الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 2
دلور ميقري
2018 / 3 / 22الادب والفن
أضحى أكثر تحمّساً للعمل، الرسامُ الفرنسيّ، على أثر عودة امرأته. ولو أنّ الكآبة بقيت على حالها، محنّطة في أعماقه كمومياء. ولعلها كآبته، من كانت تستحثّ " هيلين " على الإفلات من ربقتها. تماماً، بنفس قوّة تحفظ هذه المرأة المبدعة حيال أيّ شيء يُذكّرها بالماضي البعيد، وبالأخص طفولتها. فيما بعد، أي حينَ اعتادت هيَ على تحمّل وجودٍ غريب تحت سقف منزل المزرعة، جازَ للضيف الشاب أن يسألها يوماً عن معبودها الأدبيّ: " من قراءاتي لدستويفسكي، لاحظتُ أنّ بطل روايته يفتقدُ لحياةٍ متشكّلة وكما لو أنه ولِدَ بالغاً؟ ". قالت له مبتسمة، ببساطة من يدلي بدلوه في بئرٍ حفره بنفسه: " لأنّ ما كان يشغل دستويفسكي، بحسَب رأيي طبعاً، هوَ الفكر لا البشر "
" ربما أنّ هذا الرأي يُناقض الحقيقة البديهية، عن كون الفكر خاصية بشرية؟ "
" بلى، في الظاهر فقط. أعني، فيما يخصّ سؤالك عن دستويفسكي. سننحي جانباً مسألةَ الاختلاق في أدبه، وأنّ شخصياته هيَ خيالية لا تمسّ أرض الواقع إلا بشكل رمزيّ. علينا التريث عند ثيمة ثابتة عند دستويفسكي، تقرر أنّ همّه كان محصوراً في بث فكرةٍ عن ‘ المدينة الفاضلة ‘، الروسية، بوصفها خلاصاً مقترحاً للبشرية من محن الحروب والفقر والتطرف ". فلما قالت ذلك، فإنه أشارَ إلى نسخ من كتابها الأخير، كانت قد وصلتها حديثاً من ناشرها في نيويورك: " شخصيات قصصك، القصيرة منها والطويلة، تبدو لي أيضاً أنها بلا ذاكرة. أو أنها تهربُ من ماضٍ، ملوّث بشكل ما؟ "، عادَ ليسألها بطريقة مراوغة مُلطّفة. هزّت رأسها ببطء، في حركة غامضة أكثر منها علامة موافقة. كونها اجتازت سابقاً هكذا امتحان، لم يكن من السهل الآنَ وقوعها في مطبّ سؤال يطرحه شخصٌ ما يفتأ بالنسبة لها " فتىً غراً " ـ كما كان يحلو لها أن تدعو الضيفَ الشاب في كل مرة وجدت نفسها منزويةً في عزلة رجلها، الفنان.
وإنه زوجها نفسه، مَن داعبها ذات مرة بالقول، أنّ من تعتبره " فتىً غراً " هوَ في حقيقة الحال بمثل عُمرها، المُراوح على أعتاب الثلاثين. في مناسباتٍ أخرى، مختلفة، كان يُغضبها مجرّد تلميح أحدهم إلى موضوع عُمرها. ذلك، وفق خبرة الزوج، كان من أعراض مرض الوسواس القهريّ، المبتلية به " هيلين " مذ فترة افتراقها عن أسرتها. لقد بقيَ ماضيها بئراً مردوماً، حتى بالنسبة إليه؛ هوَ زوجها وربما الرجل الوحيد في حياتها. ولكنه تسنى له اصطيادَ شاردة من هنا وهناك، في غابة أعماقها. كانا في أوان التعارف بعدُ، حينَ أرسل أقدامه إلى متاهة الغابة تلك، معتقداً أنه بإمكانه مساعدتها في الشفاء. إذ لم يخفَ عليه آنذاك، ما في حالتها النفسية من توتر وقلق واضطراب. قبيل هجرانها لأسرتها ( لأمها تحديداً بما أن والدها توفيَ باكراً وهي وحيدتهما )، كانت من سوء الحال أنها أودعت لرعاية طبيب نفسيّ. أعوامٌ عشرة من عِشرة متواصلة، مضت عليهما هادئة وهنيئة. مؤخراً، وبشكلٍ غير متوقع، عادت أعراض مرضها إلى الانبعاث مجدداً من قاع بئر الماضي: هجرت هذه المرة سريرهما، مصممة على ألا تعاشره جسدياً أبداً. ثم ما لبثت أن قصّت شعرها، الطويل الكثيف، على طريقة الغلمان، بل وصار تكتسي بما يُشبه ملابسهم.
" سأصطفي شركاءً لمضجعي من جنسي، الأنثويّ. فلن أمنحك، بعدَ الآن، نعمةَ الغيرة عليّ! "
بتلك الكلمات الهاذية سبقَ أن أبلغته قرارها، وكانت حينئذٍ تعدّ حقائبَ سفرها إلى أوروبا. كان العديد من أصدقائهما المشتركين، الحميمين، يتواصلون معه بالمراسلة من القارة العجوز. بعض تلك الرسائل، صارَ منذئذٍ يفوح منه عطرُ فضائح المرأة غريبة الأطوار. " مسيو جاك "، كان يدرك ولا شك سببَ تفجّر رغبة امرأته بهذا الشكل المفاجئ، الشاذ. إذ كان يراقبها عن كثب دونَ أن يُشعرها بذلك، كيما يتفاقم خلافهما. ولكنها علمت لاحقاً بالأمر، عن طريق الخادمة " نفيسة ". هذه الأخيرة، كانت مكلفة من قبله بتتبع ما يتصل بحركات سيّدتها داخل وخارج المنزل. ما لم يكن ليتوقعه عندئذٍ، أنّ " هيلين " كانت قد دشنت شذوذها مع خادمتها بالذات.
كثيرون من معارف الزوجين، عدّوا الأمرَ في فترة لاحقة كنوعٍ من حنين إلى " موضة الهومو "، التي كانت قد اجتاحت أوساط مبدعي الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. الأقاصيص المبكرة لامرأته، المداورة حولَ البيئة المغربية، لم تخلُ بدَورها من شخصيات من ذلك القبيل، نسائية ورجالية، تتبجّحُ بأفعالها الجنسية علناً سواءً في حفلة أو مقهى. بيْدَ أنه لم يكن مع رأي أولئك المعارف، بشأن الموضة على الأقل: كان يعلمُ، يقيناً، أن " هيلين " قد انحدرت إلى حضيض الإحباط واليأس بسببه هوَ؛ بسبب أنانيته وأثرته وغيرته. لم يعُد في وسعها تقبُّل الحقيقة المحزنة، وهيَ كونها مرآة يتمرأى فيها غيرُها وجهَهُ، جميلاً كانَ أم قبيحاً.
*
تستندُ " سوسن خانم " إلى مقعد مكتبها، المظهَّر بالجلد الأسود. مرفقاها على الطاولة، يفصل بينهما مخطوطةُ المذكرات. تعبيرُ وجهها، لحظة غلقها للمخطوطة على صفحة معينة، كأنما كان أيضاً بمثابة الفاصل بين الماضي والحاضر. أظننا نعلمُ ما يشغلُ حاضر هذه السيّدة السورية، طالما أنه متواشجٌ إلى هذا الحدّ أو ذاك مع ماضٍ محبوس بين دفتيّ الكتاب، شأن رسالة وداع أودعها بحارٌ مُشرفٌ على الغرق داخل زجاجة مغلقة.
إنها تقريباً في سنّ امرأة الرسام، في آونة انحدار هذه المسكينة إلى الحضيض. لا وجهَ للمقارنة هنا، إلا من زاويةٍ مَحض مبتسرة. لدينا أيضاً مفارقة في الموضوع، وهيَ أنّ الخانم قد عقدت فيما سلف علاقة سرية مع " الشريفة "؛ ابنة تلك الخادمة، الماكرة. لا مندوحة أنّ امرأة الرسام، وقعت تحت تأثير سحرٍ ساحق، شرير. فالابنة وتمتعت بفتنة تمتّ كثيراً لعِرْق النصارى، فماذا يمكن القول إذاً عن والدتها المُعرّفة بدمامة ملامحها إبّان صباها: " ثمة سحرٌ، والحالة تلك، يُحيل إلى ما امتلكته تلك المرأة من شخصية متسلطة تمكنت من خلالها استعباد سيّدة أجنبية على قدر كبير من الثقافة والجمال وعلو المقام! "، كذلك انتهى تفكيرُ الخانم وكانت عندئذٍ عابسة السحنة تتنفسُ بعسر.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فودكاست الميادين| مع الممثل والكاتب والمخرج اللبناني رودني ح
.. كسرة أدهم الشاعر بعد ما فقد أعز أصحابه?? #مليحة
.. أدهم الشاعر يودع زمايله الشهداء في حادث هجوم معبر السلوم الب
.. بعد إيقافه قرر يتفرغ للتمثيل كزبرة يدخل عالم التمثيل بفيلم
.. حديث السوشال | الفنانة -نجوى كرم- تثير الجدل برؤيتها المسيح