الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كزينوفان والله الواحد

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2018 / 3 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعتبر كزينوفان حلقة الوصل أو مرحلة الإنتقال بين المدرسة الأيونية والمدرسة الإيلية، وهناك من يعتبره فيلسوفا دينيا أو لاهوتيا، وهناك من يعتبره فيلسوفا دينيا وطبيعيا، وهناك من جانب آخر من يراه مجرد شاعر مهتم بالدين والطبيعة. وربما في البداية يلزم التنويه بان كزينوفان الايلى Ξενοφάνης الذي يعتبره البعض مؤسس المدرسة الايلية ليس هو كسينوفان الاثينى تلميذ سقراط المولود سنة ٤٣٠ ق.م. كزينوفان الذي يعنينا هنا جاء من كولوفون Κολοφώνιος، إحدى المدن الأيونية الواقعة في غرب تركيا الحالية، ولد حوالي سنة ٥٧٠ ومات في حدود سنة ٤٨٠ قبل الميلاد، فيلسوف يوناني، شاعر، وناقد اجتماعي وديني. كان ذا شخصية قوية لا تقل في ذلك عن عدوه فيثاغورس. كان واسع النشاط لا يكل من العمل والترحال، مبتكراً ذا خيال شديد الخصوبة مكنه من الابتداع، ترك أيونيا منذ الخامسة والعشرين من عمره وظل ستة وسبعين عاماً - على حد قوله - يطوف "في أرض هيلاس من أقصاها إلى أقصاها" يجمع منها مشاهداته ويخلق لنفسه فيها أعداء أينما حل. وكان يكتب قصائد فلسفية ويتلوها على الناس، ويندد بهوميروس ويسخر من الخرافات الدينية والأساطير. وهو أول من شن حربا ضارية على التصورات الدينية اليونانية القديمة وفكرتهم عن الآلهة. بالنسبة للقليل من التصوص والمعلومات المتفرقة التي وصلتنا عن المدارس الفلسفية اليونانية في عصر ما قبل سقراط، يعتبر كزينوفان أول من صرح بعقيدته في الألوهية دون غموض او مواربة ودون اللجوء إلى الرمزية والسرية. لذلك يعتبره الكثير من مؤرخي الفلسفة كممهد لعلم اللاهوت فضلا عن أنه أول من نادى بالتوحيد من فلاسفة اليونان رغم ان هناك من أشار إلى ذلك قبله مثل فيثاغورس .. كذلك يذهب أغلب مؤرخى الفلسفة إلى انه ممهد للميتافيزيقا والنظر إلى ما وراء المادة المحسوسة وترك القول بالعناصر الطبيعية كمبدأ أول للكون على عكس من سبقه مثل طاليس و انيكسيماندريس و انيكسيمانيس. فقال بالتوحيد، وبأنه لا داعي لتعدد الآلهة وكثرتها، الآلهة لا يمكن أن يتفق مع مقامها أن تكون خاضعة لأي شيء، كما أن الآلهة من ناحية أخرى ليست في حاجة إلى أن تتخذ خدما وأتباعا، ولهذا فليس هناك إله أكبر تحته أو بجواره آلهه أخرى، بل لا بد من وجود إله واحد ". وقال أيضا بقدم الله لأن الحدوث دليل على الفناء، والفناء يتنافى مع الألوهية. وقال أيضا بالثبات الإلهي وعدم التغير الذي هو عادة تغير إلى الأسوأ أو إلى الأحسن وهو ما يتنافى مع مقام الألوهية الذي حاول تنزيهه قدر الإمكان. فأعلن ثورته على المعتقدات اللاهوتية وآلهة الاولمب و رفض تعدد الالهة وتجسيمها وتأنيسها وانتقد اشعار هوميروس و كتابات هزيود التى ساهمت في ترسيخ تلك المعتقدات ورفض ما كان ينسب للالهة من صفات و أفعال مثل الغيرة والصراع على السلطة والكراهية والشهوة والتحايل والتآمر والخداع والتزاوج والتناسل ورأى ان هذا يتنافى مع الكمال الإلهى وما هو إلا نتاج الخيال البشرى وأن الإله الحقيقى هو إله واحد غير متعدد ولا يجوز تطبيق صفات المخلوقات عليه. وأضاف بجانب التنزيه، صفة "الكمال" في الفكر والسمع والبصر، ولذلك جائت إنتقاذاته العنيفة لهوميروس وهزيود اللذان "يعزوان إلى الآلهة كل الأعمال وصفات البشر الدنيئة التي تحط من قدر الآدميين كالتلصص والحسد والإنتقام والزنا والغش". فالإنسان قد أساء إلى الله وكل شعب يتخيل الله على صورته وحسب مزاجه "لم يوجد في العالم كله، ولن يوجد فيه، رجل ذو علم أكيد عن الآلهة... فالآدميون يتصورون أن الآلهة يولدون، ويلبسون الثياب، وأن لهم أصواتاً وصوراً كأصوات الآدميين وصورهم. ولو كان للثيران والأسود أيدٍ مثلنا، وكان في وسعها أن ترسم وتصنع صوراً كما يفعل الآدميون، لرسمت لآلهتها صوراً وصنعت لها تماثيل على صورتها هي؛ ولو استطاعت الخيل لصورت آلهتها في صورتها، ولصورت الثيران آلهتها في صورة الثيران. والأحباش يصورون آلهتهم سوداً فطس الأنوف؛ والتراقيون يصورون آلهتهم زرق العيون شقر الشعر...ألا إن ثمة إلهاً واحداً يعلو على الآلهة والبشر؛ لا يشبه الآدميين في صورته ولا في عقله. فهو كامل الرؤية، وكامل الفكروالإدراك. وهو يسيطر على الأشياء كلها بقوة عقله" ويؤكد عبدالرحمن بدوي في "ربيع الفكر اليوناني" بأن كزينوفان في قصيدته "في الطبيعة" كان موحدا رغم ذكره للآلهة في صيغة الجمع لمتطلبات شعرية وفنية، ولكن لا يجب أن يُفهم هذا التوحيد بأنه توحيد على صورة الأديان السماوية اللاحقة كاليهودية أو الإسلام. ذلك أن الله عند كزينوفان هو الطبيعة والطبيعة هي الله. وفكرة الوحدة المطلقة بين الله والطبيعة أدت به إلى القول بوحدة الكينونة وقدمها وثباتها، وأن عدم التغير هي ميزة الكينونة، رغم عدم إنكاره للتغير والحركة في الظواهر والحوادث الجزئية، وهو الفرق الجوهري بينه وبين بقية فلاسفة المدرسة الإيلية الذين يرفضون التغير. وكان يرى أن الأشياء كلها، بل والناس أيضاً، مخلوقون من الطين والماء حسب قوانين طبيعية، وإن الماء كان في يوم من الأيام يغطي الأرض بأجمعها مستندا في قوله إلى الحفريات البحرية التي نجدها عادة بعيدة عن شواطئ البحار وأحيانا في المرتفعات وعلى رؤوس الجبال. ينقل عنه أنه بحث في الحفريات ووجد قواقع في قشرة الأرض و حفريات لأسماك في الصخور و أستخلص من ذلك ان الماء سابق وجوده على اليابسة و ان الأرض ظهرت من البحر و توقع ان تعود مغمورة بالمياه ثانية وتنتهى الحياة على اليابسة ثم تتكرر الدورة و تبرز اليابسة من البحر ثانية و تعود الحياة فيها كما سبق، لذلك استنتج البعض أنه أول من قال بالتطور. كذلك ارتأى ان الشمس و النجوم عبارة عن بخار ماء مشتعل والشمس تسير في خط مستقيم و تختفى بنهاية اليوم، والشمس المشرقة في صباح اليوم التالى هى شمس أخرى من بخارماء حديث التكوين. ويرى أن كل ما يحدث في التاريخ من تغير، وكل ما يحدث في الأشياء من فرقة وانقسام، ليس إلا ظواهر سطحية، وأنه من وراء هذه الظواهر وهذا الاختلاف في الصور والأشكال هناك وحدة أزلية لا تتغير أبداً هي حقيقة العالم الباطنة الداخلية الحقيقية. كزينوفان إذا لم يقل بالعناصر الأربعة كغيره، بل قال بعنصر واحد وهو التراب أو الطين. لقد كان في الحقيقة تلميذا للفيلسوف أناكسيميندريس الذي كان فيلسوفا يهتم بالطبيعة، وأضاف كزينوفان الجانب الديني والإلهي لهذه الفلسفة الطبيعية، منتقدا الأنتروبومورفيسم في الديانات اليونانية، مما يجعله يخطو خطوة جبارة نحو فكرة التوحيد والتنزيه.
يعتبر كزينوفان أيضا مؤسس الإبستيمولوجيا أو نظرية المعرفة، ومن أوائل المفكرين الذين فرقوا بين الإعتقاد belief وبين المعرفة knowledge، حيث أنه يمكن للإنسان أن يعتقد بمعرفته لشيء ما دون أن يعرفه حقيقة. وهذا ربما يعني بكل بساطة أننا لا نستطيع أن نحصل على معرفة شيء ما بمجرد النظر إليه، بل يجب الحصول على أكبر ما يمكن من المعلومات ومعاينة الشيء من كل الجوانب للحصول على معرفة يقينية. وهو الذي يقول بأن الآلهة لم تكشف للإنسان الفاني جميع الأشياء منذ البداية، بالأحرى تركته يسعى على مرور الزمن ليكتشف ما هو أحسن. ويعتقد بـ "حقيقة الواقع"، غير أن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى هذه الحقيقة. وفي القليل من الشذرات المتبقية من أشعاره يمكن تخمين بوادر نظريته المعرفية. حيث يتسائل عن طبيعة وماهية المعرفة المتاحة للإنسان، وهل هذه المعرفة، مهما كانت طبيعتها نتحصل عليها بواسطة القدرات الإنسانية أم بواسطة نوع من الوحي الإلهي؟ وأي دور تلعبه حواسنا في الوصول إلى معرفة الواقع؟ وحسب بعض الروايات فإن كزينوفان لا يثق في الحواس ويعتبرها مصدرا للخداع والوهم، قد يذهب العقل ذاته ضحيتها، ولذلك يجب الإبتعاد عن كل ما هو ظاهر ومحسوس والثقة في العقل وحده. وقد انتقد بشدة فكرة التناسخ عند فيثاغورس وسخر منها وقام بنقد مماثل للعادات والتقاليد الإجتماعية السائدة في ذلك الوقت في المجتمع اليونانى، وبالذات المبالغة في تقدير وتكريم المصارعين والملاكمين والألعاب القائمة على القوة العضلية، والمبالغة في هذا التكريم لدرجة تأليه البعض منهم، لذلك قال كزينوفانيس في ذلك ساخرا " حكمتنا خير وأبقى من قوة الرجال والخيل " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طيران الاحتلال الإسرائيلي يستهدف سيارتين في بلدة الشهابية جن


.. 11 شهيدا وعدد من الجرحى في قصف إسرائيلي استهدف سوق مخيم المغ




.. احتجاجات ضخمة في جورجيا ضد قانون -النفوذ الأجنبي- الذي يسعى


.. بصوت مدوٍّ وضوء قوي.. صاعقة تضرب مدينة شخبوط في إمارة أبوظبي




.. خارج الصندوق | مخاوف من رد إسرائيلي يستهدف مفاعل آراك