الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 1

دلور ميقري

2018 / 3 / 7
الادب والفن


ساعةُ الأصيل، كادت ألا تُدْرَك في هذا الدرب الهادئ، المنزوي على رُقيّه، أينَ ثوى مقرُ إقامة السيّدة السورية. الشمسُ اقتصدت مقداراً وافراً من الأشعة، ما فتئ المقرُ المنيف يتطاول على مقامها. أكثر تواضعاً، بدت محلاتُ النصارى آنَ مسَّ شعاعٌ كريم واجهاتها الأنيقة، فأحالها إلى ما يُشبه المرايا.. مرايا، تستعرضُ فيها ما تيسَّرَ من ربيع جمالها، خمائلُ المجنونة والبوكسيا وتاج النار. حوذيو عرباتِ الكوتشي، المتصاعدة آمالهم بالبقشيش مع دخان حشيش سجائرهم، تستحثّ سياطُهم الخيولَ لتسبقَ سياراتِ الأجرة في الوصول إلى زبائن فندق " السعدي "، المجاور: في ذلك الفندق، المتمدد جسده مثل هُوْلة متوحّدة على دربٍ يُفضي إلى شارع فرنسا، كانت " سوسن خانم " قد أقامت فورَ أنتقالها لمراكش. حجزت جناحاً خاصاً من دور واحد، وكان على قدْرٍ ملحوظ من الفخامة. آنذاك، اعتادت أن تُرسل بصرَها من شرفة الجناح إلى جهة غابات " المنارة " بزيتونها ذي الخضرة الخالدة.
ساعةُ الأصيل، إذاً. تلزَم " سوسن خانم " مكانَها على شرفة مقر إقامتها الفندقية، متلذذة بالقهوة المُبهّرة بالهال الزكيّ الرائحة، كعادتها كلّ يوم تقريباً.. إنها عادة أهالي بلاد الشام، والتي ما تني متمسكةً بها بطلةُ قصتنا. على المنقلب المحليّ هنا، تغدو ساعةُ الأصيل حَيْرى بما أختلَطَ فيها من قهوة وأتاي ( شاي ).. خلطة، شبيهة بكينونة هذه المدينة ذات التنوّع الأثنيّ المُبتسر، والذي تغلّبَ عليه العنصرُ البربريّ الزاحف باضطراد من الأرياف.. مدينة، لا تكاد تنتمي لأفريقيا إلا على الخارطة، وفي الآن نفسه، تنأى عن أوروبا نأيُ بداوتها عن حضرها. الخانم، لم تكن قد قرأت بعدُ قولاً لمواطنها ذي الأصل المغربيّ، " ابن خلدون "، صنّف فيه أهلَ الحضر وفقَ طبعهم المتّسم بالرقة والميل لحياة الراحة والدِعَة ـ كنتيجة اطمئنانهم إلى الأسوار المحيطة بهم وحامية الجند، التي تولت حراستهم تحت إمرة الوالي.

*
كانت ترشفُ قهوتها على الشرفة، المرتفعة بمقدار طول " نخلة واشنطن "، المرفرفة سعفُها فوق مدخل حديقة الإقامة الفندقية. عليها كان أنّ تفكّر بمخطوطة صديقها الراحل، الفرنسيّ ـ المغربيّ. يدها، التي بناصعة مرمر أفاريز الشرفة، امتدت عند ذلك إلى المجلّد السميك، المستكين لعذوبة سطح الطاولة البارد. بحثت عن صفحة بعَينها، لتقرأ ما سُجّل فيها بشأن حضريي مراكش: " أولئك البهجاوية، الذين تأثّلَ في أرواحهم الخلقُ المَرِحُ المولّه بالموسيقى والطرب، فيما أجسادهم الملسوعة بالشمس معظم أيام العام تتأجج بسُعار الرغبة والشهوة والشبق.. همُ أنفسهم مَن تحلّقُ، خمسَ مراتٍ في اليوم، سُحُبُ آياتِ ودعوات صلواتهم فوقَ سماء المدينة، لتنهمرَ غيثاً على منارات وقباب المساجد، أبراج وأبواب الأسوار، أشجار وأزهار الحدائق، حوانيت وقيساريات الأسواق، برك ونوافير الساحات، مركبات ودراجات الشوارع، بسطات وأكشاك الأرصفة، قلاع وحصون المصارف، دور وأقبية الملاهي، أفنية وشرفات الشقق المشبوهة ".
السيّدة السورية كانت قد شهدت هنا، وللمرة العاشرة، تعاقبَ الفصولِ وطقوسها، دونَ أن يعنيها شأنُ المدينة وساكنيها. إنها لخصلةٌ، يُشاركها فيها زملاؤها الأجانب، عرباً وأوروبيين، ممَن ألفوا عدم حشر الأنف في مسائل لا تُجدي أعمالهم وتجارتهم. إلا صاحب هذه المخطوطة، التي ترقد على طاولة الشرفة. هذا المُستبدل المغربَ بموطنه الأول، والذي ما أنفكّ حتى آخر أيامه يحلمُ بقلب معادلة " شرق ـ غرب ". فلا يَسَعُ المرءُ ألا يسلّم له بهذا التفرّد، وبغض الطرف، بالطبع، عن نقاط ضعفه.. كما في تماديه بحياة الإباحة وإحاطة نفسه بفتيَة مغندرين، مخنثين. " شيرين " كان لها رأيٌ في ذلك، اقتبسته من قراءتها للمخطوطة أو ربما جرى على لسان " مسيو غوستاف ": لقد رأتها نوعاً من التقية، حياة الإباحة تلك؛ قناعاً، أتاحَ لصاحبه إخفاءَ قناعاته الحقيقية. ماذا كان كنهُ مخاوفه؛ هوَ من كانَ مشرفاً على غروب حياته، محاطاً بالأبهة والأصدقاء والحشَم المتذللين؟ لقد تحدّث لمَن باتت قرينته عن إخضاعه للمراقبة من لدُن البوليس السريّ، خالطاً كعادته الجدّ بالدعابة. ولعله لسانه، الصريح كلّ الصراحة، من أوحى لأولئك الأشخاص البيروقراطيين بخطورة أفكاره. هذا، مع علمهم الأكيد بأنّ رجلاً مليونيراً لا يمكن أن يكون راديكاليّ الفكر.. فإما أن يكون ماسونياً، على سبيل الظنّ، فإنّ ذلك كان سيجعله أكثر حظوة في مملكة النحل!

*
النسائمُ الهيّنة المَحمل، المُفعمة بعبق الورد والياسمين، تناهت إلى مجلسها على الشرفة. ألا إنه نسيمُ الروح، المداوي جسدَها المأسور طوال النهار في أغلال المكتب التجاريّ. إنه يَدعوها أيضاً إلى إلقاء نظرة على مشهد الحديقة، الملوّن بريشة شمس الأصيل. فتنهضُ عندئذٍ من على كرسيها المريح، فتطلّ على الحديقة المفروشة تحت بصر عينيها الواسعتين، اللتين بلون اخضرار أوراق الزهور والشجيرات. منظرُ أغراس " النخيل المَروحيّ "، بعددها وقاماتها، أعادها طفلةً ترنو إلى الأشكال الطريفة للأقزام السبعة مثلما أظهرتها رسومُ كتاب " حكاية أميرة الثلج ". إذاك، تراءى لعين خيالها السحنةُ السخيّة البراءة والبهاء، لربيبتها الصغيرة " خَجيْ ". لقد تركتها قبل قليل هنالك، في حجرة نومها المتصلة بباب داخليّ مع حجرةٍ منذورة مؤقتاً للمرافقة. قد تكون الطفلة غفت، ناسيةً إبهامها في فمها الفاغر المنمنم. أو ربما ما تفتأ مشغولة البصر بما يحيطها من دمى، تحدّق فيها، بدَورها، أعينُها ذات الرموش الطويلة الداكنة.
" للّا عيّوش "، قلّت كثيراً شكاواها من فترات الانقطاع الطويلة عن عائلتها. وعلى الأغلب، أنّ ذلك محالٌ لشغفها بالطفلة، المتعهّدة مهمّة إرضاعها؛ هيَ من فقدت مؤخراً ابنة لدى ولادتها. كانت قد أصرّت على الولادة في المنزل، رافضةً نصيحة القابلة بضرورة العملية القيصرية. أوضحت للخانم حينئذٍ بطريقة كلامها، الطريفة والخالية من التكلّف: " قلتُ لها إنني من سلالة نساء، يضعنَ مواليدهن بسهولة تغوّط البراز! ". وإنها " سوسن خانم "، مَن فاجأت المرأة البدينة ذات يوم في حجرة الطفلة حينَ كانت تهزّ جسدها على أنغام أغنية أمازيغية. انكفأت على أعقابها دونما نأمة، لتعودَ إلى الصالة مقطبة الوجه غائمة الفكر. لم تدري حقاً، أيّ شيطانٍ جعلها في تلك اللحظات تتصوّر المرافقة السابقة، " الشريفة "، متراقصة الردفين على مقربة من حضن العشيق، تحيطهما نظرات أعين اللوحات المعلّقة على جدران المحترف: شبيهات تلك الصورة المتخيّلة، كن يتحرّشن بالخانم، فيسلمنها لشتى ضروب المشاعر. بلى، إنّ " الشريفة " ولا شك قد خسرت كلّ شيء؛ عشيقها وعائلتها وسمعتها وربما حياتها نفسها. بيْدَ أنها ما برحت تخنق أنفاسَ غريمتها، في الكابوس واليقظة سواءً بسواء.
" كنا كلتانا، بدرجة الاثم نفسها، مشتركتين في حرمان الطفلة من حنان الأم "، كذلك فكّرت " سوسن خانم " وهيَ تتشاغلُ بتقليب أوراق المخطوطة، في ذلك الأصيل، الخافت الأصوات، المُعبّق بعطر ورود الحديقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/