنشطته بعد إصابة كيت بالسرطان




.. -ناسا- تتهم الصين بالقيام بأعمال عسكرية في الفضاء وتحذر من و