الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محكمة أثينا الثانية -1- اليونان وبداية الفلسفة الحقيقية

هشيار مراد

2018 / 4 / 7
القضية الكردية


مقدمة تاريخية عن اليونان

"هل الفرس سيحتلون اليونان، يا للسخافة !!".. هذا ما قاله اليونانيون حينما تقدم الجيش الفارسي في عام 490 ق.م بقيادة داريوس لاجتياح اليونان وجعلها مقاطعة للإمبراطورية الفارسية، لكن اسبارطة وأثينا وحدا جيشهما رغم الخلافات الكبيرة التي بينهما وذلك ضد التقدم الفارسي. وبعد الحرب حلت اسبارطة جيشها ووقعت في ركود اقتصادي، فيما حولت أثينا أسطولها البحري التي استخدمها في الحرب إلى أسطول تجاري، فارتقى وتطور الوضع الاقتصادي لأثينا، كما حدث تغيير في هيكلية التنظيم السياسي والإداري للمدن اليونانية وبخاصة في أثينا.
وأيضاً بعد هذا الحرب انفتحت اليونان على العلم بشتى تفرعاته، فأتوا بجميع أقسام المعرفة إلى بلادهم من دون أي استثناء، وذلك عن طريق تجارتها.
كانت الجمعية العامة (الأكسليزيا) في أثينا هي الجهاز الرسمي الأعلى للإدارة في المدينة، وكان يضم جميع أهالي أثينا الأحرار، إذ كان يستثنى طبقة العبيد من مناقشة الأمور الإدارية والسياسية.
كانت الجمعية الوطنية تعقد اجتماعاتها في مكان يتسع لآلاف المواطنين، يجلسون بطريقة نصف دائرية، ويتم التصويت عبر رفع الأيدي.
وكانت للجمعية العامة مجلس استشاري مكون من 500 شخص، ويتناوب كل خمسين منهم مكانهم في المجلس كل 36 يوماً، وكانت الجمعية العامة تصوت بناءً على مشورة هذا المجلس. وكل يوم كان المجلس الاستشاري يختار رئيساً له وبنفس الوقت يكون هذا الشخص رئيساً للجمعية الوطنية. وكان من بين صلاحيات المجلس الرقابة على المؤسسات المدنية والعسكرية في المدينة.
وكانت توجد أيضاً الجمعية القضائية أو المحكمة العليا (الديكاستيريا)، وتضم أكثر من ألف عضو، وهؤلاء يتم اختيارهم عن طريق القرعة من عامة الشعب وليس عن طريق الكفاءة، ومهما كانت طبقاتهم الاجتماعية باستثناء العبيد. وكان من حق الجمعية القضائية إلغاء قرارات الجمعية الوطنية في حال وقوع تباين أو اختلاف في شرعية القوانين.

أثينا وبداية الفلسفة

كانت بداية الفلسفة في اليونان طبيعية مادية، ويعد طاليس وفيثاغورث وهرقليطس وكثيرين غيرهم من الفلاسفة الطبيعيين، أي إنهم بحثوا عن قوانين العلم المادي، أما الفيلسوف الإغريقي "سقراط"لم يتبع هذا النوع من البحث، وأراد أن يبين إن البحث في عقل الإنسان هي أفضل البحوث على الإطلاق.

سقراط (469 ـ 399 ق.م) وحركته الفكرية

اعتبر سقراط النظام الإداري والسياسي "الديمقراطي الشعبي"الذي كان معمولاً به في أثينا بالديمقراطية المفرغة من محتواها، وكان يشير إلى إن معظم أصحاب القرار في أثينا من الجهلاء دون النظر إلى كفاءتهم، وهذا ما حركه ليبدأ بحركته الفكرية ضد النظام الإداري والسياسي المعمول به، وكانت تلك الديمقراطية المشوهة تقود أثينا نحو الهاوية حسب وجهة نظر سقراط.
بدأت حركة سقراط من أزقة أثينا، حيث كان يلتقط الشبان اليافعين، ليبدأ في تعريفهم على الفكر الجديد الذي يدعو إليه، فبدأ الشبان يلتفون حوله بأعداد كبيرة، وهذا ما ساعد سقراط لخلق فلسفته الجديدة، وكان من تلامذته شبان من عائلات غنية ومن بينهم أفلاطون.
بدأ سقراط بتعليم الشبان في أزقة المعابد والمنازل والذين أصبحوا بمثابة أصدقاء له، وكانوا يستمتعون بأفكار وأسلوب سقراط الناقد للنظام الديمقراطي السائد آنذاك في أثينا.
وكان تلامذة سقراط من مختلف الانتماءات الفكرية ، لكنهم اشتركوا في أمر واحد وهو أنه لا معنى للحياة من دون بحث أو نقاش أو حديث.
كان سقراط يناقش الشبيبة الذين كانوا ملتفين حوله بأسلوب تساؤلي أكثر من تقديم الأجوبة لهم، وكان يترك شكوكاً في عقول الشبيبة بعد المناقشة والمحاورة وهذا ما كان يعترض عليه بعض التلامذة.
وكان سقراط يرى إن الفلسفة تبدأ لدى الإنسان حينما يتعلم كيف يشك في الأمور، هكذا بدأ سقراط حياته، فلم يؤمن بالآلهة المتعددة قط، وأيضاً لم يؤمن بإعطاء القرابين والأضاحي لهم، إذ كان يؤمن بإله واحد له القدرة الكاملة، وكذلك بالحياة بعد الموت.
لقد قال سقراط "اعرف نفسك"، كما قال: "لا أعرف سوى شيء واحد وهو إنني لا أعرف شيئاً".

الديموقراطية الحقيقية في مواجهة الديموقراطية الزائفة

لا شك إن سقراط كان يرى إن النظام المتبع في أثينا سيتسبب في الفوضى والخراب نتيجة استلام الجهلاء زمام الإدارة، حيث القرارات والقوانين تخرج من أشخاص جهلاء (غير حكماء)، حيث إن الحكومة في أثينا كانت لا تثق أو بالأحرى لم تكن تريد الاعتراف بالمقدرة والكفاءة والمواهب، بل كانت تؤمن بالعدد أكثر من المعرفة والحكمة، فالإدارة تحتاج إلى أعظم العقول وأحكمها، وإن أثينا تحتاج إلى أشخاص يعرفون كيف يحكمون، إذ كان يريد خلاص أثينا من الأخطار التي هي فيها والتي قد تواجهها في المستقبل.
كان سقراط يريد ديموقراطية حقيقية في أثينا لا ديموقراطية مفرغة من محتواها، وكان يدعوا إلى سيطرة الطبقة المثقفة على الحكومة الأثينية. وقد تأثرت الشبيبة بأفكاره، حتى إن أبناء قادة الحكومة الأثنينة أصبحوا تلامذة لديه، وأصبحوا يسخرون من الآلهة اليونانية نتيجة دعوة سقراط لترك عبادة الآلهة المتعددة.
وبعد ازدياد مناصري أفكار سقراط في المجتمع الأثيني وكذلك وضوح تأثير أفكاره على الشبيبة من خلال أعمالهم ونشاطاتهم المناهضة للتقاليد الإدارية والمجتمعية في المدينة، قرر قادة الحكومة الأثينية كبح جماح الفكر الجديد في أوساط المجتمع من خلال اعتقال زعيم الفكر الجديد "سقراط".
لقد كان سقراط صاحب فلسفة جديدة كانت تريد أن تثور في أثينا، تلك الفلسفة التي كانت تفسد الشبيبة من وجهة نظر قادة النظام الديموقراطي المتبع في المدينة، فرأى زعماء الديموقراطية إنه من الأفضل إنهاء حياة سقراط، ذلك الذي أسكر شباب أثينا.
لم يعترف سقراط بالحكومة التي كانت في أثينا. ولم يعترف بالآلهة التي تعبدها أثينا. ولذاك سيق إلى المحكمة. ولكن سقراط لم يطلب الرحمة، فمِن مَن سيطلب الرحمة والغفران؟ هل من الذين كان يزدريهم؟ ومع إن القضاة أرادوا إطلاق سراحه، لكن الجماهير المحتشدة رفضت وطلبوا الموت له، فحكموا عليه بشرب السم. نعم، الشعب الذي حارب سقراط من أجلهم هم بأنفسهم طلبوا الموت له!!.

نهاية سقراط في عام (399 ق.م)

بعد أن يساق سقراط إلى السجن يأتي إليه أصدقائه وتلامذته ليعرضوا عليه الفرار من السجن، حيث إنهم قد رشوا كل الموظفين في السجن.
إلا إن سقراط الذي تجاوز السبعين من عمره رفض الفرار، لأنه إن فر يكون مخالفاً لمبادئه التي حارب من أجلها طوال حياته، حيث أراد أن يعلم تلامذته حتى في يوم مماته، فهذه هي صفات المعلم الحقيقي، فيقول سقراط لأصدقائه وتلامذته "افرحوا وقولوا انكم توارون في التراب جسدي فقط".
وعندما ذهب أصدقاء وتلامذة سقراط إليه في السجن، لم يتحدثوا إلا القليل حتى اقترب موعد غروب الشمس، فدخل السجان ووقف بجانب سقراط وقال له "اليك يا سقراط يا أنبل وألطف وأفضل من جاءوا إلى هذا المكان، سوف لا أتهم أو استذنب شعور الرجال الاخرين الذين يثورون ويغضبون ويسبون ويشتمون عندما اقدم لهم السم واطلب منهم ان يشربوه اطاعة لأوامر السلطة. وانا على يقين بانك سوف لا تغضب مني لأنني لست المذنب كما تعرف والجرم يقع على الاخرين، وهكذا استودعك وارجوا ان تتحمل ما تستدعيه الحاجة، انت تعرف مأموريتي"، وبعد ذلك بكى السجان وخرج، ومع خروجه قال سقراط له "اقابل تحياتك الطيبة وسأفعل ما طلبت"، ثم نظر سقراط إلى أصدقائه وتلامذته، فقال لهم: "يا له من رجل ساحر لطيف، منذ إن جئت الى هذا السجن وهو يحضر دائماً لرؤيتي...والان تشاهدون كبير حزنه عليّ. ولكن يجب ان نفعل بما يقول. دعهم يحضرون السم يا كريتو اذا كان معداً، أو دع الخادم يعمل على اعداده"، فقال كريتو: "ان الشمس لاتزال فوق أعلى الهضاب والكثيرون تناولوا جرعة السم في وقت متأخر، وبعد ان اعلنوا بحكم الاعدام اخذوا يأكلون ويشربون وينهمكون في مباهج شهوانية، لذلك لا تتسرع اذ لازال هناك وقت"، فقال سقراط "نعم يا كريتو اولئك الذين تتحدث عنهم على حق في فعل ما فعلوه لأنهم كانوا يعتقدون باستفادتهم من التأخير في الشرب. ولكني مصيب في التسرع وعدم التأخير واعتقد أن تأخري في شرب السم لن يجدني نفعاً، لأنني بذلك اكون قد وفرت حياة قد انتهت، ولا يمكنني سوى الضحك على نفسي بذلك. لذلك ارجوك أن تفعل كما اقول ولا ترفض قولي". فأشار كريتو إلى الخادم الواقف في الغرفة لجلب السم، فذهب الخادم وعاد مع سجان يحمل بيده كأس السم، فقال سقراط لذلك السجان: "انت يا صديقي السجان المجرب في هذه الامور هل تدلني كيف أفعل وكيف أتقدم في شرب السم". فنصحه السجان بأن يشرب السم ثم يمشي قليلاً في الغرفة، حتى يشعر بثقل قدميه، ثم يستلقي، وبهذا يسري السم في كامل الجسد في الوقت نفسه.
وبعد ذلك قدم السجان كأس السم إلى سقراط، إلى معلم الإغريق والعالم، فمسكها، لِما سيخاف سقراط من الموت؟ إن كان الموت بالنسبة له هو الحياة، فشرب سقراط ذلك الكأس الممتلئ بحقد شعب أثينا عليه، الممتلئ بالديموقراطية الزائفة، تلك الديموقراطية التي لم ولن يستفيد أثينا منها في أي شيء.
وبعد شرب سقراط كأس السم بدأ أصدقائه وتلامذته يشعرون بما سيفقدونه بعد قليل، وبدأت الدموع تنهمر من عيني تلامذته، ومنهم أفلاطون الذي كان آنذاك في الثامنة والعشرون من عمره، وكيف لأفلاطون أن لا يبكي إن كان هو الذي قال "أشكر الله لأنني ولدت في عصر سقراط ".
ورغم كل هذا النواح والبكاء والمشاعر الهائجة والمضطربة، وحده سقراط من كان يحافظ على هدوئه، ومع أنه كان يعلم إنه سيموت بعد برهة، لكنه مازال يريد أن يعلم ويدرب تلامذته، أراد أن يعلمهم كيف يضبطوا أنفسهم، كيف يضبطوا مشاعرهم في أحلك الظروف، مازال سقراط يريد أن يعلم ويدرب، فهو لا يضيع أي فرصة في سبيل ذلك، فقال لمن حوله: "ما هذا الصراخ والصخب؛ لقد ابعدت النساء من هنا كيلا اشعر بالإهانة في مثل هذه الطريقة، فقد سمعت بوجوب ترك الرجل يموت في سلام. اهدأوا واصبروا". وحينما قال سقراط تلك الكلمات، خجل تلامذته وأصدقائه، فأوقفوا دموعهم.
وعندما كان سقراط يمشي في أرجاء الغرفة، بدأت ساقاه لا تتحملان جسده، فاستلقى على ظهره، وقال لمن حوله: "ستكون النهاية عندما يصل السم الى القلب".
وحينما اجتاح تلك البرودة القاتلة جسده كشف سقراط عن وجهه، لأنه قد غطى نفسه قبل ذلك، فتجمع أصدقائه وتلامذته المخلصين بالقرب منه بأرواحهم المتمردة والغاضبة على أثينا وبوجوههم الحزينة على معلمهم، فقد كانوا على حافة أن يفقدوا معلمهم ومرشدهم وصديقهم، وهنا قال سقراط كلماته الأخيرة، فهو مازال يريد أن يعلم ويدرب عقول ممن حوله على الحقيقة التي حارب من أجلها، فقال: "يا كريتو، أنا مدين بديك إلى اسكيبيوس، أرجوك أن لا تنس دفع هذا الدين؟"، فقال كريتو: "سأدفع الدين، هل هناك شيءً آخر"، ينتظر كريتو جواباً من سقراط، ولكن سقراط لم يعد باستطاعته أن يتكلم، إذ إن روحه انفصلت عن جسده وانطلقت إلى السماء، وأصبح نجماً في سماء الفلسفة، ليطلق عليه في التاريخ بلقب "المعلم الأول".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تغطية حرب غزة.. قيود غربية على حرية التعبير؟ • فرانس 24 / FR


.. شبكات | أبو عبيدة يحذر من مصير الأسرى في قبضة القسام.. ما مص




.. ضرب واعتقالات في مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في جامعات أمريكية


.. -الأغذية العالمي-: غزة ستتجاوز عتبة المجاعة خلال 6 أسابيع




.. التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية: العالم على حافة الهاوية