الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معاناة الشعوب فعلا سرديا , قراءة في رواية جمهورية باب الخان للروائي علاء مشذوب

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2018 / 4 / 4
الادب والفن


( الإنسان قصة مكان يبني في خفاياه حكاياته التي لا تنتهي ، يُعطِّره بسرده ، ويُغمِّسه بوصفه ، ثيابه حيطانه التي تمنع عنه البرد والحر، عيناه مصابيح تضيء ظلمته ، شبابيك المكان نوافذ تطل على الزمن السيال مثل نبع صافٍ ، أبوابه ثغر من الحياة التي تسكن ولا تنطفئ ، يخط عليه قصة حبه ويرسم عليه جرحه ، يكتب لحظة ضعفه، وحده المكان يبقى خالدا ) جمهورية باب الخان / ص7 .
تأتي رواية الدكتور علاء مشذوب الجديدة ( جمهورية باب الخان ) تتمة لروايته السابقة ( حمام اليهودي ) , فالروايتان تجعلان من المكان الكربلائي منطلقا للقص فيهما , فمن كربلاء يتحدث الشخوص في الروايتين وتدور الأحداث المحورية , وعلى أرضها ينمو فعل الأبطال واقعيا وسرديا .
موضوع ( جمهورية باب الخان ) يتركز على ثيمة طالما عانت منها شعوبنا العربية وهو توظيف الدين سياسيا وآيديولوجيا ليكون مدعاة للتفرقة بين الشعوب والناس , وليكون أداة للقهر والاستبداد , إذا هي مناسبة سردية للرفض , وهي في الوقت حكاية استهجان لواقع يغلف ناسه رؤوسهم بأقنعة واهية .
وهكذا نجد هذه الثيمة مجسدة تماما في الفصول الخامس والسادس والسابع التي تتحدث فيها البطلة عن إبادة الشعب الأرمني التي تنتمي له من قبل الاتراك .
تتكون رواية جمهورية باب الخان هيكليا من بنيتين ؛ بنية الوصف وبنية التاريخ اختصت الأولى بمعاينة الواقع الكربلائي من أوجهه كلها الاقتصادية والاجتماعية والسكانية والطبيعية وهنا نجد صورا مكثفة فهناك (( أصوات صرير محلات الأبواب الخشبية تفتح الواحدة تلو الأخرى ، تفزع القطط من نومها ، وتتمطى الكلاب استعدادا للنوم في زوايا من الخان لا تصلها أقدام البقالين والمارة ، بينما يستفيق بعض الصعاليك والمجانين من نومهم، يبدأ أصحاب المطاعم بشيِّ شحمة على فحم مناقل الشواء من أجل إشعال النار فيها ، بينما تدور مكائن ثرم لحم الغنم المخلوط بلحم العجل، يسمع دوي موقد النار بشعلته النارية تحت قدر الباجة الكبيرة، بعض العطارين يرشون الماء أمام محلاتهم جلبا للرزق. وحدادون يشعلون كورهم استعدادا لشحذ سكاكين ومناجل الفلاحين، حتى تصبح كل محلات سوق الفسحة مشرعة لبدء حركة البيع. لكن السؤال كيف تكوّن سوق الفسحة؟ )) ص4.
فالروائي هنا يتحدث على لسان أبطاله فيصف حياة الكربلائيين وطقوسهم المحلية , فضلا على توصيفه الدقيق لما يجري في شهري محرم وصفر بدقة متناهية , يتتبع البشر في تحركاتهم ويراقب الاحداث كأنه جزء منها ويرصد تطور الحارات والأزقة والمباني والشوارع ليصفها بعين المراقب ويسجل تغير أحوالها عبر الزمن وكيف تتبدل مساراتها مع مرور السنين .
أما البنية التاريخية فقد تمثلت في السرد التاريخي الذي تبنته (أريف) وهي تحكي قصة الشعب الأرمني بكل مآسيه .
لقد كانت الفصول الأربعة الأولى مدخلا أخذ من السعة السردية ما يجعل القارئ يظن للوهلة الأولى أن في نية الروائي أن يتحدث فقط عن مدينة كربلاء وما جرى فيها من أحداث لا يخرج منها لكن هذا الظن سيتبدد مع الفصل الخامس وما بعده , فقد كانت الفصول الأولى سياحة تفصيلية في عالم المدينة ــ مدينة كربلاء ــ وبالتحديد محلة باب الخان المنطقة التي عاش فيها كاتب الرواية في زمن كانت فيه (( كربلاء غارقة في ظلام ثقيل ، تضاء الشوارع والأزقة بالفوانيس من قبل أشخاص مكلفين بإيقاد تلك المشاعل أو الفوانيس، يأتون قبيل غروب الشمس للقيام بعملهم هذا، ثم يعودون في الصباح لإطفائها، تناط هذه المهنة بالحراس الليليين لكل طرف من اطراف المدينة القديمة ، وهؤلاء ينتسبون إلى البلدية التي تستوفي أجور الإضاءة من الأهالي بواسطة الحراس الليليين ويطلق عليهم (الجرخجية . .)) ص4
وفي كلتا البنيتين تبدو جمهورية باب الخان جمهورية واقعية ليست كجمهورية افلاطون ؛ جمهورية نجد فيها المعاناة ممزوجة بالحرمان , ونجد فيها أيضا شعوبا عانت القهر والعوز , مثلما نجد فيها وصفا دقيقا لمدينة لا تختزن في ذاكرتها غير قصص الضنك والحزن .
ثم أن جمهورية باب الخان ليست جمهورية من صنع الخيال البحت فشخصياتها متنوعة يمكن معاينتهم في كل لحظة إذ نجد هناك (( الأشراف والنقباء والأعيان والأثرياء والجلبيين والشابندريين والسلّابة والحرامية والمكارية والشقاوات وخدم وخصيان يعيشون في فقر مدقع وبخرافات وأساطير )) ص12.
ومن ثم فلا قدسية لهذه الجمهورية فليس هناك قداسة تضم بين جناحيها كل هذه التنوعات والنوازع البشرية , فالواقع يقول غير ذلك , فالقدسية كذبة لا وجود لها إلا في رؤوس المنتفعين من هذه الصفة , أما من سحقته قسوة الحياة فلا يملك غير الشك في المنظومات الفكرية والعقائدية التي شرعنت لبؤسه كل تلك الأفكار والقيم , فهذا سيد عدنان يقول في حيرة : (( كنت أجد في التراث الديني وفقهه ما يعجز العقل عن استيعاب الكثير مما يطرحه ، بل إن ما أجده من مآسٍ في أرض الواقع يثير في داخلي أسئلة كثيرة ، ولكن الدين يمنعني من التمرد والاستفسار. وأكثر ما يستفزني الآية الآتية: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) فإذا كان الإنسان منبع الشر والرذيلة، فأين دور العقل إذن؟ وإذا كان الله منبع الخير فلماذا الفيضانات والزلازل والمجاعات والأمراض والموت المبكر والفجائي؟ )) ص132.
وقد نجد أن بنية الوصف تتداخل مع بنية التأريخ في عدد من مفاصل الرواية لا سيما مع يرويه سيد عدنان , وما يدور بينه وبين أصدقائه المثقفين في المقهى , فهناك نجد هؤلاء الاشخاص مع أنهم وضعوا أولا ليكونوا وصافين لواقع كربلاء بالأساس يخرجون إلى حيز التاريخ ليأخذوا على عاتقهم تحليل الواقع من منظور تاريخي .
يتحدث الروائي على لسان مجموعة من الأشخاص ليكتب فلسفته لا سيما إذا اعتبرنا أن الأعمال الأدبية تعبر عن فلسفة كتابها وكانت البداية مع سيد عدنان , هذا الرجل الذي يصادفه القارئ للمرة الأولى في الصفحة الثانية والعشرين ؛ وسيد عدنان رجل أربعيني دائما ما يتأمل الواقع العراقي المرير وأزمة الهوية التي يعيشها هذا البلد ؛ وذالك ما أختزله الملك فيصل ذات مرة قائلا على ما يروي الكاتب (( أقول وقلبي ملآن أسى ، انه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد ، بل تكتلات بشرية خالية من أية فكرة وطنية ، متشبعون بتقاليد وأباطيل دينية.. لا تجمع بينهم جامعة.. سماعون للسوء ميالون للفوضى.. مستعدون دائما للانقضاض على أية حكومة كانت.. ومع هذه الحالة، فأننا نريد ان نشكل شعبا ونهذبه وندربه.. ولكم أن تتخيلوا صعوبة هذا العمل وعظمة الجهود التي يجب أن تصرف لإتمام هذه القضية )) .
ويظل سيد عدنان بطل القص مع أبطال ثانويين على مدى الفصول الأربعة حتى يتصل به أخوه ذات ليلة ويطلب منه أن يأتي بقابلة مأذونة لتوليد زوجته , فيذهب سيد عدنان إلى ( أريف ) المرأة الأرمنية الجميلة حينها التي كانت ماهرة في توليد النساء .
وحين يصل الإثنان إلى بيت المرأة الحامل يتأخر الوضع وهنا يستغل سيد عدنان فترة الانتظار ليدخل مع أريف في حوار تتغير معه ملامح الرواية كلها من المحلية إلى الإنسانية , فقد كانت أريف تمتلك من الذكريات والحافظة ما جعلها تسرد بمعلومات تفصيلية مأساة شعبها ـ الشعب الأرمني ــ على يد الاتراك بدايات القرن الماضي إبان الحرب العالمية الأولى حينما أصدر السلطان أمرا بنفي الأرمن الى الجهة الجنوبية والجنوبية الشرقية من الإمبراطورية العثمانية حيث تقع الصحراء السورية ووادي ما بين النهرين , إذ راحت مع كل سؤال يوجهه لها محاورها تنطلق في مسارب حزينة ومؤلمة وهي تروي فصول دامية عاشها الشعب الأرمني حيث لم يتوقف لسانها عن سرد تاريخ عائلتها بل تاريخ الأرمن عامة وما تعرض له هذا الشعب من كوارث صورها الكاتب على لسانها بطريقة رائعة .
ما كتبه الروائي علاء مشذوب على لسان القابلة أريف يذكرنا بما فعله داعش في العراق فالقسوة ضد الشعوب تظل واحدة وإن اختلف الجناة , فقد (( جمعوا ــ تقصد الاتراك ــ أكثر من خمسمائة أرمني في ساحة كبيرة لسماع أوامر السلطان عند الغروب ساروا بهم على الأقدام خارج المدينة وقُتل كل واحد منهم بالرصاص بشكل وحشي. كررت هذه الاجراءات في حوالي ثمانين قرية أرمنية. وخلال ثلاثة أيام قُتل ما يقارب أربعة وعشرين ألفا من الأرمن بهذا الشكل المروّع )) ص63.
ولا يسير السرد بطريقة الحكي على لسان البطلة بل يتحول أحيانا على لسان الراوي الذي بدأ السرد والوصف في الفصول الأولى , فنجده يتحدث عنها فيقول (( ذات مرَّة سألت أريف أمها عن أبيها وأخوتها وأعمامها وأخوالها فأزداد وجيب قلب الأم اضطرابا ورجفة، وغطت بنوبات سعال مستمرة ما جعل عينيها تخضلان بالدموع من جديد، وهي تعيش حالة تناقض بين تحميلها أمانة نقل حكاياتها للآخرين، وبين إعادة رويها من جديد، ثم قالت بعد ان استعادت أنفاسها: لا أعلم. منهم من قتل، ومنهم من أخذ الى القفقاس، ومنهم من عزل في غيتو مع الرجال.. مرَّ وقت طويل وأمها تحكي قصة إبادتهم الجماعية، كما تحكي قصة طفولتها المنتهكة، قتل أبوها أسوة برجال قريتها في مكان لا يبعد كثيرا عن قريتهم، دون ان يسمح لهم بإقامة قداس، او دفنهم، بل تركوا نهبا للطيور الكواسر، فُرِّقت عن أخوتها، وأضحت وحيدة مع أمها )) ص66 .
في الرواية وقفات بارعة يمكن أن توضع كلها في بنية التاريخ خاصة في الصفحات التي تتناول قضية البهرة وقضية المهاجرين إلى كربلاء وكيفية تعامل الأهالي لهم , والسفرة إلى عين التمر وتهجير الايرانيين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع