الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حمام ....(السعادة ..)

عبد الغني سهاد

2018 / 3 / 24
الادب والفن



حمام (..السعادة..)
_____________
اتذكر جل الحمامات التي كنت اتردد عليها ..كلها توجد في نفس النسق .الا انه كان اجملها حمام الحي القديم..(حمام العرصة )ولا غيره احسن بقي صامدا حتى تهدم بموت صاحبه ..اجمل ما فيه خصةمن المرمر كبيرة تتوسط قاعة الاستقبال وسط صهريج قاعه اخضر مطحلب فيه تعيش اسماك صغيرة كنت اعشقها..لاداعي للحديث هنا عن حمام العرصة ..لا داعي ..ففي الحمامات .تعودنا منذ الصغران نغسل اوساخنا البدنية ونتخلص من نجاستنا ..الا (حمام السعادة) .فالامر يختلف كثيرا.في كل شيء عن باقي الحمامات...فهو يحمل هذا الاسم نزولا عند رغبة مالكه ..الرجل الثري الكريم ينحدر من الطبقة الفقيرة و ارزقهم الله من عنده في عهد الانفتاح....ولذلك حدد لحمامه هدف كبير في ان يسعد سكان الحي البسطاء ..فكل من احسن الله اليه يدفع اجرة الاستحمام ..وكل من ضاقت به السبل ..فليستحم ويدعو له بالاجر بحسن الثواب ..ولا يهمني اسم الحمام ..لكن الذي اثار انتباهي ان الحمام هذا السعيد ..والنقي ..تحول الى فضاء يحتله اصحاب اللحي ..الدواعش ..جدرانه الى السقف مغطاة بالزليج الابيض الاسباني ..به ثلاثة غرف كبرى..الباردة والمعتدلة والساخنة...وفي الغرفة الساخنة تتمدد الجثت على كل الواجهات .. ومراحيض واسعة ..سقوف الحمام عالية .. اربعة صنابير للماء الساخن والبارد في كل غرفة ..ارضية الحمام بيضاء تقية مبلطة بلاموزاييك ....وصطلات الماء .وفيرة ومتنوعة الالوان ..الذي يحرس الحزمات والرزمات المخصصة للثياب رجل اسمر عيونه جاحظة ومنتبهة على الدوام ..وله لحية بيضاء غلبها الشيب ..لا يفارق شفتيه ...النطق بكلمتي ( بسم الله ....الحمد لله ..) هو فعلا رجل طيب ..لكنه متوجس من كل الناس ..ينظر في جيدا ويقول ياسيدي ..لا داعي لطلب ورقم مرقمة لرزمتك .نعطيها فقط لمن نشك في نوياه .ويبدو انك لست من ذوي النيات السيئة ...ان( سيماهم على وجوههم.) صدق المولى الكريم ..حاولت ان افهمه ان كل من وضع ثيابه في الجلسة يحق له ان يتسلم رقما خاصا هو نفسه رقم الخانة التي وضع فيها الثياب ..وذلك قطعا للطريق على اللصوص (...ياسيدي ..لايعلم ما في الصدور الا الله ..ولا تزر وازرة وزر اخرى )..حاولت ان اقنع هان الحمام كبير والمستحمين كثر ..ولا بد ان تحصل بعض السرقات من حين لاخر ..انا مثلا مرة ..سرقوا ثيابي ..وتركوا محلها ثياب قذرة ..لاولا احد الجيران الذي احضر من المنزل ثياب اخرى..وبسهولة سامح الجلاس (حارس الملابس ) المسن ..بعد تنبيهه الى ضرورة تشغيل القطع الخشبية المرقمة ..رقم في الخانة ونفسه يسلم الى المستحم ..وبذلك سيقطع مع المشاكل .. بداية الدخول الى الحمام كانت تتم هكذا سجال ما بينه وبين الجلاس قد يتدخل فيها بعض الناس لكن معظمهم هو مع نظرية الترقيم ..من اهدافي في مثل هذه الحوار عند بداية الدخول الى الحمام اثارة انتباه الجلاس الجاحظ الى حزنة ثيابي ..كيس كبير ازرق عليه مكتوب رمز شركة اديداس للرياضة واشياء اخرى ..اضع حينها صطلة بيدي وصطلة على راسي كخودة ..وادخل الحمام ..مباشرة الى غرفة الساخنة ( السخوووون لاكمد عظامي الباردة والمعتلة )..اقعد على قطعة بلاستيك سميكة في قاع القاعة ..واسكب على الماء الساخن ..الى حين ترطيب جلدي ..الصمت سيد غرفة السخون لكن بعض الهمسات وشرشرة الماء من الصنابير تقطعه (الصمت ) من حين لاخر ..في الحمام لا احب ان اتابع عورات الناس ..لكنى اطلق العنان لسمعي وعيون قلبي التي تسجل القفشات ..والمعارك ..والنواذر..والذي حيرني في حمام السعادة النظيف ..كثرة المستحمين الملتحين..حتى اعتقدت انه يخص الدواعش ..بالفعل الى جانب اللحية كانوا يستحمون يالسراويل الطويلة ..الى الكعبين ..وكنت استغرب كيف سينظفون افخادهم وسيقانهم....وادواتهم ... وكنت مع القلة التي تستحم بالثبان...الذي يستر فقط اعضائي التناسلية .اي السليب ..حتى لا اقول الشورط .لكونه يظهر تشكيلة الذكر والخصيات ..في الحمامات الاخرى كانت البعض يتعرى تماما سواء كما تفعل النساء.اتذكر ذلك جيدا من الصغر ..كان الناس يسلكون في الحمام مبدأ /اللي عندك ..هندي / السليب ليس هو ..( السروال القصير )..لذلك نظرات الملتحين لا تتركني ..هذا المثبن الذي هو انا استحي من التحملق فيهم ..وهم المسرولين الى الاقدام لايستحون من اشباع نظرهم الي ..ربما تفسير ذلك في كوني رجل كهل ..كثير الفهامات ..غير ملتحي ..وغير الملتحي عندهم لا يستحي./..انت لست على منهاج اليقين ..هكذا همس لي مرة الجلاس ( الذي لا يحفظ من كلام الله ...سوى ..بسم الله ..والحمد لله ..) وبعض العبارات الاسلامية الجاهزة ...) ماذا اريد ان افعل في حمام السعادة ...لا شيء غير السمع لاقوال الدواعش..ففيه كان صديق لي اصبح معلما ومناضلا عتيا في النقابات ..له كل بطائق النقابات المهنة ...كان يدخله وراسه مشحون بالشيت كما يقول وهو نوع من المخدرات القوية ..كان يخلع كل ثيابه ثم يتكئ على الحايط..ويضع قدمه اليمنى في سطل بارد ..واليسرى في اخر ساخن ..ويتامل ويقرأ الوجوه والقامات التي تمر امامه ..لم يكن يحدث احد اكن اساله عن ماذا يرى وماذا يفعل بنفسه في الحمام ..مادم الانسان حرا في نفسه وفي استحمام روحه وافكاره .. كنت اجد له بعض الاعذار ..فكلنا في النهاية داخل حمام السعادة مجرد اشباح ..تتخد لنفسها هيئات مختلفة ثم تتحرك ..تتحرك وسط البخار تتطوف على صنابير الماء ..كان يقضي الساعات مستلقيا على طهره لا يتحرك.. ثم يرتدي ملابسه ويخرج جسده كما هو لا تزال اوساخه وقذارته عالقة به ..لكنه حقق متعة لا يعرفها الا هو .استفقت من الذكرى حين.قال احد الملتحين لصديقه (..كان عليك يابنادم ان تبدأ بقول بسم الله ثم تنظف الجهة اليمنى قبل اليسرى ..رد الاخر عليه .. واللهيلا ..واللهيلا ..جزاك الله خيرا... يااخي ..)...
وضعت مرة ثانية السطل على راسي ..وبدات افرك جسدي بطريقة عشوائية بالماء الساخن والصابون ..كنت لا ارى شيئا ولا اهتم بالاشياء حولي ..وفي خاطري اقول هكذا ( اللهم لك الحمد على عقل ثقفته ..وعلى فهم وفقته ..وعلى توفيق هديته..اللهم استر عيوبنا ) ولا اذكر من اين اتيت بهذا الدعاء ..ربما من بطون كتب ملامتية قديمة ..لاتزال رواسبها خالدة في الذاكرة ..لكنه حينها نسي كلما حوله ووجه همته لتنظيف اوساخه الخارجية وراسه يتمدد في ظلمة السطل البلاستيكي ..
سمع ذلك الشبح الناصح بتقديم اليمين على اليسار يهمس لصاحبه ..
- حمام السعادة لم يعد يلجه سوى الاشقياء..
- ويرد عليه الاخر (...واللهيلا ..الزنادقة ..)......
فهم جيدا جيدا أنه كلام من قبيل (اياك اعني... فاسمعي ياجارة ..)...
يطول مكوت صاحبنا في البخار داخل الغرفة الساخنة ...يتلدذ بسماع همس اشباحه و هويبعثر الماء على جسده و شرايين دماغة تتمدد داخل السطل البلاستيكي الذي ارتفعت حرارته...ولحظتئد سقط مغميا عليه ..احدث سقوطه على ارضية الحمام صوتا مدويا...فارتفع صراخ الدواعش..( الله حي ..الله حي..) ..فيدخل الجلاس مع بعض الاعوان اخدوا يضغطون بقوة على صدره وهم يزعقون فيه ...( قل ..لا الاه ..الا ..الله .. ايها الزنديق ..)....تدلت اللحي على وجهه الشديد الاصفرار حين حملوه الى غرقة الاستقبال الواسعة ..بينما هو يسترجع انفاسه ..كان زعيقهم يطن في اذنيه.. ( قل لا الاه ..الا الله ..)...
ولا احد غير الجلاس الطيب فكر في اخراجه ليستشق الهواء النقي ..خارج غرفة السخون..حين امتلآت رئتيه بالاكسجين استعاد روحه ..واحتل عقله الصمت الرهيب واجهد نفسه وهو يكرر الدعاء الذي حفظه من بطن كتاب لا يتذكر عنوانه ..الا انه كتاب ملامتي خالص .. (اللهم لك الحمد على عقلي الذي ثقفته ..وعلى فهمي الذي وفقته ..وعلى توفيقي لنيل رحمتك..اللهم استر عيوبي..وابعدني عن كل جاهل متطرف ....
قال له الجلاس( حارس الملابس ..)..:
( حمدا لله على استعادتك أنفاسك ..أخفتنا عليك ...)...
حدث نفسه بصوت عال فقال كان الحمام فضاء للتعاون والمودة مع تنظيف الروح والجسد وأمسى في لمحة بصر فضاء تسكنه الغربان ..أفزعني تعيقها واضطررت الى اختباء راسي في داخل السطل حتى لا أراها ولا أسمعها ..لم يتركوا مكان من الاماكن العمومية لا يدعون فيها الى التكفير والهجرة ..تكفير عامة الناس المختلفين عنهم ..والهجرة ..هجرة المجتمع الذي يحيون بداخله .يرفضونه ويعادونه ..فكل ما هو جميل في الدين امتنعوا عنه ثم هجروه ..وعضوا بانيابهم الكلبية على السفاسف والتفاهات ...
كان الجو الخانق كريها داخل الغرف كغمور بروائح العرق والنتانة لا شك انها روائح الشعر الادمي المتدلي من الدقون ..ومن العانات...غير ان الهواء البارد يندفع اليه من فتحات الباب الكبير لحمام السعادة ..كان اصحاب اللحي يلتهمونه بعيونهم كما الغربان حين تلف وتدور حول الفريسة ...
- لقد وصل الوغد الى باب جهنم ..ولم ينطق بالشهادة ..قلت لكم ..اللهيلا.. هو زنديق عتيد ....
صاح الرجل الذي كان يقصده بالتشهير في داخل غرفة السخون ...ففي الحمام توجد مشاجرات ليس المقصود منها سوى التسلية والهزل ..واخرى تصل الى الرغبة الاكيدة في القتل والقضاء على حياة الانسان المقصود..وكان يرى انه مقصود من هؤلاء الاجلاف الجهلة الذين تراموا في غفلة من الجميع على الدين ..واخد كل واحد منهم يعد نفسه يحمل رسالة الى البشر ..حينما توقفت الرسائل بين السماء والارض ..وارتجت حياة الناس.. فظل صاحبنا هادئا ومهيبا يدرك جيدا انهم ينتظرون منه النطق بالشهادة ...وانهم اعتقدوا انه في قاع الجحيم .. وهو يدرك انه ليس هناك جحيم اكبر من حجيم دواعش حمام السعادة..وما عليه الا الدفاع عن نفسه ..و الخروج سالما من بين اياديهم القذرة ..
- اليد التي تمتد الي ...اقطعها ..وقف وهو يصيح .
فتفرقت من حوله تلك الجموع .عوض ان ياتوه بكوب ماء ..كانوا يفكرون في موته ..في الجنة والنار ..من انفسهم نصبوا حكاما على النوايا ...واين الحمام من كل هذا ..ففي الناس من كل الاجناس والديانات تستحم وتتبادل التحايا وتغادر منشرحة ..حتى اليهودي ان عاش بين هؤلاء لابد سيرحل ضجرا منهم او سينتحر بينهم ..
لا شيء من سلوكهم من القران اوالسنة ...تعرفون انكم غرباء عن كل الاديان ..مجرد سماسرة تجار للدين يلبسون مصالحهم الشخصية امور الدين ..هذه هي الفتنة الحقيقية التي يعيشها حمام السعادة ....
كان قد نعث الجاحظ اصحاب اللحي بانهم لا شك من الحمقى والمجانين ..لكنه خرج من الحمام وهو يعتبرهم من اخطر الناس على الناس على وجه الارض..خاصة عندما تصبح جهالتهم بالدين تصبح مهددة بالكشف والتنوير ..الا انهم كالغربان تحلق بعيدا في الاعالي تدور ..وتدور تنتظر انتهاء القتال لتزهو بافتراس الضحايا ..ومن المفاراقات الكبرى عنده انه يحرز ذكرى جميلة عن حمام العرصة الفسيح مع اسماكه الودودة ...وذكرى حمام السعادة الذي عاش فيه اقسى لحظات الشقاء الانساني ..مع دواعشه النتنة ...

_______________
عبد الغني سهاد
2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با