الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاورة قملة ...(شاربوراس )

عبد الغني سهاد

2018 / 4 / 4
الادب والفن



- محاورة قملة...(شاربوراس)
كلما حاولت تفسير رؤية قملة في الحلم تصطدم بوابل من التاويلات المتناقضة مرة هي فال خير ..واشارة ما الى اواسخ الدنيا اي المال ..واخرى تلميح الى المشاكل والشجارات مابين الزيجات..وما اريد التحدث عنه هو الواقع بعينه وليس الحلم ..لايمكنني وصف قملة كما وصف فلوبير قلنسوة (شاربوفاري) عندما وضعها في حجره مرتبكا في القسم الجديد..لقد ابدع في الوصف الدقيق لتلك القلنسوة حتى حسبتني اضغعا على راسي ..ويغزو شعري الرهيف سرب من القمل البني ..السمين ..لست ندا لغوستاف لكني ساتكلم عن القملة بطريقتي ..
عندما يقدم المرء على وصف قملة على ورقة لنفسه او لغيره لابد انه سيشعر بالاشمئزاز والتفور من موضوع الكتابة. .والقليل منا سيتشجع ويصفها لنا ببشاعة.لا تطاق ( جسمها في حجم حبة السمسم راسها صغيرة وفكيها طويلان ككماشة حادة بها تشق الجلدة وتمتص دماء البشر.. تتحرك بخفة ومهارة على ستة ارجل وبطن عليه تزحف.بطنها مستودع كبير للدماء يمثل ثلاثة ارباع حجمها .عند فقسها يتدفق الدم البشري منها برائحة الجيف ..الخ ..ساقف هنا ...اع ...اع...كل الناس تتجنب الخوض في الكلام في هذا الامر .( وصف قملة )..وصفها يوما ما و كانت تتسلق قفى صديق لي في القسم يجلس دائما وحده على طاولة الدرس امامي...قملة صفراء هزيلة كانت جاهدة تصعد القفى تتزعم سربا صغير من الصيبان ..نعم الصيبان وليس الصبيان ..حاورت يوما ما احدهم في ادارة مؤسسة تربوية ان الاستعمار له اياديه البيضاء على الشعوب المتخلفة المستعمرة سابقا ..ولم يستصغ كلامي ..بل استفزه مني هذاالسلوك الذي يعده انحياز مني الى القوى الاستعمارية ..وطالبني بالادلاء باصبع اونصف اصبع من ايجابيات المستعمر ..لم افكر طويل ..قلت لن احدثك عن الفصل ..والمدرسة ..والسبورة والطباشير الخ الخ ...ساحدثك فقط عن القمل والبق ..حل الاستعمار ووجدنا في غاية القذارة .. ونظفنا ..غسلنا ...كان يغزونا البق والقمل ..وفي المدرسة كانوا ياتوننا بالنوافيخ( الراوابيز ) الصغيرة المعبئة بغبرة بيضاء تبيد القمل والطفيليات من على جلودنا البضة ..وينفخون في ثنايا ثيابنا ..من جهة الخلف وبالذات من الراس والقفى.واسفل ابطنا ..وفي مراحيضنا البائدة التي هي عبارة عن حفر كبيرة لا يجري فيها الماء ..تتصاعد منها روائح الفضلات....يسكبون تلك الغبرة البيضاء القايلة للجراثيم.والميكروبات ...اليست هذه ايادي بيضاء ...نقتني و.نقتك من القمل ..والاوساخ ..ولم يتابع معي الحديث ..لكن دوام في ما بعد مناقشتي مدافعا عن المقملين بوسائله المخاتلة....خرج الاستعمار وترك فينا الجهل الذي هو اعتى واشرس من القمل ..والبعوض و الذباب ..تركونا نرفس في الوساخة والامراض ..بل اضافوا امراض جديدة الى حياتنا ..ليس هذا هو المهم ..الان ..الذي يهمني الكلام عن زميلي المقمل ..كان ذكيا ونجيبا ...قصير القامة براس غليظة .عيونه ضيقة .واذنيه طويلة قليلا .يكسوها الزغب الاسود.غالبا ..ما ...يرتدي قميصا اصفر تحول لونه الى لون القيح ..وليس القمح..ناذرا ما يعرضه الى الشمس . ..وكلما صبنه كان ينتظره في مكان في الظل.. ..و كان يرتديه قبل ان يجف تماما...فكان يجف على جسدة وهو يركض مسرعا الى القسم ....كنت اتفهم ظروف زميلي الذي اكن له كل الاحترام الا ان الاخرين لا يعيرونه اذنى اهتمام .بل يسخرون منه كلما سنحت لهم الفرصة .. ان معلمة مادة اللغة الانجليزية ..كانت كذلك لاتستهزء منا بسببه ..كلما ارادت التشفي في ضعفنا في لغة وليام شكسبير . ..كانت تامره بالصعود الى السبورة لتكرار حوارات المحادثة . ..نطقه للحروف الانجليزية كان يثير فينا الاستغراب مع الضحك....ولم يكن يهمها طريقة النطق المتلعثمة ولا موجات ضحك الزملاء ..الذي كان يسليها هو مشاهدة اسراب القمل التي تتصاعد و تصطف على عنقه ..وكان لا يخجل منها..كانه الفها وكانها الفته .. احيانا تضحك ..واحيانا تمتعض ..وتعض على شفتيها ..كنت احدق فيها جيدا ولا اشاركها الاستهزاء بصديق المقمل راعيا ظروفه النفسية و الاجتماعية ..ولاني كنت اجلس ورائه فهي تحدق في من حين لاخر كانها كانت تنتظر من رد فعل مؤيد وغاشم ..حفاظا على نقطة السلوك كنت لا اجاريها في استهزائها ولا انكس عليها استمتاعها برؤية اسراب القمل وهي تتسلق الاعالي....تامره بمغادرة السبورة ..وتصرخ في وجهه وهو غير مبالي . .(.يوهاف نو سوابز ا ين يور... هاوس ..)....؟
في بعض الصباحات الربيعية كان مزاجي مرحا.. فحاولت مرة محاورتها على قفاه في حصة الانجليزية .. بادرتها بالكلام وهي تشق طريقها هاربة في دروب قفاه ..الى الاعلى ..حيث شعره الكثيف الاسود الداكن .. تكسوه القشرة.البيضاء ..كانت هاربة من الحوار..
قلت لها..: ( الا تخجلي من نفسك ..سيدتي القملة ..وانت تتسكعين في اجسام الغير ..وتمتصين دمائهم النقية ..)..سمعني المقمل الذكي ولم تسمعني القملة الغبية ...وحتى لا اغيضه تظاهرت باني اتكلم في موضوع ترجمة حوار ما مع حشرة. ..قلت لها....: ( دونت يو اشيمد..تو وول اوي ان دي لاند او اودرز..اند يو سناتش دير بلودي ..)..
لم يستوعب كلامي كما لن يستوعب معظمكم كتابة لغة الهو بلغة الانا ..او كما يقول طرفاء علم اللغة التابعين لسوسير وغيره تصحيف لغة حية باخرى هي في طريق الموت اي انها..تحتضر..ولاشك انه موقف فكري متعسف من طرف هؤلاء...لم تهتم القملة بما قلت لها ..لكن المقمل صديقي لم يده اليمنى جيدا وصوبها الى وجهي ..لم يكن ليحتمل اهانة كسب قطعان القمل ..اصابت الضربة انفي .فرايت القمل ترقص وتتضاحك و تحوم حولي مستهترة بي. وروائحها الجبصية المبللة بالعرق البشري تدوخني ..الخ ..الخ..وبلباقتها وخفتها تدخلت معلمة اللغة وعاد كل واحد منا الى مقعده..واسترجع الفصل اللغوي هدوءه ..مندئذ لزمت حدودي وتجنبت الاخد والرد في محاورة القمل .الغة البق والقمل لاشك انها لغة غامضة عربية محضة ..وهذا ما نسيت قوله لذلك الذي كان يرفض الايادي البيضاء للاستعمار ..لقد نقانا من البق الجسدي ولكنه فشل لاسباب تاريخية من تنقية عقولنا من العاهات والامراض الدفينة....؟خرج مهرولا من البلد وهو يردد ( دبروا امركم بانفسكم.. تنظفوا ..او لا تتنطفوا .هذا امر لم يعد يهمنا....)....وحتى لا اعود للاصطدام برؤية القمل على ثياب صديقي واستدراجي لمحاورته ..غيرت مكاني بمصادقة المعلمة ..وتركنت في نهاية الفصل اراقب الجميع..كان صديقي( بوراس ) اي غليظ الراس المقمل طالبا قرويا ..ويقطن دار الطالب ..الدار الوحيدة في المدينة بجوار خزانة الممقوت الباشا التهامي الجلاوي ..دار الباشا..جمع محتوياتها من خلال تتريك (نهب الممتلكات على يد المخزن ) الخزانات الخاصة لاعيان المدينة وعلمائها الذين عارضوا سياسة المستعمر ..ومادام هو مسخرة مسخرة للاستعمار ..حصل على منصبه بالمكر والخيانة ..ابان دخول قوات مانجان الاستعمارية الى المدينة ..فكانت له الكلمة الفصل في كل شيء ..يحفن كل السلطات في قبه العفن الذي لا شك نظفته له الحماية من القمل والبق والبراغيث..ومن هده الخزانة (دار الطالب )..في شارع الرميلة ..كان (المقمل )يتزود بكتب المعرفة والعلم ..ترددت عليها في بعض الاوقات الا اني كنت افضل عليها ( الخزانية البلدية ).فهي نطيفة وخالية من اسراب القمل ...كان زميلي (بوراس )يرتدي القميص الاصفر الملوث بالقذارات حين توصل بخبر حصوله على شهادة الباكالوريا ادب ..تسجل في كلية الحقوق بالعاصمة ..ثم تخلى عن القميص الاصفر ليرتدي بدلة مخزنية سوداء ..وحصل على الاجازة ..وعمل مستشارا قضائيا في محكمة الاستناف في نفس المدينة التي درسنا فيها معا..محى( بوراس )نهائيا كل ما يتعلق بتاريخه القديم .بل لنقل صححه من الاوساخ والقادورات .كما يرغب .ولم يعد هذا التاريخ جزء منه .مسح من ذاكرته اسماء كل الرفاق ..نسي قاعة الدرس اللغوي في الانجليزية ومحى اسم معلمته الشامتة ..والطريق المؤدية لدار الطالبة بل دار الطالبة نفسها . الموضع الذي قضى فيه سنوات عديدة رفقة والجوع والعرى ..و اسراب القمل ..
لما صادفته في احدى اللقاءات الاقليمية حول حقوق الانسان بالمدينة..اقتربت منه مرحبا : (اهلا صديقي الفاضل السي بوراس ...)..لم اشير بتاتا الى مسالة القمل ..ولم اقل له ..يا سيدي المقمل ..كما سيظن البعض منكم ..ابدا ..كنت لازلت اقدره واحترمه كزميل في الثانوية ..لقد سميته باسمه المسجل في لوائح الثانوية..وسع عيونه في ثم ادار وجهه الى جهة الحشود ..قائلا (..معذرة ذكرني....سيدي .. بالاسم الكريم....؟)....اجبته بدون لف او دوران : ..( نعم...سيدي الكريم . من الافضل لنا ان ننسى بعض اللحظات المقيتة من حياتنا الخاصة ....)...
ظننته فهم جيدا ماكنت اعنيه ..حملق (بوراس )في وجهي واستدار بخفة كمن نودي عليه من قريب .ورايت فيما رايت .. ذلك القفى المقمل كما لم يكن.. أبيضا خاليا من البقع ..ومن الثقب السوداء .. لقد تغير (بوراس)..على اية حال منذ زمن غير بعيد..غادرته أسراب القمل ..قد تكون صعدت قلقولة راسه ..وقد تكون اخترقت عظمة جمجمته .وهي الان تتختل في شرايين مخه الصغير ...
لست ادري ..


عبد الغني سهاد
2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا