الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مركز البحوث العلمية -6-

علي دريوسي

2018 / 3 / 30
الادب والفن


غالباً ما كان اِلياس يتناول عشاءه وحيداً، يقرأ وحيداً، لاحقاً وخاصة بعد حديثنا المُقْتضِب مع طوني شعرت بتفاقمِ اِنكماشه على ذاته، ثم علمت مصادفة أنَّه قد قابل نائب مدير المركز، المرأة التي تحمل صليبها أيضاً، حدست بأنَّه قد حدَّثها على الأرجح عن رغبته بالاستقالة والعودة إلى الجامعة ليتم تعيينه بصفة مهندس ريثما يترشَّح لمسابقة المعيدين.
جاء يوم الخميس الذي يشعرنا بنهاية الإسبوع، رأيت اِلياس في الصباح الباكر منشغلاً بلملمة أشيائه وتوضيب حقائبه، لم ينس شيئاً حتى شفرات الحلاقة، حتى بقايا المكدوس والزيتون والجبنة، أعادها إلى حقيبته، لم يقل شيئاً عمّا حصل معه، لم يخبرني عن وجهته، لم يزوِّدني كزميل دراسة وسكن بأدنى معلومة، لم يشرح لي أسباب قراره بالرحيل أو بالانتقال من السكن، تمتمت لنفسي: "ربّما يرغب بالعيش في مكانٍ آخر لا في سكن المركز".
حين سألته عن أسباب اِضطرابه وتَشَوُّشه أجابني بعصبيةٍ واقتضابٍ: "حتى الحمير لا تعيش في هذه البيئة الجافة، بت أشتاق لأغاني فيروز الصباحية، للفرح والضحكات، للموسيقى ولأصوات الصبايا، بعد أن صَمَّ ضجيج أصوات الجوامع مسمعي، تعبت من كل شيء ولم أعد أحتمل البقاء هنا، سأترك الدراسة وأتقدَّم بإضبارتي لتعديل تعييني".
أحسست لوهلةٍ بالهلع، قلت له: "ابقَ رائقاً يا رجل، لا تيأس بهذه السرعة، الصبر مفتاح الفرج".
قال اِلياس: "المهندس المُبدِع كالحِصان الجامِح لا يحتاج للصبر بل لقِطَع السُّكَّر".
قلت له: "دع عنك التَشاؤُم، التَّفَاؤُل هو دَّسَمُ الذكاء ومحرك الإبداع ". ثم أطلقتُ ضحكةً عالية كمن يحمي نفسه من البكاء.
لم يتفاعل اِلياس مع كلماتي، أخرج من جيب سترته مشطاً صغيراً، سوّى به شعره، أعاده إلى جيبه ودخل غرفته ليتَّأكد من خلوها من حاجياته، وقال وابتسامة سخرية قد اِرْتَسَمَتْ على وجهه: " وداعاً أخي أحمد، لعلّنا نلتقي مرة ثانية ذات يومٍ في فرنسا أو أمريكا أو ألمانيا، من يدري".
ثم أضاف: "أنصحك بالهروب من هذا السجن، مستقبلك ليس هنا وإنَّما في الجامعة، لا تترك فرصتك في المعيدية تُسرق من يديك".
*****
غادر اِلياس دون أن يخبرني كيف حل مشكلة الكفالة.
شعرت بالوحدة والخوف من المجهول، لم أستطع التركيز في ذاك اليوم، لم أرأ، لم أكتب شيئاً ولم تغفل لي عين، تناولت طعامي دون شهيةٍ، اِنحصر تفكيري في المرحلة القادمة وحسب، كان السؤال الذي دوَّخني: "أأبقى هنا أقاوم، أم أهرب تاركاً كل شيءٍ ورائي"؟ كان هذا السؤال بمثابة الكابوس الذي أرّقني لعدة أيامٍ لاحقة.
حلمت أنَّ أمي زارتني في شقتي الطلابية، كانت عابسة، أرادتْ أنْ تمتحنني باختصاصي الذي اِخترته، أعطتني كتاباً اِختصاصياً قديماً في علم التصميم كُتِبَ بالأحرف اللاتينية، فتحتْ الكتاب على الصفحة 78 وقالت: إقرأ! انتابني رعشة حُمَّى، تَصببت عرقاً، أجبتها كتلميذٍ غير مطيع: "لنْ أقرأ ، أخجلُ أنْ أقرأ في حضرتكِ". رمتني بتلكَ النظرة التي خَبرتها في طفولتي المنسية، طَأْطَأَت رأسي مُعتذِراً وبدأت بالقراءة. كانت قراءتي بطيئة، خجولة، تَعبّقُ بالأخطاء وكأَنَّني عدت إلى غار ضيعتي، وكأَنَّ أمي عادت من موتها.
*****
كنت خجلاً من أن يقول الناس: "عاد أحمد إلى الضيعة بعد أن فشل في المركز". كنت حزيناً لأنَّني إذا ما هربت من المركز لن أستطيع أن أجلب أبي للإقامة معي لبضعة أيام كما تمنيت، نمضيها معاً في شوارع وحانات هذه المدينة الغامضة. كنت أجادل نفسي محاولاً إقناع ذاتي المُلبَّدة، تارة بالهروب وتارة أخرى بالبقاء.
من جهةٍ كنت أهذي بأني إذا ما بقيت هنا ولم أحصل على فرصتي بالسفر بعد نهاية الدراسة سأُصاب بالاختناق، سأموت في صحراء السفيرة تحت الأرض، سأموت من شدة الضغط واستشراس العفن البيروقراطي وأمراض الآخرين، سأموت وأنا أنتقل من مكتبٍ إلى آخر بين جَمْر الإمكانية الْمَأْمُولة وبرودة السلطة الحاكمة، سأموت قهراً كما مات الموظف الحكومي إيفان تشرفياكوف في حكاية أنطون تشيخوف، ولعلني أنتحر كما اِنتحرت بعض الشخصيات العالمية. لكنني لن أنتحر إلا في مدينتي، وحدها صخور البحر من ستشتاق إلى جسدي، وقبل ان أخطو هذه الخطوة سأكتب رسالة انتحارٍ، قد أكتب مثلاً:
"كانت وما زالت الحياة كئيبة، تحثّ على النَّوم الأبدي، الحياة ومضة يبزغ نورها ثم يختفي كالفجر الكاذب، الحياة وهم كالجنين الكاذب، الحياة عاطلة كالسّلاح الكاذب. سيدوم حزني إلى الأبد إن لم أمت، ستطاردني العيون القميئة، سامحوني لقد مللت من كل شيء، ضاع كل شيء مني، لم يأت الأحبة منذ زمن لزيارتي، لم أعد أستطيع الطعام ولا النوم، الحياة لم تعد تحتمل، صفقوا أيها الرفاق لقد شارفت حياتي على النهاية، وأنا سعيد بهذه النهاية ولست خائفاً أو نادماً، ها أنا أقف على قمة أعلى بناية في المدينة، المنظر بديع جداً من هنا، أنصحكم بتجريبه يا رفاق، أنا الآن على وشك القفز إلى صخور البحر، أنا على وشك الموت، سأصبح أخيراً حراً معافى، سيكون اِنتحاري هو الشيء الحقيقي في حياتي، سأختار الموت على عار البقاء لوحدي في عزلتي وكآبتي، لن أستسلم للعزلة، سأهزمها بانتحاري، ها أنا أرتطم بالصخور ذات النتوءات الحادة كالسكاكين، ها هي تمزق جسدي، لا تحزنوا على موتي فهو الشيء الوحيد الذي اِخترته في حياتي عن قناعةٍ".
*****
وعلى الضفة الأخرى كنت أعرف أنَّ قدرتي على ضبط النفس في الأزمات هي علامة أكيدة على ثقافتي وأنَّ الانتحار ليس من شيمي وأني لم أُخلق للفناء بل للبقاء، بالبقاء الناجح وحده يحيا الإنسان، به يقضي على حسّاده. كنت أحلم بالتسكُّع والتيهان في حارات مدينة حلب الجديدة والقديمة، حيث الأرمن والأغنياء، حيث تعيش النساء، حيث المطاعم والخمَّارات والمنازل المفتوحة على الشمس، أحلم بسيارة بيجو بيضاء، بسائقٍ يفتح لي الباب وسيارة أخرى ترافقني لحمايتي، رحت أتخيِّل نفسي شخصاً مهماً برفقة اِمرأة جميلة. ولكي أحقن نفسي المتعبة بجرعاتٍ من القوة والثبات والتحدي رحت أسترجع مغامراتي ومشاهداتي للنساء في الجوار في الأسابيع الأخيرة التي مضت على وجودي في هذا المبنى.
*****
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة