الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قضايا الرواية الحديثة بين البلاغة والإرهاب

حكمت الحاج

2018 / 3 / 17
الادب والفن


للّغة قابليتان. وكل واحد يحسّ في نفسه ميلا إلى تغليب قابلية على الأخرى، فمنهم من يعتبر اللغة وسيلة قادرة على نقل شهادة أو تفسير أو تعليم، وعند هؤلاء المخبرين، ينصبُّ الإهتمام على الرسالة التي ينبغي إيصالها، والجوهري في عرفهم يقع خارج اللغة التي ليست سوى أداة النقل.
ومنهم – وهؤلاء أقلّ عددا- من يعتبر اللغة مادة للبناء يعالجونها بصبر، ويحوطونها بأنواع العناية، والجوهري في عرفهم هو اللغة ذاتها، والكتابة لا تعني عندهم إيصال معرفة مسبّقة، لكنّها ذلك المشروع لاستكشاف اللغة على أنّها حيز خاص. وإذا كان الجوهري يقع في اللغة، وإذا كان موضوع النص هو سياقه الخاص به، سياق تأليفه، فلا يمكن والحالة هذه أن يفكّر الكاتب في موضوع مقرّر سلفا. وكل تسلسل خارجي في مراتب الموضوعات لا يتّصل باللغة في شيء ذلك هو ما يبرز التباين بين العالم اليومي المعاش وبين القصّة كنصّ متخيل.
جان ريكاردو في كتابه ذائع الصيت بعنوان قضايا الرواية يتحدث عن: "إن تأثير وفاعلية النص السردي إنما ينبعث أصلا من "الإزاحة" التي يعملها النص عن الواقع، وليس في نقل هذا الواقع أو محاكاته.
ويبدو ان الكتاب كله حرب ضد الواقعية انتصارا لتيارات الرواية الجديدة وما بعد الرواية، أو الرواية المضادة.
ان الرواية المناهضة للرواية (أنتي نوفل) هو أي عمل تجريبي تخييلي الذي يتجنب الاتفاقيات والأعراف المألوفة للرواية، وبدلاً من ذلك ينشئ اتفاقيات خاصة به.
ابتكر جان بول سارتر مصطلح الأنتي- نوفل وأتى به إلى الخطاب الأدبي الحديث في مقدمته لعمل ناتالي ساروت (صورة رجل غير معروف). على أية حال، فقد سبق أن استخدم تشارلز سوريل مصطلح (رواية مناهضة للرواية) في عام 1633 لوصف الطبيعة الحكيمة لخياله النثري.
عادةً ما تقوم الرواية المضادة بتقطيع وتشويه تاريخ شخصياتها، وتقديم أحداث خارج التسلسل الزمني ومحاولة إعاقة فكرة الشخصيات الموحدة والمستقرة. تشمل بعض السمات الرئيسية لهذا النوع من الرواية وجود نقص في الحبكة، والحد الأدنى من تطور الشخصية، والاختلافات في التسلسل الزمني، والتجارب مع المفردات والبناء، والنهايات البديلة والبدايات. وقد تتضمن الميزات المتطرفة صفحات قابلة للفصل أو فارغة، ورسومات، وخطوط هيروغليفية.
إنّ الآراء المعلنة بصدد الرواية تبدو متواطئة في معظمها تواطؤا عميقا، ذلك أنّها تعتمد عقيدة مشتركة إلزامية وشائعة هي الواقعية. وقد يقع لأكثر من روائي أن يختار عن قناعة أو عن حساب دقيق تلك الإيديولوجيا الشائعة على استبصارات نوع من النقد، وأن يرتضي هذه الإيديولوجيا في واحد من مظهريها الأعظمين إن لم يكن فيهما معا.
ويمكننا أن نتعرف الواقعية من المماثلة بين الحياة وبين النص المتخيل الذي تصنعه الكتابة. وإذا كان النصّ المتخيل جوهريا، جزءا من الحياة، فهو إذن خاضع لأحكام التأويلات اليومية. وإذا كانت المماثلة بين الحياة والنصّ المتخيل ترضى أن تظل باطنية، فذلك أنّ الإنتباه ما أن ينصبّ عليها حتى يظهر ما فيها- أي في المماثلة- من الهشاشة التي لا جدال فيها.
إذا نمى النص المتخيل على نحو يمثّل السرد الروائي الذي يبنيه، ففي هذه الحالة يجري التخلي عن موقفين متكاملين: أولا، تصوّر العالم المتخيل على نمط العالم. وثانيا، الحكم في قضايا الكتابة بناءا على قواعد مسبقة وقبلية. إنّ التفكّك اللغوي الظاهري في رواية كلود سيمون "طريق الفلاندر" يدعونا إلى إيضاح التماسك الذي يربط السردية بالنص المتخيل، وتحديده والتدليل عليه.
كتاب "جان ريكاردو" هذا، تداخل نصوصي واضح (تناص) مع الكتاب النقدي الشهير "أزهار تارب" لمؤلفه "جان بولان". نفس المنهج اللغوي في النظر النقدي، مع التشديد على الإتّجاه البلاغي في الكتابة في مقابل الواقعية، والإنتصار لمبدأ الكتابة اللازمة في مقابل الكتابة المتعدّية التي تهتمّ بالتوصيل. يتصدّر الكتاب إقتباس من "جان بولان" لا بأس في إيراده كاملا: "نسمع أناسا يقولون كل يوم – ولست أعني الحمقى وحدهم- إنّ الأبحاث التي تتّصل باللغة هي أبحاث ذات طبيعة بيزنطية وفارغة، وهي لا تصلح إلاّ لصرفنا عن المشكلات الكبرى التي يجدر بالإنسان مجابهتها من مثل معرفة العالم والتصدّي لمسألة الروح والقضية الأخلاقية. إلاّ أنّه، إن ثبت تحليلنا على الأقل، فالعكس هو الصحيح". وقد عمد مؤلف هذا الكتاب "جان ريكاردو" إلى أن يأخذ من "أزهار تارب" أهم إصطلاحين نحتهما "جان بولان" وهما: الإتجاهات البلاغية والإتجاهات الإرهابية في الكتابة الأدبية. تستند الإتجاهات البلاغية في مجموعها إلى نشاط التعبير. فكل صورة لفظية (تشبيه، مجاز مرسل، إستعارة، كناية، ولا يدخل المؤلف في هذه الجردة المجاز العقلي إذ يعتبره تعبيرا أخذ على مأخذ الحقيقة لا المجاز) تظهر فيها إمتلاءا تعبيريا ينتظم حول محورين عموديين هما: محور التعبير الموضعي ومحور "الفَضْلَهْ".
وعلى المحور الأول تكون العلاقة بين اللغة والأشياء المعبّر عنها باللغة هي مجرّد صلة. إنّ الإتجاهات البلاغية لا تدع متّسعا أبدا بين محور التعبير الموضعي ومحور "الفضلة" لتأثيرات السياق النصّي المحسوسة، ذلك أنّ سمات النثر الخاصة إذا بلغت غايتها تصدّت لمنازعة القواعد العامة، أي أنّ الصراع والتناقض يقع بين القواعد البلاغية والأمثلة المشخّصة.
الإتجاهات الإرهابية: بمجيء الرومانسية انتهى عهد التقنيات وحلّ محلّه عهد الصدق. وغرائب هذا الإنتقال جديرة بالإيضاح، فمحور الفضلة النشيط يتحوّل إلى محور "اللعنة". أي: إنّ كلّ عبارة لفظية فذّة- أي واقعة على محور الفضلة- تغدو، لكونها فذة- جديرة بأن تقلّد وتغدو منبعا لقواعد بلاغية جديدة تتجمّد بدورها في صيغ محنّطة.
فإذا أسْتُبيحَت الصورة الصادقة غَدَتْ تقليدا خالصا وأُفْرِغَتْ من محتواها الإنفعالي أي من مزيتها الأصلية. هكذا يقضى على التعبير المتميز الذاتوي، وحين يقلب محور الفضلة يطمس التعبير العام الجاهز كل تعبير خاص. ومعروف رأي "بيرغسون" في هذا الصدد: إنّ اللغة تقدّم أوعية عامة لعواطف شديدة الخصوصية دائمة الحركة، فيمحو العام من تلك اللغة ما في تلك العواطف من خصوصية وتموّج وحركة. هذا الموقف الجديد لا يَطْرَحُ إذن المخطط البلاغي بل يكتفي بأنّ يراجحه. إنّه بلاغة بائسة. هذه البلاغة الملعونة هي ما يعنيه "جان بولان" عندما يسمّي الإتّجاه الإرهابي والحق إنّ إدخال فكرة التعبير الحي الخالص المتخلص من كل صنعة بلاغية إلى ميدان اللغة يبتعث المفهوم المضاد التصغيري، مفهوم "القالب الجاهز" أو "الكليشيه" والقالب الجاهز يحدّد على العكس الصور اللفظية التي يبلغ فيها وزن البلاغة حدّا يزري بإمكانية التعبير الخاص. حينئذ يحلّ الإرهاب محل الأدب، وتتلو المحظورات الإرهابية القواعد البلاغية، وباسم الأصالة الرومانسية المتجدّدة أبدا، يشرع في مطاردة القوالب الجاهزة ثمّ تعلن الحرب تحت هذا الغطاء على مناطق بأكملها في اللغة.
عندما نبحث عن التعبير العفوي الصادق فمعنى ذلك أنّنا من القالب الجاهز إنّ كلّ عبارة وكل جملة وكل كلمة يمكن أن تصبح قالبا جاهزا، وإذا كانت جملة مثل "السماء مرصّعة بالنجوم" قالبا جاهزا فإنّ العدوى قد تصيب كلمة "مرصعة" ذاتها، وقد تمتدّ إلى بقية الكلمات في الجملة فتصبح كلمة النجوم مثلا "كليشه" ثابتة، وهكذا فباسم الأصالة سيمارس بعض النقاد الإرهاب على الكاتب.
على أنّ المسافة التي تفصل النشاط البلاغي عن آفات الإتّجاه الإرهابي المفرطة، لا ينبغي أن تمحو استمرار أساسهما الإيديولوجي، فالإتجاهات الإرهابية، شأنها شأن الإتجاهات البلاغية إذ هي صورتها المقلوبة، تتميّز بأن نهجها ينفي الرجوع إلى سياقات النص الشكلية. فلئن بقيت الإيديولوجيا البلاغية مقصورة على القلّة القليلة، فإنّ إستطالتها الرومانسية - وهي حاضرة الآن في مواقع لا يتوقّع وجودها فيها – لتكبح- على عكس ما هو متوقّع – بجمودها الإنقلاب الثاني في اللغة الذي بدأ يظهر.
يتأمّل "ريكاردو" بإنجاز شديد المخطّط الأولي الذي بمقتضاه يرفض "أندريه بريتون" الوصف باسم الإستعارة، ثمّ كيف إن "ألان روب- غرييه" على العكس من ذلك ينبذ الإستعارة باسم الوصف. فيما يخصّ "أندريه بريتون" في بيان السوريالية الأول المنشور عام 1924 يتصدّى لـدوستويفسكي ويزدري جهارا "أدغار ألان – بو" ثمّ "جيمس جويس" وذلك وفقا لطرائق ثلاث:
1. إقتطاع وصف موجز مأخوذ من "الجريمة والعقاب"
2. رفض ربط هذا المقطع بسياق النص ككل. يقول "بريتون" عن الفرقة التي يصفها "دوستويفسكي". سوف يصرون على أنّ هذا الرسم المدرسي قد وضع في موضعه الملائم. غير أنّ المؤلف قد أضاع وقته سدى، فلست داخلا غرفته أبدا.
3. إهمال النتائج النابعة من شكل الكتابة التي يعزو "بريتون" الخطأ إليها باسم نظرية ميتافيزيقية.
وبالنسبة إلى "ألان روب- غرييه" في كتابه "نحو رواية جديدة" وفي فصل "الطبيعة الأنسانوية المأساة" يرفض الإستعارة رفضا قاطعا، ولكن هذا الرفض لا يعدو أن يشاكل مخطط "بريتون" بمراحله الثلاث:
أ- إختيار الإستعارات المفردة: يقتطع استعارات ويعزلها عن سياقها في النص. مثلا: الزمن يجري على هواء، الجبل مهيب، قلب الغابة، الشمس التي لا ترحم، القرية اللابدة في قاع الوادي.
ب- رفض تضمينها سياقها النصّي المشخّص الذي يمكن أن تتمّ ملاحظتها في إطارها الحي، يقول: ليست الإستعارة في الواقع صورة بريئة أبدا.
ج- إهمال النتائج النابعة من شكل الكتابة التي يعزو "روب-غرييه" إليها الخطأ باسم نظرية ميتافيزيقية. يقول: في معظم أدبنا المعاصر تتكرّر هذه المشابهات التشخيصية بلجاجة وتماسك مفرطين تكرارا يكشف عن نسق ميتافيزيقي كامل سواء وعى الكاتب ذلك أم لم يعه.إنّ أَنْسَنَةِ الأشياء (تشخيصها)، ينمّ عن اعتقاد بقوى غيبية أو أسطورية وراءها أو فيها، مع أنّه ليس في الطبيعة سوى الإنسان، والإنسان وحده.
إذن، وحسب "ريكاردو" فإنّ "غرييه" و"بريتون" يجمع بينهما، في تعارضهما الخارجي، نقاط تشابه لا يرقى الشك إليها. إلاّ أنّه يستدرك بشأن ذلك قائلا أنّ مثل هذا التشابه أو التناظر هو فقط يخص تنظيريهما، وهو لا يمتدّ إلى أعمالهما الأدبية. وإذا كانت نصوص"بريتون" الشعرية لا تناقض في الحقيقة اتّجاهه النظري الإرهابي، فإنّ روايات "غرييه" على العكس من ذلك، أبعد كثيرا من أن تتوافق واتجاهه النظري الإرهابي، ولذلك فلن تأخذنا الدهشة كثيرا إن رأينا أنّ أعمال "غرييه" تقع في مكان أكثر تقدّما على ما سبق من كلام. ويقصد "ريكاردو" بذلك أنّ "غرييه" قد استخدم الإستعارة البنيوية في رواياته بالرغم من رفضه النظري للإستعارة.
إنّ مؤلفات البلاغيين والإرهابيين ليست في جوهر الأمر شديدة الإختلاف وهي على كل حال أقل تميزا بعضها عن البعض ممّا يمكن أن توهم به النظريات الخاصة بكلا الطرفين. أفلا يخطئ الكلاسيكيون والرومانسيون على حد سواء عندما يتحدّثون عن أعمالهم الأدبية؟ فإذا ما فتّشنا عن سبب كفيل بتفسير هذا التقارب على الرغم من النظريات، وكفيل من جهة ثانية بتفسير العيب المشترك في النظريتين بالقياس إلى الأعمال التي تقابلهما لرأينا الفكرة التالية: إنّ المؤلفين عندما يكتبون إنّما يضعون "نصّا" أمّا إذا تحدثوا عن فنّهم فهم يقصرون همهم في الأغلب على إعادة ذكر شيء آخر، هو في أحسن الأحوال فقرات معبّرة موجزة، وهو أحيانا فلسفة ميتافيزيقية غثّة.
إذن فالإستعارة تتحدّد عند "غرييه" و "بريتون" على أنّها كيان يحمل الخير إلى أحدهما والشر إلى الآخر، أي أنّها قائمة بذاتها مستغنية عما حولها. ومن السهل أن نتبيّن مخاطر طريقتيهما أفلا يعني النظر إلى الأسلوب دون اعتبار للتناسب بين أجزاء العمل الأدبي نسيانا لكون العمل والأسلوب يخلق أحدهما للآخر؟
وبالقدر الذي تُنشئ فيه الإستعارة بوضوح مقروء معنى جانبيا بسبب من صلة عنيفة، فإنّها تستحقّ استعمالا حذرا. وحين نعتبر أنّ الوصف الذي يمرّ عبر الشخصية يوفّر للإستعارة مرجعا داخليا، نكون قد أرجأنا نتيجة مهمّة وهي: يكفي للرواية أن يكون لها ما نسميه بالراوي العارف بكل شيء، الراوي العليم، حتى يعمل هذا الراوي عمل بؤرة تحيل إلى مرجع داخلي في كل حال من الأحوال. والتجانس في الروايات التي تروى بضمير المتكلم- وهو تجانس خداع في الأغلب- إنّما ينبع من هذه الخاصية. وبدلا من أن تمضي الوجهة الخارجية إلى نسق خارجي، فإنّها تنثني وتستبطن على الفور، ثمّ إنّها تتواطأ مع الراوي بالقدر الذي يضمّ فيه هذا الراوي كل نسق خارجي، حينئذ يغدو الحشو غير ممكن، فإذا ما كان هذا النمط السَّرْدِيُ يفتن الروائيين فذلك لأنّه يلعب دور "مصحّح الأخطاء الأوتوماتيكي" إذ انه يسهل بما يقيمه من وحدة عميقة الهندسات والتجمّعات المركّبة التي تتيح وجود الوحدة والتنوّع معا.
وإذا ما تكدّس الرواة بعضهم بجانب بعض، فإنّ كلاّ منهم يصحّح أغلاط حكايته الخاصة به. أمّا إذا اندمج بعضهم في بعض فإنّ الإحالة إلى مرجع يمكن أن تتمّ اعتمادا على الراوي الذي يحتوي كلّ شيء، والراوي الموجود في هذا المحتوى. مثل هذا الإمكان هو ما يستخدمه كلود سيمون في " طريق الفلاندر" حين يقرب على هذا النحو بين " جورج" و"ايغليزيا" ومثل هذا المظهر البنيوي هو ما يشير إليه ذلك التقارب الآخر الذي تحقّقه "كورين" في جسدها بمعاشرة كل منهما لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا