الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 1

دلور ميقري

2018 / 3 / 14
الادب والفن


دروب المدينة القديمة، بكل ما فيها من بشر وعمائر، تصبّ في ساحتها الكبرى وكأنما هيَ فروعٌ نهرية مدفوعة إلى المحيط مع كائناتها وحجارتها. " السقالة البرانية "، تنتصبُ هنالك وقد أعطت ظهرها للساحة، مثل هُوْلة مستعدة على الدوام لمواجهة أيّ غريب قادم من جهة البحر بسؤالها المُعجّز، المُهلك. المرسى، مزدحمٌ بالمتسوقين من ذوي الملامح الشاحبة، المعكوسة في محاجر أعينهم فضّةُ الأسماك الميتة، المتبسمة لبعضها البعض على دكات الباعة. المنازل المعتلية الأسوار، عرّاها ريحُ البحر من لونيها الزاهيين، الأبيض والأزرق، فأضحت أكثر تهيؤاً للمساومات العقارية الجشعة. ينقضّ النورسُ على المشهد، مُحمّلاً من ثمّ بما تيسّر من أشلاء المخلوقات البحرية، المشوية، المهملة خلفَ أكشاك المطاعم. سيّاحٌ نادرون، تعبق أبدانهم بعطور باريسية فيما قمصانهم ترشحُ بعَرَق الرطوبة، يعبّرون عن تأففهم من ضوضاء النهار وحيل عمال المطاعم، التي غادروها تواً مُصاحَبين بقهقهاتٍ راطنة بلغات شتى. اللهجات المحلية، تتبادلُ تحية الصباح آنَ تلتقي في السوق، قبل أن تؤوب مساءً إلى عزلتها في حارات اليهود والبدو والشلوح والعبيد. ذبابٌ على منافسة دائبة مع الناموس في مهمّة تنكيد روّاد المقاهي، المصطفة على نسقٍ واحد في الدرب المفتوح على " القصبة "؛ ثمة أينَ يثوي المتسولون مع عاهاتٍ حقيقية، أو مزيفة، ينافسون مؤذنَ المسجد بذكر إله المعذبين والمتألمين.
رآها من بعيد، جالساً بانتظارها في صدر ترّاس المقهى، تنهرُ امرأةً اعترضت طريقها لتستعطيها صدقة. لا بدّ أنها قادمة من ناحية الكراج، المُقتَطِع جزءاً من مساحة الساحة، بعدما أودعت هنالك سيارة مخدومها. كان بدَوره قد غادرَ المزرعة، خالي الوفاض من لوحات " مسيو جاك " بما أنّ الجمعة يومُ عطلته الأسبوعية. إذ تركد حركةُ السوق في هذا اليوم، مثلما هو الحال في عموم المغرب. أعتادَ أن يلقاها في ذلك المقهى، المركون عند مدخل الدرب المُفضي إلى مكان عمله.. دربٌ حيّةٌ، مُرقّشٌ بدكاكين التحف التذكارية، رأسُه في " السقالة الداخلية " وذيله يتلوّى عند القوس الحجريّ للمدخل. تبسّمت حينَ التقت عيناهما، فيما كانت قدماها تسيران بشكل آليّ إلى مكانٍ مألوفٍ لهما. طريقة مشيها وتلويحة يديها، تلفتان أنظارَ رواد المقهى. كان أغلبهم من الشباب المتبطلين، المتصاعد من رؤوسهم دخانُ المخدّر وحمّى الحنين إلى هكذا جسدٍ مُترع الأطراف ـ كما كوؤس خمر الآخرة، المحرَّمة على المؤمنين في الحياة الأولى.
أيّ حديثٍ ممكن أن يُشغلا به وقت اللقاء، غير خبر وصول امرأة مخدومهما بالأمس القريب. عادةً، كانا يتبادلان أحاديثَ حميمة ولكنها خالية من أيّ مضمونٍ معرفيّ. ذلك كان يُضايقه في مبتدأ الأمر، إلا أنه سرعان ما ألِفَهُ مع تراجع اهتمامه بالمواضيع الجادّة كالأدب والفن والسياسة. تخلى عن الفكرة الطوباوية، المترسخة برأس كل شاعر؛ أنه مركز ثقل الكون ومصدر شعاعه الأزليّ السرمديّ. كلاهما، الرسامُ والخادمة، كان بالنسبة لهذا الشاب بمثابة نقطة جذب مغناطيسية لناحية التفكير بلغة السوق. فكم كانت خيبة " هيلين " كبيرة، لما فاجأها بانحيازه إلى موقف قرينها، الذي تعتبره مخالفاً بصورة صارخة لرسالة الفن. في مقابل ذلك، كانت امرأة الرسام أكثر تعاطفاً مع الخادمة حدّ أن تطلب من الآخرين مخاطبتها بصفة " مرافقة ". الآن، مع كلّ حركة من أعطاف هذه الأخيرة، الجالسة بمقابله في المقهى، ينبعثُ عبق العطر الفرنسيّ، المهدى إليها من لدُن السيّدة الأمريكية القادمة مؤخراً من عاصمة النور.


*
في صباحٍ من الربيع المبكر، أتمّت السيّدة السورية ملأ صفحةٍ في دفتر يومياتها، الأنيق الغلاف. ليست الذكرى مَن أوقفتها عن متابعة الكتابة، وإنما شعورها بالتغرّب عما دَعَته قرينة الرسام مرةً ب " رسالة الفنّ ". إنها على يقين من خيانتها أيضاً للرسالة، بالأخص في الآونة الأخيرة، المتفاقم فيها مسلكها شبه السوقيّ لناحية استغلال علاقتها بمخدوميها. ما أدخل نوعاً من العزاء إلى نفسها، حقيقة تعايشها مع الفن على الأقل خلال ساعات الكتابة صباحاً. هذا بالرغم من جهلها، في المقابل، لامكانية أن تؤدي يومياتها دورَ المعين لسيرة ذاتية ما.
تتناهضُ من خلف طاولة المكتب، بغية إلقاء نظرة على الطفلة في حجرتها الخاصّة. الباب الداخليّ للحجرة، كان مفتوحاً على رقاد المرافقة الضخمة وشخيرها المدوّي. سباتها العميق، كان متأثراً بيقظتها فجراً كي تؤدي الصلاة. لا ريبَ أنها رددت حينئذٍ، كعادتها كلّ فجر: " لا بارك الله في مكانٍ، لا يُسمع فيه صوتُ المؤذن وترتيلُ آيات القرآن! ". على أنّ صدى آذان مساجد المدينة، كان يصل مبتلاً بندى الفجر لهذا المكان النائي نوعاً. لقد شاءت يوماً أن تناكد " للّا عيّوش "، بالتساؤل ما لو كان سمعها على ما يرام. اتسعت عينا المرافقة ذعراً، وكأنما خشية من أن يكون السؤال متواشجاً مع فكرة سيئة عن مؤهلاتها. أجابت بطريقة كلامها الطريفة: " رحماكِ، ما هذا الكلام؟ إنني قادرة على سماع النملة، حينَ تدبّ على أرض حديقتك ليلاً "
" ألا يتناهى إليك أيضاً، هسيسُ أطياف الظلام؟ "
" آه، لديّ الكثيرُ مما أقوله عن الأطياف ما لو كنتُ موقنةً بأنك لا تسخرين مني! "، قالتها بعبوس وقد أطمأنت إلى أنّ مخاوفها كانت عبثاً.
على أنّ فكر " سوسن خانم "، في هذا الصباح من الربيع المبكر، ما عتمَ أن تكدرَ بسبب موضوع " زين ". صوتٌ مبهمٌ، كان يحثها على مراجعة قرارها بشأن تخديم الفتاة لديها في المكتب بوظيفة مدير علاقات عامة. إنها تُدرك، ولا شك، بأنه واهٍ عذرُ انشغال " آلان " في أعمال خارج المكتب سواءً بهدف التخليص الجمركيّ أو ملاحقة المعاملات في المكاتب البيروقراطية: وراء القرار، يكمن اصرارٌ على نسج علاقة مماثلة، بشكل أو بآخر، لعلاقتها مع المرافقة السابقة والتي ما تفتئ هيَ أسيرة لذكرياتها المصبوغة بألوان الرغبة والخطيئة والندم. كذلك هتفَ في أذن الخانم صوت فكرها، المبهم كصدى صلاة الفجر.

> مستهل الفصل السابع من رواية " كعبةُ العَماء "
























التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81