الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة جمرات قلوب

طالب عمران المعموري

2018 / 3 / 11
الادب والفن


جالسا متخشبا بلا حراك على جذع النخلة الملتصق بسياج الدار .... اصطكت أسنانه وازرقت عيناه , كان الجو باردا جدا .. حين دنوت منه سمعته يدندن بكلمات حزينة يتنهد وقد أنهكه الألم .. لعله يأتي فيجلب لنا وقودا أو حزمة حطب .. لم هذا التأخير ، المحطة ليست بعيدة عن هذا المكان .. صمت كئيب .. لم ينبس ببنت شفة .. كلمة تخرج من فمه ملئها الحزن والأسى .. كم نذر ونذر وسادة وعرافين طالما طرقنا أبوابهم ، عاد إلى صمته .. حاولت الاقتراب منه أكثر ، لم يبدو من منظره انه مجنون .. شيء ما دفعني الفضول في الدخول إلى مملكة أحزانه ، ربما لديه من الأسرار .. ألقيت السلام .. رفع رأسه ورمقني بنظرة من أعلى نظاراته الطبية بعينيه الغائرتين وحاجبيه الكثين التي قد تداخلها الشيب ، يبدو أكثر وقار وهيبة .. فبادرت
- لعلني أنفس عن كربتك ،
زفرة بقوة ، تنفس الصعداء ، أخرج يديه من معطفه الصوفي الأزرق ، أشعل سيجارته ، نفث الدخان، جال نظره صوب الدخان المتصاعد على شكل حلقات إستغرق معها بصمت رهيب حتى خشيت أن أقطع عليه صمته الذي يحمل بطياته ألم وحزن شديد ، لم يلبث إلا دقائق حتى أجهش بالبكاء .. أحزنني منظر الرجل فليس بالشيء الهين أن يبكي الرجل ، وما إن توقف عن البكاء وسكنت عبراته ، أدخلني إلى داره ، تقدمني بخطوه ، أحسست انه بحاجة إلى من يكسر عليه حجاب الصمت ، كان الدار خاليا من احد ، فثمة أشجار في فناء الدار قد اصفرت أوراقها وذبلت أغصانها ويبدو أنها قد أهملت وقفص للطيور خال إلا من بقايا ريش متناثر ومخلفات الذروق ، توجهنا صوب الغرفة المقابلة لفناء الدار ذات البوابة الخشبية التي لم تصبغ بعناية وجدران قد أكلتها الرطوبة وأشياء مبعثرة هنا وهناك ويبدو إن الدار خالية من لمسات لامرأة كون الدار عالم ميت بدون هذا المخلوق الأنيس، ثمة صور عائلية لامرأة غضة ، وجميلة وقد زينت جبينها بأكاليل ... واستسلمت لوضع مسحوق الزينة واحمر الشفاه وعلى رأسها غطاء مخملي وكأنها من ملكات القرون الوسطى من النبلاء ، والى جانبها رجل أسمر حاد الوجه معقود الحاجبين يعلو سواد عينيه الواسعتين وشفتين كبيرتين يعلوها شارب كث ، كأنه رجل قوقازي بمعطف وقبعة تضفي عليه هيبة وشخصية قوية يتوسطهم طفل يقترب الخامسة من عمره فهو قريب الشبه لأبيه ، يبدو أن هذه الصور لم تكن في هذا البلد الفقير وكأن الزمان قد دار عليهم وثمة أشياء أخرى مبعثرة من كتب مدرسية و أوراق وحذاء رياضي اصفر في أقصى الزاوية .. أذن إلي ّ بالجلوس .
عذرا .. البيت متواضع .. وليس لديّ ممن يقوم لك بالضيافة فان أهل هذا البيت قد سافروا بعيدا .. ثم سكت ، فهمّ بالقيام ليقدم لي شيأ فأمسكت به وأقسمت عليه أن لا يكلف نفسه عاد ليجلس ثانية ،
قلت لي إنهم سافروا ..نعم سافروا وتركوني وحيدا..
أين كانت وجهتهم ؟ و لم لمْ تسافر معهم؟ ،آه.. آه ليتني سافرت معهم ، عاد الصمت من جديد .. اصفرّ وجهه كليمونة ، عندئذ خلع نظارته ، دفن وجهه بين كفيه المرتعشتين رفع رأسه وشرع يتفرس بعينيه المهووستين على الصورة المعلقة على الجدار مستغرقا .. وضعت يدي على كتفه الأيمن معبرا عن مواساتي له وأهون عليه وحدته .. تمتم ..
ليتني سافرت معهم وخلصت من هذه الدنيا . عرفت من نبرة كلامه إن سفرهم هذا بعيدا لا عودة لهم . عاد إلى حديثه الشجي وكلماته التي تخرج من فمه مغمورة بالجمرات والآهات ..
لن أنسى ذلك اليوم ، ذات يوم ليس ببعيد ، ما إن انتهينا من صلاة الفجر همّ ابني غسان بارتداء معطفي المطري وقبعتي القوقازية السوداء .. قد تبدو اكبر من حجم رأسه قليلا، اشتريتها في زمن الخير ومن بلد الخير والأمان حيث كانت الناس تتوقد غيرة وحمية ورجولة حيث كان الرجال تموت واقفة بكبريائها وشموخها لا كما هو عليه الآن الرجال تبول واقفة ظناً بأنهم هكذا تكون الرجال بإبراز ذكوريتهم،
لبس غسان حذائه الأصفر واستعد للخروج وكأنه خارج للقتال يبدوا بطلا أسطوريا ً يتحدى المصاعب ويفتح البلدان ، أرى فيه صلادة الآباء والأجداد الذين هم في تعب والناس منهم في راحة ، الذين يجوعون من أجل ضعفاء الناس والأيتام..هكذا كان غسان ..أوصلته إلى باب الدار فأخذ صفيحة النفط ، ساورني القلق ليس كعادتي وكأن شيأ ما سيحدث ..دنوت منه، قبلته ، كان الضباب كثيف ورذاذ الندى يتساقط على وجنتيه المليئة بأفعوان الشباب والحيوية .. فأجابني :
ارجع يا أبي سأعود لكم سريعا .. وما إن عدت إلى الدار جلست مع أم غسان وتناولنا أطراف الحديث بادرت :
أما آن الأوان أن نفرح بغسان ، العمر يمضي وقد لا نرى أطفاله .. إن ابنة عمه قد كبرت وصارت عروس ، وقد ادخرت لها قلادتي التي قد أهديتها لي في عيد ميلاد زواجنا للعام الثالث ، وها أنا الآن لم يبقى لي شيئاً سوى هذه القلادة العزيزة عليّ، بسبب ظروفنا المعاشية والظروف التي حلّت بالبلد .. لكن.. لا أعزها على زوجة ولدي ..لنجعلها مفاجئة له ، وبعد وقت ليس ببعيد وإذا بصوت شديد ودويّ لصفارات الإنذار ، اهتز لها أركان الدار فهممت بالخروج مسرعا حافيا .. أمسكت بي صارخة .. (غسان راح من أيدينا) .. إني بددت الخطوات ..لم تتمالك نفسها سقطت على عتبة الدار .. بلا وعي انطلقت صوب رأس الشارع المؤدي إلى المحطة .. اضرب الأخماس بالأسداس .. هواجس مبهمة ، غثيان ودوار ، الضباب اقل كثافة مما كان عليه فجر ذلك اليوم .. أناس تجري باتجاه المحطة .. آخرون مذعورون ،أصوات تتقاطع لا أحد يعرف ماذا يحدث ، يوم القيامة ، كارثة ، مصيبة طوابير من النساء والرجال المكتظة على المحطة صاروا أشلاء وآخر يقول : انتحاري .. سيارة مفخخة ..
لم أقف عند أحد ، أنقل أقدامي الحافيتين المتثاقلتين ، أجر أنفاسي بقوة كغريق ويكاد قلبي يخرج من أضلاعي ،أصابني ذهول عارم ، أشلاء وبقايا أجساد ،أيدي، أرجل ، عباءة امرأة ، جال نظري بين الأشلاء ابحث عن وحيدي ، شبحت عيناي يمينا وشمالا ،عبثا أبحث عن بقاياه.. انتابني بأس شديد سقطت على الأرض أبكي بكاء الثكلى ما إن وقع نظري على حذاء من بين الأشلاء والملابس المتهرئة ، قلبته بين يدي لم أكاد أميزه في أول الأمر لاختلاط الوحل بالدم .. صعب على الناس حالي وبمساعدتهم تمالكت نفسي عدت إلى البيت لم أحظ بشيء سوى حذاء الرياضي الأصفر الملطخ بالدماء ،بخطى ثقيلة حافياً عبر الشارع الإسفلتي الرطب بفعل الندى المتساقط والممتزجة بدماء الأبرياء وعند اقترابي من الدار سمعت أصوات عويل لنساء قد اكتظت محتشدة عند عتبة الدار كان حديث النسوة :
رحم الله أم غسان .. المسكينة لم تتحمل الصدمة لحقت وحيدها، انكفأتُ على قدميها..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في