الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عديقي اليهودي 25 * فيضان سيل وادي أبوهندي!

محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)

2018 / 3 / 21
الادب والفن


* شائعات عن جمال سارة وعلاقتها بعارف!
انتهت إجازة سارة .. ودّعت عارف بقبلات حارة، وعادت إلى بيتها في القدس الغربية . قالت إنّها لن تغيب عنه كثيرا، وستحاول أن تقضي معظم أيام السبت والعطل معه ، وربما تأتي حتى خلال الأيام التي يكون فيها العمل قليلا لتنام وتذهب في الصباح إلى الكليّة . عادت إلى التدريس لتقارع الفلسفة بعقل مختلف نسبياً عمّا قبل مع طلابها ، داعية الطلاب إلى التفكير في صحة ما تحويه الكتب، والمقارنة بين مختلف الأفكار، دون اعتبار ما يقرأونه حقائق ، بل مجرد اجتهادات لعقول تبحث عن الحقيقة بالمنطق والإستدلال والتأمل والإجتهاد ، مضيفة إلى وعيهم رؤى جديدة استلهمتها من فلسفة عارف .. في البلدة انتشرت شائعات كثيرة عن جمالها وعلاقتها بعارف نذيرالحق. فعن جمالها قيلت الأوصاف المتداولة والمعروفة لدى الناس عن الجمال الأنثوي ، فثمة من قال إنها قمر ! وآخر قال إن الماء يرى من روحها ! يقصد رقبتها! وآخر رأى أنها كالشمس في كمالها، وثمة من شبهوها بما هو أكثر واقعية ، فقالوا إنها ظبية، وهي كريم الفلا حين تركض في الجبال . أما بعض اللغويين فاطلقوا عليها أوصافا لغوية ، فقيل إنّها حوراء ، وقيل لمياء ، وآخر قال بثنة فرد آخربل بثينة فخالفهما آخر بأنها بثين ! ليخرج آخرعلى الجميع معلنا أنها أسيل أو أسيلة لنعومة خديّها . وكان جميع هؤلاء يأسفون لكون الفتاة يهودية ، ووقعت في حب أحد أهم مثقفي البلدة ووقع هو في حبّها. وتمنوا لو أن هذا الجمال كان لفتاة مسلمة وليست على دين الكفّار .. الطريف أن أيا من هؤلاء لم ير سارة عن قرب ، أو لم يرها على الإطلاق . وثمة من أطلقوا أوصافا مغايرة قبيحة وخاصة من النساء ، فأشعن ولو بدافع الغيرة، أن أنفها أفطس ، وأنها عوراء ردّاً على من قالوا أنها حوراء، هذاعدا عن كونها كافرة وزنديقة .
أمّا عن العلاقة فحدث ولا حرج ، فلم تمر سوى بضعة أيّام حت عمّت الإشاعات البلدة من أطراف القدس إلى أبعد نقطة مسكونة ، حتى أنها وصلت إلى جامعة القدس وبعض أحياء أبوديس والعيزرية والعيسوية شمالا ، وصورباهر والعبيدية والتعامرة جنوبا ! وقد ساعدت وسائل الإتصال الإجتماعية على الشبكة العنكبوتية بنقلها بسرعة فائقة لتعم العالم، عبر تغريدات غامضة في البداية على تويتر وبوستات على الفيس بوك وغيرهما لأسماء رمزية ، بدأت تتحدث عن : ملحد فلسطيني يقع في حب كافرة يهودية ! مثقف فلسطيني يغرم بفتاة اسرائيلية تصغره بعقود! اسرائيلية تأسر قلب مفكر وأديب فلسطيني عجوز ! وراحت التعليقات تتكهن بمن يكون الشخص المذكور ، ومن أي بلد في فلسطين ، ولم يحسم الأمر سوى الشائعات التي كانت تدور في السواحرة ، وتسربت إلى خارج حدود أراضيهم ، مؤكدة أن الشخص المذكور ليس إلا عارف نذير الحق . حينئذ راح بعض المثقفين يدافعون عن عارف مشيرين إلى أنه ليس من حق أحد التدخل في حياته الشخصية . غير أن الشائعات لم تأبه للأمر ولم تتوقف ، فمنها ما أكد على أن عارف تزوج من الفتاة سراًعلى سنة الله ورسوله، ومنها ما قال أنه زواج مدني دون شهود ، ومنها ما قال أنها علاقة غرامية دون قيود ، ومنها ما قال أنها زنى على رؤوس الأشهاد بين ملحد وملحدة ! ولم يقل أحد على الإطلاق إنها مجرد صداقة لا غير، لفتاة لا يعرف أحد كيف تعرف عارف إليها ، وإن تطرقت بعض الشائعات إلى زيارات سرية يقوم بها عارف إلى مثقفين يهود أصدقاء له يقيمون في مستوطنتي كيدار ومعاليه أدوميم ! ولا شك أنه تعرف على الفتاة هناك ! وشائعات أخرى تحدثت عن تعرّفه إلى الفتاة عبر لقاءاته مع أصدقاء له في القدس الغربية يزورهم بين فترة وأخرى، خاصة وأن الفتاة كما يقال مثقفة وتحمل شهادة الماجستير في علم الإجتماع والدكتوراة في الفلسفة !
عارف سمع بالشائعات بل ورأى بعضها على الفيس وتويتر . تجاهل الأمر ولم يعطه أية أهمية . وحين اتصل به صحفي مستفسرا عن الأمر أجاب بأنها صديقه واكتفى بذلك .
*******
ادلهمت السماء فوق جبال القدس ورام الله والرملة ونابلس وبيت لحم والخليل وصفد وحيفا والناصرة وعكا وطبريا وتل أبيب ويافا وبئر سبع وغزة بغيوم داكنة مظلمة، غطت السماء الغربية من أقصاها إلى أقصاها. وتاق ماء للإنعتاق من أسرالغيوم فاضطرب في غيهب الظلمات السماوية، واصطدمت شحنات سلبية بأُخَرٍ موجبات ، فالتمعت أبراق شقت أعنان الفضاء ، ودوت رعود زلزلت جدران البيوت ، منذرة بهول القادم من آيات !
وهو يرقب السماء الغربية من أمام بيته على مقربة من قهوة حجازي توقع عارف نذيرالحق هطول أمطار غزيرة وهبوب عواصف ينتج عنها سيول وفيضانات .. كثيرا ما شاهد في طفولته مجرى وادي أبو هندي وهو يتحول إلى نهر يفيض على جانبي المجرى في الأيام العاصفة .. ارتدى من الملابس ما يقيه الأمطار الغزيرة ونزل إلى الوادي ليتمتع برؤية مجراه وقد تحوّل إلى نهر ..
في المنطقة الواقعة بين مستوطنتي كيدار ومعاليه أدوميم في الوادي، كان قرابة مائة طفل من المستوطنتين يقومون برحلة في الطبيعة برفقة معلمة من معلماتهم، ويبحثون في مجرى الوادي عن حجارة ملساء صقلتها المياه على مر السنين وأحالت بعضها إلى أشكال فنيّة جميلة ..
يفصل وادي أبو هندي بين أراضي الديسة والسواحرة ، فجنوبه للسواحرة وشماله للديسة ، مع بعض التجاوزات في هذه القسمة للديسة، تجعلهم يمتلكون أرضا جنوبه .. وكثيرا ما شهد هذا الوادي مشاجرات على الأرض بين الطرفين في أوائل القرن العشرين ، خاضها المئات من أبناء البلدتين ، ونظمت في ذلك قصائد شعبية من قبل شعراء في البلدتين ، إلى أن انتهت بأكبر المشاجرات على منطقة تدعة الزرّاعة، حيث تم تقاسم أرضها .
يبلغ مجرى الوادي قرابة ثلاثة أمتارعرضا في معظم المناطق ، وقرابة مترين عمقا في معظم الأماكن . ويبلغ فضاء الودي بين سلسلتين من الهضاب، قرابة ألف وخمسمائة متر في معظم الأماكن، وإن كانت تنفرج أكثر أوتضيق في أماكن أخرى. ويمتد لمساحة تزيد على خمسة عشر كيلو مترا ، يلتقي بعدها مع وادي الدكاكين شرقا لينتهيا إلى واد أكبر يصب مجراه في البحر الميت .. تنحدر إلى الوادي من الهضاب سفوح وأودية كثيرة على الجانبين، تبدأ من العيزرية وأبوديس والسواحرة الشرقية وتمتد على طول الوادي..
خاطب عارف المعلمة محذرا وهو يسيرعلى الطريق المحاذي للمجرى، طالبا إليها أن تخرج الأطفال من مجرى الوادي ، فالغيوم المزدحمة في الغرب والأبراق والرعود تشير إلى أن أمطارا غزيرة تهطل هناك ، وقد تحدث عنها سيول عارمة تتدفق عبرالأودية ، قد تدهم الأطفال فجأة ، لا يعرف ماذا ينتج عنها . لم تأبه المعلمة لكلام عارف ، غير مصدّقة لما يقوله .. وفي تلك اللحظة تلقى عارف مكالمة من سارة :
- حبيبي أين أنت ؟
- أنا في وادي أبو هندي، أنتظر العواصف والسيول . ليتك معي لتري سيل وادي أبو هندي حين يتدفق في العواصف المطريّة .
- أنا في كلية هداسا لعمل يتعلق بالتدريس. انتبه لنفسك حبيبي ..
- هناك أطفال في رحلة يبحثون عن الحجارة والحصى في مجرى الوادي وأتخوف عليهم من أن يداهمهم السيل، أنذرت مرافقتهم لكنها لم تأبه لكلامي..
- هذه الحمقاء . ألح عليها حبيبي. أرى من النافذة المطر يهطل بغزارة لم أشهدها من قبل. ربما سيبلغكم بعد قليل . ابتعد عن مجرى الوادي حبيبي.
- لا تخافي علي حبيبتي . كل خوفي على الأطفال . أرى الغيوم فوق أبوديس والسواحرة .
- الهطول يزداد حبيبي ، وكأن أنهارا تنصبّ من السماء . ابتعد عن مجرى الوادي.
- أسمع الآن صوت خرير مياه قويأً قادما عبر منعطفات الوادي . سأحاول اخراج الأطفال من المجرى. إلى اللقاء حبيبتي .
قفز عارف إلى المجرى وراح يصرخ بالأطفال والمعلمة بالعبرية طالبا إليهم الخروج منه ، فيما صوت سارة يتردد عبر هاتفه الذي ظل مفتوحاً بعد أن وضعه في جيبه . خرج بعض الأطفال بينما لم يأبه آخرون ، بل وراحوا ينتظرون قدوم السيل بفرح إذا كان ثمة سيل سيأتي كما يزعم هذا العربي. ولم تمر سوى لحظات حين أقبل السيل مندفعا . كانت مقدمته تقارب نصف عمق المجرى.. غير انها كانت تزداد باستمرار .. راح بعض الأطفال يتقافزون إلى خارج المجرى. نجح بعضهم، غيرأن بعضهم لم يتمكنوا لأن الجدران كانت قرابة ضعف قاماتهم ، شرع عارف في حمل كل من تطاله يداه من الأطفال وإلقائه خارج المجرى .. داهم السيل كل من في المجرى بارتفاع أعلى من بعض قاماتهم ، وقع بعض الأطفال ليجرفهم الماء المتدفق .. راح عارف يلقي بنفسه على أقرب الأطفال إليه ويلقي به خارجا، وتمكنت المعلمة من إنقاذ بعض الأطفال أيضا ، قبل أن تنقذ نفسها بمساعدة عارف، حين وجدت أنه لن يكون بمقدورها أن تفعل أكثر مما فعلت، ولم يبق أمامها إلا أن تنقذ نفسها. تشبثت بحافة جدارالمجرى دون أن تتمكن من الصعود ،فسارع عارف إلى رفعها ودفعها إلى خارج المجرى وتابع إنقاذ الأطفال ..
أقبل السيل عارما متلاطما مندفعا هادرا محملا بجذوع أشجار وأغصان ونفايات ومواش وقد فاض على جانبي المجرى في بعض الأماكن ليغطي الطرق والأراضي على الجانبين، فيما كانت السماء تهطل مدرارا ، والأبراق تتوالى والرعود تقصف مجلجلة ، والعواصف تهب مزمجرة . راح الأطفال يتخبطون في السيل والتيّار يتقاذفهم في لجّة الماء .. صرخ عارف مستنجدا بإلهه !! " كن معي يا إلهي " وهو يندفع بقوة لينتزع طفلين معاً من التيار ويلقيهما خارج المجرى ، فيما صراخ المعلمة والأطفال خارج المجرى يعلو ليختلط بإيقاع المطر والعواصف ولجلجة الرعود ، ليبدو النهار وكأن يوم القيامة قد انبثق فيه .. شعرعارف بقوّة خارقة تنبعث في جسده بحيث أصبح في مقدوره أن يجاري السيل المتدفق ، وحتى أن يسبقه ، اندفع خلف مجموعة من الأطفال والطفلات يتقاذفهم السيل، وألقى بنفسه بينهم وهو يصرخ بهم اصعدوا على ظهري ، وتشبثوا برجليْ ، واندفع في الماء ليأخذ طفلين بيديه ، فأنقذ بذلك خمسة أطفال، كان اثنان قد تشبثا برجليه وأخر صعد على ظهره وتمدد عليه متشبثا بكتفيه. تابع عارف اندفاعه في الماء كدلفين ، إلى أن أنقذ جميع الأطفال ما عدا طفلة قذفها السيل في لجته لتبتعد . صمم عارف على اللحاق بها .. أدركها في أول السيل ، حملها بيديه وضمها إلى حضنه، وانطلق بها بضع خطوات على الأرض أمام السيل ، إلى أن عثر على مكان منخفض صعد منه إلى اليابسة ، وهو يتمنى في نفسه أن لا تكون الطفلة قد فارقت الحياة . مدد الطفلة على الأرض وراح ينفخ نفسا من فمه إلى فمها .. نفخ بضع أنفاس ، لتبدأ الحياة تدب في جسد الطفلة .
أخذ عارف نفسا عميقا ثم انحنى على الأرض يقبلها ، وما لبث أن شخص إلى السماء وراح يهتف من أعماق جوانحه " شكرا يا إلهي ،شكرا يأإلهي " وعيناه تغرورقان بالدموع، دون أن يتنبه إلى جراح كثيرة كانت تنزف دما، قد أصيب بها دون أن يشعر، فيما ظهرت ثلاث طائرات هيلوكبتر محلقة في الجو، قادمة نحو المنطقة ..
كانت سارة قد أدركت حين لم يعد عارف يرد على الهاتف . بل وحين لم يعد الهاتف يرن، أن أمرا فظيعا قد حدث . فسارعت إلى الإتصال بالإسعاف لتخبرعما يكون قد حدث. كما تلقى الإسعاف مكالمات من بعض أهالي الأطفال ، الذين شاهدوا فيضان الوادي من أعالي السفوح .
حطت الطائرات على الأرض وشرع المسعفون في انقاذ من يحتاج إلى انقاذ من بين الأطفال الذين أصيبوا بجراح من جراء ارتطامهم بالصخور أو بجذوع الأشجارأو بالنفايات والسلع المختلفة التي كان السيل يتقاذفها .. وكان من بين الذين أنقذوا عارف والطفلة التي كان يضمها إلى حضنه، حيث أقلتهما طائرة مع بعض الأطفال إلى مستشفى هداسا .
*****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض