الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حفّار القبور!؟ قصة قصيرة (1/2).

سليم نصر الرقعي
مدون ليبي من اقليم برقة

(Salim Ragi)

2018 / 4 / 7
الادب والفن


حفّار القبور!؟
(قصة قصيرة من حلقتين..)
[الحلقة الأولى]
*********************
مضتْ ثلاثون سنة وانقضتْ و(الحاج سعيد) بعدُ يمتهن هذه المهنة (غير الاعتيادية) بدون انقطاع، حفّارًا للقبور في المقبرة التابعة للبلدية!، ولطالما بحث عن مهنة أخرى ولكن دون جدوى، فليس لديه من المؤهلات ما يجعله يحصل على غيرها!، لهذا قَبِل بالقضاء والقدر وانهمكَ يحفر بفأسه حفائر القبور في انتظار من سيهوي فيها عمّا قريب!... كان أيام شبابه يحلم بأن يُصبح قبطان سفينة أو على الأقل بحارًا فيها، فيسافر عبر البحار والمحيطات يجوب العالم ليروي فضوله وتوقه للحرية وليرى خلق الله بألوانهم وأوطانهم وأديانهم وعاداتهم المختلفة لكن ذلك الحلم ظل مجرد حلم يسكن خياله ولم يتحقق أبدًا !، حلم ضائع كأنه رسالةٌ من مجهول محشورة وسط قارورة من زجاج تعوم على سطح البحر بلا نهاية!، وهكذا انتهى به المطاف ليمتهن هذه المهنة (حفّار القبور) التي يعزف عنها معظم الناس ويفرون منها فِرارهم من الموت!، ثم بعد وفاة الشيخ (صابر) - حارس وخفير المقبرة - وزميله وصديقه الوحيد في هذه الدنيا، عرضتْ عليه البلدية أن يتولى مهنة الحارس أيضًا في تلك المقبرة!، فقِبل سعيد ذلك بشرط السماح له بأن يتخذ من غرفة الحارس سَكنًا له، فوافق عميد البلدية على طلبه، فحمل كل ما يملكه من حطام الدنيا، وترك الغرفة الحقيرة التي كان يستأجرها على سطح احدى العمارات في المدينة خلف ظهره واستقر هنا في غرفة حارس المقبرة المحاذية للبوابة الرئيسية.... لم يكن (الحاج سعيد) يملك من حطام الدنيا الفانية الشيء الكثير، لا يملك غير بعض أواني المطبخ البسيطة وبعض الملابس والغيارات الداخلية وفراش بالٍ من الصوف العتيق ينام عليه ومخدة قديمة يتوسدها و(بطانية عسكرية) كان قد أهداها إياه زميله (الشيخ صابر) قبل وفاته بقليل ذاكرًا له أنها كل ما تحصل عليه تلقاء خدمته الطويلة في الجيش!، وغير هذه المقتنيات البسيطة التي حملها الحاج سعيد معه لمسكنه الجديد في المقبرة لم يكن يملك أي شيء آخر سوى ذلك الخاتم العزيز على نفسه المصنوع من الفضة والذي كان قد قدمه لزوجته (سالمة) عند خطبتها منذ زمن بعيد، هذا الخاتم العزيز الذي منذ وفاتها استقر في جيب قميصه عند موضع قلبه لا يغادر ذلك المكان إلا حين يحين دور القميص في غسل الثياب!، وهكذا أصبح (سعيد) لا يغادر المقبرة إلا لشراء الحاجيات الضرورية وظل يقضي أيامه في حفرِ القبور نهارًا وحراسة المقبرة ليلًا، هناك وحيدًا دون رفاق سوى هؤلاء الرفاق الذين يسكنون كل تلك القبور!، هؤلاء الرفاق الموتى الذين لاذوا بالصمت المطبق الطويل، هذا الصمت الجليل التام الذي هو في ذاته أبلغ من كل كلام!، صمتٌ وقور يتكلم بلغة مختلفة عن لغة الصوت!، صمت الموتى الذي تعوّد عليه وألِفه كما يألف (التارقي) أو (التباوي) الرحّال صمتَ الصحراء!، ألِفه من صميم قلبه بقدر ما كرِه ضجيج وصخب وثرثرة المدينة حيث الناس هناك يركضون في جنون وسعار، والسيارات تزعق وتهدر ليل نهار!، فلا شيء بات يربطه بالمدينة بعد أن تُوفيتْ زوجته الحبيبة دون أن يُرزق منها بولد!.. لا شي على الإطلاق!... ومثلما افتقد زوجته (سالمة) كثيرًا برحيلها المفاجئ عن الدنيا افتقد أيضًا زميله ورفيقه الوحيد والأخير الشيخ (صابر) - حارس المقبرة السابق - الذي رحل عن الدنيا وتركه وحيدًا وسط هذه المقبرة الشاسعة الصامتة!!، الشيخ صابر الذي كان يؤنسه ويسليه وسط هذه المقبرة القديمة المُوحشة الكبيرة حيث كانا يتشاركان سويًا الطعام والسمر واجترار حديث الذكريات الجميلة عن الأيام الخوالي حينما كانت الدنيا عامرة بالمحبة والبساطة والسلام!.... الشيخ صابر الإنسان الوديع الطيب والرفيق الوفي والمُسامر الممتع الذي تمنى (سعيد) أن لو كان له قبرٌ هنا في هذه المقبرة ليعتني به عناية خاصة كما يفعل مع قبر زوجته!، ولكن عائلة الشيخ صابر بعد وفاته أصرّت على دفنه هناك بعيدًا في مسقط رأسه، في تلك الواحة النائية المُلقاة هناك وسط أعماق (صحراء ليبيا) كما لو أنها سفينة تائهة وسط بحر الرمال!...

لقد رحلتْ صاحبته وزوجته الغالية (سالمة) عن الدنيا ورحل بعدها صديقه الوحيد (صابر) منذ سنوات خلت!، ربما منذ خمس سنوات بل ربما عشر أو ربما أكثر!، لم يعد يتذكر على وجه الدقة واليقين!، ومن يدري!؟، فلعل ذاكرته فعلتْ ذلك عن عمدٍ بطريقة لا شعورية!، أي تعمدتْ أن تُنْسيه مدةَ رحيل رفيقيه وفقيديه الوحيديْن كي لا يُشْعره طول المدة بمزيد من الوحشة والفراغ والملل الرهيب أو الملل القاتل المُميت!، فاليوم هاهو صار وحيدًا في هذه المقبرة العامة يحفر القبور أناء النهار ويحرسها أثناء الليل ليحمي ساكنيها والمقيمين فيها من عبث الكلاب والجرذان الجائعة أو لصوص الجثث ونبَّاشي القبور (رباشين القبور)!.... يحفر القبور نهارًا ويجهزها لمن كَتبَ اللهُ عليهم الموتَ في ذلك اليوم ليجدوها جاهزة على أكمل وجه ومناسبة لمقاسات وأحجام أبدانهم المختلفة حينما يُحضرون لمأواهم الأخير هنا مُمدَّدين في نعوشهم محمولين على أكتاف الرجال!....كم من موتى شاهدهم (الحاج سعيد) هنا في هذه المقبرة العتيقة يُوارون الثرى فيما أحبابهم الذين جاءوا ليشيعونهم لمثواهم الأخير يقفون وقفةَ الوداع الأخير على شفير لحودهم وهم يبكون بكاءً يُدمي القلوب!، وكم شاهد هنا أيضًا من أشخاص غريبي الأطوار يتسللون للمقبرة أيام الجمعة وقبيل المغيب فيأخذون في التجوّل بمفردهم بين المقابر البالية مُحاولين تهذيب أنفسهم العاشقة للشهوات والمتكالبة على حطام الدنيا من خلال زيارة المقابر لتذكيرها بنهاية الحياة الدنيا بالموت المحتوم عند حلول الأجل غير المعلوم!، هكذا فهم (سعيد) من الشيخ (صابر) الذي أنبأه بأخبار هؤلاء الزوار، غريبي الأطوار، وأخبره عن أحوالهم وسر زيارتهم المتكررة للمقبرة مُنْفردين!، الشيخ صابر الذي كان قد تربى في شبابه على يد شيخ صوفي عارف بالله وعارف بالدين والدنيا من أتباع (الطريقة السنوسية)!، وهكذا ظل (سعيد) يرى هؤلاء الزوار الغرباء في أيام الجمعة يأتون عند آخر النهار وينطلقون في التجول بين القبور، ساهمي البصر ناكسي الرؤوس في خشوع مهيب، وهم يمشون بخطوات مُقتصِدة بل ومُنكسِرة وسط المقبرة حيث لا شي هناك غير القبور وصمت الأموات!، وفي الأثناء يظلون يتمتموا بعبارات غير مسموعة كما لو أنهم يذكرون الله أو أنهم يخاطبون أنفسهم المتمردة المتعطشة للدنيا والمال والجاه والعلو في الأرض ويذكرونها بالآخرة ويحاولون اقناع هذه النفوس الجامحة أو الجانحة بالرضى بالقليل والخوف من الجليل والاستعداد ليوم الرحيل!، كما لو أن الواحد منهم أبٌّ عجوز عطوف يحاول أن يعظ إبنه الوحيد المراهق المفعم بالغرور والنزق وحب الشهوات بطريقة عملية حسية حكيمة بدل الاكتفاء بالنصح النظري المجرد!، أبٌّ عجوز حمل إبنه لزيارة المقبرة ليرى الفصل الأخير من قصة الحياة حتى لا تدهمه الحقيقة المرة على حين غرة بعد فوات الآوان!، أو كما لو أن أحدهم بمثابة ِ(سائس خيل) يحاول ترويض حصانه البري الحَرون وتدريبه وتهذيبه وتعويده على الانتظام والطاعة!، ذلك الطفل الأناني أو المراهق المغرور أو الحصان الحرون الذي يعيش في أعماقنا ويتحكم في تصرفاتنا وأخلاقنا منذ الميلاد حتى الممات!، ذلك الطفل المتمرد أو المراهق المتنمر وذاك الحصان الحرون المتمثل في هذه (النفس) الأنانية العاشقة للدنيا والأمَّارة بالسوء!... هذه النفس التي تارةً نمتطيها وتارةً أخرى تمتطينا!، فهؤلاء الزوّار الغرباء – كما أخبره المرحوم (الشيخ صابر) – قومٌ همّهم الأول وشغلهم الشاغل هو تربية هذه (النفس) الجامحة أو الجانحة وتزكيتها وتطهيرها وتهذيبها أكثر من أي شيء آخر!، ولهذا كان (سعيد) يتحاشهم قدر الإمكان حين يحضرون للمقبرة في آخر النهار حتى لا يُفسد عليهم جولتهم وخلوتهم أو زيارتهم التربوية تلك التي يحاولون من خلالها تهذيب وتزكية أنفسهم الدنيوية لتهدأ وترعوي وتخشع وتسمو على غرائز الحيوان ونزعات (الأنا) الآنيّة وتترقى في سلم التربية الروحية من درجة (النفس الأمّارة بالسوء) إلى درجة (النفس اللوَّامة) إلى درجة (النفس المُطمئِنة) في الدنيا للفوز في الآخرة بمقام (النفس الراضية المرضية)!، هكذا أنبأه عن أحوالهم صديقه الراحل (الشيخ صابر) في الزمن الماضي البعيد حينما رآهم يجوبون المكان لأول مرة هنا بين القبور وعجب لأمرهم!، وهكذا انقضتْ سنوات سِمانٌ وأخر عِجافٌ يلتهم بعضها بعضًا بشكل مستمر سريع فيما هو حبيس هذه المقبرة التي يعمها الصمت الرهيب!، ألوف من البشر الرُّقود يرقدون فيها منذ عقود بل ربما منذ قرون في أسْرّةٍ ومراقد قُدتُ من صخور في صمت جليل وعجيب!.... أين ذهبوا!؟؟ متى رحلوا وكيف غابوا!؟ وكيف كانوا في الدنيا!؟؟ وأين لحظات ضحكاتهم الصاخبة ولذاتهم السعيدة التي لطالما استمتعوا بها أثناء حياتهم!؟... ما كل هذه القبور التي تملأ الرحبَّ!؟ وأين القبور من عهد عاد!؟ بل أين القبور من عهد آدم!؟؟، فهذه الأرحامُ تقذفنا إلى هذه الأرضِ بقضاء الله وقدره أطفالًا ضِعافًا عجزة نمشي على بطوننا ثم على أربع ثم على رِجليْن ثم على ثلاث ثم ما تلبث هذه الأرض أن تبتلعنا في جوفها فجأة - في لحظة غفلة منّا - كما لو أنها (حرباء) جائعة تصطاد وتبتلع حشرات طائرة بلسانها الطويل على حين غرة وفي لمح البصر!، فنغدو بأجسامنا وأرواحنا وأعمالنا في جوفها المظلم قيد المجهول في ذمة الله !، الله الحي القيوم الذي لا يموت، الله الباقي الوارث الذي يرث – بسلطان الموت - كل ما جمع الجميع!... يرث كل شيء!، هو الوارث الحقيقي الوحيد وهو الوارث الأخير لكل شي!، فكل شيءٍ هالك إلا وجهه!، كل شيءٍ يفنى إلا هو الحي الباقي!.... هكذا كانت الأفكار والخواطر تتوارد في ذهن (سعيد) وتتداعى وتأتي من كل مكان سحيق، وهكذا كانت الذكريات والأسئلة تترا وتتلاحق كأمواج البحر الهادئ العميق!.....
يتبع في الجزء الثاني والأخير
سليم الرقعي
6 ابريل 2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا


.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية




.. -صباح العربية- يلتقي نجوم الفيلم السعودي -شباب البومب- في عر


.. فنان يرسم صورة مذيعة -صباح العربية- بالفراولة




.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان