الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاربة لمنع صدام حضاري بين ضفتي البحر المتوسط

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2018 / 3 / 31
مواضيع وابحاث سياسية




تعددت العمليات الإرهابية في السنوات الأخيرة على ضفتي البحر المتوسط، آخرها عملية كاركاسون في فرنسا يوم 23مارس2018، وكلما وقعت عملية إرهابية، تجدد النقاش حول الأسباب والإنعكاسات، وأعاد البعض فكرة الأمن المتوسطي، كما تستغل بعض الأطراف ترسانة إعلامية لتوجيه الأوروبيين ضد أطراف محددة قبل أي تحر حقيقي عن هذه العملية الإرهابية أو تلك، فهل من المعقول أن يصرح الوزير الأول الفرنسي بعد عملية الإختطاف في كاركاسون بأن العملية إرهابية؟، فهل هناك شك في ذلك؟، فكل عمل يرهب الناس خاصة الأطفال هو عمل إرهابي، أننا اليوم في حاجة كبيرة للتفكير في منع أي صدام حضاري بين ضفتي المتوسط بفضح الذين يختفون وراء هذه العمليات.
عرف البحر المتوسط في الحقيقة عدة حروب عبر تاريخه الطويل، أهمها الحروب الصليبية التي حتى وأن حركتها مصالح الملوك، إلا أن للدور المسيحي والبابا أوروبان الثاني دورا كبيرا في تحريض الفلاحين الأوروبيين آنذاك على الكراهية والدخول في حرب مقدسة ضد المسلمين تحت غطاء تحرير قبر المسيح، لكن اليوم نجد قوى عالمية، وعلى رأسها أمريكا تحرك بشكل غير مباشر وخفي بعض المتطرفين الدينيين عندنا بهدف إقلاق أوروبا خوفا من منافستها على صعيد الصراع حول الزعامة العالمية، وهو ما يدفع إلى ردود فعل في أوروبا وبروز أنظمة شبيهة بالنازية يمكن أن يقوموا بتصفية المسلمين هناك كما فعل هتلر مع اليهود، ويحافظوا على تحالف قوي مع الولايات المتحدة الأمريكية في إطار مايسمونه الدفاع عن الحضارة الغربية كما نظر لها صموئيل هننتغتون في كتابه "صدام الحضارات"، ويمكن إتخاذ ذلك كذريعة لإعادة إستعمار أوروبي وأمريكي لبلدان في جنوب المتوسط، لكن تحت أشكال أخرى تختلف عن أشكال الإستعمار السابقة.
وتعد القضية الفلسطينية من أكبر مشاكل حوض المتوسط، وهي أحد أسباب التطرف بسبب شعور المسلمين بالظلم من جراء إنحياز قوى غربية للهمجية الصهيونية ضد الفلسطينيين، ويعد الحل العادل لهذه القضية عاملا رئيسيا لتجفيف التطرف الذي تغذيه أيضا مواقف مسيئة للإسلام، وكأن قوى خفية تدفع المسلمين عمدا للتطرف مستعينة بالبافلوفية المبنية على الفعل ورد الفعل العاطفي المدمر، وذلك كله تنفيذا لإستراتيجيات دولية كبرى.
لكن أكبر تهديد مستقبلي هو إمكانية إندلاع حربا حضارية في حوض المتوسط طبقا لنظرية هنتغتون، إذا لم يتم إحداث ثورة فكرية وثقافية للقضاء على روح الإنغلاق وتحييد المتطرفين في ضفتي المتوسط، فهذا الحوض يمثل حدود التماس بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وكذلك بين الغرب والإسلام، فهو بقدر ما كان مركز تثاقف وتبادل تجاري عبر التاريخ بقدر ما كان أيضا مركز صراعات دينية وحضارية وثقافية كالحروب الصليبية، والصراع العثماني-الأوروبي، ثم إستعمار دول شمال المتوسط لجنوبه، وخلف هذا كله أحقادا تاريخية مؤثرة إلى حد اليوم، وهي من العوامل الأساسية المغذية للتطرف في ضفتي المتوسط، مما يتطلب معالجتها في العمق وفي الجذور بإعادة النظر في المناهج التعليمية في كلتا الضفتين، وكذلك بعمل جاد بناء للسلم في مجالات الفكر والثقافة والإعلام، وخاصة في المجال التاريخي والديني، ومنها ضرورة الإعتراف بجرائم الإستعمار في بلدان جنوب المتوسط كالجزائر.
لكن ما يخشى هو سعي الجماعات الإرهابية إلى جر المهاجرين المسلمين في أوروبا إلى الصراع بينها والدول الغربية بدعوى مواجهة الغرب، مما سيقوي المتطرفين في كلتا الضفتين، ويسهل وصول متطرفو الغرب إلى السلطة، فيشعلون حربا ضد المسلمين هناك كما فعلت النازية مع اليهود، وإن وصل المتطرفون إلى السلطة في الغرب وفي بعض دولنا، فإن حربا حضارية دموية ستشتعل في المتوسط، لتتوسع عالميا، ولا يستبعد أن تكون الجماعات الإرهابية مجرد ذريعة للحروب الإستباقية التي نظر لها هننتغتون قبل بوش، ثم إعادة إستعمار بلداننا الضعيفة بأشكال وأساليب أخرى لم تفصح بعد عن طبيعتها.
ولتجنب ذلك كله يجب القيام بثورة ثقافية وتعليمية شاملة على ضفتي المتوسط سواء الشمالية والجنوبية بإعادة تدريس التاريخ بشكل مشترك، ونزع فتيل الكراهية بين الضفتين نتيجة تدريس تاريخ يحمل الآخر مسؤولية مآسيه كبواتييه والحروب الصليبية والغزو العثماني وحروب الإسترداد الإسبانية وكذلك الإستعمار الأوروبي الحديث التي يجب أن تعترف دول الشمال بجرائمها في دول الجنوب.
كما يجب أن تنزع أوهام موجودة لدى البعض من المسلمين وكذلك الأوروبيين بالإعتقاد أن ما يسمى ب"الحضارة الغربية" هي حضارة أنتجها الغرب وحده، وهو خطأ فادح لأن كل الحضارات هي نتاج الإنسان، فما يسمى بالحضارة الغربية قد ساهم فيها أيضا المسلمون، فكم نحن بحاجة اليوم إلى تصحيح المفاهيم، ولهذا أخذنا من مكتسبات هذه الحضارة هي في الحقيقة أخذ جزء من مساهمات أجدادنا.
فيجب أن تعترف أوروبا بأن الإسلام أيضا جزء من هويتها، وتكف عن الحديث عن حضارة مسيحية-يهودية ونتاج الحضارة الرومانية-الأغريقية، فيجب أن تعترف أن ما يسمى بحضارة أوروبا أو الغرب هي أيضا نتاج لحضارات أخرى سابقة، ومنها الحضارة الإسلامية والفرعونية والفنيقية والأمازيغية وغيرها، فقد تفاعلت كل هذه الحضارات فيما بينها.
هذا مايدفعنا إلى تسجيل ملاحظة هامة جدا لتجنب أي صدام حضاري في المستقبل بين ضفتي المتوسط، فلم تكن الحضارة إطلاقا خاصة بمنطقة دون أخرى أو جنس دون آخر، فحضارة ومدنية اليوم، والتي غالبا مايصفها البعض بأنها حضارة غربية أو أوروبية، فهو في الحقيقة خطأ منهجي فادح وله آثار وخيمة يعاني منها مثلا الكثير من المسلمين بسبب هذا الإعتقاد، فأي حضارة كانت هي نتاج الإنسان عبر التاريخ، فهذه الحضارة اليوم ولو كان يلعب فيها الإنسان الغربي اليوم دورا كبيرا، إلا أنه لما وصل إلى ذلك لو لم تساهم فيها شعوب أخرى عبر التاريخ، ففي الحقيقة يمكن لنا القول أنه قد ساهم فيها الإنسان الأول الذي اكتشف النار أو الدبوز بصفتها آداة إستخدم في التاريخ الغابر، كما ساهم فيها المسلم وغيرالمسلم، لكن للأسف اليوم نجد البعض من المسلمين يرفضون كل ما يأتيهم من الغرب بإسم الدين ورفض الآخر، وقد تناسى هؤلاء أن ما أنتجه الغرب حضاريا هو مواصلة ونتاج لمساهمة المسلمين وغيرهم في هذه الحضارة الإنسانية، كما أن ما يسمى بالحضارة الإسلامية هو في الحقيقة إستمرارية ونتاج للحضارة الرومانية-الأغريقية السابقة، وهذه الأخيرة أيضا هي نتاج للحضارات السابقة سواء الفرعونية أو البابلية أو السومرية أو الأمازيغية من قبل وغيرها من الحضارات، فقد صدق الكاتب المصري طه حسين الذي دعا في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" إلى الإقتباس من الحضارة الأوروبية، لأنها في الحقيقة "ما هي إلا بضاعتنا قد ردت إلينا".
وأعتقد أنه لو أخذنا بهذا المفهوم لأنتفى نهائيا ما يسمى اليوم بصدام الحضارات الذي وقع في فخها البعض من المسلمين في إطار إستراتيجية محكمة وضعت في المخابر الأمريكية بعد نهاية الحرب الباردة لإيجاد مبررات للإستيلاء على ثروات بلدان العالم الإسلامي بدعوى محاربة الإرهاب الذي يشجعه الغرب، وينفخ فيه ليكبر ويتضخم ويضرب إستقرار هذه البلدان، فيجب علينا أن نميز جيدا بين الحضارة والمدنية والمجال الثقافي، فالأول هو حق البشر جميعا، وقد ساهم الجميع في هذه الحضارة اليوم، أما في المجال الثقافي والهوية، فيجب إحترام بعضنا بعضا، ولا أحد أفضل من الآخر، فالثقافة والهوية تمثل شخصية شعوب مثلها في ذلك مثل مختلف مميزات فرد تميزه عن الفرد الآخر، وهو لا يعني صراع بين فردين لتغيير تلك المميزات الوراثية فيه.
كما يمكن التقريب بين ضفتي المتوسط ونزع الأحكام المسبقة والمخيال التي تؤدي إلى الكراهية وعدم الفهم ن ونزع فتيل الصراعات وذلك بتدريس الأديان الثلاث في كل مدارس حوض المتوسط بصفتها أديانا سماوية تشترك في الكثير من القيم، وأن الصراع في الحقيقة ليس صراعا دينيا بل صراعا بين ممارسات وتأويلات للدين انشأها ونشرها رجال دين وسياسيين على الضفتين لأغراض سلطوية وتوسعية لاأكثر ولا أقل.
فيجب على أوروبا الكف عن النظرة الدونية لدول الجنوب وثقافاتها ودينها، وأن تتلخص من الصور المشوهة التي غرسها قرون من الإستشراق الغربي الذي سعى لإنشاء هوية غربية نقيضة ومتعالية على هوية شرقية، بل يجب أن تعمل على إبراز هوية متوسطية متوازنة لا تقصي أي بعد من الأبعاد المكونة لها.
لكن العمل الثقافي غير كاف على الضفتين إذا لم يصحبه مساعدة إقتصادية من دول الشمال الغني لدول الجنوب الفقير، بل بإمكانها القيام بمشروع إقتصادي شبيه بمشروع مارشال الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية في أوروبا بهدف الحد من المد الشيوعي، أما هذا المشروع الأوروبي فهدفه على المدى المتوسط في خدمة مصلحة أوروبا ذاتها، لأنه سيحد من المد الديني المتطرف المنتج للإرهاب، كما سيحد أيضا من الهجرات التي تهدد أوروبا، وسيحمي أوروبا من تزايد التيارات المتطرفة فيها، والتي يمكن أن تهدد ديمقراطيتها وسلمها، فعلى أوروبا أن تدرك أن أمنها مرتبط بأمن جنوب المتوسط، بل يمتد حتى إلى جنوب الصحراء.

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على الحرب في غزة تتحول لأزم


.. هجمات الحوثيين في البحر الأحمر تعود إلى الواجهة من جديد بعد




.. التصعيد متواصل بين حزب الله وإسرائيل.. وتل أبيب تتحدث عن منط


.. الجيش الروسي يحاول تعزيز سيطرته على شرق أوكرانيا قبيل وصول ا




.. مع القضم الإستراتيجي والتقدم البطيء كيف تتوسع إسرائيل جغرافي