الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق في القلب برغم البعاد صموئيل شمعون يصور لنا حياة (عراقي في باريس)

شكيب كاظم

2018 / 3 / 19
الادب والفن


غالبا، ما تأتي الاعمال الروائية الاولى ترجمة ذاتية لكاتبها مع ان الكثير من الروائيين ينفون هذه الصفة، وكأنها قَدحٌ بامكاناتهم الروائية، الا صموئيل شمعون في روايته (عراقي في باريس) فيؤكد انها سيرة ذاتية، بل هو يورد الاسماء؛ اسماء الشخوص، صريحة واضحة لا لبس فيها، وخاصة في جزئها الثاني الذي كتبه على هيئة فيلم روائي هو المفتون بعالم السينما وممثلي هوليوود الذي اسماه (الحنين الى الزمن الانكليزي).
من مفارقات الحياة وتعاساتها، ان الراوي المركزي لرواية (عراقي في باريس) يعتقل في اكثر من بلد عربي، وكل بلد يحسبه جاسوسا للبلد الآخر!! يعتقل في لبنان، ايام الحرب الاهلية اللبنانية، من قبل احدى المليشيات المتقاتلة اوانذاك، ولاننا دائما نحسب الآخر عدوا، لا لسبب، فانه يعتقل كونه عينا متلصصة استخبارية للفلسطينيين، غير انه – عبثا – يحاول افهام معتقليه، انه رجل يهوى السينما والافلام، وانما غادر بلده العراق، طامحا الى الذهاب الى عاصمة السينما العالمية والامريكية؛ هوليوود اذ ذاك يسأله معتقله وتأتي هذه المفارقة، عن السينما الفرنسية، مخرجيها، واضعي الموسيقى التصويرية لها، ممثليها، ممثلاتها الجميلات، واذ كانت بضاعته من السينما الفرنسية قليلة مطففة، فان ذلك يزيد في شك معتقله به، وحنقه عليه، فيوقع به اشد الاذى والعذاب، متهما اياه بالكذب والسخرية منه، مما يزيد الشكوك به كونا عينا للآخر، فصرخ به: (يا ابن الشرموطة، كيف تريدني ان اصدق انك تحلم بالعمل في السينما، ولا تعرف جان لوك غودار، ولم تسمع بالنوفيل فاغ، ها؟ لقد اعطيتك فرصة اخرى وفشلت فيها ايضا) ص19.
لكنه ومن اجل ان يزيل التهمة عنه، يسرد الراوي الاساس امكاناته في معرفة عوالم السينما الامريكية صارخا بصوت عال: (انني اعرف كل شيء عن جون فورد، عن جون واين، عن هنري فوندا، جيمس ستيوارت، كاري كوبر، مورين اوهارا) ويظل سرد عليه معارفه بالسينما الامريكية مما يزيل الشك فيه وبالتالي اطلاق سراحه!!
ان شغفه بالسينما، وطموحه كي يذهب الى هوليوود ليعمل كاتبا للسيناريو – طالما جوبه بالاستخفاف والاستهزاء، من اقرب القريبين اليه حتى امه كانت تصفه بالمجنون واذ تلتقي معه، بعد سنوات طويلة من الافتراق تقول له ممازحة: (لقد قتلتنا بهوليوود! انها على مرمى حجر من هنا (...) اين كنت طيلة هذه السنين يا ولدي؟) ص9
في القسم الاول من هذه الرواية، الصادرة عن دار الجمل، بمدينة كولونيا الالمانية، التي انشأها بجهده الاديب العراقي خالد جابر المعالي، يأتي السرد الروائي فيها عن طريق السارد المركزي، وتبدأ الرواية من النهاية، بلقاء صموئيل شمعون امه في مدينة موديستو في ولاية كاليفورنيا، كانت امه قادمة من بغداد في اول زيارة لها لشقيقتها في امريكا، بعد سنوات طويلة من الفراق، عائدا بنا ربع قرن من الزمان، فيما يشبه انثيال الصور والافكار، يوم غادر العراق عام 1979، واذ ينهي المطبات العربية التي تعرض لها في بدء خوض تجربة الاغتراب، مثلها مثل المطبات والمفارقات في العراق، فانه يغادر الى تونس، بعد انتقال منظمة التحرير الفلسطينية الى هناك، بعد معارك اوائل الثمانينات، وما سبقها من توغل القوات الصهيونية، ووصولها حتى مشارف بيروت، حتى تحين له فرصة الذهاب الى فرنسة والعيش في مركز (لوروشتون) للاجئين، والمفارقات التي تواجهه، والعيش التسكعي البوهيمي الذي يلفه، واذا كان الجزء الاول من الرواية، سردا لحياته في باريس وتسكعه في شوارعها، وسكره في حاناتها، ونومه غالبا في الحدائق او محطات السكك او المترو، او الارصفة فان القسم الثاني وهو المهم الذي وسمه بـ(البائع المتجول والسينما. قصة طفولة) والذي كان يأمل ان يجعل منه، سيناريو فيلم، طالما طمح في تنفيذه، والذي اهداه الى المخرج الامريكي المعروف جون فورد، الذي صور فيه الراوي المركزي، سنوات حياته في العراق، منذ الطفولة حتى صدور الامر باجلاء الاسر المدنية الساكنة في ناحية الحبانية، وجعلها منطقة عسكرية خالصة واقفا عند المفارقة التي تكررت في حياة العراقيين، اذ حينما يعود شقيقه الكبير (شمشمون) باجازته من وحدته العسكرية، يجد دار الاسرة، وقد هدم وتحول الى اطلال تنعق فيها الغربان، فيجلس على كومة الاحجار، التي كانت دارا لهم، بانتظار من يدله على المكان الذي غادرت اليه اسرته، ولان الاسرة توزعت شذر مذر والى اماكن ثلاثة!! فبعض افرادها ذهبوا الى اختهم الكبير (شميران) المتزوجة من العريف نيقول: في بغداد، اما السارد الاساس فذهب الى الرمادي، للسكن مع اسرة صديق العائلة نصرت شاه بائع السندويجات المتجول في شوارع مدينة الرمادي وازقتها، والمرابط امام مدارسها وسينماتها، في حين اتخذت البقية سمتها نحو ناحية الخالدية، ولانه لا يعرف ما الذي حصل، فانه يقرر الذهاب الى بغداد بحثا عن دار اخته المتزوجة من العريف الاثوري.
لقد كتب العديد من الروائيين العرب والعراقيين، اعمالهم الابداعية، مستوحين التاريخ المعيش، القريب وحتى البعيد الذي قرأوا عنه، لذا رأينا العديد من الروايات تقترب من احداث التاريخ، وتبتعد عنه بالقدر الذي يسمح به فن السرد الروائي، والا تحولت الى كتابة تاريخية. ان رواية (عراقي في باريس) بجزئها الثاني الموسوم بـ(البائع المتجول والسينما)، رواية تسجيلية صورت الحياة العراقية في ناحية الحبانية؛ مكانا، والخمسيات والستينات زمانا، وقدم لنا شخوص روايته بتلقائية محببة، وصف لنا وضعهم، وسرد علينا سموهم وتألقهم، مصورا لنا الاب الذي جلب ابنه امام منزل اسرة السارد الاساس، جالدا اياه بالعقال لانه اذى ابنهم عندما صدمه بدراجته الهوائية، مع انه لم يكن عامدا ايذاءه، طالبا الصفح والعفو، ولم يتوقف عن جلده والا بعد ان تدخلت (كرجية) ام السارد قائلا لها: (هذا الكلب امامك يا حاجة، انه ابني، افعلي به ما تشائين، قال صاحب العقال وهو يلهث، ثم وبحركة مفاجئة سحب عقاله مرة اخرى وراح يجلد ابنه، مضيفا، قم يا حيوان، قم قبل يدي الحاجة علها تغفر لك. نهض المسكين وهو لا يدري اية منطقة من جسده يحك، وهجم على يدي امي يقبلهما.
- خلاص يا حاج، وقع ما وقع. قالت امي بصوت خفيض.
كان يجب ان يفتح الغبي عينيه، قال الرجل وهو يهم برفع عقاله، لكن قرياقوس امسك ذراعه قبل ان تهوي على جسد الطالب، قائلا يكفي يا حاج، انتهى الامر. بعدها ذهب الرجل الى سيارته، وجاء بخروف نحيل، وضعه بين يدي.
اقبل مني يا ولدي هذا الحيوان، عله يخفف بعضا من الامك.. ص272 – ص223، كما يصور لنا ضعف بعض الفتيات ازاء اغراءات افراد القوة العسكرية العربية المصرية التي حطت رحالها في مدينة الحبانية، ووصف الناس لهم بالافارقة والغرباء.
السارد الاساس في رواية (عراقي في باريس) يخرج لنا من بين ركام الحياة العراقية الحالية، خلة كانت سائدة في حياة العراقيين، لا تفرقة بين الاديان فانت تعقد اصرة صداقة مع شخص ما، لا تسأله عن دينه او قوميته او مذهبه، صموئيل شمعون؛ الاشوري، المسيحي العراقي، الذي عاش قريبا من عائلة مسلمة، اسرة نصرت وزوجته سكينة، تأثر كثيرا بطقوس هذه العائلة المسلمة، حتى ان امه (كرجية) وقد سمعت منه تراتيله القرآنية، قالت له مرة: (اخشى انك ستبيع دينك ذات يوم) ص295.
فلقد حدث ذات يوم، وهم يغادرون مدرستهم، ان قتل حية، اخافت الطالبات الصغيرات، اراد ان يزهو بشجاعته مسكها من ذيلها وجلد الارض بها، سمعت امه بالقصة ومن اجل ان لا يعاود فعلته هذه، قصت عليه امه حادثة الحية التي انشبت انيابها في قدم احد اقربائه وهونائم فاماتته حالا، لانه افسد بيضها؛ فاخافه ذلك خوفا شديدا، ولم يستطع النوم ليلا، فالوقت صيف، وهو يغلق الباب عليه ويلتحف اللحاف!! فتطمئنه المرأة المسلمة سكينة، بأن ما ذكرته امه محض خرافات القصد منها اخافته كي لا يرتكب ذاك ثانية، وطلبت منه قراءة المعوِّذيتن عشر مرات قبل النوم، فلاقى ذلك في نفسه قبولا حسنا، حتى انه اذا شك في عدد المرات التي قرأ الاية، قرأ خمسا زيادة كي يرتاح نفسيا ويقطع الشك باليقين!!
ولكي يختصر الطريق من المدرسة الى الدار، كان يجب عليه اختراق المقبرة، ولما كان يخاف اختراقها، فان المرأة المسلمة تطلب منه كتابة اية الكرسي وحفظها وتلاوتها عند دخوله المقبرة، كي تدخل على قلبه السكينة والامان قائلة له: (... وعندما تضع قدميك في المقبرة؛ اقرأها عدة مرات حتى تجتاز المقبرة، وسوف لن يصيبك مكروه، جلبت ورقة وقلما وشرعت بالكتابة: (الله لا الله الا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الارض، من ذا الذي يشفع عنه الا باذنه يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم).
- هل انتهيت؟ سألت سكينة
- نعم. قلت
- صدق الله العظيم. قالت سكينة
وقفت امام ثغرة في سياج المقبرة، وضعت قدمي اليسرى في ارض المقبرة ورحت اقرأ آية الكرسي، واسير بين القبور، خلال خمس دقائق وجدت نفسي في الطريق العام. اعجبتني الحكاية، فصرت اكررها كل يوم، حتى حفظت الآية عن ظهر قلب.
وكنت قبل ان انام في الليل، اقرأ سورة الناس، عشر مرات او اكثر.. ص304.
ومنذ عقود، كنى الناقد اللبناني الكبير مارون عبود نفسه بأبي محمد، وله قصيدة جميلة في سبب اختياره هذه الكنية، كما كان المخرج المسرحي العراقي المعروف، عوني افرام كرومي يكنى بأبي حيدر!!
لعل ما يجعلنا نحس بدفء الكتابة وصدق الاحداث في جزئها الثاني، ان الروائي صموئيل شمعون قد سفح احداثها على الورق خلال مدة قصيرة، خريف عام 1985، فكنت تجد حرارة السرد، ودفء القريحة، وتفاعلك مع العمل الروائي، المستمد من حرارة جو العراق، دفء الحبانية تحديدا كون القارئ يتفاعل مع احداث بلده التي عاشها وسمع عنها او قرأها، انه يجد في نفسه اصداء لها، وترانيم وموسيقى حياة، في حين جاء السرد في القسم الاول، بعيدا عن ذوق القارئ العراقي، لان الروائي صموئيل شمعون، قد تباطأ في تدوين عمله هذا اذ امتد الى اكثر من عشرات سنوات (1990 – 2003) ان عدم تصادي الروائي، مع عمله وتأخره في تدوينه، ترك اثارا سلبية على العمل، فضلا على بعد المكان الروائي؛ باريس، وبرودة اجوائها وكون هذه الاجواء بعيدة عن الذائقة العراقية وارى ان القارئ العراقي، قد لا يتفاعل مع حياة التشرد والصعلكة، التي نقل الروائي، احداثها بكل دقة وشفافية، في حين كان الجزء الثاني؛ الجزء العراقي من الرواية يصور بسالة الراوي الاساس، وشجاعته، من اجل البحث الشريف عن لقمةالعيش بائعا للاطعمة الجاهزة، وفي الوقت نفسه تلميذا في المدرسة واكثر ما كان يحرجه ويحرج احاسيسه تذمر بعض طلاب صفه من رائحة (العمبة) والبهارات التي تتلبس ملابسه!!.
رواية (عراقي في باريس) للعراقي الآشوري المغترب؛ صموئيل شمعون، من الروايات ذوات النهايات المفتوحة، ومن اجل ان يقدم لنا فعل الايام باحوال بعض شخوصها قدم لنا الروائي في الختام، موجزا بالحال الذي آل اليه اخيه شمشون فقد عاد من الجبهة السورية، بعد ان ظل هناك اكثر من سنة، ليكتشف ان بيت الاسرة قد هدم وتفرقت اسرته، حتى اذا قامت الحرب بين العراق وايران، عاد شمشون منها مصابا. اخوه الاخر تيدي التحق واصيب، اخوه الثالث روبن شارك في الحرب، وعاد بشلل نصفي.
اثنان من اولاد اخته الثلاثة، ارسلا للحرب، احدهما قتل، وفقد الآخر، لكن تبين انه كان اسيرا.
صديق الاسرة قرياقوس غادر العراق وتوفي وكان له من العمر ستون عاما. منذ ان ترك الرمادي، لم يلتق بنصرت الذي توفي هو الآخر. ترى اية حياة هذه يارب، ولماذا تكون الحياة العراقية قاسية على أبنائها؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في