الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سجن الرّوح-1-

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2018 / 3 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا أعود فيما أكتب إلى وثائق. أكتب من ذاكرتي عن مكان لم يكن لي مكان فيه. . .
أكتب نيابة عمّن تفتّح قلبه، وسعى لحلم، وحياة وحبّ، فسقط في القرار، وكانت النّار.
أسميت سورية "سجن الرّوح" وهي التي منعت روحي من التّحليق بالقدر الذي تريد
أكتب نيابة عن بعض النّساء المهمّشات، وعن النّاس الذين تحوّلوا إلى أشياء في كلّ أزمنة سورية الحديثة حيث كنا نسير داخل الحقائب السّياسية فتمتلئ الحقائب، وتفرغ عقولنا.
لا أكتب في هذه السلسلة أدباً، ولا بحثاً موثّقاً. أكتب بعض ذكرياتي منذ الطفولة وحتى اليوم عن سجن كبير اسمه سورية.
قد تكون تجربتك ملهمة في المكان الذي تشاركنا العيش فيه، أما أنا فقد كانت تجربتي تخصّني، وكانت روحي مسجونة ترغب في التحليق، وفي كلّ مرة يقصّ أحد قطعة من جناحها، وفي النهاية سقطت. لم تعد قادرة على التحليق. الألم لا يخلق الإبداع، وأن تمتعنا بقراءة من كتبوا عن آلامهم، لا يعني أنهم سعدوا بذلك. كانوا متعبين، وربما ماتوا مهمّشين.
سورية سجنت روحي في قفص الاتّهام وسوف أبقى سجينة مدى الحياة. لا يمكنني الخروج مهما حاولت من ذلك القفص الذي سجنت فيه النّساء لو أردتم أقول أغلبهن، لكنّني أعتقد أنهن جميعهن، فمعاناة النساء في السّجن الخاص هي أكبر من معاناة الرّجال في سجن كبير اسمه الوطن حيث يقومون بحراسة السّجن الخاص بالنّساء. كنّا سجينات يمنعنا من التّحرر سجناء في مكان اسمه سورية.
كنت فتاة ريفية في أعماقي. أحبّ التعلّق بالأشجار، ورعي الأغنام، وصوت أجراسهم عندما يمرّون في الربّيع من أمام بيتنا.
لم أكن متعلّقة بالبيت ولا بأمّي فقد كانت أمّي مريضة وهي في الخمسين، وكنت بين ثمانية إخوة، ونظام أبوي يحضر فيه الجميع إلا أبي وأمّي.
لا أعتقد أنّني تحدّثت لفرد من أفراد أسرتي عن أمر يخصّني، ولم أكن أعرف تلك الألفاظ الحديثة حول الشّعور بالأمان. إلا أنّني لم أشعر يوماً بالأمان، فما أكبته في النهار يأتي في الليل. تجلبه قرينتي التي ترعبني بعيونها الثلاث، لم أتجرّأ حتى الحديث عن تلك القرينة. كنت أخشى أن يطبّقوا علي بعض خرافات ذلك الجيل المرعب، ويتهمونني بالجنون. لا أعرف معنى الحبّ. كل ما يشغلني هو اللّعب، والذهاب إلى المدرسة التي أحببتها كثيراً حيث كانت الملاذ الوحيد لديّ، لم أكن أحبّ العودة إلى المنزل. ليس أنا فقط. بل أغلب بنات صفّي. كنا نلعب في الحارات بعد المدرسة إلى أن يكتشفنا أحد من عائلتنا فيرغمنا على العودة إلى المنزل. كان الفقر حاضراً أساسياً في بلدتي، ولم أسمع عن الغنى، لكن كان هناك بعض الإقطاعيين، وبعض المعادين للإقطاع، وهم من مؤسسي حزب البعث، وفي تلك المرحلة لم أكن واعيّة تماماً، لكنّني أعرف أن المشروبات الرّوحية كانت محرّمة داخل البيوت، وحتى من يشرب في ذلك المكان الوحيد الذي اسمه الخمارة يتم الحديث عنه بالسّوء.
كان هناك حديث عن بعض الوجوديين من الذين أعرف أسماءهم، وكانوا على سبيل المثال يمصّون مصّاصة أطفال بينما يشاهدون فيلماً سينمائياً، وقد كانت السّينما موجودة، يذهب لها النّساء والرّجال، وكان هناك تجارب أدبية لا زالت مميّزة عن ذلك الجيل.
لم أذهب إلى دمشق قبل الرّابعة عشر من عمري، ولم أكن أعرف مناطق سورية الأخرى، ولا حتى مدينتي، فبعض معالمها لازالت بعيدة المنال عنّي. لم أعرف ماذا يعني البحر للنّاس، وعندما رأيته لأوّل مرة عندما كنت شابّة لم أعرفه. اعتقدت أنّه جزء من السّماء، ولم أولع به إلا بعد أن عشت في الإمارات حيث كان البحر، والسباحة جزء من ثقافة المكان.
مع أننا كنّا ندرس في المدرسة قليلاً من القرآن. لكنّني لم أستوعب معنى الدين، فقط كنت اعلم ان جدتي تذهب على الصلاة في أغلب الليالي، وعندما تعود تعطيني بعض حبّات الملبس. سألت أمّي مرّة: لماذا لا تذهبين إلى الصّلاة؟ أجابتني أن الله يعرف أنّها لم تؤذ أحد، وأنها لم ترتكب الذّنوب، وصدّقتها، ولم أشغل نفسي بهذا الأمر بعد ذلك.
كان لا بد لي أن أكتب تلك المقدمة التي تحمل بعض الخصوصيّة كي أنتقل إلى الحديث عن الوضع العام، لكن لا زال هناك شيء من الخصوصيّة يجب ذكره، وهو أن أجيالي من الفتيات لم يلبسن الحجاب، لكنهن يلبسن الجوارب الطويلة حيث أنّ تغطية السّاقين أهمّ من تغطية الرأس، وأن معلّم الموسيقى حضّر لحفلة مسائية في القهوة، وكنا نحن الكورس نردّد خلف الأغاني التي قدّم بناته بعضها ، وكنّا مختبئين خلف ستارة، ومع ذلك سمع أهالينا، فأتوا وسحبونا من خلف السّتارة.
الشيء الوحيد الذي كان يمتعني هي المدرسة. كانت معلّماتنا من مدينة حماه، ولم يستعملن العصا أبداً، وهنّ من درّبننا على القراءة والكتابة، وحبّ الأدب والعلم والريّاضيات، وكانت العلاقات بينهم وبين أهلنا جيدة جداً حيث يعيش أغلبهن في داخل مدينتنا الصغيرة. لا أكتب سيرة ذاتية، لكنّني فقط أصف الجو العام في هذه المقدمة، وأتمنى أن أوفّق في وصف حقيقي لما رأيته وشعرت به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طريق خلاص روحك
ماجدة منصور ( 2018 / 3 / 18 - 02:33 )
الكتابة هي الطريقة الوحيدة لك كي تتخلص روحك من كل هذا الثقل0
الكتابة عملية معقدة لتحرر الوعي و إستعادة إنسانيتنا التي فقدناها في بلاد البعث ..الواطي0
اكتبي ثم اكتبي..كي تشفى روحك الرقيقة فالكنابة فعل خلاص و تحرر0
احترامي


2 - شكرا
نادية خلوف ( 2018 / 3 / 18 - 12:32 )
شكرا لك ماجدة لأنك تتابعين ا أكتب.

اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم