الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العرب التعليم الديني والمستقبل

منذر علي

2018 / 3 / 11
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي




قبل أشهر ، طرحتْ إحدى الصديقات سؤالًا ، مفاده: هل يمكننا إلغاء المواد الدينية من المناهج الدراسية ، والاهتمام والتركيز على المواد العلمية؟
وكان جوابي القصير حينها ، هو أنه لا يمكن الإجابة على هذا السؤال الحيوي، ببساطة، بنعم أو لا. ولذلك وجدتُ نفسي مضطرًا للإسهاب، بعض الشيء ، والعودة إلى بعض التجارب التعليمية الأخرى في العالم ، لكي يفهم القارئ العزيز، حيثيات موقفنا من سؤال حيوي كهذا.


ليكن واضحاً إنَّ تكثيف المواد الدينية في المدارس العربية ، لا يتم فقط على حساب المواد الأخرى، كالعلوم والرياضيات وعلم الحاسوب واللغة العربية، التي تشكل أساس التطور العقلي وتعزيز الهوية القومية، ولكن تكثيف المواد الدينية على عقل الطالب عملية أكراهية ، تشبه أن تلصق خردلًا في مؤخرة قطة بائسة ، بعد أن تخدش يديك ، و ترفض تناول الخردل عبر من فمها ، فتضطر من هول الصدمة أن تلعق الخردل كله ، فتفسد، على حد تعبير الكاتب المسرحي الألماني برتولت برشت. وغني عن البيان أنَّ حشو المواد الدينية في عقول النَّشْء ، يضعف الدين ويُغيِّب العقل ، و تحل بدلاً من الدين، الخرافات و الخزعبلات المذهبية المتنافرة والكراهية . وإذا تجاهلنا المتدينين الأسوياء، وهم كُثر ، فأنه يترتب على هذه العملية الإكراهية الشائنة، ظهور نمطين من المتدينين:


الأول : النمط المرتبك ، المحشو بالخرافات، التي سرعان ما ترتد عليه، فيتقيأها فوق العالم العربي والإسلامي، لمجرد أن تعترضه مشكلة اقتصادية أو اجتماعية ، أو ضغوطات سياسية، أو أية هزات حضارية، Cultural Shocks ، فيسقط على قفاه في أول منحدر، فيرتد عن الإسلام ، ويصطدم بالمجتمع ، ويصبح عدوًا لدودًا للعرب والمسلمين ، فتتلقه وسائل الإعلام الغربية، وتروِّج له ، وتجعل منه "بطلًا " مغوارا، وتغدق عليه العطايا ، وعندما يصبح مجوفًا أبلهًا ، تحتضنه أجهزة الاستخبارات الغربية، وتصنع منه "مفكرًا" خارقًا، حتى لو كان مجرد بهلول تافه ، فتستخدمه ضد العرب والمسلمين ، كما جرى مع الصومالية القميئة أيان حرسي علي ، والفلسطيني الكريه، مصعب حسن يوسف، وغيرهما.
الثاني، هو النمط الهاضم للخرافات والأوهام ، القابل للتكيف معها ، ونقلها من مجرد رؤى دينية إلى حالات نفسية وشعورية وممارسات يومية تجاه أسرته ، وتجاه المرأة بشكل خاص، وتجاه المجتمع من حوله ، فيرى في كل من لا يرى المجتمع من منظوره ، مجرد ضائع ، غافل عن الدين ، جاهل بالإسلام. وهو لا يدرك أنه برؤيته القاصرة وممارساته الفجة ، إنما يعمم الجهل، وينشر الخرافة ، ويخنق العقل ، ويضيِّق رقعة الحريات الفردية والاجتماعية والسياسية ، ويكرِّس الظلم، المُسوَّغ بذلك النمط المشوه من التدين الفظ ، ويعزو المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة إلى الشيطان الرجيم ، ويعيق التقدم. ويتسع ، مع الوقت، هذا النمط من التدين ، فيجد المجتمع نفسه في هاوية سحيقة، كما هو الحال في اليمن والعالم العربي اليوم.
ليكن معلومًا إذن أنَّ التدَّيُن السليم لا يتأتى عن طريق الإكثار من النصوص الدينية ، و وصاية الفقهاء على العقل، وإنما عن طريق التأمل العميق ، و الاختيار العقلاني الحر، الوثيق الصلة بالحياة وبمتطلباتها المتغيِّرة ، والنظر إلى متطلبات الوطن والعالم الكبير الذي يجمع الإنسانية ، في فضاء رحب، والتعلُم من تجارب الشعوب الأخرى ومواجهة كل أشكال التطرف، الذي من شأنه أن يقوض الحياة البشرية، بمنهج عقلاني.


الآن لنعد إلى السؤال المثار ، في مطلع هذا التعليق، ولنستعرض بعض التجارب الواقعية في العالم المعاصر.


في فرنسا ليس هناك مواد دينية تُدرَّس في المدارس ، ولكن هناك مواد فلسفية ، تهدف إلى تعميق الحرية ، والتأمل العقلي، وتحث على التفكير الحُر ، و تسعى لتعزيز احترام حقوق الإنسان . إما في بريطانيا ، فهناك مواد دينية ، religious studies ، إلزامية ، ولكنها تُقدَّم بصبغة فلسفية ، وتُدرس في المرحلة المتوسطة ، أو ما يُسمى بالمرحلتين الأساسيتين: الثالثة والرابعة ، أي في الفترة العُمرية ما بين 11- 16 عامًا، وليست في مرحلة الثانوية العليا، A- level، أي المرحلة الخامسة ، في الفترة العُمرية بين 16 -18 عامًا، قُبيل المرحلة الجامعية، ولكن المواد الدينية في هاتين المرحلتين الثالثة والرابعة ، ليست فقط محصورة في الديانة المسيحية ، Christianity ، بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي ، ولكنها شاملة لكل الأديان ، كالإسلام Islam والبوذية Buddhism والهندوسية Hinduism ، واليهودية Judaism و السيخية ، Sikhism ، والمنهج المدرسي في بريطانيا، يَعرض لكل دين من هذه الأديان، في أربعة محاور متناغمة: تتصل بالمعتقدات الدينية ، والكتب المقدسة ، والاحتفالات الدينية ، و الطقوس الدينية، كالصلاة والصيام والحج، وأماكن العبادة.


وتتم تدريس تلك المواد على قدم المساواة ، و بشكل مركز ، ومُبسَّط في كتاب واحد، أو اثنين، لا تزيد مجموع صفحاتهما عن ثمانين صفحة، و يتلو ذلك حوالي عشرين صفحة أخرى ، تدور حول قضايا متعددة ، تتصل بالأبعاد الأخلاقية والاجتماعية للحياة الإنسانية ، كما تناقش قضايا إشكالية ، كالحياة والموت، والتحيز والمساواة، والشر والمعاناة ، والحرب والسلام، والجنس والعلاقات الإنسانية، أو الأخلاق الطبية، Medical ethics ، و قضايا البيئة ... الخ . ويتم التطرق إلى هذه المسائل ، كما أسلفنا ، على قدم المساواة من منظور كل الأديان ، دون تحيز بغيض، وبما من شأنه أنْ يخدم التعايش وتطور الجنس البشري.


إنَّ عرض وشرح مضمون كل دين لا يزيد عن عدد محدود من الصفحات ، دون حشو أو تلقين ، والباقي عبارة أسْئلة و تمارين ، وصور توضيحية ، والأهم من كل ذلك أنه يتم إعداد هذه المواد من قبل علماء متخصصون في شتى العلوم ، ويتم عرض المواد الدينية بشكل عقلاني، بعيدًا عن النزعات الخرافية، و عن التهديد والوعيد ، حيث تُعرض المضامين التي أشرنا إليها بشكل محايد ، ودون تعصب، من قبل مُدرس المواد الدينية. وهذا لا يعني بالطبع أنْ التعليم في الغرب والشرق ، وفي كافة المجتمعات الإنسانية محايدًا. فالتعليم لا يتجاهل مصالح الطبقات الاجتماعية المهيمنة في المجتمع الرأسمالي ، و بالتالي فأنَّ الوظيفية الأيدلوجية للتعليم، تظل قائمة ، وإن تخفت بحجاب فكري ماكر ، فهي ، في الواقع، تعيد أنتاج التقسيم الطبقي، reproduce class division ، وتعزيز عدم المساواة والاقتصادية الاجتماعية والثقافية، كما يرى عالم الاجتماع الفرنسي المرموق بيير بورديو ، Pierre Bourdieu.


إنَّ مدرس المواد الدينية في الغرب ، يمكنه أن يكون مسلمًا، أو مسيحيًا، أو بوذيًا، أو حتى ملحدًا ، ولكن لا دخل لمعتقداته الخاصة، في مضمون ما يُدرِّسه، حيث ينبغي عليه أنْ يقدم المواد الدينية بشكل محايد، ودون تعصب لمعتقده أو لمعتقد غيره ضد معتقد آخر. إذْ لا ينبغي لمعتقداته الخاصة، الدينية أو الفكرية أنْ تتدخل ، بالسلب أو بالإيجاب في مضمون المادة الدينية التي يُدرِّسها.


وتركز الدراسات الدينية على القاسم المشترك في هذه الأديان ، لكي تحث التلاميذ على التسامح ، والتعايش وتفعيل دور العقل في الحياة ، والمشاركة في بناء العالم المعاصر. والطلبة يَدْرسون المواد الدينية باهتمام ، وينجحون فيها ، ولكن حتى حينما يفشل أحدهم في المواد الدينية ، فأن ذلك لا يترتب عليه فشل في نيل شهادة الثانوية المتوسطة(GCSE) النهائية . ذلك أن المهم هو أنْ ينجح الطالب في اللغة الوطنية ، والفيزياء والكيمياء والأحياء ، والرياضيات والحاسوب . فهذه الموادK تُمكِّن الطالب من ارتياد عتبات الجامعة، فضلا عن أنها تشكل خميرة التقدم في أي مجتمع.

في فرنسا وبريطانيا ، وغيرهما من الدول الأوربية ، تركز المناهج الدراسية ، بشكل جوهري ، على اللغة الأم، كالانجليزية و الفرنسية و الرياضيات والعلوم، وعلم الحاسوب. وتُسمي مواد أسياسية، Core subjects ، وهناك 4 مواد ثانوية أضافية أخرى إلى المواد الأساسية ، إلزامية، ولكنها غير محددة ؛ إذ يمكن اختيارها من بين مواد كثيرة ، كاللغات الأجنبية ، والتاريخ ، والجغرافيا ، والرياضة ، والرسم ، والموسيقى، والنسيج ، والتكنولوجيا التطبيقية، والتصميم والطباخة وغيرها. وهذا هو مفتاح التقدم في تلك البلدان.


ولكن ماذا بشأن التعليم الديني في اليمن ؟


ومن هذه الزاوية ، يمكننا في المستقبل ، الذي لا نعلم متى سيأتي ، التركيز على اللغة العربية ، باعتبارها عنوان الهوية الوطنية ومفتاح التعَّلُم ، وعلى الرياضيات والعلوم والحاسوب ، والتربية الوطنية، لترميم الخراب الذي نتج عن التخريب الفكري ، الذي شوه الوعي الفطري للنشء، ونتج عنه ، من بين عوامل أخرى، التعصب و الحروب الأهلية. كما يمكننا أيضاً التركيز ، بدرجة أقل، على غيرها من المواد الثانوية ، كاللغات والتاريخ والجغرافيا والرسم والموسيقى.


ويمكن إدخال المواد الدينية من الصف الخامس الابتدائي حتى نهاية المرحلة الإعدادية ، ولكن ينبغي أن تُختصر بكتاب بسيط، متوسط الحجم ، بحيث لا تزيد صفحاته عن سبعين صفحة من الحجم الكبير، خلال المرحلة الممتدة من الصف الخامس الابتدائي و حتى الصف الثالث الإعدادي، بحيث يَعرِض الكتاب للمذاهب الإسلامية ، كالسنة والشيعة وغيرها ، بدون تعصب ، ويوجه التلاميذ نحو المشترك الديني ، ويبعدهم عن الصراعات المذهبية للأقدمين ، التي من شأنها أن تسمم الحاضر و المستقبل ، كما ينبغي أنْ يعرض للأديان الأخرى في العالم ، ولكن باحترام عميق ، ويحث في مضمونه على التسامح والقبول بالأخر، وتفعيل دور العقل لكي نتمكن من بناء مجتمع عصري ، متقدم ، قادر على التعامل مع بقية أفراد الجنس البشري ، الذي يشاركنا كوكب الأرض.
أما في المرحلة الثانوية ، فينبغي حذف المواد الدينية من المنهج ، والتركيز، بشكل مطلق، على اللغة العربية والرياضيات والعلوم والحاسوب، واللغات الأجنبية ، وعلم الاجتماع والفلسفة ، والقانون ، والاقتصاد والتجارة ، وغيرها من العلوم، التي لها صلة بالمهن الحرفية كالسياحة و الطباخة والزراعة والصناعة وغير ذلك من الدراسات ، المرتبطة بالحياة المعاصرة. هذا هو الطريق نحو المستقبل.

ومع ذلك لا ينبغي ، بأي حال من الأحوال، أنْ تُقفل الأبواب أمام الدراسات الدينية في الجامعات والمعاهد الدينية المتخصصة وليس الخاصة (!) ، لمن يريد أنْ يتعمق في دراسات الأديان، فالدين الإسلامي ، الذي يشكل جزءاً أصيلاً من الوجدان الاجتماعي لشعبنا ، سيبقى وثيق الصلة بالمجتمع ، ولكن ينبغي يُدرَّس ، دون تعصب، وينحصر على الصعيدين الفردي والاجتماعي ، وليس على الصعيد السياسي. وينبغي أن لا ندعو ، بشكل ظاهر أو مستتر، للتنافر والكراهية وأضعاف النسيج الوطني.
ونظام الدولة لا ينبغي أنْ يكون سنياً أو شيعياً، وإنما نظام يتأسس على علمي السياسة والإدارة والاقتصاد والقانون ، ويكون قائماً على مبادئ حقوق الإنسان المعاصرة ، وعلى قيم الحرية العدل والعقل.
وحينها سيكون نظامنا السياسي والاجتماعي، منطلقاً من العقل ومن ايجابيات تراثنا الديني وتاريخنا الوطني ، ومتوائم مع العصر . وهذا يعني ، ببساطة ، بأننا لا نطالب بنقل قيم باريس، أو قيم لندن إلى العالم العربي، وفرضها ، بالقوة ، على أهلنا في صنعاء ودمشق والقاهرة ، كما فُرض الخردل على القطة البائسة في مسرحية بريشت، وغيرها من المحافظات اليمنية لأن ذلك سيكون أشبه بمن يريد نقل قيم اليمن إلى لندن وباريس وفرضها على سكان تلكما المدينتين، المشعتين بقيم الحداثة والتنوير ، وهذا هو الجنون بعينه. تحياتي للأخت الكريمة التي أثارت مثل هذا الموضوع، ولجميع القراء الأعزاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا، أي تداعيات لها؟| المسائية


.. الاتحاد الأوروبي يقرر فرض عقوبات جديدة على إيران




.. لماذا أجلت إسرائيل ردها على الهجوم الإيراني؟ • فرانس 24


.. مواطن يهاجم رئيسة المفوضية الأوروبية: دماء أطفال غزة على يدك




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا الحربية أغارت على بنى تحتية ومبان