الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءة والقارئ صور في البلاغة الأدبية - فيليب دايفيس

علاء موفق رشيدي

2018 / 3 / 26
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


القراءة والقارئ : صور في البلاغة الأدبية.
المؤلف : فيليب دايفيس.
المنظمة العربية للترجمة – 2016.
ترجمة : زينة الطفيلي.

فيليب دايفيس أديب، وكاتب سيرة ذاتية، وأستاذ الأدب الأنكليزي في جامعة ليفربول، ورئيس تحرير مجلة " القارئ " . ومدير مركز البحوث في القراءة، والمعلومات والنظم الألسنية في جامعة ليفربول، وهو مركز يشرف عليه باحثون في الأدب من كلية الأدب الإنكليزي، إلا أن مقرها في معهد علم النفس والصحة والمجتمع، ما يتيح لعلماء النفس والأطباء والخبراء الأدبيين التعاون معاً توخياً لفهم حقيقة ما للقراءة من أثر على صحة المجتمعات العالمية وغدها. فيليب دايفيس مدافع شرس عن قيمة القراءة الأدبية الرزينة.

الأدب وفرصة التفكر بالحياة الإنسانية :


يبدأ فيليب دايفيس كتابه، بمقولة المحلل النفسي ويلفرد بيون : ( إن تعذر على امرئ التفكير بأفكاره، فيدل ذلك على حيازته لأفكار، لكن افتقاره هو لجهاز تفكير يخوله استعمال أفكاره)، وهو يرى أن الإخفاق في استخدام التجربة الوجدانية يفضي إلى كارثة منتظرة في تطور الشخصية. يُعنى هذا الكتاب بإظهار كيف يساعد الأدب قرّاءه على التفكير بهكذا أفكار، أفكار ربما ما كانت للتتاح لهم شخصياً، أو ربما كانت لتمضي غير مدركة ولا مقدرة حق قدرها في العالم الخارجي، لولا وسيلة الأدب.
إن ما يفعله الأدب، وهو ما لا تفعله على سبيل المثال الفلسفة المنهجية عموماً، هو منح الفرصة للتفكر بالحياة الإنسانية، وليس التفكر فحسب، بل إعادة صياغة أصح مبتغيات الفكر.

فعل القراءة في الدماغ :

جاب إدموند هوي، أحد أوائل الباحثين في القرن العشرين، في آفاق الولايات المتحدة الأمريكية متقصياً تلقين القراءة وممارستها. وحينها كتب : ( لربما هي تقريباً ذروة إنجازات أي مختص في علم النفس أن يتم تحليل ما نصنع حال القراءة، إذ ذلك يعني توصيفاً دقيقاً للعديد من أكثر أعمال الذهن الإنساني استعصاءاً، وكذلك حلاً للقصة المحبوكة لأكثر أداء نوعي ملحوظ تعلمته الحضارة في تاريخها قاطبةً)

فعند القراءة، يتوقع من القارئ متابعة التحركات شبه المحسوبة لدماغه الثاني، هنا على الصفحة، العالق في فخ ما له من آليات. ما من شيء هو هنا " لمرة واحدة " البتة، منجز لمرة واحدة وإلى الأبد، كل شيء هو على الأٌقل ضعف ذاته مرتين، فمرة بأسلوب ثم بآخر، مراراً وتكراراً. على هذا المنوال تعمل القصيدة داخل ذاتها : إنها تفكر، لكأن في دماغها صلات متشابكة داخلية.

ثنائية المفكر في الأحادية :

يثبت فيليب دايفيس أن ما يقوى عليه الأدب، هو إبتكار إطار لنطاق كينونة ما لم يسبق لنا إدراك كونه مادة بحث، أو، إن كنا مدركين، فلسنا ندر آنىّ ندلف إليه ونستكشفه. إلا أننا لن نلبث أن نلجه حتى نجده شبيهاً بالمرايا السحرية والسجاد المزخرف وأبواب المكتبة في رواية الكاتب الخيالي الفيكتوري جورج ماكدونالد التي تأخذنا إلى مدى، لا يمنح الأفكار التائهة أو الدفينة مأوى تُدرس فيه فحسب، بل يولد هو بذاته من الأفكار مزيداً ومزيداً.

ذلك ما يقوله الناقد (جوزيف غولد ) أن الأدب بذاته قد أضحى دماغاً ملحقاً، لكلا الكاتب والقارئ. لقد أضاف الأدب إلى الدماغ الإنساني مستوى وعي جديد : ( إذ بوسع الدماغ، ممتطياً الكتابة والقراءة، رد الأفكار إلى ذاته ) فيتمخض عن التحديق بالذات إيجاد ذات ثانية، أو صورة متصورة تقريباً عن الذات، ما أسمته الفيلسوفة (حنة آرندت) : ((ثنائية المفكر في الأحادية))

فما الصفحة سوى دماغ إضافي آخر يؤمن ثباتاً يعجز الذهن بمفرده عن صونه، ويمنح الشعر بسليقته قبولاً أصفى وضوحاً حتى لما هو ذي مضمون دنس بإيلام.

إن القراءة هي التي تفي بغرض أولئك الذين يرومون استخدام التفكير للإنافة على ذواتهم بينما لا ينفكون مستقرين في ذواتهم، إذ تشكل محرضاً لهكذا تفكر وفسحة لهكذا تأمل. فنحن في أمس الحاجة لتنشيط هاتيك الذوات الثانية، أو الحيوات والمستويات الثانية، على الورق وفي أذهاننا على السواء إذا ما قرأناها.

المعنى المكتوب بين الجملة والأخرى :

يقول نيومان في (وصف الكتابة ) : ( هي بيان فكرة في وسط ليس موطنها)، فتراه مصراً أنه ليس للكلمات علاقة بسيطة أو حرفية بنسبة واحد لواحد مع ما تروم تمثيله من أفكار، وبالمثل، ما هاتيك الأفكار، إذ هي معنوية، بمجاورة لبدايات الجمل حيث يجب أن تؤوى ولا نهاياتها. فما من جملة على الإطلاق صريحة أو قائمة بذاتها تماماً كما هي بادية، إذ لا بد للجمل من تقاسم المعنى فيما بينها إن رامت ظفراً. فما رفع الكُتاب قلماً بين جملة وأخرى، إلا وصحبهم على الدوام فكر مضمر داعم متوالٍ قبل كل وحدة منفصلة وضمنها وعقبها. ينبغي للجمل أن تقراً (بما يربو على القراءة الحرفية ) وبعبارة أخرى، أن يقتفى أثرها وتستنبط وتتصور في السياق.

ليس ثمة تناسب مباشر بين حجم الفكرة وعدد ما ينبغي استعماله في صياغتها من جمل. ويجب على القراء والكتاب على السواء معرفة أنى يمكن لفكرة مهمة، صرح بها بغتة، أن تضل في جملة قصيرة، ثم تحتاج إلى أن تُحرز من جديد عبر صياغة استدراكية للجملة التي تليها. وإن بدت الجمل التالية تعاقبية، فكل واحدة منها قد تبقى فحسب، في حقيقة ذهنية خفية، محتواة في كنف جملة المنشأ المشتملة ضمنياً على الفكرة الأم. كذلك في تقنية ديفيد لورانس مثلاً، المتعلقة بإقتناص إحاطة للمعنى كرة بعد كرة، أدنى فأدنى. وفي أذهان مماثلة، تناضل الأفكار لتؤول إلى ذواتها، وتناضل لإيجاد المكان الملائم لذواتها.

بالنسبة للكاتب جون هنري نيومان فإن لب طبيعة القراءة ليس مساراً حرفياً تلقائياً، بل هو على الدوام أقرب إلى المجازي، حتى في قراءة جمل لا هي خيالية ولا شعرية : إذ تستلزم باطناً فعل تأويل أو ترجمة لتفهم حق فهمها.

علم نحو بن جونسون :

أما رؤية بن جونسون، فإنها تبتغي علم نحو يساعد في جعل الأفكار تشرع في تشكيل وإعادة تشكيل ذهن قارئ قادر على التفكير المتزامن بها، وبوسعه جعل الذهن يؤهل ذاته ليصبح ذاك الشيء الذي ينبغي له التًفكير بتلك الأفكار المكثفة سوية.

تجربة (ج ) :

يروي فيليب دايفيس عن اختبار أجراه متخصصون في علم نفس الأطفال منذ بضع سنين خلت، رويت فيه على مسامع طفلة اسمها (ج) حكاية فيل أرجواني ضايقته باقي الحيوانات ثم نبذته لغرابة مظهره. آئنذ لم تكن (ج) قارئة بعد، فإستعان الباحث بدمى حيوانات لجعل الحكاية واقعاً لها، داعياً (ج) إلى إكمال الأحدوثة.

من فورها استلقت (ج) على الأرض، وعينها ملء عين الفيلة قائلة : ( سأكون صديقتك، فلا تحزن )، فّاذا بها تلتقطه، مخرجة إياه من حالته، وتحتضنه، مضيفة : ( أضحى لك الآن صديقة )، لكأن اللعبة حية، وكأنها تعي مشاعرها، ولن يثنيها شيء عن الجد في مساعدتها.
على مستوى الإنخراط، تعتبر هذه الطفلة قارئة أولية فاضلة. فبالنسبة إلى (ج) تلغي القوة المطلقة للتمييز والتدخل العاطفي الفكري إنسانياً كل الحدود بين حكاية وعالم، وبين الشخصية وذاتها.

رجع الباحث ليعيد التجربة بعد إنقضاء تسعة عشر شهراً، أي حينما دخلت (ج) المدرسى، مبتدئة القراءة وآخذة الإندماج في المجتمع. وقتئذ، نقلت (ج) الفيل الأرجواني ووضعته في مواجهة الحيوانات الأخرى، مخبرة إياهم بسخافة مظهرهم أيضاً، جعلتهم يتقاذفون التعابير بين بعضهم، وجعلت النمر يصرح بصوابية الفيل ويعتذر عن لؤم طبعهم، وجعلته يعلن أنه سيغدو صديق الفيل.

أمست (ج) وهي الآن في المدرسة، أكثر تمرساً بجلاء في التعامل إقبالاً وإدباراً مع نزاعات العالم الإجتماعي. إلا أنها الآن أشبه بكاتب منها بقارئ، محكمة أواصر الحكاية المتفننة، يسعها الرجوع إلى الوراء بآنيّة أقل ومواربة أكثر لتصير راوية ومدبرة أكثر منها مشارك.

ذلك ما يقدمه الأدب من عالم إنساني سري، موجود بالضبط دون نصوصه، حيث يحيط كل من الكتاب والقراء بحقائق الوجود الباطنية أكثر مما يتيح المجتمع المألوف عرضه.

الأدب وتعبير الجماعة عن نفسها :

وما التفكير الأدبي، أي التفكير بالأدب وعبره، بمنظومة، بل هو روح جماعية، مكان تنسيق خفي، وهو مع ذلك موجود. إذ تشكل الروح الجماعية بالنسبة إلى شكل من أشكال الجهد ما هو عليه الرنين المحيط بكلمات النص : إنما تومئ عما ينوف على الحرفي البحت. وإذ هي بلا حول ولا عزم لتعبر عن ذاتها تعبيراً لا لبس فيه، تبسط الروح الجماعية فيه الرنين أو الإدراك إلى سبيل كينونة مضمرة، سبيل تفكير وإحساس، سبيل تصور وفعل، في قلب العالم.

الشعر والرواية والوعي :

الشعر هو ذاك النوع من اليقظة الوجودية ( لا المعرفة الوجودية فقط ولا الوصف الوجودي فقط ) إذ بلغت الأمور أوجها عبر انتباه الوعي والإدراك الإنساني. أما الرواية فقد قامت مقام الإعتراف، بإكتشافها للتقنية المعروفة حديثاً " الخطاب الحر غير المباشر "، وفيه يشق الخطاب الدائر في خلد الشخصية طريقه بسلاسة، دون إقرار من الشخصية، نحو لغة السرد. لا نجد في الرواية الواقعية صيغة مثل ( فكر آثر بكذا وكذا أو قال كذا )، فأيما فكرة راودته سواءاً مدركاً أم لا، وأيما قول لم ينبس به، هو عرضة للتعاطف أو الإدانة في عالم القراء.

الكتب ذاكرة مضافة :

قال لي زميل يوماً : ( أنا اقرأ بإيعاز من إحساس يراودي أنني كثيراً ما نسيت في حياتي، أو حتى قبل ذلك، ربما لم أقدر الأمور كما ينبغي أو أخفقت في حفظها أكثر ). حينئذ، تصبح الكتب ذاكرة ثانية مضافة. وبهذا الصدد، يكتب الشاعر ماثيو آرنولد في قصيدة الحياة المدفونة : ( ولطالما كنا في آلاف الأسطر، لكن بالكاد أمضينا، ولو سويعة، في سطرنا، في أنفسنا)

زمن الأدب :

للأدب زمنه الذاتي الخاص، أشبه ما يكون بشكل من الوجود أعيد خلقه جهاراً، زمناً يبقى ببقاء القصيدة، وهو الوقت الوحيد الذي يستحق التوثيق واقعاً.

القراءة الوجدانية :

يصرح فيليب دايفيس : ( إنني أجتهد في مسيرتي التعليمية لأشجع ذاك النوع من القراء الذين يرومون اقتحام النص من بوابة الفضول مسلحين بوجدان عظيم. إن باكورة المهمات في أواسط الأمور هي السعي إلى تخيل ماهية ما يقرؤه الفرد، بل وحتى ما يمكن أن يبدو عليه عاطفياً ابتغاء تصديقه )

القراءة والكتابة الخلاقة :

تتشابه القراءة بعزم مع " الكتابة الخلاقة " ، لكنها منجزة بصورة معاكسة تماماً :: استبدال الإنطلاق قدماً في صناعة الكلمات بدءاً من الذهنية المضمرة، بالعمل العكسي المنطلق من صناعة الكلمات إلى الذهنية المستترة في باطنها وخلفها وتحت جناحها. فما القراءة سوى أعظم مجازفة لإستئناس المعنى في ذروة حصوله.

تداخل النصوص الأدبية :

يطرح الروائي التركي أورهان باموق اعتقاداً بأن الروايات، وإن كنت تجاري الزمن على هيئة مرويات خطية أفقية، فإنها تواري تحت بنيانها مركزاً سرياً باطنياً، هو قطب جامع مستور، ينبغي على القراءة انتجاعه.

بتلك الكيفية وبصورة داهمة، ترى في مجرى حياة رواية أو مسرحية أو قصيدة أجزاءاً تتضرع لأخرى على امتداد المسافة بينها، وشخصيات تناجي بعضها عبر تنوعها، وحركة في موضع معين تسفر عن نقلة أخرى في مكان ما، وكتب بحد ذاتها تعثر على من يتلوها من خلال مزيج تجانسها وتباينها الجذاب.

في كتاب مخصص للأطفال، يشعر أحد أبطال روسيل هوبان، إذ هو مضطر للتعامل مع مهمة تفوق طاقاته بأشواط، أن الناس يتوهمون كونه كاهناً في وقت هو لا يعدو واقعاً كونه رجلاً مخزياً. في خضم بحثه الغريب، وكرجل طالح يهوى فعل أمر صالح أخير، سأل مرشدته عن العالم الذي هو فيه : أعلى قيد الحياة هو أم ارتحل ؟ أمستيقظ هو أم لم يلبث نزيل حلمه ؟ لترد عليه : ( لست أدري، بيد أنني لا أرى في ذك أي فرق، إذ محتم عليك مقارعته كيفما تبدى لك )، إنه الخيال، إذا ما استحال حقيقة.

ما هو موضع الأدب ؟

إن الأدب، وخصوصاً الشعر، صلاحية تجعله يكون نزىلاً لكل ذي قيمة إنسانية، لكأنه مناجياً ذاته، يتكلم ويصغي لمنطوقه في آن. ذلك الموضع ليس قائماً في عالم الأدب المستقل، بل في مضمار قائم روحياً في مكان ما بين الأدب والحياة.

في (ما هو الفن ؟ ) اعتبر تولستوي أنه في " الخطاب "، يتبادل البشر أفكارهم ونواياهم بيد أن لما يخالجهم من مشاعر واسطة تبادل أخرى، ألا وهي الفن.

الحيز المعنوي للأدب :

في كتابه ( وحدانية الأدب، 2004 ) دلل ديريك أتريدج على أن ليس في الأدب ما يخدم برنامجاً سياسياً أو أخلاقياً، ولا هو ذو قابلية لمقاربة فعالة تتوخى (فهم النص عبر ربطه بمعايير وقيم راسخة ذائع سيطها. فلا الأدب بحلال المشاكل ولا بمغنٍ عن الأنفس)

الأدب شيء تدور رحاه في ذلك العالم الخارجي، لا فقط في حنايا قارئه. وأبعد من كونه آخراً بالكامل، فإنه يشتمل حتماً، ولا يفتأ يستدعي ضمناً في آن، صلة منيعة بما هو غير أدبي. كما يقول كريغارد : ( الأدب يعظم إحكام القبض على الأزلي، وأعظم منه التشبث سريعاً بالدنيوي الذي تنازل عنه )

وهذا هو حال القصيدة حين يتلقاها دماغ القارئ، فلا يبدو الفكر السائر، على الصفحة، منتمياً إلى الكلمات فقط بل إلى العقل الساكن فيها، عقل يتصور كذلك خواطره في القارئ، والقارئ يتصور خواطره فيه، ويبلغ التمييز بين الإثنين أقصى تشويقه إذ يمسي غير جلي.

القراءة والتأمل :

لا يستطيع القارئ الثواء ببساطة في الكتب أو البقاء في حناياها. لعلة واحدة وهي حاجة القارئ للتوقف عن القراءة ليمعن في التفكير ثم ليحسن القراءة مجدداً؟ فغالباً ما يجد القراء أنفسهم غير قارئين، كما هي القراءة، في صماخ الكتاب، بل عوضاً عن ذلك بغتة متفكرين. أو تراهم يبتعدون عن الكتاب ليجدوا أنهم لا ينفكون يفكرون بجزء صغير منه بمفرداتهم الخاصة. يصحبهم شيء منه ليعاودهم بعد تصرم السنين في سياق حياة جديد. إنه من المهم عدم التقيد الدائم بصيغة الكتاب الكاملة والإنحباس فيها، وإلا لبقي القارئ عالقاً في الأحبولة، أو في الصياغة مسلوبة الشخصية أو في الشيمة الإنطوائية. إذ ليس الكتاب هنا فحسب، حيثما يظهر كونه.

عن ذلك يكتب بونيفوي بعبارة فاصلة : ( ليس النص للقصيدة مكانها الحق، إنه محض درب تسكله )

حيز الإستحالة في الأدب :

لكن ما هو بالتالي ( الحيز الحق للأدب ) ؟ بل وأين هو في العالم محله، ومن المستقبل ؟ يفترض بعض التفكر التأملي في القراءة، المنجز على مدى بضع سنوات خلت حديثاً، وجود أسباب وجيهة تكمن خلف صعوبة موضعة ذلك " المكان الحق " وتقييمه. وأراه ناجعاً تلخيص ثلاث فرضيات أساسية :

أولاً: ليست القراءة ولا الكتابة عمليات فطرية أو آنيةً، فعلماء الأعصاب يقيمون الآن الدليل على كون القراءة وليدة التكانف أو التكيف الآنف، إذن تتكيف وظيفة بيولوجية آنفة في هذا المضمار، تطور سعة القشرة الدماغية على تمييز الأشياء نظرياً، لتفي بوطر مغاير لما نشأت له في الأصل. فعلى المستوى الفكري، " اقترأ " الصيادون العالم المادي حقاً، لكن على سجيتهم، فكوا بسلاسة رموز آثار مسير الحيوانات. فخولهم الإستقصاء الدقيق لما تكسر من الأغصان أو ما بهت من أثر المسير في القذارة تبيان نوع ما مر في الجوار من الحيوانات، وأحجامها، ووجهة قصدها. هنا ندرك التخصص القشري المتطور لأكثر نظم القراءة اصطناعية لتفكيك شيفرة المعنى، فلا غرابة إذاً أننا نحيط بالكلمات علماً، لا عبر قوائم مفردات، بل عبر قصارى الجهد لاقتناص معنى الأشياء، ملاحقتها والنفاذ منها.

ثانياً : يقف نظام الكتابة والقراءة على أقصى تخوم بين ما هو مادي وما هو معنوي. في الكتابة الفرعونية الهيروغليفية يطابق رمز شكل بيت وإن مشهود من عل كما قد تراه الآلهة : استنساخ مادي لشيء مادي. بيد أن في نمو الأبجدية المنطوقة برهان على عدم تطابق الكلمة شكلاً مع معنى تدل عليه. فلا يقتصر دور العقل هنا على فك الشيفرة من نسخة عن الرؤية المباشرة المنقولة ببساطة، بل عبر تفعيل آليات نقل ذهنية باطنية أكثر دقة.

ثالثاً : التحول الجسيم من الثقافة المنطوقة إلى المكتوبة هو توكيد بالغ لما سلف، فاللغة كما هي محكية هي مباشرة، وحاضرة، ومنسابة في مجرى الحياة المحسوسة. أما اللغة كما هي مكتوبة فهي شيء ذو قابلية لأن يعاين ويمحص من مدى أبعد من آنية الحياة المادية. في نشدان العمل بين هاتين الحالتين، يصبح الأدب قابضاً على شيء من حياة المنطوق في عقل المكتوب. فيغدو ما تشرذم في أمصار العالم مرصوصاً في العقل، لتنطق، كلمة واحدة مكتوبة بلسان، قل، عشرة منطوقة أمثالها، وتحفزّ وجودها الداعم في العقل.

تنوّه هذه الإستحالات الثلاثة – من المقام الأول إلى الثاني، من المادي إلى المعنوي، من المنطوق إلى المكتوب – بالأدب إذ يتولى أرفع مناصب المجاز، في مثابرته لتفعيل ذاته بين عالمين والحؤول دون انفصالهما.

وإن اشتملت صناعة الأدب على ذلك التكيف مع الإستحالة، فثمة ترجمة مقابلة يشتمل عليها المتلقي. يكاد يسع القارئ، في تلبية متخيلة، سماع " الكلمات المكتوبة، و " تعقب " دلائل اللغز، ورؤية " المعنى " ببعض الإدراكات المختلفة لذلك الفعل، ويشعر وكأن تجربة أولية تُتخيل وتستدعى، كمحصلة لقراءة وكتابة مستودعة في وظائف دماغية أكثر وضوحاً في في الأصل لم تصمم لها. فيغدو بالتالي أيما قارئ ناقلاً – وناقلاً ليس فقط للرموز، بل بين الرموز، وما ترمز إليه في دنيا التجربة الإنسانية، وربما ثمة خطوة أبعد، ذلك حين يروم القارئ بنفسه سبلاً يسعى عبرها إلى تجسيد الفكر الأدبي في أخلاقيات العالم بذاته وسننه.

هنا يميز الكاتب (جورج ستينر) بين القارئ والناقد، قائلاً أن الأمر المعنيّ لدى القارئ في القراءة هو أقل احترافاً وأكثر شخصانية : وذلك دون الرغبة قط في إقراره علناً، فالقارئ هو الذي لا يفتأ يقصد الكتاب مضمراً أمله في أن يكون هذا العمل في هذه المرة هو العمل المحمّل بالإلهام. وبلا ريب، يعرف القارئ أو القارئة حق المعرفة أن التفكير على هذا النحو تفكير ساذج، بيد أن هكذا هو محرك القارئ الأولي العتيق كصياد عنيد لمعنى يثّبت له التوق إلى الرسالة.



خاتمة من مقدمة المترجمة :

توجز المترجمة (زينة الطفيلي) بمقدمتها ما سيرد من موضاعات ضمن ثنايا الكتاب، قائلةً : ( ليست الكتابة محض تواصل خارجي، بل سبيل لبسط دروب ذهنية، يمنح الكتّاب عبر سطر واحد فسحة تنطوي على قدرة مهولة ذات أثر عجيب الفكر الإنساني، عبر صياغة مبتكرة لأفكار قابعة في لا وعي الكاتب ولا شعوره. يضع الكاتب قراءه في المواضع التي تنبع منها الأفكار أصلاً، أكثر مما يضع الأفكار بذاتها في متناوله، ومن هنا يشرع القارئ في التدبر والتأمل في أرجاء أرضية قابضة تكتنف في أطنابها مشاعر أولية وأفكار أصيلة فجة تلهث خلف مفردات تؤدي حق معناها، وصياغة ملائمة تصون ما فيها من وهج وتُبقي ما يحيط بها من هالة وتردد ما يكمن خلفها من رنين. آنئذ تغدو الأفكار موضع تبصر من جديد، تحسبها تبزغ للمرة الأولى. إنما الأدب ، بما يوفره من دلالة تقبض على ما هو مبدئي وأصيل وبما يقدمه علم النحو من تركيب جمل مدروس، مميطاً للثام عن المنبع الذي عنه تمخضت الأفكار بادئ ذي بدء، وعن ماهية ما هي منوطة به ومحاطة، عبر ابتداع مضمون محسوس ومقام مستتر. ويولد ذلك المكان طاقات جديدة وسبل إبداع، فينغمس في سيرورة لغة ليكون سبيلاً مودياً إلى نهاية اسمها تواصل.

يمنح الأدب كلمات بيد أنا نستشعر معناها ونتلمس الذهن الذي انبجست عنه. وعبر الأدب والقراءة الأدبية يجعل الإنسان اللغة تتعدى حدود التسميات، لتمسي وسيلة استكشافية لما وراء إحساسه، إذ في الأدب لغة ضمن لغة، تستتر فيها معان مضمرة خلف ستار الكلمات المخطوطة على الورقة، فتضفي على التسميات الصلدة الشائعة مدلولات ذاتية.

عظيم هو الشبه بين الأدب والتصوير الدماغي، إذ يكشف ما يجري في الدماغ إبان التفكير، ويضيف الأدب مستوى وعي جديد، لكأنه يوجد ذاتاً ثانية. فيثير فعل الكتابة، وما يعقبه من فعل قراءة، البحث عن حقيقة ذواتنا وماهيتنا. إذ تعيد القراءة إلى المرء أشلاء تجربته الخاصة المنسية، فتمسي الكتب ذاكرة ثانية مضافة، وترحالاً عبر الزمن في اقتفاء لأثر المعنى. فيشعر القارئ وكأنه يقرأ ذاته، وبل قد يستفيد من تجارب سواه المسطَرة أمامه على الورقة، إذ تحمله ذهاباً وإياباً في مسارات حيوات، ويمتطي صهوة التنقلات والإلتفافات.

إنما الأدب وقراءة الأدب إذاً وسيلة تعيد ربطنا بذواتنا وبإنسانيتنا وتسيد لنا ربما صرحاً نحل فيه أزمات عصفت بنا وأضحينا أسرى أصفادها، يوم قتلنا أرواحنا إذ قطعنا عنها قوتها وزادها يوم أعرضنا عن الأدب وقراءته )

يقدم كتاب (القراءة والقارئ ) حجة دفاع عن قراءة الكتب الأدبية الرزينة، إذ يوفر الأدب أرضية قابضة لاستكشاف الوجود الإنساني. فيبتدع نزلاً يتاح فيه الإستفادة من تجربة الفرد لا تجرع مرارتها فحسب، والتدبر بأفكار هي ربما غير مسلم بها غالباً أو ملاحظ شذوذها، وتشييد مكان للتأمل الوجداني يتوسط الدين والعلمانية. فتمسي القراءة ضرباً من ضروب الترحال، بين أطناب العصور والأمصار وشتى الأذهان، العائد على القارئ ببدائل عن أيما نظرة تقليدية للعالم. في حقبة من عمر الزمن، فيها الفنون والإنسانيات عرضة لشيء من التهديد، يصبو كتاب (القراة والقارئ) في آن إلى تضييق ما بين نمط تفكير الكتاب والقراء من هوّة وجلب التفكير الأدبي إلى تفكير العالم المعتاد.


علاء رشيدي










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا - مالي: علاقات على صفيح ساخن؟ • فرانس 24 / FRANCE


.. المغرب - إسبانيا: لماذا أعيد فتح التحقيق في قضية بيغاسوس للت




.. قطر تؤكد بقاء حماس في الدوحة | #غرفة_الأخبار


.. إسرائيل تكثف القصف بعد 200 يوم من الحرب | #غرفة_الأخبار




.. العرب الأميركيون مستاؤون من إقرار مجلس النواب حزمة مساعدات ج