الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا وست مدن: ستة أغيار يخفون عالما من الأغيار (2 )

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2018 / 3 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



قذفت الأنا إلى الوجود، هل أدركت ذلك ؟ كلا ! يقول الوجودي الروسي نيكولاي برداييف : 《 إذا كنت لا أستطيع تذكر الصرخة الأولى التي أتيت بها إلى هذا العالم، فإنني أعلم علم اليقين أن شعوري منذ البداية كان شعور كائن سقط في جهة غريبة》 انطلاقا من هذه القولة، يربط برداييف عدم تذكر الصرخة الأولى والشعور بالسقوط في جهة غريبة. فإذا لم تستطع الأنا أن تتذكر لحظة السقوط أو القذف، فهي لا محالة غريبة و تائهة في هذا العالم، لأن الشعور بالأمان مرهون بالوعي والإدراك، والوعي هو المعرفة، وتقليص الجهل، وكلما قلصنا الجهل، قلصنا الخوف والغرابة و أحكمنا السيطرة على العالم الذي قذفنا فيه . وهل الأنا قادرة على إدراك ذاتها لحظة السقوط في هذا العالم ؟ وقبل ذلك: هل الأنا كانت تدرك ذاتها حينما كانت تعيش في الرحم ؟
يقول ابن عربي: 《كانت الأرحام أوطاننا، فاغتربنا عنها بالولادة》 (محمد حسن علوان/موت صغير ص13 ) من خلال قولة ابن عربي يتضح أن الوطن الأول للإنسان هو الرحم، كان فيه الإنسان أكثر انسجاما وتناغما مع وسطه، تلبى له جميع حاجاته، ولكن لما قذف إلى هذا العالم، صار يعاني من الاغتراب أي يشعر أنه منزوع ومقتلع من عالمه الأول أو من جنته التي كان يعيش فيها، وبالتالي فالسؤال أو الوعي لم يتبلور إبان المكوث في الرحم ولا أثناء السقوط أو القذف، بل بعد ذلك، أي خلال الشعور بالاغتراب، فهذا العالم الذي وجدت الذات نفسها فيه عالم غريب يثير الدهشة والسؤال، إنه الكاوس والفوضى، لا نظام فيه، ولكي ينظمه الإنسان أوجد الأخير الأسطورة /الدين/ الفلسفة/ العلم / الفن . إنها ميادين تسأل وتجيب عن قضايا الإنسان المصيرية في حياته وما بعد الحياة، إنها تطرح سؤال البدايات والنهايات، لقد جعلت من رحم الإنسان قضية ميثولوجية ودينية وصار الرحم جنة ويشده الحنين إليها، مع العلم أنها ليست سوى حنين إلى الرحم، لقد سمعت أما تقول لابنها : 《هل تعود إلى بطني》 وكان الطفل أكثر شوقا، كأنها تخاطب نزوعا فطريا و أصيلا في الأنا أي العودة إلى جنة عدن الوطن الأم، وفي هذا الصدد لاحظت طفلا صغيرا يلعب في كيس بلاستيكي ويسبح كأنه في الرحم، هناك من يختزل العملية الجنسية في السباحة أو العوم، و أليست الجنة التي تحدثت عنها القرآن تضم الحور العين وتجري من تحتها الأنهار؟

يقول الله في التوراة الإصحاح 2: 《وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسا حية. 8 وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله. 9 وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل ، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر. 10》يتبين من خلال هذه الآية أن الله حينما خلق آدم من تراب وبث فيه الحياة، وخلق الجنة أودعه فيها يأكل من أشجارها، ما عدا شجرة معرفة الخير والشر أي السؤال والوعي. لأن هذه الشجرة هي السبب في السقوط والاغتراب، فالسؤال حول الأصل يقض مضجع الله حسب التوراة/ سفر التكوين، إذ أن السؤال يتقصى الجذور والأصول، إنه مرعب ومخيف، يسأل الله نفسه، حول أصله وفصله وتكوينه، لذلك كان جزاء آدم وحواء القذف/ السقوط بعيدا عن الجنة/ الرحم/ الوطن الأول، وجاء في القرآن : 《وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ》 (البقرة 36 ) نجد في القرآن دعوة إلى آدم بالمكوث والسكن والعيش في أي مكان في الجنة إلى جانب زوجته، ماعدا الاقتراب من شجرة المعرفة، ومن هنا لا نجد أي فرق بين الرواية التوراتية والرواية القرآنية، إنهما يمتحان من عقلية ابراهيمية : 《اسمع و أطع ولا تسأل》 . لذلك فالسقوط والقذف والاغتراب مرتبط بالوعي والسؤال . والجنة ليست سوى رحم يحن الإنسان إلى العودة إليه. والحب ما هو سوى سوى توق إلى رحم الأم حيث كل شيء متوفر ومتاح .
تشكلت الأنا في القرية، رأت النور بين الحقول والغابات والوديان والنهر والهضاب، مازالت الأنا تذكر عشقها للأنهار والجداول الصغار، كان يشدها سفر المياه بين الجداول ورحلتها، ظل سؤال البدايات والنهايات يشد الأنا، كلما اخضر الربيع وأزهرت الورود تذكرت مكوثها في جنة الغير/ الرحم/ جنة عدن، لكن في جنة الغير، كان الصمت والسكون، أما في هذه القرية كانت الحرارة والأمطار والرياح العاصفية، كان الغير الذي يكبل الأنا بالتقاليد والأعراف واللغة والدين، هنا كان الاغتراب والقولبة والنمطية، لم تعد الأنا كلا، بل صارت جزءا، لا تعبر عن نفسها، بل تعبر عن غيرها، لا تدين لنفسها، بل لغيرها، صحيح أن الأنا مدينة في وجودها للغير الذي تشكل من الأنا، ولكن الغير في عالم الاغتراب بسط وجوده على الأنا، إن اللغة والدين والعرف، إنها للغير، إلا أن الأنا استدمجتها وصارت ملكا لها . أصبحت الأنا تقول من خلال لغة الغير: 《أنا قروية》 تلاحمت الأنا مع القرية وشكلا هوية واحدة، ولما ذهبت الأنا أول مرة إلى السوق،أصبحت تقول : 《المدينيين》 لقد راح الغير هو المديني الذي يسكن في مجال آخر غير مجال الأنا، وبعد أن تشربت الأنا دين الغير . صارت غير المنتمي إلى غير دين الأنا هو : 《الكافر》 .

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق