الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلاغة الانحراف في الشعر المغربي المعاصر

أحمد القنديلي

2018 / 4 / 2
الادب والفن


بلاغة الانحراف في الشعر المغربي المعاصر
أحمد القنديلي

تندرج هذه الدراسة في إطار المساهمة في بناء نحو للقصيدة المعاصرة بالمغرب ( 1). مؤكد أن هذا المنحى طموح، ويتجاوز إمكانات هذه الدراسة، ولكن مجرد الوعي المنهجي بضرورته كفيل ببوصلة الخطاب النقدي في اتجاه يمكنه من إنتاج شعرية محايثة للشعر، هاجسها الأساسي: البحث الدائم عن آليات القصيدة القائمة ورسم آفاق لآليات القصيدة الممكنة.
ولكن، أية شعرية يمكن بناؤها، والقصيدة المغربيــــة المعاصرة لا تولد مـــــــن مخاض إلا لتدخل في مخاض آخر، منطقها البنيوي: التحول المستمر؟
فإذا كان الشعر انحرافا أو انزياحا، فهو انحراف عن الأصل من حيث هو "الحقيقة " كما يجسدها نحو لغة التواصل ونحو النثر العادي. وهذا النحو إذ يجسد الحقيقة، فليس لأنها كذلك، بل لأنها الحقيقة التي يفرضها منطق التواصل ومنطق الواقع الجمعي. وإذا كان النثرـ وتبعا لذلك الكلام العادي حسب جون كوهين ـ يمثل الدرجة الصفر من الأسلوب (2) أو يقترب منها على الأقل فلأنه يقوم على مبدأ السلب. وتبعا لذلك فهو ذو مضمون جزئي ومحدد. أما الشعر فيقوم على مبدأ سلب السلب وتبعا لذلك فهو ذو مضمون كلي ولا محدد.
إن مقولة الانزياح / الانحراف معيارية في جوهرها. وبهذا المنطق ذاته حللت البلاغة الكلاسيكية الشعر، وقننت ضوابطه. ولهذا بقيت أسيرة الرؤية الفلسفية الميتافيزيقية التي لا تتجاوز حدود المقابلة بين الشيء وضده.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن جون كوهن حاول تجاوز مشروعه من خلال تجاوز هذا المنطق، حين أكد على أن الانزياح سلب يعيد للكلام إيجابياته الكاملة. وبهذا المعنى يصبح الشعر ذاتا ذات هوية ليس لها ما يضادها، إذ يصبح كلاما بلا سلب (3).
فحين نقول: " هذه الليلة باردة " فهذا يفترض أن ليلة سابقة لم تكن كذلك، أو ليلة لاحقة لن تكون كذلك . إن هذه الجملــــة تقوم على مبدأ التقابل المعجمي من حيث هو مبدأ إثبات مقابل نفــــي، أي مبدأ سلب. إن مقولة الدرجة الصفر للأسلوب مقولة ملطفة وهي لا تعني إلا الدرجة الأدنى التي يمثلها الأسلوب النثري مقابل الدرجة الأقصى التي يمثلها الأسلوب الشعري.
إن الشعر انحراف/ انزياح. ولكن إزاء ماذا ؟ إن هذا السؤال الإشكالي هو الذي يسمح ببناء شعريات متعددة تتمايز فيما بينها تبعا للجواب الذي تقدمه.
ونعتقد هنا أن الشعرية المفروض بناؤها ليست هي تلك الشعرية النموذجية "العلمية" التي تدرس الشعر أيا كان وأينما كان وفي أي زمان كان. ولكنها الشعرية التاريخية التي تدرس انزياح الشعر عن ذاته أي انزياح شاعر عن آخر، أو انزياح تيار شعري عن آخر، أو انزياح عصر شعري عن آخر.
ومع ذلك ، فهنا يبقى منزلق المنطق المعياري يتربص بنا، إذ سنحاول بوعي أو بدونه دراسة انزياح اللاحق عن السابق، وذلك على الرغم من أن تاريخ الشعر ذو منطق خاص، إنه ليس تاريخ خرق مستمر إلا كما يبدو، وليس تاريخ تقدم مستمر إلا كما يبدو أيضا.
غير أننا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار – في المقام الأخير – (4) معيار تملك اللغة الشعرية للعالم، من حيث هو تملك مأساوي مادامت المأساة جوهر الشعر والفن بوجه عام، (5) فإنه يمكن تجاوز مبدأ انزياح اللاحق عن السابق على الدوام.
ولكننا سنبقى هنا مرة أخرى أمام منزلق آخر لا مفر منه، هو منزلق الانتقائية الذي يفيدنا منهجيا ونظريا في إعادة النظر في التيارات والمذاهب والعصور الشعرية. أي في بناء سيرورة للشعرية في فضاءات تاريخية وجغرافية محددة بدل بناء شعرية عامة للشعر بوجه عام.
إن الشعر لا يبني ذاته حين يمارس الانزياح إيقاعيا وتركيبيا ودلاليا عن النثر أو الكلام العادي - في درجة الصفر- فحسب، ولكن حين يفعل ذلك، ويتجه نحو بناء الاستعارة الكبرى التي يمكن اعتبارها البنية العميقة للرؤيا الشعرية (6). بهذا المعنى سنحاول مقاربة الانزياح في بناء صورة الليل مثلا من خلال النماذج التالية:
1- يقول امرؤ القيس (7):
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلــــي
فقلت له لما تمطى بصلبـــــــــه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويـــل ألا أنجـل
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
تحضر صورة الليل هنا من خلال الإسناد المجازي. لقد أسند امرؤ القيس في البيت الثاني صفات حيوان قوي / الجمل إلى الليل، وذلك لتشخيص جبروته الذي لا يقهر. لا يمكن لهذه الصورة أن تكتمل ما لم نتصور هذا الحيوان القوي جاثما على جسد الشاعر ليحبس أنفاسه.
غير أن هذا الليل / الحيوان الضخم ليس جزءا من الزمن، بل هو الزمن في كليته من حيث هو زمن الهم و الإحساس بالضياع واللا جدوي أي بالفراغ .
في هذا الفراغ يقيم الشاعر من حيث هو ذات إنسانية ترغب في الامتلاء / الحياة، من غير أن تمتلك القدرة على الوصول إليه. وبين الكينونة المفروضة والكينونة المرغوب فيها يعيش الشاعر المأساة: يرغب في الحياة فلا يجدها، ويرغب عن الفراغ فيجده وحده؛ ليبقى في نهاية المطاف معلقا داخل مسافته المأساوية (8).
2- ويقول أحمد المجاطي :
في اللحظـــة الأخيرة
إذا تلاشى الليل
في سعلته الضريرة
يرفض أن يغسلني الفجر
وأن تشربني الغمامة
أبقى وراء السيف
والعمامة
ملقى على ظهر الثرى
ملقى
بلا قبر
ولا قيامة (9)
يحضر الانزياح هنا في صورة الليل من خلال الإسناد المجازي أيضا. لقد أسند الشاعر صفات لليل ليست من طبيعته. وبذلك شخصه في هيأة شيخ هرم يسعل، ويعيش لحظته الأخيرة.
إن المنافرة الدلالية التي يحضر بها الليل هنا هي التي أفضت إلى معنى كلي وشامل يتجاوز ما تقوله اللغة الشعرية، وما تريد قوله أيضا.
إننا إذن أمام ليل مؤنسن يعيش لحظة احتضاره أو أمام شيخ يعيش زمنه الأخير ويقاسي من ألم الاحتضار وفي الحالتين السياقية والاستبدالية نحن أمام صورة احتضار كونية.
وضمن هذا الإسناد المجازي يمارس الشاعر انزياحا آخر أبعد – لا يكاد يحضر في الشعر الكلاسيكي الذي يمارس فيه الخيال المتعقل أو العقل المتخيل لعبة الانزياح - عن طريق التحديد السلبي، وذلك في نعته للسُّعلة بالضريرة . وبذلك يؤنسن السعلة لتحضر في هيأة امرأة هرمة ضريرة تعيش هي الأخرى لحظتها الأخيرة.
إننا أمام عالم غريب. كل شيء يتأنسن ويتحرك ليشير إلى المعنى الشمولي الممكن.
فأن يشرع الليل في التلاشي معناه أن يعيش لحظة احتضاره. وأن يتلاشى في سعلته معناه أن يعيش احتضاره في ظروف قاسية. وأن يتلاشى في سعلته الضريرة معناه أن يعيش لحظة احتضاره بإحساس سوداوي لا يرى في العالم غير الظلام. بيد أن هذا الليل لا ينحرف انحرافا كليا عن ذاته إلا حين يمسي دالا لمدلول هو الشاعر الذي يتموضع في نهاية النص داخل مسافة توتر مأساوية هي المسافة بين الاحتضار والموت، وبين الموت والقبر، وبين القبر والقيامة.
وهذه المسافة هي في الجوهر مسافة فراغ تنحرف عن تلك التي موضع أمرؤ القيس نفسه داخلها، إنها مسافة تتاخم حدود الموت وتتجاوزها إلى ما بعد الموت بقليل دون أن تستريح لتدخل رحاب العالم الآخر:
ملقى على ظهر الثرى
ملقى
بلا قبر
ولا قيامة
3- ويقول محمد بنيس :
يا حارس غنبازك
هذا ليل
يتحدر من
أمواج مطفأة
أو
من شرفات
تسلم سهرتها
لنجوم
عارية بين الغزلان (10)
في هذا المقطع ينحرف الشاعر بالليل عن معناه الأصلي عن طريق التحديد السلبي في مجمل الأحيان ( أمواج مطفأة – نجوم عارية...) غير أن أهم ما تبنى به صورة الليل هنا هو وحدة الحواس (11) ـ كما بلورها أقطاب المدرسة الرمزية ـ التي جعلت رؤية الشاعر صوفية ، تحاول نفي الفاصل بين الشئ وغيره، ووصفه بما لا يناسبه ماديا وواقعيا بهدف الوصول إلى تحقيق ما يناسبه روحيا وخياليا .
يستهل الشاعر نصه بنداء منحرف عن النداء الحقيقي على مستويين: إن المنادي هو المنادى ذاته. فالأمر لا يتعلق بحوا ر موضوعي، بل بمناجاة ذاتية. وهذا معناه أن المسافة بين الطرفين غير موجودة. بيد أن الشاعر ينزَل هذا المنادى القريب منزلة البعيد إشارة إلى غفلته.
بين يقظة المنادي وغفلة المنادى تقوم مسافة توتر مأساوية. فالمنادى إذ يحرس الغنباز ليلا يحرس الفراغ المأساوي ما دام الغنباز يبعث رائحته ويورق أيما إيراق في الظلام، ولكن دون أن يستطيع الحارس استنشاقه أو رؤيته.
ليس الغنباز إذن هو مصدر المأساة، بل الليل . إن الشاعر في نحته لصورة الليل لم يركز إلا على ظلمته القاتلة. إنه ليل يتحدر من أمواج مطفأة. ومن شرفات مطفأة أيضا مادامت غير ساهرة. تبقى النجوم وحدها مضيئة مادامت عارية ولكنها ليست نجوما سماوية / حقيقية، بل أرضية تتحرك في أرض عجائبية يسكنها الغزلان. ولكن هذه الأرض بعيدة بعدا أسطوريا. وفي هذا البعد تقوم مسافة توتر مأساوية أخرى هي مأساة الفراغ.
4- ويقول عبد الله راجع:
هل يذكر الليل وجها رسمناه في الغيب ؟ هل يذكر الليل عينين لم تسرقا منك غير المسافة والبن مني ؟
وهل يذكر الليل طفلا كتبنا اسمه في الطحال .
فكان اللهاث حروفا
وكان العناق إلى آخر الليل : مازن (12)
في هذا المقطع ينحرف الليل عن ذاته حين يحضر شاهدا على ذاته، أي على السر الذي تم فيه. غير أن لغة الانزياح الشعرية وهي تحاول توثيق الشهادة تفضح كل شيء. هكذا يحول الفضح الليل إلى نهار يستحيل فضاء للرسم والكتابة واللهاث والعناق. وكل هذه الأشياء لا تنسج غير الهيولي / الحروف التي تتحول في خاتمة هذا المقطع إلى مادة لها صورة. أي إلى مدلول يشار إليه بدال يحيل على مرجع في الواقع هو الطفل مازن.
بين الليل الشاهد والليل المشهود عليه مسافة توتر مأساوية هي مسافة التناقض الصارخ بين الليل المجازي الأول الذي له دلالة الحضور الدائم، والليل الحقيقي الثاني الذي له دلالة الغياب مادام قد حضر، وتم ما تم فيه من رسم وكتابة ولهات ثم غاب وأصبح في خبر كان الذي كأن لم يكن حين تم تناسيه. وأمام هذا الغياب يقف الشاعر أمام الفراغ الذي بقدر ما يملؤه مازن بقدر ما تفرغه المعنية بالخطاب ـ في "نا" الدالة على المثنى هنا ـ من محتواه.
لقد كان من الممكن أن تكون هذه الأخيرة هي الشاهدة ولكن الشاعر تجاوزها لأنه يعرف سلفا أنها سترفض. ذلك لأنها حين كفرت بالحاضر كفرت بالذاكرة. ولذلك لم يجد أمامه إلا تكرار الاستفهام لتكرار التوكيد، وتكرار الفعل الماضي لإثباته، ونفي استمرار يته في الحاضر.
يتضح من خلال هذه النماذج أن للانزياح درجات تصعب المفاضلة بينها:
يرغب امرؤ القيس في الحياة فلا يجدها، ويرغب في الموت فلا يجده، ويرغب في تجاوز الفراغ فيعجز عجزا كاملا، ثم يضطر أخيرا للإقامة داخل مسافته المأساوية من حيث هي مسافة فراغ .
يعيش المجاطي لحظة الاحتضار القاسية، يتاخم حدود الموت، ثم يتجاوزها ليتاخم حدود القبر دون أن يتمكن من الوصول إليه، أو تجاوزه إلى العالم الآخر. وبذلك يقيم داخل مسافة الفراغ المأساوية.
يقيم محمد بنيس داخل ظلمة الليل القاتلة يرغب في تجاوزها للإقامة في أرض عجائبية بعيدة تراقص فيها النجوم الغزلان ولكن دون أن يتمكن من الوصول إليها. وبين الرغبة الجامحة والعجز المطلق يقيم داخل مسافة توتر مأساوية هي مسافة الفراغ .
يستنجد عبد الله راجع بالليل ليكون شاهدا على ذاكرة مشتركة مقدسة يريد لها البقاء. وبقدر ما يطمئنه وجود مازن / الشاهد، بقدر ما تزعزع المعنية بالخطاب في " نا" ـ الدالة على المثنى ـ كيانه ؛ لتجعله مقيما داخل الليل المجازي من حيث هو ليل الفراغ المأساوي .
لقد حاولنا مقاربة مستوى واحد من مستويات الانحراف الشعري. وقد بدا لنا أن الشعراء المغاربة يمارسون لعبة الانحراف في اتجاهات تتداخل لا لتتقاطع بل لتتمايز عن بعضها البعض.
وفي هذا التداخل والتمايز تكمن أصالة الشعر المغربي المعاصر الذي لا يتناص مع المقروء الشعري العربي والعالمي، بل يتناص أيضا مع ذاكرته الثقافية الخاصة والمتشعبة الجذور .
















الهوامش

(1) في دراسته للشاعر الجاهلي تأبط شرا ينحو أحمد بوزفور هذا المنحى. أنظر "تأبط شعرا" مطبعة النجاح 1990.
(2) Cohen (J) : Structure de langage poétique – Flammarion – 1966 – Paris
(3)أنظر المقال القيم لنزار التجديتي في مجلة دراسات لسانية وسيميائية ع 1 سنة 1987.
(4) يعتمد لويس آلتوسير هذه العبارة في تحليلاته.وقد استعارها من كارل ماركس في كتابه رأس المال. أنظر مجلة الجدل ع 2-3-85-1986.
(5) في سيمياء الشعر القديم. محمد مفتاح، دار الثقافة ط.1، س1982،البيضاء ص65 و ما بعدها.
(6) "المجاطي في الأعالي" مقال للعياشي أبو الشتا ضمن جريدة الاتحاد الاشتراكي / الملحق الثقافي ع 04-65 سنة 2001.
(7) ديوان امرؤ القيس دار صادر، بيروت (ب ت)
(8) نستفيد هنا من مفهوم "مسافة التوتر" الذي استعمله د.كمال أبو ديب لاكتناه شعرية الكتابة الشعرية .أنظر مقال "بحث في الشعرية" مجلة مواقف ع46 ،ربيع 1983 ص85 و ما بعدها.
(9) ديوان " الفروسية " أحمد المجاطي. منشورات المجلس القومي للثقافة العربية سنة 1987.
(10) ديوان " هبة الفراغ" دار توبقال للنشر الطبعة الأولى 1992 ص : 92..
(11) انظر كتاب" الرمزية والسريالية في الشعر الغربي والعربي ايليا الحاوي دار الثقافة – بيروت 1980 ص 114 وما بعدها.
(12) ديوان " سلاما وليشربوا البحار " ص 79، سلسلة الثقافة الجديدة 1981 ط 1 مطبعة الأندلس – البيضاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/