الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق: صراع المقدس والدنيوي في بناء الأمة

فالح عبد الجبار

2006 / 3 / 10
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


التدمير العمد، أو قل العدوان على مرقدي الإمامين الهادي والعسكري في المدينة السنّية سامراء، يشكل نقطة انعطاف وتحول سافرة في وجهة الصراع السياسي والاجتماعي.
العدوان أطلق، على جانبي خط الانقسام الطائفي، المتصلب باطّراد، موجة مريعة من أعمال قتل متبادلة على الهوية، تركزت في معظمها حتى الآن، في بغداد، وحصدت أرواح بضع مئات من المدنيين. وهي مرشحة للاستمرار ما لم تتوافر الإرادة السياسية والقدرات اللوجستية لوأدها قبل ان تستفحل. يحمل العدوان على المرقدين بصمات «القاعدة»، فهي في تأويلها الجامح للعقائد تدرج شيعة العراق في خانة الكفر، وهي تجد في التحول السياسي عبر صناديق الاقتراع والعملية الدستورية مؤامرة يحوكها «الكافر» الأجنبي، مسنَدة برضا «المارق» المحلي. اخيراً فإن «القاعدة» بإيديولوجيتها المنغلقة، وتأليهها للعنف المستديم، نقلت حربها «الطهرانية» المزعومة من مواجهة الغرب الى مواجهة العرب، باتجاه حرب دينية خالصة قاسمة ومقسمة للمسلمين، باسم القداسة المزعومة للفرقة «الناجية».
لكن الاعتداء على المرقدين الشريفين في سامراء يحمل ايضاً بصمات اخرى تعود لأنصار النظام المخلوع.
اللافت للنظر ان «القاعدة» التي تتبجح على مواقعها الإلكترونية بكل صغيرة وكبيرة مما ترتكب، التزمت صمت القبور. كما ان قوى العنف، المتنوعة بأي حال، لاذت بالسكوت هي الأخرى عن هذه الفعلة. فتفجير القبة المذهبة لمقام ديني مقدس يمكن ان يوصف بأي شيء عدا كونه «مقارعة للاحتلال». ويدرك الفاعلون بخبث نادر ان لهذين المقامين مكانة سامية، ورمزية عالية، ذات بعد تاريخي، بقيت مصونة، على مدى قرون، في حاضنة سامراء السنّية، وان خرقها يشكّل تلاقياً، بل تطابقاً، بين المحارب الأصولي داعية الحرب الدينية-المذهبية، والمحارب العقائدي داعية العودة الى نظام الحزب الواحد، تحت واجهة الوطنية الزائفة.
أشد ما يثير الانتباه في الهجوم على المرقدين توقيته. فالعملية السياسية قطعت شوطاً بعيداً خلال العام الفائت: انتخابات تأسيسية، عملية دستورية، استفتاء دستوري، فانتخابات تشريعية اولى. كما ان هذه العملية، على ما فيها من شوائب ومثالب كثيرة، تميزت بمشاركة سنية فاعلة، أنهت التهميش للمناطق والقوى غير الممثلة في المؤسسات الانتقالية. ونلاحظ هنا ان كتلة الوفاق، وعمادها الحزب الإسلامي، نالت، رغم الخروق، 41 مقعداً، اما الكتلة الوسطية (علاوي) فحققت، رغم الخروق، حضوراً معيناً (21 مقعداً)، فيما الكتلة الأقرب لأنصار العودة الى النظام القديم خرجت بأحد عشر مقعداً، أي ما يقارب 2 في المئة، وهو رقم بالغ الدلالة يسجل الوزن الحقيقي لهذا المعسكر الآفل. وكان امام العملية السياسية، بعد الانتخابات، خياران عريضان: حكومة واسعة التمثيل في بلد متعدد، نكص الى هويات أولية، منغلقة، او حكومة انفراد، على قاعدة «حكم الأغلبية».
الاعتداء على المرقدين هجوم استراتيجي على العملية السياسية يتوخى، في حده الأعلى، فتح الأبواب لسعير حرب طائفية مدمرة، وفي حده الأدنى، دفع الحزب الإسلامي، والقوى السنية الأخرى، الناشطة في عملية الانتقال بالتماس المؤسسات والوسائل السلمية، الى الانكفاء، في اجواء التقاتل الطائفي. هذا مغزى اختيار الهدف، ومغزى التوقيت. وجاء رد فعل جل الزعماء السياسيين والروحيين مفتقراً الى النضج، حاسباً حساب المصالح الآنية.
فقادة الائتلاف، وهو الكتلة الشيعية الأكبر في البرلمان (رغم انها لم تصل عتبة الخمسين في المئة) سارعوا لاغتنام الفرصة لتحريك الجموع الجامحة، والغاضبة (بحق) على العدوان، باعتباره عدواناً جسدياً على تاريخها، ومثلها، وكيانها بالذات، وكانت التعبئة، بمعنى ما، استمراراً لنهج الاعتماد على الهوية الطائفية وسيلة اولى من وسائل السياسة.
لكن الزعماء الشيعة وقعوا في الفخ الذي أراده المفجرون: اذكاء الصراع الطائفي، ووقعوا في مصيدة مزدوجة. فمن جهة، اطلقوا العنان لتحرك قاعدي، منفلت، وجامح بطبيعته، تحول الى القتل على الهوية، والرد على جريمة انتهاك الحرمات بانتهاك حرمات مماثل. فعل زعماء الائتلاف ذلك بوصفهم قادة كتلة لها مصالح سياسية، هي ضيقة في كل الأحوال، لكنهم اضطروا، بحكم كونهم قادة دولة، ان يتخذوا اجراء معاكساً في الآن ذاته: منع التجول، وإنزال الوحدات العسكرية الى الشارع لوأد العنف.
معروف ان العنف الأهلي، او الاقتتال باللغة الدارجة، لم يكن في كل تجارب الحروب الأهلية، ثمرة افعال الأهالي، أي الناس العاديين، بل كان دوماً نتاج أفعال وخيارات قوى سياسية منظمة التي هي الفاعل السياسي الحقيقي على الأرض. ولم يكن سلوك زعماء الائتلاف حصيفاً، رغم ان الغضب الذي ساورهم مشروع. وهم يعرفون، قبل غيرهم، ان الدولة هي الممثل للقانون، المجرد من كل اثنية، ومذهبية. ومنتهك القانون ينبغي ان يحاسب ويعاقب بهذه الصفة. اما الحركات السياسية التي يمثلونها، وبخاصة ميليشياتها الحزبية، فلا تمثل، ولن تمثل، سوى مصالح جزئية في مطلق الأحوال. ويبدو ان ديدن جل الزعماء هو هذا الانقسام بين فكرة الدولة الشاملة، وفكرة الجماعة الصغيرة، الجزئية، أي بين المصلحة باستقرار الدولة كنظام سياسي شامل للأمة، والمصلحة المقابلة بالانفراد بالحكم.
ويأتي موقف المرجعية الشيعية، ممثلة بآية الله العظمى السيد علي السيستاني، مغايراً، وإن يكن قابلاً لقراءات متعددة. فإعلان الحداد إثر الاعتداء على المرقدين تعبير رمزي وسلمي عن الغضب والاحتجاج، اما دعوة العشائر الى حماية المراقد والعتبات المقدسة، فتبدو ملتبسة. فيمكن ان تُقرأ الدعوة على انها انتقاد خفي للحكومة ذات الغالبية الشيعية بعجزها عن اداء واجبها الأول: حماية حق الحياة، وحماية المؤسسات والممتلكات العامة. لكن هذه الدعوة الى العشائر (وليس الأحزاب) يمكن ان تقرأ ايضاً بأنها مسعى لاستبعاد الميليشيات التابعة للائتلاف، وبخاصة منظمة بدر، او جيش المهدي، التي أطلقت العنان لغرائز الانتقام الأعمى، الذي يرد على الطائفية بالطائفية، وعلى الجريمة بالجريمة.
اخيراً، فدعوة العشائر لحماية العتبات يمكن ان تُقرأ من باب آخر: انها تشكل تحولاً في موقف السيد السيستاني الذي اصر على منع العشائر من حماية الطرق الموصلة الى النجف من اعتداءات مثلث الموت قرب المحمودية واللطيفية. وكانت الحكمة في هذا المنع ان تترك شؤون الأمن للدولة، توطيداً لأركان القانون، ودرءاً لخطر التصرف الكيفي، الملازم عادة للقوى الأهلية المسلحة. فهل استجاب السيستاني في هذه الحال لنصح مستشاريه المدنيين، الذين يشكلون العمود الفقري للجهاز السياسي للمرجعية، ويتوفرون على سلطة معنوية عالية، لكنهم يفتقرون الى ادوات تحريك جماهيري (احزاب أو تنظيمات) مما يضعف مواقعهم داخل الائتلاف؟ ربما. لكن هذه الاستجابة، ان صحت، غير سليمة في الظرف الراهن.
ثمة أزمة سياسية خانقة، وثمة امكان للخروج منها. ولعل تبادل التهم والمقاطعة والاستبعاد أسوأ السبل لمعالجتها. فزعماء السنّة والزعماء الوسطيون بحاجة الى جبهة موحدة تعلن جهاراً رفض العنف، وإسقاطه من جدول العمل السياسي جملة وتفصيلاً. ويحتاج زعماء الشيعة الى التخلي عن غطرسة «الكتلة الأكبر»، ونبذ الميلشيات الخاصة. ولا يمكن لهم ان يستمروا في ان يضعوا قدماً في عالم الدولة الحديثة، وأخرى في عالم الملل والنحل.
اجل، ان الديموقراطية تقوم على مبدئي الحكم بالرضا وحكم الأكثرية. هذا المبدأ ترعرع في دول متقدمة، ومتجانسة ثقافياً وقومياً. اما الدول المتعددة فقد ابتكرت مبدأ الديموقراطية التوافقية، والبناء الفيدرالي.
هذه لحظة مرّة في تاريخ العراق، هي لحظة فشل الدولة الحديثة وتوطيد هذا الفشل، وسيكون ثمن ذلك بحاراً من الدم، او هي لحظة رؤية هذا الفشل والبدء برحلة الخروج من مأزقه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الهجوم على إسرائيل: كيف ستتعامل ألمانيا مع إيران؟


.. زيلينسكي مستاء من الدعم الغربي المحدود لأوكرانيا بعد صدّ اله




.. العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية: توتر وانفراج ثم توتر؟


.. خالد جرادة: ماالذي تعنيه حرية الحركة عندما تكون من غزة؟ • فر




.. موقف الدول العربية بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم