الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطريق إلى الغوطة

دلور ميقري

2018 / 3 / 16
الادب والفن


بابُ البيت، سلّمني إلى مشهد الزقاق المشمس، الربيعيّ. شبان وفتية أصغر سناً، كانوا يتعاونون على رفع ما يشبه السقالة الخشبية عند عتبة البيت. عملهم، أعتمد على أغصان شجر الحَور وخصوصاً في تثبيت السقف. استفهمتُ من أحدهم، ما إذا كان الأمر يتعلق بحاج قادم من أرض الحجاز المباركة. أجابني، وهوَ يحدّق فيّ كما يفعل المرءُ بإزاء رجل غريب: " لا، يا عم. السقالة من أجل عشية العزاء ".
موكبٌ من الناس، ما لبثَ أن زحفَ إلى موقفي من ناحية مدخل الزقاق. وإذا هيَ جنازة الميت تتقدّم أولئك المشيعين. عبثاً، كانت محاولتي تمييزَ شخصٍ منهم أعرفه. خيبتي دفعتني لسؤال صبيّ يافع: " جنازة من هذه، يا بُني؟ ". شعورُ الحزن حلّ بمحل الخيبة، حينَ أعلمني الصبيّ أنها جنازة ابن جيراننا. قلتُ في نفسي متحسراً: " قبل بضعة أعوام فقد ابنه في الغوطة، وكان منشقاً عن الجيش الخائن ". الموكب، كان ما يفتأ يمرّ من قدامي وقد تصاعد صوتُ مكبر صوت سيارة التشييع بآيات قرآنية، شجية. فكم كانت دهشتي كبيرة، لما ميّزتُ بين المشيعين " الميتَ " نفسه وكان برفقة شقيقه الكبير. هذا الأخير، كان صديق طفولتي. أقتربت منه مُخترقاً الصفوفَ، لكي أحييه. الدهشة انتقلت إليه، آنَ رحتُ أعانق شقيقه بحرارة. بعد ذلك، سرنا صامتين في حضرة المشهد المحزن. أثناء مرورنا من أمام منزلهم، الكائن في صدر الزقاق، قلت لهما بنبرة مرحة: " رائع ما أراه! ". كنتُ أشير إلى سقالة أخرى، يتدلى منها عناقيد العنب الزيني. واستأنفت القول بلهجة تعجب هذه المرة: " لم أعرف قبلاً، أن عنب الزيني ممكن أن ينضج في الربيع؟ "
" الحرب؛ لقد غيّرت كل شيء في البلد، حتى المناخ "، أجابَ صديق الطفولة مومئاً برأسه إلى جهة الجنوب. أدركتُ أنه يقصد ريف دمشق والغوطة. هممتُ بطرح سؤال آخر، وإذا بموكب التشييع قد أختفى كله خلفَ المنعطف. رأيتني وحيداً مع ذلك الصبيّ ذاته، الذي نقل لي خطأ اسمَ المتوفي. تشاءمتُ منه، فلم أرغب بسؤاله عن جهة الجنازة: أهيَ متجهة إلى " مقبرة الآله رشية "، القريبة، أم إلى " مقبرة النقشبندي "، الأبعد منالاَ؟
أخترتُ السيرَ إلى الجهة الأخيرة، مُقدّراً أن صدى مسجل صوت الجنازة آتٍ من هنالك. خطوة خطوة، تتقدم قدماي في دروبٍ خاوية على عروشها يُجللها الصمتُ وكأنما هيَ في حِداد. الجادّة، انتهت بي إلى ساحة الحيّ الأكبر. توغلتُ بعدئذٍ في الدرب المؤدي إلى سوق الجمعة، ماراً تحت أسقف قناطره وأقواسه، الخشبية والحجرية. بين الفينة والفينة، أتوقفُ تحت سقالة خشبية لأمد يدي وأقطف بعضاً من ثمار عرائشها الشهية. إلى أن وجدتني بمواجهة جدار عال، سدّ عليّ الطريق. عدتُ أدراجي، لأنعطف نحوَ جهة الجنوب عبرَ دخلة فسيحة تتراصف عليها المحلات والمتاجر والمطاعم والبسطات. النزلة، أضحت أكثر وعورة وبدت كأنما لا نهاية لها. أخيراً، بانت الجادّة مجدداً. خطواتي صارت أيضاً كأنها آلية، تدفعني نحو مجموعة من عمال الأثاث. ألقيت عليهم التحية: " هذا الطريق إلى اليمين، يوصل إلى مركز المدينة؟ "، سألتهم متنهداً بارتياح. ثم شجعتني وجوههم البشوشة للاستفهام عن الطريق إلى الغوطة. نظروا إلى بعضهم البعض، مبدين عدم فهمهم لمرادي: " ما هذه، الغوطة؟! ". أحدهم، أشارَ إلى ثلة رجال معمّرين يتحلقون حول طاولة صغيرة عليها أقداح مترعة بشراب ساخن أخضر اللون: " اسألهم، يا عم، فإنهم أدرى منا بأماكن الشام ". ها أنذا بمقابل أولئك الشيوخ الطاعنين بالسنّ، أعيد عليهم سؤالي. عجوزٌ جدّ هرم، أمسك بيدي وهوَ يحدق فيّ بعينيه القاتمتيّ الزرقة، ليقول بنبرة وعيد: " ولاه، من تريد أن تخدع أنتَ؟ أعرفك جيداً! أنا المساعد الأول ـ فلان ـ وكنتُ قبل تقاعدي مسؤولاً عن قسم الذاتية في اللواء ـ كذا. أنت مطلوبٌ منذ سنوات لخدمة الاحتياط، ولم تلب الواجب حتى خلال الحرب ". ثم أضافَ مدمدماً كلماته من بين أسنانه الصناعية، مسروراً بما ظهرَ من رعب على ملامحي: " سأرسلك من توّي إلى سجن تدمر، كي تدفع هناك ثمن خيانتك للوطن! ".














التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة