الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم مات علال ولد عيشة...

عبد الغني سهاد

2018 / 3 / 31
الادب والفن


لواحات صلصالية ..
لوحة رقم 19 :
( يوم مات علال .ولد عيشة...)..
_________________

19 هو رقم هاتف مفوضية الشرطة تستعمله الرعية لاجل اخبار الشرطة بحدوث جريمة او اعتداء ..او سرقة....او حتى لاجل الاستخفاف برجال الامن ..لانه غالبا ما لا يتدخلون ..و19 هو رقم معدود من الارقام المنحوسة..حيث ..لا يشغل سوى في الظروف النجسة ..وتوافق صدفة مع هده اللوحة .. التي تعالج موضوعا نجسا ..على اية حال ..ابدأ اللوحة من بدايتها ..واقول لكم..
لست كلبا حقيرا ....اقسم لكم على ذلك..قلبي منقبض والبرد يكنني ..يزاح في دواخلي الظنون الخبيثة ..يجدوى هذه الحياء ...اخرج من حفرة ميت ..اقدف أخر حجارة اعترضت طريقي اليكم ..واراكم في هيكل كبير اسواره العالية شامخة بكأبتها في العتمة مسورة بالقمع والخوف والارهاب..جميع الابواب اغلقت في وجهي ..امشي وحدي في الطريق المظلم تحت المطر الغزير دون ان اشعر بالقطرات ..او ان شعرت بها كانها مسامير حادة تنشب في ما تبقى من .هيكلي ...اسرع الخطى ..لا ادري لاي سبب خرجت من العدم الى هنا قربكم ..لست ادري .لكنى بعيد عن الرغبة في الانتقام..من احد منكم...كانت تلك الاعداد الصغيرة في القرية النائية تبكي في المساء ووعدتها ان اجلب لهما قصيدة ساحرة من عنان السماء ..لم اجد هناك شيء في السماء ..سوى الغمام والمطر ..والبرد ..والرعود القوية..
وانا ميت ...وما احزن موتنا جميعا ..بسطاء كنا واغنياء ..؟ لم استطع فك سر هذا الموت ..كيف يموت الناس ..كما تموت الاحاسيس بدواخلنا..كيف نكون ولا نكون .. ..؟...اقول هذا الكلام على خلفية انانية مقيتة ..اقسم بالله العلي العظيم ان لم تصدقوني ساعود الى مخبئي تحت الثرى ..واتوقف عن مكابدة الاسئلة ..؟ لماذا نموت ؟داخل القبو المظلم بدات احتفظ بوقاري ..ولا افكر فبما جرى قبل فيما يسمونها الحياة العملية فقط لكونها مريرة ...لكن ماهي الموت هل هي كذلك مريرة ..لست في عجلة من امري ..ساتابع دحرجة السؤال الى نهايته ..لا ارجو منكم اجوبة ..حيث لا اجوبة هي قاطعة ..السؤال وحده ابدي ولا نهائي ..لم تكن لجنازتي مراسيم مميز ..مات فلان ..يد زوجتي كانت ترتعش وهي تغلق علي النوافذ ..بعد اغلاق عيوني ..كنت احملق في العدم ..وكنت اهمس اليها اني قادم ..موكب جنازتي كان عاديا معظمه من الاطفال والمعلمين توجهوا صامتين الى المقبرة القريبة من الحي.جدرانها بيضاء قصيرة يستطيع السكارى عبورها والسمر ليلا بها الى الفجر ..لحظة .توقفت حركة المرور في ذلك المنعطف ..وجمد المشيعون لجثماني ...سال احدهم ..من مات؟ ورددت السؤال لوحدي في الرمس ...كلنا سنموت ؟
قبل دخولي القبر ..رش حفاري القبور بالطيب والعطور وماء الزهر على في حفرتي.. وقعت المفاجأة ..لم ابعث من جديد كما سيعتقد بعضكم ..لكن احدهم انفلت من الحلقة و اخد..يخطب في الناس الذين رافقوني الى منزلي الاخير..كان المسخ يمثل ..دور الميت ..دوري.. ..وكنت اسمع ولا احرك ساكنا ..وكيف للميت ان يتحرك..المسخ كان..رجل دين يقول عن نفسه ..فقيه..كان يرتدي جلبابا اسودا و يدلي لحية سوداء ..اخد يصيح في المشيعين في خطبة طويلة .. ويلكم من عذاب القبر.. من عذاب القبر .. ..و وعظ وارشد..ورغب بالجزاء و وارهب بالعقاب ..وونصحهم بالعمل لاجل هذه اللحظة التي انا فيها بالذات..هذا المعتوه لم يكن ليفكر في حال الميت قربه ..اهكذا يودع الاموات بتمثيلية مملة مكانها المسجد او الكنسية وليس المقبرة .لم يراعي هذا الابله كرامة الميت ..ارتمى بقدميه ودخل القبر وهو ممدد يخطب في الجوقة ..ونعشي ممدود وراء الحشد..يالالهي ..لماذا هذه البداية المخزية قبل دخولي الى سردابي الرطب المظلم العظيم ..سمعته يقول ..وان كان فاجرا يستقبله القبر بضغطة قوية وتلسعه الافاعي والعقارب ..تبا له من رجل دين معتوه..ففي الحياة وحدها توجد هذه الافات ..مع اشباهه..لما تركوني وحيدا و ...لا تصدقوه..ساكون ممتنا لكم ..حينها ؟ لكني اعرف انكم من الخوف ترتبكون وتصمتون .وترتكبون الحماقات ..التي كان ولابد ان تتجنبوها من تلقاء انفسكم ...لا تهتموا لامره ..اهتموا باموركم الحياتية هذه ليست لحظة وعظ وارشاد..لا ابدا.....لا تظنوا اني اكذب على احد منكم ..تفصل مابني وبين رحمي الاخير ..رحم الارض ارفق بي من كل الارحام ..ويتوسطكم ذلك المتفيقه ..يهرف عن عذاب قبر ونسي عذابه في الحياة وهو الاقسى ..ليس في قلب المسخ ذرة شفقة اورحمة ..فكيف سيرحمه الرحمان..وانتم توافقونه في ما يفعل كالاوغاد ..ارواحكم فارغة من كل معنى انساني ..الارض ارحم من نواياكم الخبية ومواويلكم الاثمة..هكذا تجاسرت و كنت اشتم الحشد الذي شيعني ..فيما مضى في الحياة كنت اكره الرعاع ..ونويت ان اغير افكاري في الموت ..لكن طبيعة الحشود هي الحشود في الحياة كما في الموت...المشيعون لجثماني هم في حيرة من امرهم كانهم يترقبون ..وينتظرون ما سيحدث ..يهزون رؤوسهم ويتلملمون ..ماذا ينتظرون لدفن هذا القرد مكاني ..ليجرب هل سينجو بنفسه من لمة القبر ..وتكسير العظام..وعرض اللحم والشحم وان لم يكن لي شحم للدود والحشرات في عالمها المظلم الجميل ..جربوه ..لتتعرفوا على مدي صدقه من كذبه..وتستمر مراسم دفني المملة ..بداية موسم الدخول لرحم امنا الارض ..هؤلاء الناس والاطفال على الخصوص مصابون بالملل من طول فصول مسرحية المسخ رجل الدين ..بدأوا يتعرقون ..ومنهم تحرقوا تحت اشعة الشمس .....في انفسهم يقولون اغثنا بدفن هذا المسكين ..لماذا الاطالة في المسرحية ..الانبياء والرسل والحكماء قالوا لنا ان نعجل بدفن الميت ..وايصال الخبز الى الفران ..والعروس لعريسها ..لاشك ان رجل الدين هو نفسه شيطان الدين ....وعلى مسافة مني ..سمعت همسا يقول :
- اليس الاحرى به بان يدهو له و يقرا على روحه شيء من القران ....
- عندما يتوارى الناس على القبر ..ويغادرون المقبرة سرعان ما ينسون كل شيء..سيتادولون في مشاكلهم .ويسرعون الى قضاء اغراضعم ...؟
- كانهم..دفنوا كلبا حقيرا ..
وصمتت الاصوات ..ولم اعد اسمع سوى حفيف التراب والحجارة ..وهي تترامي في الحفرة على سقيفة جثماني النحيف ..ولا شيء سوى البرد ..يزداد حدة ..ولا شعور ولا حس....احاسيس الميت ليست هي مشاعر الحي ابدا انتم تعرفون ذلك ..وساعرفكم على نفسي اللحظة
..اسمي علال ولد عيشة .( المعلم )..لست كلبا حقيرا كما همس بذلك احدكم هنا خلف نعشي ..ولا اظنه سوى ذلك المسخ الواعظ...كنت فيما مضى من الايام التي قضيتها في الحياة معكم ...اسكن حي الذئاب ..الذي تسمونه ..باسم اخر.. ..في مدينة قديمة قدم تاريخ هذه التربة كان يعبرها قطاع الطرق ..ويسكنها اليوم اللصوص والمجانين ..والفقراء ..ولولا هؤلاء المهمشين لغادرتها من زمن بعيد ..بها تنتصب صومعة شامخة تدل علي هذا التاريخ القديم ..يقولون بناها سلطان معتوه سرعان ما تخلى عليها وعلى اخواتها في بلاد الاندلس وعلى الملك ..ونحول الى درويش في سخرة درويش ملامتي كبير ..يلقبونه في المدينة ب(مول الخبزة )..ولا يعرف احد اين مات الملك.ورموا الدرويش بعد موته بالزمدقة ....على الاقل انا الكلب الحقير متت في المدينة ..وتعرفون موضع قبري ..عاركت ثلاثون سنة في ساحة التعليم ..العمومي بطبيعة الحال دون فائدة ترجي من جهودي...حيث تصطدم بمقالب الدولة الحاكمة التي ترقع سياستها التربوية..كل حين...وحاليا تريد التخلص من المدرسة العمومية...لتبقى الجهالة مستشرية بين الضعفاء.منا.. عملت بجد لكسب عيشي مع اسرتي ..دون طموح لي في المجد..ولا الثروة ..ولو كنت طموحا وذكيا لما اخترت مهنة التعليم ..كنت معلما سكيرا اعترف ..واذا ما شربت كاس خمر احمر فهو من مالي الحلال ولا ازول التدريس ان كنت مخمورا....و كانت البركة التي تسمونها بهذا الاسم كانت لا تفارق جيبي ..ولا اسرتي ..لم اكن اؤدي اي كان ..احببت القطط والكلاب..وكل اصناف الحيوانات الا الذئاب ..لكونها كانت تقلقني بجوارها للي في الحي...عدة مرات فكرت في تمشيط الحي منها...وطلبت العون من الاصدقاء..الذين تبرموا..من الاقتراح..ونفروا مني...قال احدهم...( ياولدي...الا ماكنتي ذئب ..تاكلك الذئاب..)...واخر...اكد على قوله..(.هذا زمن الذئاب..)...ولم اكن مقتنعا بما يقال..ولا زلت على قناعتي..
عشت فقيرا...وكذلك متت..كانت مي عيشة تقول عن والدي..عاش ما كسب..مات ما خلى..وارى ان ما انطبق على الوالد هو نفسه ينطبق علي...جيل بكامله تعلم القراءة والكتابة والتفكير على يدي...ولم اسعد يوما بمصادفة تلميذا من تلاميذي..في دروب الحياة..و.اعترف لي او..باح لي بانه كان يوما ما تلميذا..في فصلي..عرفت الكثير منهم تعرفوا علي في المقهى اوفي الطريق..لكنهم بمكر تجنبوني حتى السلام...علي لا يطيقوه....في نظرهم كنت ذلك المعلم الذي ليس له طموح. في الحياة.....لا يستحق..الاهتمام ..او الانتباه اليه..كما قال ذلك الوغد في شخصي وانا مهزوز على النعش.. انا مجرد كلب حقير..حقير في حياته..وفي مماته...
هممت بتمزيق الكفن...بعد مغادرة الرعاع..ومزقته فعلا..وركلت بقوة التراب المبلل..وجلست انظر الى باقي القبور ..المجاورة..ماذا سيقولون..هل كان الكلب الحقير..يتظاهر بالموت..هل كان بدوره يمثل...من فينا يمثل جيدا دور الميت...ذلك المسخ...ام انا...شعرت بالاعتزاز يغمرني...توقفت انفاسي وحسبوني...فارقت حياتهم..وولجت عالم الموت..في القبر لم يباغثني احد بالسؤال...ولم يعاقبني احد...لاشك...اني حققت تجربة في القبر..ولو لبعض الوقت..حتى لو كان قليلا...لا تصدقوا ذلك المسخ..ففي القبر ..هدوء...وراحة..لم تعرفوها ابدا في حياتكم...حتى من يسكنون الفلل للفسيحة .والقصور العالية...ففي القبر نزل من مستوى الف نجمة...لا احد يعكر صفو مزاجك...بشيء..ففيه انت في ضيافة وكرم امنا الارض...والهة الخصب..والرحمة...!...
في الحي...اشيع ن علال ولد عيشة...انه بعث حيا...وسكن المقبرة... وهو سعيد مع الاموات..ليلا..ومع السكارى..والمتشردون نهارا...يرتدي اكفانه البيضاء...ويقلز على قبره...وحيدا...لا احد اليوم يعترف بوجوده...اشاعوا.عنه امورا كثيرا....لا داعي لذكرها ....كلها سنذكر الايجابي منها...!
منها...انه يلقن كل من اعترض طريقه في المقبرة ..مبادئ العقلانية..والاعتقاد في تناسخ الارواح...ويقول لكل من التقاه...انه ليس هو ...اي ليس علال ولد عيشة...ولكنه شخص اخر تملك جسده..وهذا الشخص ابذي هو ..في كفنه الابيض ..هو كذلك معلم مغبون من بلاد الهند والسند...وان هذه الروح المناضلة ...عبرت البحار والمحيطات...واحترقت اقدامها عبر صحراء الربع الخالي ...وتشققت..على صخور الجبال العالية ..والاودية السحيقة ..لتحل بجسد علال ولد عيشة المقدس..روحه العالية الراضية المرضية ...صعدت حقا ..الى الملكوت ..لكن جسده تملكه اخر يشبهه..لكن الناس لا تسمع لمثل هذا الكلام الساذج...فعلال المعلم ..هو نفسه يعرف انه لا يفيد ولا ينفع ولا يضر سواء في حياته او في مماته....!..لذلك اختار لنفسه ان ينتهي الى العدم..منه واليه..ومن جملة المبادئ التي كان يلقنها لعشرته في رباطه الجديد في تلك المقبرة....التسلح بالحيطة والاحتراس من تجار الدين...وعدم الثقة في سلعتهم...منها عذاب القبر...والشفاء بالشعودة..والطلاسيم والخرافات..وو..ظهور الامام...على راس كل مئة عام..وحرر لذلك مقالات ونصوص يقراءها عليهم..لايمكن لاحدهم ان ينكر ما كانت لهذه المقالات والندوات في عالم الاموات من صدى واثر مهمين..ليس على المستوى التحسيسي الفكري...ولكن على الاجتماعي...حين اندلع الصراع الاجتماعي الظاهر والخفي مابين الاموات الفقراء...والاموات الاغنياء...وكان علال ولد عيشة رفقة عشيرته الجديدة من المتشردين..وشاربي الكحول..يشكلون الحكم..والجمهور المتفرج في نفس الوقت..كانت تغفل عنها السلطة...او تتغافل عنها..ولا تصدق ما يشاع من احداث...في المقبرة...
في ما يشبه البرق مرت الايام ..وتكلم احدهم من المقبرة عبر هاتفه المحمول...الى الرقم 19..
قائلا..: الشرطة ادركونا.....يحدث الان في المقبرة احداث رهيبة ..!!!!!
_ هل سال دم...؟
_ حمام للدم يسيل... الان في ...مقبرة ...!
_اي مقبرة ...؟
__ مقبرة..... حي الذئاب...؟..
حضرت الشرطة عين المكان...متاخرة..كما هي عادتها..كان الجاني..واقفا ينتظرها...والمجني عليه كالعادة ..لم يكن غير علال ولدعيشة ..كان يتمرغ في دمائه..تحول لون كفنه الى الاحمر..وحتى اخر رمقه ظل يسب ويشتم في ذلك المسخ..الذي تعرفونه ...و كان هو الجاني...،!!!..

عبد الغني سهاد.2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما