الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية الفاشلون

صيقع سيف الإسلام

2018 / 4 / 8
الادب والفن


مقدمة المؤلف :

نجد في الظواهر الطبيعية على تنوعها فكرا اختزاليا و مدارس اختزالية تريد أن تساهم في منح تفاسير نهائية للقضايا العلمية الخاصة بهذه الظواهر ، فيقال : كل ما هو سيكولوجي نفسي يرتد إلى حيوي بيولوجي ، وكل حيوي بيولوجي يرتد إلى فيزيائي ذري ، فالشعور بالسعادة يعود لارتفاع في هرمون الدوبامين ، ثم هرمون الدوبامين ليس إلا تركيبة كيميائية تفرزها غدد مختصة ما ، ثم هذه التركيبة الكيميائية أخيرا لا تعدوا عن كونها اجتماعا و اتحادا بين الذرات و الجزيئيات كالكربون و الآزوت . هكذا نبلغ في نهاية المطاف إلى محاولة تفسيرية للظاهرة السيكولوجية من منطلق الذرات و الجزيئات فقط ، و هذه هي المدرسة الاختزالية .
إن سؤالا يبرز بإلحاح حول هذه المسألة الاختزالية ، أي : إذا جاز أحيانا اختزال الظاهرة السيكولوجية بكل تعقيداتها إلى الروابط الذرية و الجزيئية ، فهل يوجد نظير هذا فيما يتعلق بالمجتمعات و الشعوب . أي مرة أخرى : هل لائق و سائغ اختزال مجتمع من أفراد كثيرة و شعب من مجاميع غفيرة العدد إلى عائلة واحدة أو إلى فرد وحيد فقط ، فتكون الدراسة الوافية و الفهم لهذه العائلة و تحليل مشاكلها و كشف تراكيبها كافيا لادراك علل و مشاكل المجتمع قاطبة ، و عليه الحلول لهذه العائلة هي بمثابة الحلول لسائر المجتمع . هل يا ترى اختزال الشعب كله في فرد وحيد ، فتكون دراسة و معاينة و معايرة هذا الفرد بالوصول إلى أعماقه و تعريته هي الأخرى بالنسبة للشعب ككل ، تحقيقا للحكمة العظيمة :« الإنسان عالم كامل و العالم إنسان كامل» . لا شك أن هذا الاختزال من المجتمع إلى العائلة أو الفرد يحوز شطرا واسعا من الحقيقة إن لم يحزها بأكملها .
تأتي رواية « الفاشلون » لتركز على بعض نقاط الفشل ضمن مجتمعاتنا الإنسانية ، و تمثيل هذا الفشل على شخصيات عائلة واحدة فقط ، كل منهم يبرز جانبا معينا ، و في نفس الوقت يبرز أنواعا من الشخصيات المنتشرة و الكاسحة لبيئاتنا ، فتظهر من سيماهم و أفعالهم و أقوالهم الاشارة إلى موضوعات : قضية المرأة ، الإصلاح ، المال ، الفكر الحداثي . . . الخ .
حقيق أن تسمية الرواية « الفاشلون » لكن هذا لا يمنع من وجود البطل الناجح ، و الذي يملك مشروعا اصلاحيا ما اضافة إلى ما يمتاز به من خصال معينة ، و لأن اكتشاف بطل « الفاشلون » ليس صعبا حسب ما أعتقد فسأترك شرف الاكتشاف للقارئ وحده تحديد البطل ، أو تحديد بطله الخاص إن كان ينازعني في التقييم لهذه الشخصيات و له بذلك الحق في تعيين البطل ممن يستهويه و يجد فيه ما يهواه و يأمل فيه ، ولو لم يكن ذاك البطل هو بطلي الخاص .
رب متسائل يتساءل : إن كانت الرواية موجهة لبيان الفشل فأين يكمن النجاح ؟ . أو : واقعنا مملوء بالفاشلين و شرح حالاتهم لن يجعلنا ناجحين ، و جوابي عن هذا : أنه أحيانا بل في أحيان كثيرة يتبين فساد الأمر بالقدرة على تصوره و تصويره جيدا ، صحيح أن الفاشلين كثر لكنهم جاهلين بحالهم وهم يعتقدون أنهم على سواء السبيل ، فتأتي هذه الرواية بأسلوب إظهار بشاعة الأحوال فيتصور المرء المسائل تصورا سليما و من التصور السليم فقط يفطن لفسادها ، ذلك أن فساد التصور محكوم بفساد الحكم ، و صحة التصور تؤسس لحكم صحيح ، و بناءا على مفتاح التصور هذا أقول : الرواية موجهة للضمائر قبل العقول .
إن عمل كل روائي يكون بقصد تحقيق مشروع ما ، و لا ريب أن أسمى المشاريع هي تلك التي نجد من ورائها أثرا يقرب من الفضيلة و يبعد عن الرذيلة . يقول ألبير كامو : أن أفضل الروائيين هم الروائيون الفلاسفة أمثال مارسيل بروست و بلزاك و دوستويفسكي . . و أدعم أنا كامو في هذا لأن أعمال هؤلاء و من حذى حذوهم هي التي أسست لمشاريع إصلاحية و مدارس فكرية جعلت البشرية تخطو خطوة للأمام في صالحها لا طالحها . و أستخلص من هذا أنه يجب على كل رواية --- من بينها الرواية القصيرة التي بين أيدكم --- أن تكون خطوة في سبيل التقدم لا القهقرى فالرواية إن لم تحوي بين صفحاتها فكرا فهي فاشلة ستموت ولن يكتب لها الخلود ، هي أشبه بفاكهة تستلذ بطعمها مادامت في فمك ، أما العمل الحقيقي فهو ما يبقى مع الإنسان طيلة عمره يرافقه ، بل يبقى مع البشرية دوما ، فمؤلف مثل دستويفسكي هو شخص يبقى مع الإنسان طيلة حياته لأنه ساهم في فكر نيتشه و سارتر و كامو و غيرهم و هؤلاء جميعا كانوا أصحاب أعمال تقدم شيئا للبشرية في إطار المعنى و الحياة الأسمى . إذن : أديب بلا فكر هو مدرسة تنتج شيئا يثقل قطار الإنسانية جمعاء و يحول دون بلوغها المحطة القادمة ، الأدب هو لباس للفكر ، هكذا كان سارتر فيلسوفا قبل أن يكون أديبا فأنتج الوجودية في مسرحياته ، أما أدب بدون فكر فهو كثوب سلطان أو ملكة موضوع فوق عمود من الحديد . . . ولا يفوتني أن أشير أن كل عمل أدبي بالذات هو شيء أكبر من مؤلفه ، فمهما يحرص على وضع أفكار معينة و رسائل خاصة و تحليلات لظواهر ، يبقى العمل في مجموعه شيئا يحوي أكبر مما أراد المؤلف وضعه فيه ، فرواية عطيل لشكسبير فيها أفكار لم تخطر على بال شكسبير أصالة ، و من هنا ألمح إلى فكرة رواية « الفاشلون » قد تحوي أفكارا خارجة عن معنى الفشل كما قد يراها بعض القراء ، الرواية كمنتج أشبه باختراع ما محدد لاستعمال معين لكنه قد يستعمل في مواضع أخرى كثيرة لم يردها المخترع و ينفع في التحضير لاختراع أفضل لم يخطر على بال المخترع ، الأمر سيان فيما يخص رواية ما ، كما قلت هي أكبر من مؤلفها في قضية حجم الأفكار التي تحملها مقارنة بما يريد المؤلف تبيانه و الإشارة إليه كخطوط عريضة رئيسة ، و أشير مرة أخرى : أن نمط الرواية الفلسفية الفكرية تبدوا خيالية بعيدة عن الواقع فتخلق ظروفا و شخصيات غريبة ليست من الحياة ، و هذا كامن من قراءة قاصرة و فهم ساذج لما حولنا . . . إن الرواية الفلسفية أكثر واقعية من أي رواية تصف أحداثا طبيعية ، فالرواية العادية تصف السطح و الأحداث و الألوان أما الرواية الفلسفية فتصف الداخل و الأعماق التي تخلق هذا السطح و الحدث و اللون . الرواية الفكرية أكثر واقعية من الرواية الواقعية في حد ذاتها ، لأنه لا حقيقة للسطح و الخارج بدون العمق و الداخل ، و ليس يصعب البرهان على هذه الحيثية ، فكل ملاحظ يجد أن الروايات الفكرية هي التي تساهم في خلق واقع جديد و تؤثر فيه بين أفراد المجتمع خلافا للروايات الواقعية كما تسمى . الرواية الفكرية لدستويفسكي بعنوان الشياطين كانت تمنع من النشر أيام ستالين لأنها تؤسس لواقع و ثورة خلاف لرواية ذات طابع واقعي عادي . . . هذا ينبه القارئ لما ينتظره في أسلوب السرد أنه ضمني باطني أكثر منه سطحي خارجي ، و لا أطيل المقدمة أكثر من ذلك فهاهي الرواية :



الفصل الأول

1- المكانة الاجتماعية

منذ ساعة و سودوروف يحوم حول مكتبه طوافا ، يديه خلف ظهره، يمسك عنق معطفه الطويل تارة و يمضغه تارة ، وهو يفكر تفكيرا عميقا حول الرسالة المفروشة على خشب مكتبه و التي جاءته صباح اليوم من أبيه في قضية تتعلق بالميراث . إن أب سودوروف يقضي الآن آخر ساعاته و يلفظ آخر أنفاسه و لذلك لزمه كتابة وصيته ، فما له من أموال ومن مؤسسات و أراضي واسعة ، هو يضعها حاليا في قصاصة من ورق تؤكد أحقية كل من يعطيه هذا الاب . هذا هو مصدر قلق سودوروف خلال الساعة السابقة كلها داخل حجرته ، يقرأ الرسالة ثم ما ينفك يعيد القراءة تلو القراءة ، مع كل سطر يدرسه يقوم بالتفافة و قطع خطوات قصيرة عاجلة ، وأخرى طويلة أقل عجولا ، لا ينبس ببنت شفة ، و أقصى حاله أن يرمق هيلينا بنظرات تعبر من خلالها ، فهو يركز عليها بغير ان يراها كونه مصابا بحمى التفكير من وضعه ذاك .
قامت هيلينا من الكرسي ماشية ببطء مع تمايل و في يديها الصغيرة تحمل جريدة قديمة هي جريدة « الوطن » بأوراق صفراء ، مطوية على عمود معنون بــ« قصة اليوم » . كانت الجريدة الصفراء عتيقة تعود إلى ما قبل عشرين سنة ، الاصدارات الأولى لجريدة الوطن و التي كانت تحوي عمودا خاصا للقصص الفكرية يأتي تحت عنوان « قصة اليوم » ، قصة « الفراشة » كانت قصة ذلك اليوم قبل عشرين سنة . . . وضعت هيلينا الجريدة الصفراء على سطح المكتب و رمقت الرسالة المفروشة بنظرة طويلة تلتها بنظرة أطول لشخص سودوروف الواقف عند النافذة يراقب بعينين شاخصتين ، ثم قالت كاسرة هالة الصمت المخيم :
---« قصة الفراشة جميلة و عميقة ، تنزل لأبعاد الإنسان الحقيقي ، لكني لم أفهم لماذا أتيت بهذه النسخة القديمة من جريدة الوطن ، ولم أفهم سبب كل هذا القلق من هذه الرسالة ، أليس هذا ما كنت تنتظره ، ألم يكن مبتغاك موت أبيك حتى تستطيع الانطلاق في الحياة . ليس علي أن اذكرك بوعدك أننا سنذهب إلى سويسرا دون رجعة ، هلا أخبرتني ما الجدوى وراء هذه الحيرة منك يا سودوروف »
التفت سودوروف لهيلينا ثم مشى ليجلس في مكتبه ، غير أنه قام سريعا ، هو من اولئك الاشخاص ذوي الطاقة الزائدة ، الذين لا تكفيهم حروف الأبجدية للتعبير عن أنفسهم ، بل يلزمهم قاموس كامل من الحروف و المشي في دائرة و تحريك اليدين و اللعب بالأقلام أو المفاتيح و طرطقة الاصابع . . . قام سودوروف مجددا و حمل الرسالة بين أصابعه و راح يتأملها لثانية ثم أجاب متحدثا دون أن يرفع رأسه عن الرسالة :
---« انظري ... إنني... قرأت الرسالة و ليس فيها إشارة لمن سيكون المدير المستقبلي للمجلة بعد رحيل أبي ، و لا إشارة صغيرة أقول لك ، لا شيء . انه يقول فقط كم هي نسبة الأموال التي سيدعها لي مع أختي و الخادم فلوبير ، لا أدري هل أصابه مس حتى ترك حصة من إرثه لخادمه ذاك ، لا يعقل . ساتحدث عنه بخصوص هذا الفعل الغبي ، أن يجعل من العبيد سادة يملكون المال و يتسمون باسم الأرستقراطية . على أية حال ، ليس هذا مهما الآن ، إن ما يثيرني خصوصا أن الوصية لا تشير مطلقا لأي تفصيلة صغيرة بخصوص إدارة المجلة ، أعتقد أنه ترك الأمر حتى ألتقي به و أزوره هذا المساء . أنت تعلمين أن هذه هي ليلته الأخيرة ، هي من توقعات طبيبه النمساوي ذاك ، نسيت اسمه ، مغرور قليلا لكنه بارع أعترف . قال النمساوي أنه متعب و مرهق بشدة لكن قبل لحظات احتضاره سينتعش و يعود له شيء من القوة فيتحدث كأفضل من واحد منا ، تلك علامة دنو ساعته . أليس هذا غرورا منه ، أنا أقول أنه غرور ، غـــــروووور ... »
كانت هيلينا هادئة تستمع ، تبادر بخطوات قليلة مديدة عائدة إلى كرسييها ، و هي تتأمل هذا القلق العظيم الذي يغزو سودوروف ، قلق كان قبل أيام قليلة نشوة و انتصارا و انتظارا لفرحة الأموال الآتية من الإرث ، فقد اتفقا معا بمجرد الانتهاء من مراسم الجنازة و الحصول على نصيب الإرث ، اتفقا على المغادرة إلى سويسرا و العيش باقي أيامهما هناك ، حيث كانت تحضر مفاجأة اطلاع سودوروف على نبأ حملها بطفل ، وان كانت تدرك أنه لا يحب الأطفال و لا يرغب في أن يكون له أطفاله الخاصين ، غير أن أمل الميراث و السفر إلى سويسرا يمكن أن يصنعا السحر في قلب سودوروف فيقبل بهذا الطفل و يتخلى عن فلسفته الخاصة ، نعم إن له فلسفة خاصة سأذكر نصفها الآن و أترك النصف الثاني لاحقا :
إن هناك نوعا خاصا من الأطفال الأقوياء يرون الكمال في أبائهم ، و لقوتهم الروحية يقررون في البدء التقليد لهؤلاء الاباء ، لكن بمرور الوقت و لنفس قوتهم تلك ينظرون إلى أبائهم على أنهم يزاحمونهم و يشكلون منافسا يجب تجاوزه و التغلب عليه . سودوروف من هذا النوع ، إذ كان عاشقا مغرما بأبيه بخصوص رئاسته للمجلة ، على أن الاب كان صاحب أراضي و تجارات و غنى واسع ، لكن هذا الابن لم يهتم بجانب المال إلا بما يسد حاجته ، امتلك المال لكي يتحرر من المال فقط ، في حين جل همه و رأس مال طموحه كان شيئا يشبه رئاسة أبيه للمجلة ، فهو يبصر انتشار مقالات أبيه التي يكتبها و الحماسة التي تثيرها في الجماهير ، و كونه تحت الضوء ، فعدا سلطته على العمال و كيفية امتثالهم لأوامره و خضوعهم لسلطانه ، عدا هذا توجد تلك المحافل التي يحضرها و يصنع فيها أجود خطاباته ، وتلك المؤتمرات التي تنعقد مع رجال الأعمال و البرجوازيين و رجال السياسة ، بل حتى كبار الوزراء ، ثم أخيرا وليس آخرا الحظوة العالمية التي كان يمتاز بها من خلال أفكاره و مجلته ، فلو جمعت الكتب التي تحدثت عن أفكار المجلة و طروحاتها و تحليلاتها و نسبة المتأثرين بها ، قلت لشكلت مكتبة ضخمة بحيالها تختص فقط حول المجلة و الأب رئيس المجلة . بعد كل هذه المشاهد أراد الابن الاحتساء من تلك الكأس و التذوق من تفاحة تلك الجنة ، جنة المجلة و ما تغدقه من حظوة و سلطة ومكانة اجتماعية ، هناك صار أشد حرصه بعد مرض أبيه على أن يترك له إدارة المجلة . كان مستعدا أن لا يرث فلسا واحدا بمقابل أن يسمع نغمة : سودوروف مدير المجلة . هنا يتضح شطر الجواب في عدم رغبة سودوروف في الأطفال ، حيث بعلمه أو بجهله ، كان في خلده و قرارة نفسه ، ينظر للطفل نظرته هو لأبيه ، رسخ في اعتقاده أن هذا الطفل القادم سيتمنى موته و يفكر في مزاحمته و منافسته في الوجود ، ولم يطق مثل هذه الفكرة كونه صاحب نزعة نرجسية أنانية في غورها البعيد . نفس هذه النرجسية تفسر لنا ارتباط شخص مثل سودوروف مع شخص مثل هيلينا ، ذلك أن النرجسية و الأنانية تريد في المقابل الخضوع و الاذعان ، ولم يكن لسودوروف ان يرتبط بامرأة إلا هي مثال حقيقي لمعاني الخضوع و الاذعان و الاستعباد في أرقى صوره و أجمل تجلياته و تمظهراته .
سودوروف يرتدي قميصا أبيض بربطة عنق قصيرة ، مع شال بني غامق ينزل بجانبي المعطف الطويل الذي يصل لحد الركب ، معطف أصيل كجواد أصيل ، هكذا كان يحب ان يسميه ، أما هيلينا فترتدي ثوبا واسعا من قماش عادي بأكمام طويلة مع شعر غير مسرح كما يجب له وإن كانت العين تراه ممسوحا بالجمال ، مربوطا بخرقة رقيقة تتوافق و لونه . سودوروف حازم الرأي ، يحتال لأفكاره و قناعاته بكل الأساليب ، ونادرا بل قل فرصة أن يعدل عن قناعة شخصية يعادل فرصة أن تلد بغلة أو تطير معزة ، أما هيلينا فلا تملك قناعات قط ، وإذا ما زارت فكرة ما خاطرها فلا تكاد تدافع عنها إلا بقولها مرة واحدة ، حتى إذا جاء نقد و تفنيد ممن يحادثها ، تركت تلك الفكرة دونما رجعة ، و بهذه الخاصية كانت هيلينا مع سودوروف تجسيدا حقيقيا للمعنى القائل :« المرأة على دين عشيقها » ، و من هذه الحيثية خوفها من رفض سودوروف لفكرة الحمل بالطفل ، تعلم أنه سيقنعها في جملتين حتى تصير من مناصري الإجهاض في لمح البصر ، على أنها أتت بحجة منطقية تلتها على مسامع سودوروف و التي فكر فيها طويلا ، ثم كعادته أقنعها بحيله الفكرية و الواقعية ببطلان أفكارها ، لا أعتقد أن الأمر تجاوز مدة عشر دقائق كي تقتنع أخيرا بخطأ ما ذهبت إليه ، ففحوى ما ذكرته هيلينا :
أن الحياة بما تحمل من مآسي و متاعب ، هي كذلك تحمل من المباهج و المتع الشيء الكثير ، وهذا الطفل الذي نمنعه فرصة أن يأتي لهذه الدنيا إنما نحن نمنعه تلك المباهج قبل أن يحصل على المتاعب و المآسي ، و هذا يسوق سؤالا صارخا : هل يمكن لذاك الطفل المعدوم أن يقبل المجيء لهذه الدنيا من أجل لحظة واحدة وحيدة فقط ؟ ، برغم المتاعب و الظلمات و المشقات وكل السموم ، هل هناك لحظة فريدة كاملة مثالية تستحق كل ذلك الثمن ، من أجلها يقبل الطفل المجيء للعالم . إذا كانت هناك لحظة يقبل من أجلها هذا فنحن إذن نظلمه و نتحجج بالمآسي و في واقع الأمر هو تحجج باطل من أساسه ، و إن كان اعتراض يجوز في هذا المقام فقد فكرت فيه هيلينا أثناء طرحها لفكرتها : من أين لنا أن نعلم إجابة الطفل المعدوم حول تلك اللحظة التي سيختار من أجلها المجيء ؟ . . . و الرد ببساطة أن نسأل الرجال و النساء وهم أطفال كبار فقط ، أن نسألهم فردا فردا ، هل توجد لحظة فريدة كاملة مثالية يرضون من أجلها المجيء لهذا العالم ، وأراهن أننا سنسمع كلمة « نعم » كثيرا ، فالإنسان في حياته و جميع سنين عيشه لا يعدوا عن كونه يتجه و يكدح من أجل لحظة أو لحظات معدودة هي أسمى ما يبلغه و يصل إليه ، قد يعيش ثمانين سنة لكي يصل إلى لحظة هي : مصادفة رجل غريب في شارع معزول ضمن زقاق ضيق ، يصافحه أو يلتمس في عينيه سرا ما ، ثم هذه الحادثة الصغيرة الهامشية تكون مفتاحا عظيما لفهم حقيقة نفسه ربما أو إقدامه على شيء عظيم . هي مجرد نظرة ، مجرد لمسة ربما ، اذن هي مجرد لحظة بعد ثمانين سنة .

اعتدلت هيلينا في جلستها و اتجهت بجسدها كله نحو سودوروف قائلة :

---« لا تزعج نفسك بلا داع يا عزيزي ، لا تهم رئاسة المجلة ما دمنا سنملك من ثروة أبيك ما يكفي كي نتجه إلى سويسرا ونعيش أفضل أيامنا هناك . لقد بدأت باعتبار نفسي أنني لم أعش أبدا ، و أنني سأولد من جديد في سويسرا ، ولادتي الثانية كما قال المسيح ، آه لا تعلم يا حبيبي كم أنا متشوقة متحمسة ، ألتهب من الداخل ، سأحبك في سويسرا كما لم أحبك يوما ، سترى ذلك ، تذكر كلماتي ..»
----« سويسرا هي جنة الملكوت لولادتك الثانية ..» . . علق سودوروف ساخرا وهو يبتسم ، ثم أضاف في مكر يحاول أن يثبت أهمية حصوله على رئاسة المجلة خلفا لأبيه ، قال :
----« آه يا قطتي الوديعة . إن ما نملكه من مال لن يصمد بنا ثلاث سنوات في سويسرا ، كل شيء هناك بأسعار مضاعفة ، حتى في الكازينوهات لا يقبلون الرهانات البخيسة ، أصحاب الملايين هم كما تعلمين ، و لا شك أنه سيلزمني وقت مديد حتى أحصل على وظيفة يمكن أن تضمن لنا رغد العيش ، الوظيفة التي ستجعلك تحبينني كما لم تحبيني أبدا ، أما إذا لم أجد عملا يغدق كسبا لائقا فسنضطر إلى مغادرة سويسرا و العودة إلى هنا . خطتي كلها من أجل سويسرا عزيزتي ، قطتي الوديعة ، حيث حصولي على رئاسة المجلة ولو عاما واحدا ، بل ولو شهرا واحدا ، سيضمن رئاستي لبقية الاعوام و الشهور ، فيكون لنا دخل مستمر غير منقطع مع ما يمكن ان نظفر به من المشاريع الكبيرة التي تحظى بها المجلة ، فهي مجلة عالمية كما تعلمين ..»
----« ولو عاما واحدا ، ولو شهرا واحدا ، ولو يوما واحدا ، ولو ساعة واحدة ...» . . ردت هيلينا في غضب ساخر ، و سرعان ما أفصحت مغيرة دفة الموضوع مائة و ثمانين درجة كاملة ، لحظات غضبها و انفعالها هي لحظات توقد ذكائها ، و سرعان ما ينطفئ الذكاء بانطفاء الغضب فهي قطة وديعة ، قالت :
----« أنا حامل بطفل ... يعني ... أنني ... حسنا ... اقصد أريد أن أحظى بطفل ، هي احتمالية واحد من عشرة أو ... حسنا ... ربما احتمالية واحد من مائة انني حامل ، أقصد أريد طفلا ، نعم هذا هو ، الطفل هو ما أريده ..» ..
برغم جسارة هيلينا و حجم الموضوع ، وبرغم احتراز و انطلاق حواس سودوروف دفعة واحدة ، إلا أنه اصطنع هالة الهدوء و الوقار ، وكبح جماح نفسه ممتنعا عن التعليق على هذه النقطة ، ثم استرسل في مزيد من الاغراء لقبول فكرة رئاسة المجلة :

----« هل تعلمين ، لقد كنت ذكية بل ملهمة جدا يا هيلينا حينما قلت لي أنني سأتذكر كلماتك ، ذلك أنني رأيت اليوم ، لا ، لا ، ليس رأيت ، أعود فأقول اكتشفت اليوم سرا عظيما به سنعيش رومنسية و عشق صوفي و تفنن إلهي و نحن في سويسرا ، هل تصدقين ؟ . هاه . و أنا في المقبرة اليوم أقوم بتحضير ما يلزم لجنازة أبي ، فقد اشترينا التابوت وهو نوع خاص من الخشب ، مستورد و لا يسهل فيه التعفن ، و تعلمين أنني لست من دعاة الدفن داخل التوابيت . . إن هذا يعيق مسيرة البشرية ، فحقيق من جهة أن سياسة حرق الجثث تساعد على ابقاء الأراضي غير مشغولة و بالتالي يمكن استثمار كل تلك المقابر في بناء المصانع و الزراعة و العمران ، نعم ، أنا احترم من يدعم سياسة الحرق ، غير أنه في الجهة المقابلة يساعد دفن الجثث في تغذية ديدان الأرض و المساهمة في تخصيب الأرض و إنبات النباتات التي تتغذى بها الحيوانات التي نقتات بها نحن البشر ، كما تساهم هذه الجثث في انتاج البترول . تعلمين أن كل بلد يملك عدد شهداء أكثر فهو بالضرورة يملك ذخيرة من البترول أكبر ، و الدفن للجثث أيضا صبغة إنسانية ، لا مانع ، لا مانع . . . لكن الدفن داخل التابوت شيء ضد منفعة الأرض و الحيوان و البشرية كلها أيضا ، و لكن على الأقل كان له اليوم صفة حميدة إيجابية ، ففي داخل المقبرة رأيت رجلا متوسط السن مع زوجته و هما يجلسان بجانب قبر طفل صغير ، هي طفلة كتب على قبرها اسم ليتيسيا ، عرفت ذلك لاحقا حينما لم أملك نفسي إلا أن أقترب و اسمع ما يدور بينهما . كان وجه الرجل يستقطبني كما تفعل قطعة القمر في الليلة الظلماء ، كان فيه شيء مميز جعلني لا أبرح النظر إليه ، و ليس يشبع المرء من التحديق في وجهه أو الاستماع الى طرب و موسيقى كلماته . هذا الذي ظفرت به مما سمعت و رأيت جعلني أخلص إلى أورغانون خاص للعلاقة بيننا يا هيلينا ، إلى منطق قائم بقواعده كلية . بهذا الأورغانون و هذا المنطق سنعيش في سويسرا و نذق ما لم نذقه ، و ستتحقق نبوءتك أنك ستحبينني كما لم تحبيني سابقا ، انظري و تحسسي خفقان قلبي و هيجان تنفسي ، مثلك أنا التهب متحمسا من الداخل يا عزيزتي ، قطتي ..»

أجابت هيلينا و قد هدأ روعها قليلا :
----« آه يبدو جميلا مسرفا في الجمال ، حدثني عن هذا المنطق الفني الذي سنعيش به في سويسرا . أريد أن أسمع كل شيء ، التفاصيل ، التفاصيل هي ما أعشقه فلا تسقط منها شيئا ، ثم ربما أنا أريد طفل ، لا أعلم . . . عدني أننا سنفكر في موضوع الطفل . هل تعلم ، لقد حظيت أختي بطفل وديع جميل ، حتى أنه يشبهك يا سودوروف أقسم لك ، له عيناك و طريقة لعبك بيديك ، أعتقد أن شيئا من صورتك قد رسخ في ذهن أختي فجاء ابنها شبيها لك من هذه الناحية . . آه ، إن له أصابع صغيرة جميلة جدا ، و ابتسامة تقتلني حبا ، هو ذا الحب الذي يقتل من البراءة و الملائكية ، انظر إلي سودوروف ، لقد فكرت حتى في الاسم و بقيت محتارة بين اسمين فلم أعمد إلى المفاضلة بينهما بل قررت أن نجعل من الاسمين اسما واحدا : جوناثان سيريجو أو سيريجو جوناثان ... أرجوك سودوروف تعال و ضع يدك على بطني ، إنه يخبرني بنبوءة . . تعال . . تعال ..»
ارتمى سودوروف عند قدميها ووضع رأسه على فخذها ، لكنه لم يملس بطنها ، في حين شرعت هي في دغدغة شعره لاعبة لاهية ، و بقدر ما علمه سودووف من شوق هيلينا إلى طفل إلا أنه واصل مصرا على فلسفته الخاصة و التي سبق أن ذكرت نصفها الأول و ها أنا أتم النصف الباقي . قال سودوروف متحمسا حماسة من يكتنز فكرة أصيلة لزمن طويل :

----« أدرك أن هذا صعب عليك يا عزيزتي ، قطتي ... لكنه تضحية عظيمة منك أن لا تنجبي طفلا ينال من العذابات و الأسى الشيء الكثير في هذا العالم القاسي ، و لقد فكرت طويلا فيما قلته لي سابقا، فكرت مرة ثانية أقصد ، و خلصت إلى أن الحل الأفضل يتمثل في مساعدة أطفال العالم الحاليين و السعي في جعل شروط عيشهم على أسمى حال يمكن الحصول عليه ، طفل أختك مثلا سنسانده و نجعله لنا ابنا معنويا من بين ابناء معنويين كثر ، سيكون لنا عشرات الأبناء ، أليس هذا أحكم من ابن وحيد يناله الأذى بعد أن كان في رحمة العدم ، و لأني أدرك خطورة الفكرة و أهميتها بالنسبة إليك ، فقدت قررت الكتابة عنها بمجرد حصولي على منصب رئاسة المجلة . الاهداء سيكون على الصبغة الآتية : إلى قطتي الوديعة هيلينا و ابنائي في العدم . . . تبدو عبارة عادية لكنها استغرقت مني زمنا طويلا ، إن فيها لب كل فلسفتي التي سأنثرها في مقالي الأول للمجلة ، متأكد أنا من أن المقال سيحدث ثورة في الأنماط ، سيحدث هزة للوعي البشري و سيعلمون قيمة و جدوى أن نتوقف عن الإنجاب في سبيل هذا العبث و اللهو الإنساني الذي يحمله كوكبنا الأزرق . . . أعلم . . . أعلم أن في كلامي شيئا من المثالية لا يتجانس و الواقع الذي نعيشه و نخبره ، لكنه خيال ممزوج بأمل . تأملي قطتي الوديعة ، إن مقالي حول توقيف الإنجاب لن يؤثر إلا في طبقات المثقفين الواعية الفاهمة أما دون ذلك من الناس و أنصاف المثقفين فلن يبلغوا من الشفافية لامتصاص حقيقة و جوهر فكرتي ، لكن هذا ما أحتاجه حقا . الناس لن يتوقفوا عن الإنجاب لكن توقف نسبة الطبقات الواعية الفاهمة لا شك أنه سيخفض النسبة إلى حد معين ، ربما حد مفرح أيضا ، ثم الاستمرار في الزمن سيعطينا أحد الأمرين ، أن يكتشف احد المثقفين من مؤيدي فكرة إيقاف الدراما الإنسانية وسيلة أو اختراعا يمنع الإنجاب أو استمرار الحياة حتى ، أو ينتهي بالناس إلى خلق المستويات المعيشية اللازمة لرفاهية الأطفال و قطع جذر كل شر و أسى مهما كان نوعه . صحيح أن الاحتمال الثاني يبدو صعبا بل بعيدا بل مستحيلا ، الإنسان ذئب على أخيه الإنسان كما قال هوبز ، لكنه يبقى احتمالا منطقيا و ان انتفت عنه الواقعية ، على أنه أحيانا كل ما هو واقعي يكون عقلانيا و كل ما هو عقلاني يكون واقعيا كما قال هيغل . . . دونك جريدة الوطن في اصدارها الأول ، حوادث الاطفال قبل عشرين سنة و مقدار البشاعة التي تحويها ، الآن النسب تزداد و الحوادث ترتفع أكثر . هذه الجريدة تذكر ثلاثة قصص لطفلين وبنت ، البنت تم اغتصابها من طرف أبيها وهي بعمر السابعة ، و الطفلين أحدها ولد و هو مصاب بشلل كلي ثم مات بسن الخامسة ، في حين الأخير وهو الأكثر غرابة ، بدأ بسن الثامنة في تناول الخمر و تعاطي المخدرات . ألا يفشل و يتهاوى للقاع مبدأ اللحظة التي يرضى الطفل من أجلها بأن يجيء إلى هذا العالم . قولي لي يا قطتي الوديعة و تخيلي تخيلا جامحا على قدر ما أوتيت من ذلك ، قولي لي ما قد تكون اللحظة التي يأتي من أجلها طفل مصاب بشلل كلي يموت في سن الخامسة ؟ . بيد أن دعاة الحب و الآمال الزائفة يدافعون قائلين : كله من باب الاستثناء و العموم خلاف ما تذكر . . . لذلك عمدت في مقالتي التي سأنشرها ضمن المجلة إلى تقديم طرح فلسفي ينقض العموم و تبقى الأمثلة التي ذكرتها تنقض الاستثناء . بنيت فكرتي على موضوعتين ، الأولى و هي الكوميديا الإنسانية ، هيء هيء ، ليست سرقة من بلزاك يا قطتي بقدر ما هي توافق صلب الفكرة . الكوميديا الإنسانية التي أقصدها أن الإنسان قد خلق أنماطا معينة و صار يسير فيها عن عمى و ضلال ، فقد كان أسلافنا ضحايا لظروف البيئة و الوراثة و خلقوا لنا طرائق معينة يعيش عبرها الإنسان فهذا سلف طريقه : ولادة ثم دراسة ثم زواج ثم ولادة أطفال ثم موت ، و سلف آخر لم يحصل على فرصة السلف الأول كونه عاش مستعمرا او تحت اضطهاد أو تحت ظروف أخرى فتجده يحاول تكسير النمط و التضحية و صناعة الثورة من أجل : ولادة ثم دراسة ثم زواج ثم ولادة أطفال ثم موت . . . إن المجتمع البشري مذ وجوده على هذه الأرض بكل دساتيره من حمورابي إلى مونتسكيو ، وبكل فلاسفته و فنانيه و عمرانه و آلاته ، كل ذلك و قد فشل في أن يصنع مجتمعا كمجتمع النمل أو النحل ، ناهيك عن المجتمع الإنساني المنشود وهو مجتمع وهمي لم ينل شرف الواقعية يوما ، بل نال شرف الكوميديا و المسخرة و المضحكة فقط ، و إذا كانت موضوعتي الأولى : الكوميديا الإنسانية ، لا ترقى لتثبت انعدام سبل معينة وجدت من قبل و توجد الآن ، فيها يكمن سلاك و خلاص البشر ، و ان لم نشاهد بريق هذه المسالك ، فتأتي موضوعتي الثانية لتنهي الدليل المنطقي . موضوعة : اللاجدوى . أن نقول : الإنسان ينشد مجتمعا مثاليا يريد الوصول إليه لكنه فشل و خلق لنا كوميديا و مساخر وهو يحاول بلوغ هذا المجتمع المثالي . حسنا ، فشل الإنسان لكن هذا لا يمنع من وجود المجتمع المثالي في ذاته و أنه حقيقي و قابل للواقعية ، إنما لجهل و حمق البشر لم يقدروا على تجسيد ذلك ، هذه هي الكوميديا الإنسانية لكن تأتي موضوعة اللاجدوى لتقضي نهائيا على فكرة وجود هذا المجتمع المثالي ، اللاجدوى تتمثل في هذا السؤال : و لم على الإنسان السعي لتحقيق المجتمع المثالي ؟ ، بفرض تحقيقه لن يكون شيئا عظيما بحق ، فقط بدل عبثية و تكرار و سذاجة مجتمعاتنا الحالية ستستبدل بعبثية و تكرار و سذاجة المجتمع المثالي ، فنعود للحلقة المفرغة . أي : بدل ولادة و دراسة وزواج و موت في مجتمع كوميدي سيكون هناك ولادة و دراسة و زواج و موت في مجتمع مثالي . هل أدركت لب فكرتي يا هيلينا أن الإتيان بالأطفال لهذا العالم لن يحل شيئا و لن يفيد إنما سيساهم في تضخيم الأزمة و استمرار الكوميديا فقط ، و لكن دعينا الآن ، مهما يكن فالقضية ذات خطر جسيم و أظن أن المقال سيثير زوبعة في الأوساط التي نعيش بينها ، إن فكرتي هذه تغازلني منذ مدة و يجب علي أن أبثها للملأ كي يستشعروا هذا الجمال ، الجمال في العدمية ..» . .

كان سودوروف ينطق بهذه الحروف بليونة و صوت بمستوى واحد لا يتغير ، كان يحفظ كلماته هذه جيدا لذلك لم ينفعل بشدة وهو يطلق سراحها من دماغه ، و قطعا أراد الاستمرار في مغازلة فكرته لولا شهقة صامتة صدرت من هيلينا . كانت قد أرسلت بعض العبرات و الدموع مع ابتسامة صغيرة تشبه ابتسامة الموناليزا . إن هيلينا في تلك اللحظة كانت شبيهة بالنسيم الهادئ الذي يحيط و يعمر الأجواء كلها ، هو ذاك النسيم الذي في طرفة عين ينجلي عن ريح تهلك الحرث و النسل و لا ترحم ، نسيم في اللحظة الأولى ثم إعصار في اللحظة الثانية ، خلافا لسودوروف المنفعل و المتحمس القلق الشبيه بالريح العاصفة . هيلينا كانت النسيم الذي يدفع شراع أكبر السفن فتقطع عرض البحر ، و سودوروف كان الريح العاتية التي تقلب السفن و تمزق الأشرعة .
علم سودوروف أنه تسبب في أسى بالغ لقطته الوديعة ، فأمسك يدها و صار يقبلها و يداعبها بيده ، وهو يردد على مسامعها مغيرا الموضوع ، ان كل هذه الدراما ستكون في طي النسيان مع أول خطوة و قبلة في سويسرا ، مع الفن الذي تعرف عليه في المقبرة سيخلقان لحظات خالدة سرمدية ، فالحادثة تصير ذكرى و الذكرى خالدة لا تموت . هناك التفت سودوروف إلى هيلينا و لاعب خدها قليلا و مسح طريق الدمعة في وجهها و قام عن ركبتها ثم أحضر كرسي مكتبه و جلس بجوارها ، أعاد إمساك يديها و منحها ابتسامة عطف و شفقة صادقة ، ولم يتكلم منتظرا منها أن تقول شيئا ، فقد أعجبه منظرها و تمنى أن تستمر تلك اللحظة دون انقطاع ، فهو برغم نظرته السوداوية ان جاز لنا نعتها بهذا النعت ، لكنه يحمل في قلبه حبا عظيما للإنسانية و لا يكسر فؤاده شيء مثل دموع طفل أو امرأة ، و كانت هيلينا تحترم هذه العاطفة الصادقة في قلبه ، رأت فيها نبالة برغم فلسفته الخاصة ، أعربت هي الأخرى مجددا عن ابتسامة الموناليزا ثم تلفظت بتدلع خاص :
----« كفانا حديثا عن المجلة ..أوجعني رأسي و لم أتناول دوائي .. هذه الايام لا اكاد ابذل أدنى جهد حتى تنال مني الدوخة و التعب ، أحبك يا سودوروف لكن حديثك أحيانا يقتل روحي ، أظنني لا أفهم ما تقول فهما كاملا ، تعرف قدراتي العقلية المتواضعة ، أعتقد من هذا يأتيني احساس أن روحي تموت بداخلي حينما اسمع خطاباتك هذه ، انظر إلى مجريات الأيام الأخيرة ، من مرض أبيك و قلقك على رئاسة المجلة و بروز عاطفتي للأطفال رغم قناعتي بما تقول ، أقسم لك أنا مقتنعة لكن هناك شيء داخلي يهمس و يخز أن روحي تموت بهذه القناعة ، لنغير الموضوع و نتحدث عما شاهدته اليوم في المقبرة وأنت تهيأ جنازة أبيك ، تنتعش روحي قليلا فأقتنع مجددا بكمال أعلى من المرة السابقة ، أقصد هذه المرة . . و لا تسقط التفاصيل ، أنا مولعة ، مولعة حد الثمالة بالتفاصيل الصغيرة . . » . . . ابتسم سودوروف لهيلينا و هي تحمر خجلا أثناء نطقها لكلمة الثمالة ، ثم أجاب في اقتضاب :
---- « تعلمين أن الوقت بدأ يتأخر و الظلام يسدل رداءه ، يجب أن أذهب لأبي و أتحقق من مسألة رئاسة المجلة ، و أقوم بتوديعه . إن الطبيب النمساوي يتوقع أن هذه ليلته الأخيرة ، لازال مصرا أن نبوءته سوف تتحقق ، فينتعش أبي أيما انتعاش كأفضل ما يكون وهو صحيح ليس به علة ، تلك أمارة دنو ساعته ، و لن يستطيع بعدها أن يعيش لما بعد الفجر . . شيطان يسلبه روحه . . لكنه بارع أعترف مجددا ، وربما في كلامه نصيب من الحقيقة ، هو يحاول أن يجعلنا نعتقد أن نبوءته من قبيل التبصر و الحكمة ، غير أنني أشك أن كلامه يستند لملاحظاته العلمية . إن الدماغ في مراحله الأخيرة يصاب بمزيج من الهلوسة و الواقع ، فيتحدث المريض و يظهر أنه قد استعاد صحته ، لكنها في الحقيقة ذبالة المصباح التي تبلغ قمة توهجها قبل أن تحترق نهائيا . . هكذا سأحاول أن أسرد لك ما رايت في المقبرة بأكبر قدر من التفاصيل لكن بانتهاء الغروب ، سوف أغادر يا قطتي . . »







2- الفن في المقبرة


قال سودوروف حاكيا لما رآه في المقبرة :

تعلمين يا قطتي كيف أن أبي أصر على دفنه بجانب أمي ، حتى أنه طلب نفس نوع التابوت المستورد الذي وضعت فيه ، و قد استغرق الحفر للقبر مدة طويلة لصعوبة الموقع ، أخبرت أبي أن موقع القبر ليس ملائما و يجب استبداله لكنه أبى إلا ذاك ، وكان كما طلب ، فقررت ترك مراقبة الحفر و التجول قليلا . المقبرة كانت مليئة بالنباتات و الاخضرار ما أضفى عليها صفة الجمال و الهدوء ، كأنها جنة صامتة من مشاهد بيض عليها أحجار مصقولة ببراعة تحمل اسم ولقب و تاريخ ميلاد ووفاة المعني ، كذا بعض المرشات التي تضخ رذاذ الماء على المساحات الخضراء و القبور المختلفة ، منها ما هو عادي مسطح ، و منها ما هو محاط بجدران دلالة على فئة خاصة مدفونة في تلك المساحة من المكان ، شهداء حرب ربما أو ساسة كبار ، لا أدري ، أيا ما يكن ، تمتعت منشرح الصدر ، حتى لفت انتباهي قبر صغير بجانب شجرة سامقة تنثر بفروعها الخضراء ظلا عظيما على القبر ، تقدمت قليلا بغية أن أصيب من ظل تلك الشجرة بقعة لي ، هناك لمحت رجلا و امرأة عند القبر ، علمت لاحقا من سياق الحوار أنهما زوجان قد فقدا ابنتهما الوحيدة ليتيسيا ، بيد أن ما جذبني للاقتراب منهما هو هيئة ذاك الرجل .
كان شخصا يملك لحية خفيفة مع عيون واسعة و شفاه وردية و شعر سواده فاقع . ما إن لم لمحته حتى عزفت عن التوقف مركزا فيه ، بل لم أملك نفسي إلا أن اشاهد و أرقب و أتأمل في وجه هذا الإنسان و شكله ، إن له وجها مسرارا لا تمل و لا تشبع من النظر إليه ، بل كلما أقمت تراقبه ازددت شوقا و هياما في متابعة رؤية وجهه ، و هو وجه ليس بالطفولي و لا بالرجولي البارز ، بل من ذاك النوع الذي لا يكبر و لا يصغر و لا يتأثر بدوران الساعة و فعل الزمن ، وجهه في العشرين كوجهه في الأربعين و الستين ، أما ملابسه و كسوته فهي ليست بالبذلة ولا بالعباءة و لا بلباس الكاهن ، ميزتها يا قطتي هيلينا أنه إذا دخل كنيسة أو مسجدا فستكون هيئته مناسبة ، وإذا دخل البرلمان أو تحدث مع رئيس و ووزير فأيضا هيئته مناسبة . لماذا تبتسمين يا قطتي ، هيء هيء . . لم أقع في غرامه يا قطتي ، لا تقلقي ، سوى أن له سلطة روحية كبيرة تخترق الفؤاد ، ولو كنت مكاني لتأثرت ضعف تأثري لصفاء سريرتك . . . لا يهم . . . لأكمل القصة :
اقتربت أكثر ، ولم تبقى سوى ثلاثة قبور تفصل بيني و بينهم ، تظاهرت أنني أصلي على القبر الأخير من بين الثلاثة ، حتى استطيع الاستماع و رؤية هذا الرجل ، شعرت أن له سرا إلهيا ، لا أدري ما حل بي ساعتها ، شككت في نفسي و تصرفي . . ماذا أصنع بحق السماء !!! . . لكنني واصلت الاستماع و الصلاة الكاذبة ، و رمقت المرأة عدة مرات لكنني لم أستبنها جيدا ، فقد كانت متجهة بجسدها كاملا للجهة الأخرى ، أقصد الأمام . . قالت المرأة :
----« تزعم أنك قديس ، و مع ذلك تبكي فراق ابنتك مثلي . . تمنيت لو كنت حمامة أو فراشة فأحلق عاليا و لا أعود للحزن الذي يملأ جوفي ، انظر لتلك الحمامة البيضاء ، مثلها أريد أن أغادر و لا أذرف الدموع . . » . . . هذا كان الكلام الأول الذي سمعته صادرا من المرأة ، و للتو أدار الرجل رأسه للحمامة البيضاء التي كانت تقفز قفزات قصيرة عند بعض النباتات ، حينذاك أخرج الرجل من جيبه قطع صغيرة من الخبز المفتت و بدأ يرمي بعضها بجانب الحمامة التي سرعان ما قامت بتلقفها واحدة واحدة حتى وصلت ليد الرجل و صعدت على متنها ثم طارت لكتفه و استقرت هناك وهو يداعبها و يمسح ريشها الأبيض الملكي ، ثم التفت بيده الأخرى لقبر ابنته ليتيسيا و رمى فتات الخبز عليه ، فجعلت العصافير المتلونة تهبط و تزقزق فوق القبر تتناول الفتات . . قال الرجل :
----« إن الطبيعة تخبرنا أنها قائمة على الصراع ، لكن هناك لمسة جمالية خفية في هذا الصراع . إذا قمت بخنق عصفور صغير من بين هذه العصافير ، حتما ستطير مفزوعة كما نفهم من العلوم ، لكن فزعها مصحوب بحزن روحي على خسارة رفيقتهم . هذا القانون الجمالي يهيمن على سائر الكون و أنا أحد أفراده ، ولو كنت قديسا فلي على الأقل حزن على ابنتي كحزن العصفورة بهذا القانون ، فكيف و أنا إنسان يحمل نفخة إلهية من الأزل ..» . .
لا تظني يا قطتي أن الرجل قديس حقا . إن ما قالته المرأة له واضح أن صيغته مجازية من أن أفكاره و عقائده هي تلك العقائد الروحية السامية التي بها يستطيع المؤمن تحريك الجبل إلى البحر ، المؤمن المتحد بالكون ، وهو مزعم بعيد عن العقلانية كما تعلمين لكن أن تقفي بمواجهة ذاك الرجل فستضطرين إلى إعطاء احتمال واحد من مليون لفكرة تحريك الجبل إلى البحر ، أقول لك بمنتهى الصدق يا قطتي . . تضحكين مجددا . . لا لست أحاول أن أكون دبلوماسيا حال أني أحزنتك قبيل قليل . . لا تقولي ذلك ، و ما سأحكيه تاليا يثبت لك هذا و ينزع هذه الابتسامة المتحذلقة من ثغرك . .

أمسكت عصفورة زرقاء قطعة خبز متوسطة الحجم و ارتفعت بها محلقة على رأس المرأة لتبلعها هناك ، ثم حلقت مرة أخرى تطوف حول الشجرة لتعود فوق قبر ليتيسيا تكمل وليمتها بعد أن سرقت أكبر قطعة فتات من رفيقاتها أظن . . قالت المرأة :
---« هل سمعت ما قالته ليتيسيا للعصفورة الزرقاء؟ . . . إنها تخبرها كم هي سعيدة مع كثير من الأطفال مثلها ، يلعبون و يمرحون ، وبشوق و شغف لا نهائي تنتظر تلك اللحظة التي سوف نلحقها ، ويكون العناق الأول في الجنة . تحكي هي أنها شفيعتنا عند الرب و قد استحى منها أن لا يجمعنا معها ، يبدو أن هذه العصفورة الزرقاء صديقة لابنتنا ، ربما تأتي دوما لهذا المحل . . » . . سقطت بعض الأوراق على شعر المرأة و التصقت بها ، وقد وجدت صعوبة في نزع إحداها ، فقفزت الحمامة البيضاء تنقر المرأة على رأسها و هي تحاول الفكاك و الرجل يضحك ضحكا خفيفا ، وصرخت المرأة معلقة :
----« شجرة سخيفة . . سوف أدعو لاقتلاعها حتى تستغل مساحتها في تشييد قبور أخرى للأطفال ، يؤنسون وحشة ابنتي .. و أنت لماذا تضحك .. أبعد حمامتك ، لم اعد أريد أن أكون حمامة تافهة . . أريد ابنتي ، ابنتي.. » . . و انفجرت المرأة باكية بكاءا حادا ، مع صرخة أسمعت الحفار الذي تركته عند قبر أبي ، و ارتمت المرأة على صدر الرجل و هي تقول بدموع غزيرة « ليتيسيا ، أريد ليتيسيا ..» . . لم يجب الرجل هو كذلك بغير الدموع الصامتة مع ابتسامة تعلو محياه ، و راح يهدهد على ظهرها و أراد أن يضحكها قائلا :
--- « أتعلمين . . إن الشجرة الآن غاضبة عليك ، أخبرتني أنك إن لم تعتذري لها سوف تمنعك ظلها . . هيا عزيزتي اعتذري بمضمضة فمك عما قلت ، إن ليتيسيا الآن تسمع شكوى صديقتها الشجرة و هي ليست راضية بذلك ، انظري ها هي العصافير و الحمامة قد فزعوا و إن غادرنا نحن ، فمن سيبقى مع ابنتنا ، هاه .. »
و هبت ريح خفيفة لكنها كافية لإبعاد أغصان و وورق الشجرة عن الزوجين ، فبقوا للعراء و الشمس تلفحهما لبرهة ، فتناولت المرأة جغمة ماء لتمضمض فمها ، ثم استدارت للشجرة ، وهناك رأيتها أنا ، قالت و هي تمسح دمعة لها و دمعة لزوجها تنزل ببطء تقطع خدوده صامتة :
---« لا تحاسبيني على التجديف يا عمتي ، فلقد حملنا أمانة الحرية و قد رفضتها أنت و السماء ، إنك تمثلين كل ما هو حب خلافا لبني الإنسان ، فأسألك أن تظلي ابنتي و تكوني عشا لصويحباتها الحمائم و العصافير و الفراشات. . و ها هو كل ما أملك من فتات الخبز أضعه في جوف ثقبك هذا لتسترزق به الكائنات ، صدقة مني لأكبادهم الحية ، و حياة لك بحضورهن على أغصانك و فروعك . . بل سأجعل في الثقب رسالة كتبتها يد ابنتي بنفسها ، كتبتها لي ، خذيها و احفظيها عندك . سأقرأها لك الآن ، حتى تعيش داخل عروقك و جذورك ألف سنة قادمة ، إلى يوم القيامة . . ها أنا أقرؤها لك :
ماما ، اليوم تمنيت لمعلمتي أن تعيش عمرا طويلا أثناء زيارتي ، قلت لها : أحبك كأمي و أنت أمي الثانية ، آسفة لأني لم اعلم بمرضك فأزورك قبلا ، لم يخبروني ، هم يعلمون كم تحبينني لذلك لا يريدون مني أن أعرف أنك ستغادرين المدينة فأبكي كثيرا كوني لم أودعك . . هم أشرار سرقوا كتاب القصص الخاص بي المرة السابقة ، لكنني احفظ قصة الفراشة عن ظهر قلب ، و سأحكيها لك غدا . أحب الفراشات مثلك أنا يا معلمتي ، يا أمي . . . »

كانت المرأة تذرف الدموع بغزارة وهي تقرأ كلمات ابنتها ، و تبتسم تبكي و تقرأ ، ثم تتوقف قليلا لتتحسس دفء يد زوجها و هو يطلب منها في لغة صامتة أن تكون قوية . تعود لتكمل الرسالة و قد أزاحت رأسها قليلا سامحة لأغصان و فروع الشجرة و أوراقها بإرجاع الظل عليهما و على القبر ، كفت الريح الهادئة عن الهبوب . هه ، لا أصدق أن دموعك يا قطتي بدأت تشع من ستار عينيك . . آه . . لم أعلم أنني أستطيع بلوغ هذا المستوى من العاطفة . أفاجئ نفسي اليوم حقا . كانت المرأة ممشوقة القوام ، ترتدي ثوبا ليس بالواسع و لا الضيق ، ليس بكثير الزخرفة و لا قليل البهرجة ، يعكس سمتا من الحكمة و الوقار . وقار المرأة الشريفة التي نقرأ عنها في الأساطير و الكتب المقدسة . حكمة المرأة التي نجد ملامحها عند فيلسوفة محركة للقلوب و الشعوب ، و أفضل من ذلك كله : أم بقلب نابض يسع الكون رحمة لو وزعت على سائر أفراده و كائناته و جماداته . . . أعلم يا قطتي أن هذا الكلام نقيض فلسفتي الخاصة ، لكنني أتحدث من باب الإنصاف . تدركين أن إقدامي على رئاسة المجلة بغير صفة الإنصاف و الفهم للآخرين سوف ينقص من صورتي و يقلل من قيمة أفكاري ، و أفكار بلا قيمة لا سبيل لها في إحداث ثورة أو هزة او تغيير طفيف حتى ، هكذا أنا أتحرى المبادئ التي يمكن أن تجعل مني رمزا في المجتمع له شعار خاص . سبق أن قلت أنها امرأة بسمت الحكمة و الوقار ، أعود فأكمل :

إن نظرتها تنبأ عن حب عظيم يقطن داخل قلبها فهو مملوء بإيمان القديسين الكبار و الأولياء العظام ، مباركة لا ينسل لمضغتها الحقد ولا الغل و لا الكره و البغض إلا ما لا سبيل في دفعه ولا استطاعة في الإحجام عنه و رده . نظرتها جعلتني للوهلة الأولى أتخيلها من نمط تلك المرأة التي يهرع إليها الإنسان الفازع القلقان المرعوب فتدثره و تأويه و تذكره أن هناك عناية ربانية ترعى النملة في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، فيجد من كلامها و حضنها الدافئ مأوى لا يستطيع جبابرة التاريخ أن يقتحموه و لا مدافع نابليون المائة و الأربعين و لا جيوش جنكيز خان منزوعي الرحمة و لا حصان طروادة الخادع الماكر . . . صحيح أنها لم تجذبني كما فعل زوجها ، غير أن لها نورا خاصا بها لا سبيل لزوجها في دركه و معرفته . اختصت به هي و مثيلاتها من النساء على جميع المخلوقات الأخرى ، و لأشير يا قطتي الوديعة ، أرجو أن لا تغضبي مني ، هيء هيء ، أريد أن أشير إلى أن هذه المرأة لا يشعر رجل اتجاهها بشهوة أو رغبة منحطة إلا إذا كان مختلا ملوثا في عقله و إحساسه . . هي عقل و نور تكمن قمة جاذبيته في « المعنى » ، في « الفكـــرة » ، في « الـــــروح » ، و صادق أنا لا دبلوماسي حينما أقول : أن لك نصيبا من هذا المعنى و الفكرة و الروح التي أتحدث عنها يا هيلينا . . .
في تلك الساعة دخل رجل و امرأتان إلى المقبرة، تقدموا في اتجاهي و لم يغيروا مسيرهم . علمت أن القبر الذي كنت عنده إنما هو لهم فتحركت لقبر ثان أقرب لأبوي ليتيسيا ، ولم يفتني أن ألاحظ تعلق بصر هؤلاء الوافدين الجدد بالزوج و زوجته ، لقد أصابهم شيء مما أصابني في رؤية الرجل و زوجته ، حتى أنهم نسوا الزيارة التي جاءوا لأجلها من طول الوقت الذي بقوا يراقبون فيه ، و قد خفت من أن مراقبتي اذا انضاف إليها مراقبة الوافدين فسيبدو الأمر مريبا و ينكشف غطائي ، و كان تصور الأمر لوحده فقط خليق أن يجعلني أشعر بحرج شديد ، لكن لم يحدث شيء من هذا بل قربي ساهم الآن في التقاط صورة أفضل و سماع لصوت بشكل أحسن . حينئذ شرع الزوجان في حوار متصل غير منقطع ، بدأ بكلام للزوج يتلوه جواب من الزوجة ، ولم يكن حوارا عاديا ، فهمت لاحقا أنهم كانوا يتحاورون فيذكر كل منهما رسالة أو كلاما أو كتابة لابنتهما ليتيسيا ، فما قالته ليتيسا للأم يذكره الأب ، وما قالته ليتيسيا للأب تذكره الأم ...قال الرجل :
----« ماما ، حينما أكبر أريد أن أكون طبيبة و أساعد الناس مجانا حتى يحبوني . حينما زرت أنا عمتي و خالتي في العطلة لم يفرحوا بي ، سيرجي ذهب إليهم ففرحوا بقدومه و رحبوا به ، جميع الأقارب يحبون سيرجي و لا يحبونني و يقدمون له الهدايا وحده .. » . . . كان الرجل و زوجته يحفظان كلمات ابنتهما عن ظهر قلب ، و هما الآن يتبادلان المقاطع من حديثها ، و هذه المرأة تبتسم و تمسح دموعها ، بل تبتهج و تفرح كأنها سمعت صوت ابنتها ليتيسيا من وراء صوت أبيها ، قام هو بتلحين تلك الكلمات التي صدرت منه مغيرا صوته مرققا إياه أكثر و معطيا لمسة حادة لصوته ذاك . . أمسكت المرأة طرف ثوبها وقامت بدورة كاملة على رؤوس أصابعها و رفعت رأسها للسماء و يدها لازالت ممسكة بالثوب ، قالت في ابتهاج لا يخفى :
----« بابا ، يجب أن تصدقني . . المعلمة تفرض علينا أن نحافظ على نظافة مرافق المدرسة ، أنا أوافق على ذلك ، ساعدتهم المرة السابقة في تنقية ساحة اللعب من القاذورات . . لكن المعلمة تقول أيضا يجب أن نحترم المدير . . بابا ، إن المدير له أنف كبير و خياشيم ضخمة ، أنف بحجم التفاحة ، ثم يغرس إصبعه في أنفه ، يع ، يع . أنا أكرهه ، يقول لي أنه يحبني لكن أنفه يزعجني ، أكرهه ، وإصبعه . . يع . . يع » . . و قهقه الرجل مبتسما ضاحكا كما لم يفعل من قبل . كان يكتفي سابقا بابتسامة هادئة تخيف أحيانا لهيبته و تبعث على الطمأنينة أحيانا أخرى لجمال روحه و سريرته ، غير أنه ضحك من قلبه هذه المرة ، خصوصا أن المقطع الذي سردته المرأة ، إنما سردته بلهجة ساخرة تقليدا لأدق تفاصيل النطق و الدلع عند الصبي الصغير ، عند ابنتها الصغيرة ليتيسيا . . . ثم جعلت الأم تغني أغنية لابنتها و يتابعها الأب في ذلك :
--- « الغول الكبير سيأتي ليلتهمني ، إنه يقول اتركي ذراع أبيك و تعالي عندي كي أهبك شيئا جميلا . . »
----« ماما ، ماما . . . إنه يقترب ، يقترب ، سوف يسرقني بعيدا عنك ، لا تدعيني . . »
. . .

قالت هيلينا و قد استغربت توقف سودوروف المفاجئ عن الكلام :

----« ما بك توقفت يا عزيزي . . إنها قصة رائعة و مؤثرة ، أريد أن استمع إلى تتمتها ، تتركني معلقة هكذا . . خيالي سوف يصيبني بالاضطراب و أنا أحاول رسم ما تبقى من الصورة . . لماذا قمت عند النافذة ، اجلس . . اجلس . . إن ما سردته لي الآن ، جعلني أريد مثل هذا الفن في هذه اللحظة ، أريد سحرا مثل هذا السحر في غرفتنا هذه الآن ، لا أن ننتظر الذهاب لسويسرا . . إنها ملحمة التي قصصتها الآن . . » . . . أجاب سودوروف و هو يقوم بتعديل معطفه و تسوية شاله على كتفيه ، ثم رمى النافذة بنظرة أخيرة و اتجه نحو الباب بعد أن حمل جريدة الوطن في اصدارها الأول قبل عشرين سنة . قال :
----« لقد تأخر الوقت يا هيلينا ، تجاوزني الغروب ، كان يجب أن أكون عند أبي في هذه اللحظة . . أووه لقد تأخرت ، لا أدري كيف سيفسر تأخري هذا ، أتمنى ان لا يقرأه كعدول و عزوف مني عن رئاسة المجلة فيهبها لـــــ . . . ؟ . . لمن تراه يهبها ، سواي ، لا ، ليس هناك شخص غيري بكفاءتي . . حسنا يا هيلينا أنا مضطر للهرولة الآن ، إلى اللقاء ، لقد تأخرت ، بل تأخرت جدا . » . . و صرخت هيلينا وراءه قبل أن يتجاوز الباب :
---« لماذا تأخذ معك الجريدة ، على الأقل أبقها عندي ، أريد قراءة قصة الفراشة مجددا التي كانت تحفظها ليتيسيا و تريد حكايتها لمعلمتها .. » . .و أجاب من غير أن ينظر و هو يصفق الباب خلفه مهرولا :
----« الجريدة هي ما أحتاج . . القصة . . القصة . . لقد تأخرت جدا . .وداعا »





الفصل الثاني

1—فلوبير ، خادم للأبد .


يبعد بيت سودوروف عن أبيه حوالي ثلاثة شوارع فقط ، و قد كانت تلك الليلة مناسبة تماما للمشي خارجا ، بسماء مليئة بالنجوم و هواء رطب بارد منعش قاتل للكسل ، في تلك الأجواء هرول سودوروف قلقا مضطربا ، يعاني من حمى التفكير وهو يخلق الفرضيات و يتوقع التفسيرات و التحليلات الممكنة لكل تصرف وفعل ، يعيد في ذهنه تلاوة رسالة الميراث التي قرأها مع هيلينا ، يعيدها حرفا حرفا عساه غفل عن حقيقة رمزية أو دلالة خفية ، و لاضطرابه و سرعة دمه مع حمى دماغه لم يكد يستشعر خطوة واحدة من التي خطاها حتى دار عند الزقاق الأخير الذي يأخذا مباشرة لمنزل أبيه ، فهاهو المنزل الكبير ، القصر لأكون أكثر تحديدا بهندسته الرومانية القديمة و تماثيله المزخرفة لتضاريس تلك الهندسة ، تماثيل سليمان كان يصفها سودوروف وهو يقصد من بينها جميعا تمثال أحد الأسود . . . كان منزل الأب كبيرا لكنه منذ وفاة زوجته لا تكاد تسمع فيه حركة ، كانت المرحومة تأتي بصديقاتها و سيدات الطبقة الأرستقراطية و رجال الثقافة و الفكر و علية الشعراء و الفنانين ، و لا شك أن هذا أبقى بصمة فنية في المنزل لازالت فيه لحد الساعة ، حيث البيت مملوء باللوحات المعلقة و التماثيل البرونزية و الموسيقى الكلاسيكية و الحوارات و النقاشات الدائمة في مختلف المواضيع السياسية و الفلسفية و التاريخية الفنية .
دخل سودوروف من الباب الأمامي و نزع معطفه و علقه عند الباب ، لكنه ترك شاله على رقبته و مضى نحو وسط البيت . إن هذا البيت كما سبق أن نوهت خال الآن و لا تكاد تجد فيه دليلا على الحياة ، تعزف فيه الريح و فلوبير . الريح تعزف مصفرة و فلوبير الخادم يساعدها بترنيماته التي يكتبها و خربشاته الموسيقية التي تعلمها بفضل سيدته القديمة أم سودوروف ، و برغم الشهرة التي يتمتع بها الأب و الحظوة في مختلف الأوساط المثقفة و الشعبية ، فلم يكن هناك زائر واحد ، بل لم يكن أحد يعلم بمرض الأب و أنه على شفا جرف من الموت ، يوشك أن يتداعى فيه دون رجعة ، هو أوصاهم أن يبقوا الأمر مكتوما حتى يعلن موته فجأة و تشيع جنازته فتكون محفلا ضخما قل أن كان له مثيل أو نظير ، ثم تعلل لابنته كاترينا أخت سودوروف ، حيث أصرت على إذاعة وضعه فيأتيه على الأقل أصدقاؤه . « إن في ذلك خيانة ..» . قالت كاترينا ذلك ، تصف تعليله حينما قال : « أريد أن أحفظ صورتي في العالم و أنا في كامل قواي و جبروتي ، لا أريد لهم أن يبصروني و أنا في مثل هذا الضعف ..» . . مهما يكن من أمر ، وجد سودوروف نفسه في ردهة المنزل ، هناك لمح الطبيب النمساوي وهو يتسامر مع رينيه و لم يلتفت إليهما بل مضى مباشرة إلى تلك الحجرة الصغيرة التي يتواجد فيها أبوه ، أحس أن نظرات النمساوي و رينيه تتابعانه خطوة بخطوة حتى دفع باب تلك الحجرة الضيقة ليدخل .
قبل أن أبدأ في سرد ما جرى داخل تلك الحجرة ، يجب أن أوضح حقيقة مهمة للقارئ تتعلق بسودوروف لحظة ولوجه الحجرة :
إن سودوروف قلق مضطرب الآن و منفعل بشدة ، إذا قلت أن دمه يغلي بالمعنى الحرفي فلن أكون مجانبا للصواب ، وهذا الانفعال الشديد الذي يكمن تحت سطح جلده برغم أنه يظهر منضبطا هادئا ، أعود فأقول : أن هذا الإنفعال الشديد إنما جاء جراء ترادف و تجمع عوامل ثلاث رئيسة . أولها ما أشرت إليه أن سودوروف ليس ذاك الإنسان الذي يهتم بالمال و أنه حينما قرأ وصية أبيه ، وجدها توضح نصيبه من الإرث من العملة المالية وهو ما لا يؤثر عليه ، ذلك أنه كان مهتما شديد الاهتمام بفكرة رئاسة المجلة و كيف تمثل له مشروعا كاملا لحياته ، فما حققه أبوه من خلق تلك المجلة و إدارتها و إيصال صوتها للعالم و نيلها لكل تلك الحظوة عند البائس الفقير كما الحاكم الرئيس و المعارض السياسي كما الفنان الشاعري و غيرها من طبقات المجتمع ، قلت هذه الحظوة و المكانة هي مبتغاه و غايته التي تتضح أكثر بالعامل الثاني : وهو مشاهدته لرينيه داخل بيت أبيه مع الطبيب النمساوي . إن رينيه هذا أحد اليتامى الذين تكفل بهم أب سودوروف واعتنى بهم ، فقام بتدريسه و السهر على رعايته ضمن مجموعة من اليتامى ، و مول المعاهد التي استضافتهم و الشركات التي تقدموا للعمل ضمنها ، ثم إن رينيه هذا شخص إذا أردنا أن نجد له صفة تمثله بين بقية الصفات لقلنا أنه وفي لليد التي تطمعه وفاء سبعمائة كلب . رينيه يملك من الطاقة على الامتنان و الامتنان و الامتنان دون أن يفرغ من ذلك ، وهو بهذه الخصلة استطاع ان يربح قلب أب سودوروف ، على أنها خصلة غير ملفقة و متعمدة بل أصيلة كلون بشرته و شعره . . . إن تواجد رينيه ضمن الردهة جعل الاستنتاج التالي يخطر على بال سودوروف : « ليس من احتمال آخر سوى أن رينيه جاء باستدعاء من طرف أبي حتى يعطيه منصب رئاسة المجلة ، و إلا ما عسى يتيم مثله يفعل في هذه اللحظات الأخيرة من حياة سيده ..» . . . سودوروف الآن يتخيل حجم خسارته ، و لا يكاد يملك أعصابه و علائم النرفزة لا تتقهقر إلى الوراء بل هي مستقدمة تنبأ بانفجارات عاتية سوف تكون . هل يعقل أن يخسر الأمر الوحيد الذي يمكن أن يجعل حياته ذات مغزى ، هل سيضيع كل شيء لأجل يتيم حقير كنا نغدق عليه بالنعمة و اليوم يعض تلك اليد التي أطعمته ؟ . . هذا كان القلق الأول الذي يحرق أعصاب سودوروف و هو قلقه الأكبر يليه قلق أقل أذى يتمثل في العامل الثالث : فكرة حمل هيلينا بالطفل . . . صحيح أن هيلينا لم تجزم في حديثها و كانت توهم أنها ترغب في طفل و تريد التحدث في الموضوع ، لكن سودوروف اعتقد أنها تتلاعب و تخفي حقيقة أنها أصلا حــــامل ، و هذه الفكرة من شأنها أن تجعل سودوروف يعيش قلقا عظيما و رعبا مخيفا . حقيق أن له فلسفة خاصة تمنع رغبته في الطفل للأسباب التي يريد طرحها في مقاله الفلسفي ساعة رئاسته للمجلة ، غير أن هناك دوافع أخرى قابعة في طوابق سفلى من نفسيته ، هو ذاته غير ملم بها و داري بوجودها . كانت طفولة سودوروف كما ذكرت سابقا منافسة لأبيه و محاولة لتجاوزه و التغلب عليه ، و لهذا السبب كان يمتنع عن رغبة إنجاب طفل سيتجاوزه و يتغلب عليه ، لا شك أن هذا ينطوي على أنانية عالية و هوس رهيب ، فكانت فكرة أن تكون هيلينا حاملا شيئا مزعجا بشدة زاد من قرقعة الدم في دماغه إضافة لمشكل المجلة ذاك ، هو يتألم الآن بين طموحه و بين مسألة الطفل . يدرك بلا ريب أن سعادة هيلينا في حصولها على طفل لكنه يوقن أنه سيكون أبا فاشلا مثل أبيه ، فما رآه اليوم في تلك المقبرة من حال الزوجين و ابنتهما ليتيسيا جعله يحقد على أباه مزيد حقد ، فهو لم يحظى بكل ذلك الحب و كل تلك الرعاية الغير مشروطة . أبوه لم يزد على توفير الماديات دون الروحيات ، ما أشبهه بجان يجاك روسو الذي كان يكتب للأمم ليصلح أحوالها بنظرياته في السياسة و التربية الاجتماعية ، كتابه « إيميل » شاهد على ذلك ، لكن هذا الفيلسوف الفرنسي الذي يريد صلاح المجتمعات استطاع دون أن يطرف له جفن رمي ابنائه في المياتم و دور الرعاية . . . هذه العوامل مجتمعة فاقمت من حساسيته ، فهو الآن كقنبلة موقوتة تنتظر أقل نسمة هواء لتنفجر ، تنتظر لمسة ريشة حمامة لتنفجر.
صفق سودوروف الباب مغلقا إياه ، و استدار للحضور و هو يعيد ترتيب صفحات الجريدة و يطويها في الحواشي . . . كانت الحجرة ضيقة لا تحوي إلا كرسيا عليه كاترينا أخته و سرير صغير قد صدأت أذرعه و بالكاد تستطيع حمل جسد الأب المريض . فوق السرير نافذة ضيقة بزجاج ملون قد فتح شقها ليدخل الهواء ، زوج كاترينا واقف بجانب النافذة يتأمل الخارج وراء تقاطيع شباك النافذة ، و الخادم فلوبير ينتظر على رأس الأب أن يلبي طلبا لأسياده ، على أنه في تلك اللحظة كان قد تخلى عن لباس الخدم وهو يرتدي بذلة أنيقة كالتي يرتديها أبناء الطبقات الأرستقراطية لكن سلوكاته و تصرفاته لازالت سلوكات و تصرفات الخدم ، لاحظ سودوروف أول ما لاحظ عند دخوله ارتعاد و ارتباك شديدين على فلوبير ، كأنه يريد قول شيء ما يحز في صدره ويثقل كاهله ، يقترب من أذن سيده تارة ثم يرفع رأسه تارة ، و يقلب بصره كثيرا في أرجاء الحجرة . . . قال فلوبير و قد تهلل قليلا لحظة دخول سودوروف :
---« مرحبا سيدي ، أقصد سودورو.. ، لم أتعود بعد على وضعيتي الجديدة ، فقد أورثني سيدي و لست أعلم ما أصنع .. بالمناسبة كنا بانتظارك ، اعتقد أنك تأخرت قليلا ، هكذا كانت تقول السيدة كاترينا .. » . . . التفت الأخت نحو أخيها متلفظة :
--- « إن أبي يعاني من وعكة شديدة الليلة ، ولقد كان الطبيب النمساوي عنده منذ دقيقة مرت ، قال لنا لا تزعجوه فهو ليس بحال يقدر فيه على الكلام الآن ، سوف يستطيع التحدث لاحقا . . قل لي أين كنت يا سودوروف ، عند راعية البقر تلك ، هه . . »
---« كنت عند هيلينا ، لم تدخل رأسي بعد قضية بغضك لها . . هلا توقفت ، فنحن لسنا في موقف يسمح بهذا النوع من الحديث الساخر ، إنني قررت الصيام عن هذه الأحاديث فهي تقتل بعض الأشياء الجيدة داخلي ، أقصد تقتلها عند الرجال لا النساء من مثلك يا كاترينا . . قل لي يا فلوبير . . أبي يتحرك و يتابعني بباصرته بل يحرك ذراعه كما ألاحظ، هل يستطيع سماعنا و التركيز لكنه عاجز عن الكلام حاليا . . » . .
---« نعم هو ذاك ، هو ذاك ، أعطاه حقنة ما جعلته على هذه الهيئة . . تبا له ، إني أرى أن نطلب طبيبا آخر و نستشيره ، هل ستصدقني إذا قلت لك أن تصرفات هذا الخبيث النمساوي توحي أنه سبب مرض سيدي ، ثم إن الراتب المرتفع الذي يأخذه إنما يأخذه دون نتيجة أو منفعة تذكر ، فهاهو سيدي ممدد طريح الفراش يختبئ من العالم حتى لا يروه و هو هازل مريض أصفر . . أعرف طبيبا ماهرا عند آل رومين ، يمكنني استدعاءه ، ما رأيك ؟ ..» . . كان الخادم فلوبير يتحدث بانفعال و يسترسل حتى يخفف من وطأة قلقه و توتره ، أما سودوروف فلم يجبه و لا كاترينا ، حتى علق زوجها قائلا دون أن يدير وجهه عن النافذة ، تحركت عينه فقط اتجاه الخادم . قال الزوج :
----« يبدو أنك حريص على إضافة راتب النمساوي إليك أيها الخادم . . ألا يكفيك ما حزته لحد الساعة ، ما من خادم محظوظ مثلك ولو له من صفات الأمانة و الحذق القدر الكبير ، أعترف أنك جدير بالاحترام فالأب المريض ليس سهلا إغواءه على الاطلاق ، هاه ؟ ..»
---« إن آخر شيء أبحث عنه هو المال ، صحيح أني خادم ولكن حاول أن تصدق كوني محب لوضعيتي و أنا خادم ، أنا عاشق أن أملك سيدا أساعده و يساعدني ، أنا لا أعرف أين سأذهب الآن ، و لأنني لم أمتلك مثل هذا الرقم الكبير من المال يجعلني شبيها بالطفل الذي يجد كيسا من الذهب فهو يرمي دنانيره و يحاول مضغها و بلعها ، ثم أخيرا يعطيها لشخص آخر في أحسن الأخوال . . صدق مرة أخرى أني توجهت عند آل رومين أسأل إن كانوا بحاجة لخادم يخدمهم ، مع أنه بحوزتي مال ربما يشكل ثلاثة أرباع ثروة آل رومين ، ترى أنت الآن أني صريح لهذا الحد في اطلاعك على أمور من قبيل الخصوصية ، لا اذن ، لست مهتما براتب النمساوي ، و ليذهب للجحيم . .» . . كان الأب يقلب بصره ينظر للخادم تارة و للواقف عن النافذة ، لا يستطيع الكلام هو الآن ، لكنه مع ذلك يسمع كل شيء ، كاترينا يظهر عليها أنها متاثرة بشيء ما ، لا أدري ماهو بالضبط ، هي لا تنزع عينيها عن أبيها المريض . كسر سودوروف منفعلا حوار الثنائي قائلا :
----« أرى أن لحظات مغادرة الحياة هي أعظم اللحظات على الإطلاق ، فن بحياله يجب أن يكون له مدرسة خاصة ، فحاولوا جميعكم الانسلاخ من جلودكم لهذه اللحظات الثمينة ، لنحلق عاليا في سماء المعاني . . آه ، مؤخرا بدأت أركز مع المعاني و أنمي ذائقتي بحثا عن السعادة و النشوة في تلك الأمور التي كنت أرفضها كالموت . كنت أصف الموت سابقا بأنه لحظة الهناء و الراحة من متاعب هذه الدراما الإنسانية السخيفة ، لكن اليوم أعتقد أن اللحظات الأخيرة قبل الموت أجمل من الموت في حد ذاته ، أرجوكم لنستمتع ، بدأت أحب هذه الكلمة الآن فقط حينما دخلت الحجرة . . . آه . . المتعة ، نعم . الرغبة و اللذة ، نعم . . تلك هي كلمة السر التي سأكتب عنها غدا في المجلة ، ألهموني ، هيا .. هيء هيء »
إن مجرد ذكر كلمة « المجلة » كان كفيلا بسماع تأوه من الأب ، و انطلاق حواس كاترينا نحو أخيها فهي الآن ترمقه بنظرات شزر ، تليق بنظرة العدو لعدوه فقط بل أرحم ربما ، أما زوج كاترينا فتعلوه ابتسامة ماكرة على وجهه و هو يفتح النافذة أكثر فتدخل حزمات نور أكبر . يكمن سر شخصية هذا الزوج أنه ذاك الإنسان الذي قد تعيش معه عشرين سنة دون أن تكشف عنه عيبا واحدا أو ثقبا في الكاريزما الخاصة به ، لا أنه خال من العيوب بل لأنه يمثل نقيض الإنسان الذي يملك عيوب كثيرة لكنها صغيرة تشوش على اتساق شخصيته ككل ، في حين هو من نوع الإنسان الذي يمتاز بالاتساق بل حتى الكمال في نظر من لا يفطن إلى أنه صاحب عيب كبير واحد و ثقب واسع وحيد فقط في شخصيته . عموما ، الإنسان الذي لا نجد له عيبا بسرعة فهو رعب و هيبة في نظر أعيننا ، يشكل شيئا مخيفا و غامضا ، في غموضه جمال كأنه شيء ليس إنسانيا على الإطلاق ، و هنا رهبة الخادم من الزوج الذي أردف رادا على مداخلة سودوروف :
---« إنني أتلذذ هذه الليلة ، اليوم تتحقق مفارقة الشياهم و القنافذ لشوبنهاور . . كل منكم قنفذ ملتصق بقنفذ و أدنى تحرك سيصيبكم جميعا بألم ووخز الشوك ، شوككم الخاص ، و التحرك حادث لا محالة فلم لا تباشرونه منذ الآن و تكفوا عن هذا النفاق . أبوكم عالم بنتيجة هذه الليلة أنها انفجار و صراع فانزعوا رداء الحب و الحزن الكاذب ، أخرجوا ما تودون قوله دون توسط . بلغنا من النضج ما يخولنا أن نتلقى الحقيقة المرة المقدسة عراة في هذه اللحظات الأخيرة التي تحمل سر نفس الإنسان . . إن الخادم قد اعترف بحقيقة مهمة وكان جريئا حينما اجنرح سره الخاص بحبه و بحثه الدؤوب عن سيد يرسم له مصيره . هو مستعد أن يمنح ثروته التي ورثها لرجل فقير حقير حتى يصير عليه سيدا يخدمه فيأتيه بالشاي عند الفجر و يغسل له ثيابه في الظهيرة و يسقي الأحصنة بعد العشاء . . شيء مثير حقا هيء هيء . . هاتوا لنا قليلا من الخمر ، أظن الليلة مناسبة للاحتفال . . هيء هيء . . شجاع أنت يا فلوبير ، من الآن فصاعدا سأناديك باسمك فلقد نلت احترامي بكلامك ذاك ، فلوبير . »
التفتت كاترينا لزوجها و هي مندهشة قليلا من هذه الحرية التي يباشر بها حواره ، و قامت من الكرسي لتجلس بجانب قدمي أبيها ثم وضعت يدها على جبينه تجس درجة الحمى لتي يعاني منها و طلبت من فلوبير أن يحضر لها كأسا من الماء تخفف به حمى أبيها . كاترينا تلبس سروالا أسود يبرز قوامها بشدة مع حذاء بكعب عال ، خصرها محاط بحزام مزخرف مصبوغ بصبغة الذهب وهو ، أي الحزام ، يختفي أحيانا تحت قميص له رقبة قصيرة ، كذا يبرز ذراعي كاترينا العاريين ببياضهما ، وهو بياض تعتريه حمرة ساعة انفعالها أو خجلها على أنها لم تكن تخجل كثيرا ، مرات معدودة فقط و في حالات لا يمكن لامرأة إلا أن تخجل في تلك المواقف . هي من مناهضي فكر الأصولية و التقاليد ، لها نزعة حداثية في الموضة كما في الأفكار ، و سنتطرق لبعض أفكارها الخاصة لاحقا . . . تناولت الكأس من يد الخادم و رفعت رأس أبيها بما يساعد على شرب الماء ، ثم بللت بعض القطرات في خرقة وضعتها على جبينه تخفف عنه قليلا ، حينذاك أمسك سودوروف الكرسي و قام بسحبه بجانب سرير الأب ، ثم جلس و أخرج جريدة الوطن العتيقة يفتحها على عمود « قصة اليوم » . بان عليه أنه يكتم غيظا و حنقا بالغين ، و أن ادعائه الهدوء ليس إلا غطاءا كاذبا . . . حاولت كاترينا أن تسلبه الجريدة و أن تخفف من وطأة و حدة حاله ، رددت أنه يجب الحرص على عدم ارتكاب أي حماقة و تجنب كل ما يمكن أن يندم المرء عليه مستقبلا ، هنا تبسم زوجها مزيد تبسم و توتر الخادم مزيد توتر و أجاب أخوها و هو ينظر الجريدة قائلا :
----« لا لسنا ملزمين أن نتجه اتجاه القنافذ و نتشارك الشوك و الوخز . . أبدا لا ، بل أقول أن هذه لحظات مقدسة نستغلها في الاعتراف حتى تخف غلاوة الحقد و البغض فينا ، و حتى نجد شيئا نتفق عليه اتفاقا لا فصام بعده ، تعلمون أنه في البلدان المتقدمة كيف تقام تلك الحصص للعلاج النفسي كما في سويسرا ، فيحكي كل فرد أراءه و مفاهيمه و أحاسيسه . هكذا سنفعل نحن في أمسيتنا هذه بل جلستنا ستكون أفضل و أمثل لأنها في سياق تحدي الموت ، في سياق مع اللغز الذي لم يظفر الإنسان في حله ، لغز الموت ، لنعترف و تكن أحزاننا الليلة بآلامها مطهرة لنا من درن كل شيء . . . إن أعظم عمل في هذه الساعة أن نجعل منه لوحة فنية حية . . هيا تناول يا فلوبير قلما و كراسة لتسجل كل ما سيجري بعد هذه اللحظة ، لا تسقط و لا تفصيلة صغيرة مهما بلغت تفاهتها . . قم بتدوين كل انفعال و تعبير و بيت شعر إن لزم الأمر . . إن كراسة حافلة بذكريات مقدسة مثل هذه سوف تكون موضوعا عظيما ليصدر في المجلة ، إن الجماهير تعشق مثل هذه الأمور . . خذ قلما أسود ، فهو لائق لمناسبة كهذه المناسبة . . كل المعاهيد الثقيلة في تاريخ البشر كتبت باللون الأسود ، و ليس من صالحنا أن نجعل حادثتنا استثناءا ..» . . الجميع لاحظ أن الهذيان قد بدأ يأخذ مأخذه من سودوروف ، فهو بحديثه أقرب للهلوسة منه للعقل و الواقع كما عهدوه ، غير أن الخادم فلوبير قد امتثل طائعا للأمر و أتى بقلم أسود و كراسة بصفحات كثيرة و أحضر معه كرسيا جديدا يجلس عليه برغم اتساخه ، فقد كان مليئا بالغبار و أصاب مساحة واسعة من بذلته فجعل يبدو كأنه قد فرغ من إصلاح مدفأة للتو ، غير أنه لم يفزع من تلك الأوساخ بل العجيب أنه استطاع أن يرتاح في تلك البذلة التي فسدت أكثر و صار منشرحا مبسوطا بعد أن كان متوترا ، ثم استعد للتدوين . . .




2---الأب الفــــاشل في كراسة الخادم فلوبير .

نذكر هنا ما جاء في كل تلك الكراسة التي قام الخادم فلوبير بتسطيرها ، و هو إن كان خادما فلسنا نشك في براعته الكتابية ، إن هذه البراعة في التدوين كانت بعض حسنات أم سودوروف عليه ، هكذا كانت الكراسة حافلة مليئة بما حدث داخل تلك الحجرة . بدأ الخادم بتدوين : سرد سودوروف لقصة الفراشة من جريدة الوطن العتيقة .
كتب فلوبير في الكراســـة :


كان واضحا أن سودوروف محموم قد فقد أعصابه و أن كارثة سوف تطلع ، أما الزوج فلم يبالي البتة بحاله خلافا للسيدة كاترينا . . أظنني لم أعد خادما كما كنت فيجب أن أتخفف من كلمة « السيد » و « السيدة » ، أنا ند الآن لهم أعتقد . . آه ، يجب أن أحذف هذا المقطع لاحقا . قلت : السيدة كاترينا ، أقصد كاترينا راحت تراعي الوضع المؤسف لأخيها فقالت :
---« يا أخي ..» و هي كلمة لم تنطق بها منذ دهر طويل ، و لا عجب ، فلم تحدث أخاها كما لم يحدثها هو إلا في مناسبات رسمية كالتي تجمع الغرباء .. قالت :
---« يا أخي ، هون عليك . . اترك الجريدة ، سأستدعي لك الطبيب النمساوي ليعطيك مهدئا ، أعلم أنك تحب أباك حبا مسرفا يبطن داخلك و أنت لا تدركه فقط » . . لكنه قاطعها قائلا بتهور و نوع من الصراخ في صوته : « لا ، لا . أريد أن أتحدث و أن لا يقاطعني أحد . أيها السادة ، إن لي كلاما كثيرا كان ينتظر هذه اللحظة بالذات ، و من غير الملائم أن يبقى مكبوتا كل هذه المدة ، سأتنفس اليوم تنفس الصعداء فارحا برحيل و موت أبي . . هيء هيء . . لا تقاطعوني ، لا تقاطعوني ..»
اعتدل زوج كاترينا ليتجه بجسده كاملا ثم رمق سودوروف بنظرة أتبعها بكلماته هذه : « اسمع يا سودوروف ، يبدو أنك مرهق جدا فلا تكلف نفسك ما لا تطيق ، انتظر سأذهب لأستدعي النمساوي فأنت لا تبدو بخير . . لا تبدو بخير أبدا » . . . إلا أن سودوروف قام من الكرسي يمنع الزوج من التحرك ، ثم قصد الباب فأحكم إغلاقه ليعود إلى كرسييه و هو يردد : « لا تقاطعوني أقول لكم ، لا تقاطعوني هيء هيء » . . . إن ضحكه هستيري مصحوب بنظرات و خزرات تشبه تلك الصادرة من المجانين ، أمسك جريدة الوطن ثم راح يقرأ في سطور من أحد الأعمدة فيها . هي قصة الفراشة التي كان يقرأها :

• * * *

في أدغال إفريقيا العميقة ، كانت هناك بين الأشجار و الوديان قرية صغيرة تختبئ دون علم أحد إلا سكانها من الداخل . قرية « الأكوان » كما كانت تسمى ، لم تتصل بحبل الحضارة أو المجتمعات الخارجية قط ، انعزالها في تلك المساحة العميقة من الأشجار و الوديان جعلها غير معروفة لأحد من العالمين ، و مثل سكان القرية فلم يدري أحد من خارجها بوجودها ، و فيما يخص هذا الشأن كتبت أسطورة تقول : أن قرية الأكوان يأتيها رزقها ما لم تكتشف من الخارج فيفتضح السر ، حيث كانت تعج بمختلف الكائنات من الطيور و الورود و الحشرات و الحيوانات . . الطيور تذهب لعرض البحر فتصطاد الأسماك لتأتي به للسكان ، و الحشرات مثل دودة القز تنسج لهم الحرير ليصنعوا منه ملابسهم و حليهم ، أما الحيوانات كالنمور و السباع فكانت تدافع عنهم ضد الضواري الأخرى من بني جنسهم . . ليس هذا فقط بل انضاف إليه : قدرة سكان قرية الأكوان على أن يمتلكوا زهورا لا تنبت إلا في كوكب زحل و صخورا سابحة رحالة لا توجد إلا في الفضاء الفسيح الصامت المظلم ، أيضا لغات و رسوم و نقوش تعود لسنوات الحضارة الأولى للبشر ، مع لغات و عادات و قدرات هي من المستقبل البعيد بالنسبة لمن يعيشون خارج قرية الأكوان . إن كل فرد من هذه القرية كان لا قدرة على تصنيفه في زمان أو مكان أو حال من الأحوال ، كأنه ابن الأزمنة جميعا و ابن للأمكنة جميعا و على كل الأحوال جميعا ، فإذا تحدث بعضهم بلغة آدم السريانية لم يحتاجوا لترجمان بينهم ، و إذا نحت بعضهم تمثالا أو هيكلا ، كان ذاك التمثال و الهيكل ينطق بمعناه من غير لغة ، هم لا يجدون حرجا في فهم رسالة أي شيء ، بل بلغ بهم الشأن لأن يملكوا أجسادا أقرب للشفافية الخفيفة الرشيقة كالتي عند الملائكة ، فلا يبدوا أحد منهم أسودا أو أبيضا أو منتسبا لعائلة دون عائلة أو منطقة دون منطقة ، على أن لكل منهم أفكاره الخاصة تشع بإشعاع في صدره يراه كل واحد فيهم . . . إلا أن السيد س ، وهو رجل من بينهم أصيب بلعنة لا يدري أحد مصدرها ففقد الضوء الذي ينبع من صدره ، حاول بسعي مستفيض أن ينقذ حاله ليسترجع ضوء صدره ، غير أن محاولاته باءت بالفشل و جاءت بدون جدوى تذكر ، فانعزل السيد س عن باقي أهل القرية في جهة نائية لكنها غير مكشوفة و يمكن للسكان أن يبلغوها دون أن يهددوا حالهم بوقوعهم في محذور الأسطورة ، فكان ينام في كوخ منعزل و يقضي أغلب وقته في التفكير ، ثم ارتقى التفكير ليخلق مشاعر الشك و الخديعة و المكر ، مشاعر تصارع الخير و المحبة و الصدق . أدرك س أنه إذا سعى بين قومه فلن يؤثر عليهم لأنهم لا زالوا يتمتعون بخواصهم تلك ، فهل يتركهم و يتجه ليفضح قريتهم عند أهل الحضارة الفقيرة من المجتمع البشري فيتحقق محذور الأسطورة و يصيرون بشرا عاديين . . . هكذا فكر في إحدى الليالي قبل أن يطفئ السراج ، هو يحب هذا السراج المضيء لأنه يذكره بحاله القديمة .
بدأ س يغط في نوم عميق ، حتى دخلت فراشة كثيرة الألوان صغيرة الحجم . إن مثل هذه الفراشة لا يوجد من بقاع العالم إلا في قرية الأكوان و هي كأخواتها الحشرات لها قدرة تخدم بها السكان ، فكما تمنح دودة القز الحرير ، كانت هذه الفراشة تستطيع كشف حقيقة أعماق الإنسان فهي تدخل عبر فمه وصولا إلى صدره دون أن تؤثر على العروق أو الأعضاء أو الأنسجة ، لا يكاد يحس المرء بأثرها البتة . الفراشة قد تعاهد استعمالها حينما يريد أحد السكان أن يعرف شيئا من عميق نفسيته يجهله ، فيسعد به إذا كان في صالحه ، أو يصلحه إذا كان يخفف من قوة توهج ضوء صدره ، يريد بذلك أن يمنع عن نفسه إصابتة بلعنة كالتي حلت بالسيد س . إن سبب دخول الفراشة لكوخ س مرجعه إلى فضول شديد من بعض أطفال القرية ، كانوا معجبين جدا بصدورهم المشعة و شفافيتهم النقية ، فأدهشهم س بحاله تلك ، خصوصا أن الحديث عنه قد كثر في القرية و صار موضوعا بالغ الأهمية و الخطورة ، تساءل بعضهم هل اللعنة تنتقل بالعدوى ، و تساءل آخرون هل يهدد سعادتهم وجود كائن منهم انحط لدرجة البشر العاديين ؟ . . . تسلل الأطفال بجانب كوخ السيد س ينتظرون عودة الفراشة حتى يكتشفوا سر اللعنة التي أصابته .
عبرت الفراشة من فم السيد س و مضت تنزل نحو صدره ، إنها لا تجد الرئة أو القلب أو المعدة ، بل تجد عالما مظلما بشدة لا سبيل في المشي فيه ، أشبه ما يكون بمتاهة عسير معرفة المخرج منها ، سوى أن الفراشة لما دخلت صدر س و لقوة بصرها استطاعت أن ترى قليلا داخل كل تلك الظلمة . . . رأت الفراشة آلاف الأبواب في صدر السيد س لكنها في مكان مظلم لا نور فيه البتة ، كل تلك الآلاف من الأبواب كانت مغلقة موصدة بسلاسل ضخمة لا تفتح بسهولة . في آخر تلك الآلاف من الأبواب المغلقة القابعة في الظلام ، في آخرها مساحة ضيقة جدا تمثل بابا يبزغ منه نور هافت جدا لا يكاد يكون نورا . نسبة هذا الباب المضيء إلى الأبواب الموصدة في الظلمة كنسبة شعرة بيضاء في جاموس ذي شعر أسود . . . دخلت الفراشة الصغيرة إلى ذاك الباب المضيء الصغير فوجدت أفرادا كثيرين بأعداد يقفون أمام مرآة كبيرة بحجم السماء ، تستطيع أن تعكس صورهم جميعا ، كان السيد س من بين اولئك الأفراد الكثر ، كان ينظر للمرآة بحجم السماء و يرى إنعكاسه هو فقط . كان الناس بجانبه كما رأت الفراشة لكن في المرآة لم يكن يرى السيد س إلا نفسه ، اختفى من نظره في المرآة العاكسة بقية الأفراد . كان هذا الباب الوحيد المفتوح ، أما بقية الأبواب فموصدة مخفية في الظلام .
صحيح أن جميع الأبواب كانت موصدة مختفية في الظلام لكن ليس بالنسبة لتلك لفراشة الصغيرة فهي ترى الأبواب و تستطيع العبور عبرها دون أن تمنعها تلك السلاسل الضخمة ، حينذاك شرعت الفراشة في العبور وراء كل باب تنظر ما يكون داخله ، تنظر ما يكون الذي ليس من السيد س . . . أول باب موصد في الظلمة عبرته ، وجدت داخله السيد س يمسك يد طفل صغير و يسيران معا نحو الغروب ، باب ثان كان فيه س فنانا يسرق لحظة الغروب من الزمن فيجعلها في لوحة ، باب ثالث كان س يعزف مقطوعة موسيقية يلحنها مع عصافير شجية الصوت ، باب رابع كان يساعد أحد الفيلة المجروحة في الغابة ، باب خامس فيه يسافر قصيا ليتعرف على أحد الأزهار النادرة في جبل عال ، باب سادس يصلي فيه صلاة طويلة مغمض العينين يخاطب الله في صميم قلبه بعد صيام طويل عن الشهوات ، باب سابع يرقص فيه رقصا دائريا بملابس رشيقة ناصعة البياض ، باب ثامن يعلم شلة من أصدقائه بعض العلوم الأدبية و العلمية و اللغات ، باب تاسع هو عاكف على الكتب في مكتبات تضم كل صنوف المقالات ، باب عاشر يبكي فيه بكاءا هادئا في حالة روحانية عظيمة . . . الخ الخ . أقام الأطفال ينتظرون الفراشة لتخرج من صدر السيد س حتى يكتشفوا سر اللعنة ، لكن ولأنها بقيت تجرب كل الأبواب ، استمر الأمر للأبد ، فالإنسان الحقيقي يحوي عوالم لا نهائية و أبواب لا تكتمل ، عوالم لا نهائية تستغرق الأبد السرمدي بالنسبة للفراشة .

• * * *

ما انتهى سودوروف من سرد قصة الفراشة حتى علق زوج كاترينا :

----« قصة طريفة ، إلا أنها خيالية أكثر من اللازم . . خيالية واقعية في بعض اجزائها ، لكنها مغرقة الشطحان في مواضع كثيرة ، بيد أن فكرة السيد س وهو لا يبصر إلا نفسه ضمن المرآة الكبيرة ، تصلح أن تكون لوحة فنية بريشة رفائيل أو بيكاسو . إنها فكرة مغرية جدا و لها طابع فلسفي و نفسي عميق ، أتراك تقصد أباك بالسيد س الذي لا يرى إلا انعكاسه وحده في المرآة برغم تواجد الناس حوله . . هيء هيء . » . . . قامت كاترينا بشكل مفاجئ و هي تشير بإصبعها لزوجها تارة و تلتفت لأخيها تارة ، قالت : « لا تستمع إليه ، إن له أفكارا إلحادية شنيعة لا يقدر على بلعها و السكوت عنها . هذا تفسير مخل يحوي استفزازا ، فهلا كففت عن هذا ، أنا واثقة من أن سودوروف لا يقصد سوءا بفكرة المرآة و السيد س . . إن ما يحدد حقيقة الشيء غالبا هو طريقة تأويله و تفسيره ولو كان يوحي في مبدأه بنقيض هذا التأويل و التفسير ، على كل ، يصعب الجزم في مثل هذه المواضيع . . كنت أريد منك أن تأتي بكأس آخر من الماء يا فلوبير . . لا أحب أن أوقظ أبي من نومه لكنه محموم بشدة و يجب أن آتي بخرقة قماش جديدة ، لكن لا يهمك ، سآتي بها وحدي و لو أنني نسيت كيف يبدو المنزل من الداخل لطول غيابي . . أنظر ، أنت تتصبب عرقا يا سودوروف ، سأحضر لك أيضا قليلا من الماء و الليمون . إن ماء الليمون مفيد لحالتك ، سيخفف عنك قليلا ، لا تقلقوا علي إن أنا تأخرت فلقد نسيت شكل البيت من الداخل »

لا اعتقد أن السيدة كاترينا قد خرجت من الحجرة تريد فقط بعض الماء لأبيها ، أظن أنها قد أدركت صعوبة الوضع فأرادت أن تخبر الطبيب النمساوي و رينيه في الردهة . هي تعلم رغبة أخيها الشديدة في رئاسة المجلة و كيف أن حالته مزرية توشك أن تكون مرضا عقليا في هذه الآونة ، من جهة ثانية : زوجها الاستفزازي بتعليقاته و تلميحاته التي تثير الفتنة . . . لم أرد أن أكون الخادم الذي يشاركهم في حوارهم بقدر أن أسجل . إن نفسية سودوروف الآن عصبية لا يمكنني احتمالها إن تفرقعت علي خصوصا ، غير أن لذة المشاهدة و إطلاق الأحكام مع نفسي شيء لا يستهان به البتة و لا يستذوقه إلا من جرب طعمه مرة و مرة . . طوى سودوروف الجريدة و مسح جبينه من العرق و أخذ نفسا عميقا ، فاستنشق طويلا ثم زفر زفرة أطول ، أعاد الكرة ثانية فثالثة ، كان واضحا أنه يجد صعوبة في الحديث ، لا في إيجاد الكلمات ، هو مختنق من كثرة الكلمات ، بل من شدة اضطرابه و حنقه ، و لما سكن قليلا و تحركت شفاهه ليتكلم سبقه الزوج قائلا :

----« سأعطيك نبوءة للخمس دقائق القادمة ، نبوءة أنك ستوجه لي لكمة قوية تطرحني أرضا و أقهقه من وراءها ، هيء هيء . . لم أحظى برهان مذ مدة سحيقة ، اشتقت لأن أكسب بعض الأوراق المالية . . هل نتراهن على نبوءتي ؟ . هيء هيء ».
و جاءه الرد : « اتفقنا على أن الأمسية ستكون فنية محضة ، و اتفقنا على أني لم أنهي كلامي فلا تقاطعوني . إن قصة الفراشة و خصوصا مرآة السيد س مقدمة ضرورية لما أنا مقبل على الإعتراف به ، لكن قبل ذلك سأوقظ أبي النائم . عليه أن يسمع كلماتي هذه قبل أن يخسر روحه ، عليه أن يتطهر ، نعم. بدأت استغرب كيف لمثل لحظة الفراق الأبدي أن يقضيها الناس في التبسم و البكاء على المريض الراحل ، في حين يجب أن يجعلوا من الأمر ملحمة و أن يستفيدوا درسا . قررت مذ هذه الساعة أن أحضر الدقائق الأخيرة لكل شخص سوف يموت ، إنها لحظة عظيمة لها قداسها الخاص ، لا لست مختلا ، لست مختلا مريضا . أعي ما أقول جيدا »

و راح سودوروف يوقظ الأب في غير استحياء ، لم أحاول إيقافه فلا زال ينظر لي نظرته لخادم ، كنت أخشى غضبه في نفسي ، أما زوج كاترينا فقد بلغ استمتاعه و خبثه لدرجة بعيدة ، هو يبتسم ابتسامة و عيناه تتطايران شررا و شرا . يسعى في إغضاب سودوروف إلى النهاية فيتسبب بلكمه لكي يضحك أكثر و يزيد من مستوى سخريته ، إن لكمة قوية توقعه أرضا هي شيء يرضي غروره و كبريائه . اللكمة من شأنها أن تكون عنده دليلا باهرا على نجاعة و نجاحة أساليبه الدنيئة في ابراز الدناءة عند غيره من الناس ، خصوصا ممن ينتسبون و يزعمون الانتساب أكثر إلى منظومات أخلاقية تربوية و مذاهب سلوكية ذات القيم العالية . يعشق أن يراهم يتمرقون في تراب الذل و الرذيلة و وحل النجاسة المعنوية إن جاز لي التعبير . . . فتح الأب عينيه بصعوبة بالغة و أطلق قليلا من التأوهات الحزينة المنكسرة ، إنه حقا يثير الشفقة في حاله تلك و لست أعلم المرض الذي أصابه لكن دواء النمساوي جعله معطلا كلية فلا حراك و لا كلام ، فقط نوم كثير و عطش شديد ، و لقد زعم هذا النمساوي أنه فعل ما بوسعه و أن أعراض الدواء متعبة و مرهقة كثيرا ، لكنها أطالت حياته قدر المستطاع و ما إن يفقد الدواء فعاليته حتى يظهر السيد كأنه قد شفي فيستعيد عافيته لمدة وجيزة ثم يموت مباشرة ، و لأني لست ملما بالطب فلا أملك إلا الانتظار لأتحقق من نظرية ذاك الطبيب النمساوي ، على أنه وغد حقا ، كان ينال مرتبا ماليا عاليا لا يستحقه .

قال زوج كاترينا : « هيء ، هيء . . أنا متأكد من أنك ستلكمني ، هيا نتراهن فأنا متيقن من فوزي هيء هيء . . لي كلام كثير كنت أخبئه لك يا صديقي سودوروف ، مثلما لك كلام مكنوز لأبيك » . . . لكن سودوروف لم يجبه و تمنيت أنا أن يوجه له عشرات اللكمات بل و يقطع لسانه الساخر . نظر سودوروف لأبيه طويلا و وضع الجريدة على كرسي كاترينا ، و قال :

--- « إنني بهذا الكلمات اللاذعة التي أتحضر لإلقائها ، أخاطب جزءا مني قبل أن أخاطب أبي المريض هذا . و أصدقكم القول أيها السادة أنني سعيت في إصلاح هذا الجزء المعطوب مني ، لكن بغير جدوى فقد تأسس المرض بقوة داخلي و لم أملك إلا أن أعيش به ، مثل القرحة الجلدية التي أعلم أن حكها يزيد في انتشارها ، لكنه حك لذيذ يثير النشوة و الشهوة . . . أيها السادة . . . إن السيد س الذي يقف وسط جمهور كثيف أمام مرآة ضخمة لكنه لا يرى في المرآة انعكاسه مع انعكاس الناس بجواره ، هو يرى فقط انعكاسه كأنه الوحيد الواقف أمام تلك المرآة ، ولو وقف معه أبناءه و أهله و والديه و ذويه ، لا ، لا . لن يظهر في المرآة إلا هو لوحده دون سواه ، فما تدعون هذا ؟ : أنانية أم عشقا للذات أم عمى داخلي . لست أدري و لكم حرية اختيار المصطلح ، لا مشاحة في ذلك . إن أبي هو السيد س في قصة الفراشة ، و لا أدري إن كنت تفهم ما أقول يا أبي أم لا ، لكنك السيد س الواقف نفسه الواقف أمام المرآة . . . إن أبي إنسان بلا مبدأ سوى ذاته و نفسه . تلك قاعدته في الحياة : الفلك الذي يدور حوله كل شيء هو ذاته ، مركز الأكوان قاطبة أيها السادة . . ليس من سبيل لتخيل حجم تلك الأنانية القابعة في صدره ، لو شاء لها أن تتمظهر في عاصفة لسحقت الأخضر و اليابس . . تشبيه في غير محله ، و لكم مرة أخرى في أن تبحثوا عن التشبيه الذي يساعدكم . لست اليوم في مزاج لانتقاء الكلمات بل ما يأتي به الخاطر ، و ما يأتي به الخاطر دون تشذيب يكون دوما الحقيقة . . . أبي شخص عظيم لكن عظمته لنفسه ليست لغيره ، فهو ذاك الإنسان الذي يملك من الأراضي الفراسخ الكثيرة و الهكتارات الممتدة ، يملك من المؤسسات الإدارية و الاقتصادية ما يجعله في مقام دولة لوحده . . هذه هي الكلمة التي كنت أبحث عنها: الدولة . إن أنانية أبي كانت تتجه لتجعل من حالها دولة قائمة بذاتها ، فالأنانية تلد التنافسية الغير شريفة ، ثم بهذه التنافسية الغير شريفة يصير المرء يسعى لتحصيل ما هو في نظر المجتمع رفعة و مقاما سامقا مرموقا من أعمدة الأسس ، يسعى المرء بالأنانية لتحصيل المال و الغنى مع تحصيل المكانة الإجتماعية ، شيء ما يتجاوز روتشيلد نفسه حتى أيها السادة . هذا ما سعى أبي في تحقيقه و قد نجح ، أن ينال مكسب الثروة و المكانة الإجتماعية ، فهو ثري و سيد مفكر في آن معا ، تلك خصلتان قلما اجتمعا في جسد واحد فالمال من شأنه أن يبعد عن الفكر و الفكر من شأنه أن يزهد في المال . . لكن الأنانية تجعل الفكر خادما للمال وهو ما حدث لأبي ، فإذا تبينت هذه الصفات من الأنانية و الثروة الحاكمة في الفكر ، لم يصعب استنتاج كيف أن أبي تخلى علي و تركني بدون تربية روحية إطلاقا . هو كان يمنحني من المال و الشؤون المادية فوق حاجتي لكنه كان في لب ذلك يعاملني بازدراء ، لم تكن علاقة أب بابنه بقدر ما كانت علاقة تجمع بمتسول في الشارع بمانح الهبات . . و كم لصبي صغير مثلي أن يتساءل بهذا الصدد : ما الجريمة التي اقترفتها حتى أعامل كمتسول ؟ .. و حصلت الجواب في شيئين ، الأول : حينما بدأت المجلة التي أنشاها أبي في اجتياح العالم ، وصار قلمه فوق كل الأقلام و مقالاته و طروحاته تجد لها صدى واسع بين مختلف الطبقات ، فأعماه كل ذلك البريق من الشهرة ، حتى جعل يظن أنه نبي عصره و المهدي الذي أحيلت إليه المفاتيح كي يهدي الخلق أجمعين . بهذا لم أقدر حتى أن أرى أبي و لم أجد حينها إلا فلوبير ليؤنسني و يسمع قصصي التافهة و حكاياتي الغرامية كما عند المراهقين ، لم يسمع أسراري الصغيرة أو يوجهني بنصيحة أو أن يأتي بي كي يفقهني في كبار المسائل و أمهات الأمور الضرورية في الحياة العملية التي كانت تسلبه ، لا ، لا . ليست الكلمة تسلبه بدقيقة ، لأستبدلها بكلمة تمنحه . نعم ، تمنحه اللذة وهو يروي ظمأ أنانيته اللامتناهية . . . ثم خطر لي أن أبي لا يملك شيئا ليقدمه لي ، هو على غناه بأفكاره و ثقافته و تجربته العملية لكنه من جميع العوالم التي في صدره و من جميع الأبواب داخله لا يملك إلا بابا و عالما واحدا مفتوحا : الأنانية . باب مرآته . أما بقية العوالم و الأبواب التي يمكن أن يكون بها أبا صالحا لي ، أن يكون بها إنسانا عظيما ، أن يكون صاحب الفضيلة . . قلت : بقية هذه العوالم و الأبواب كانت موصدة بأغلظ الأقفال تختبئ في ليل أسود من الظلام ، و لأني مراهق تافه يعوزني العقل و الحكمة فقد وجدت لذتي القصوى في أن أحظى بجمهور أستعبده مثلما استعبد أبي جمهوره ، مذ تلك المراهقة قررت و عزمت دون رجعة أن أستولي على رئاسة المجلة في حياة أبي أو مماته حتى أروي ذاك العطش الداخلي عندي ، عطش ورثته من أبي بطريقة صده لي و ابتعاده فخلف داخلي وحشة و ووحدة عظيمة ، اجتهدت في أن أملأها بهتاف الجماهير و احترام كبار الساسة و الفن لي ، و هنا يأتي الأمر الثاني في جواب سؤالي السابق : عوملت كمتسول لأنني لم أكن أعرف الامتنان لأبي بما فيه الكفاية .

نسيت أن أذكر : أبي كان يقدم مساعدات مالية لعدد من المياتم و دور الرعاية و كبار السن ، و قد نشر مقال عنه في أحد الجرائد يشرح كيف أنه يملك حبا عظيما للضعفاء ممن خسروا أبائهم أو فقدوا أبناءهم ، بعض اليتامي مثل رينيه الجالس بالردهة حاليا كان محبوبا جدا لأبي فكان يأخذه معه أينما ذهب و يرعى أقل أشيائه أهمية ، و مثله رينيه كان يعرف أبي جيدا ، بل أفضل مني . يعرف ماذا يريد في وقته و هيئته . يعرف أحاسيسه و أحداثا من ماضيه و تاريخه . . . المهم ، كان هذا اليتيم يعرف أبي أفضل مني ، وكان أبي يعرف رينيه أفضل مما يعرفني . شدهت جدا من هذا الحال ، أنا متسول و رينيه اليتيم ملك . كما قلت ، السر كان في : الإمتنان . . . إن أبي شخص عاشق محب للامتنان ، و لأني ابنه الأصلي فلم أكن ممتنا له ، خلافا لرينيه و من كان يرعاهم في دور الرعاية و المياتم و غيرها . . . هم تميزوا أنهم يمتنون ليلا صباحا كأذكار العبادات ، فإذا تحدثوا لصحيفة أو في برنامج أو كتبوا تقريرا . أي شيء صنعوه كان يكون على رأسه صيغة امتنان لأبي لأنه صاحب الفضل الذي أوصلهم لما هم عليه الآن . كان معبودهم و إلههم المطلق ، و بلا ريب ، أنانية أبي وجدت في ذلك الامتنان سعادتها فاهتمت برينيه أيما اهتمام و تركتني أنا للوحدة المقحطة في صحراء فارغة من الحب و الرعاية و الحنان ، أبي لم يقم بتعويض حب أمي حينما خسرتها ، بل فاقم و ضاعف من حزني و ألمي بابتعاده عني . . . إنك الآن يا أبي ، يا مستر س تترك رئاسة المجلة لرينيه ، أعرف ذلك دون أن تتحقق نبوءة النمساوي فتتحدث ثم تموت . كله من دافع الامتنان نفسه ، سيبقى رينيه يذكرك في المجلة و يمتن كل صباح أمام الموظفين قائلا : أنا هنا بفضل سيدي ، لن أغير فكرة من افكاره و لا حتى مكان القمامة في مكتبه . . سيمتن و يمتن و يمتن فتبقى أنت يا مستر س رئيس المجلة بعد مماتك ، وهكذا تريد و تطمع في أن يبقى لك جمهور و أتباع و عبيد حتى بعد مماتك و مغادرتك لهذا العالم . ألا إن هذا فائق الأنانية لم يسجله تاريخ من التواريخ ، سجل يا فلوبير كل كلمة مما قلت فهو شيء يجب أن يعلمه بنو الحاضر قبل المستقبل فلا يعتمدوا ولا ينتظروا أباءا من هذا النوع ، فيخسروا حياتهم مثلما خسرت أنا ، و يتعلقوا كما تعلقت أنا بمكانة إجتماعية أستطيع إبادة دولة في سبيلها . . آه ، لا تستغرب يا زوج أختي كيف أنني أعلم بمرضي و هوسي هذا و مع ذلك أنا مستمر في تحقيقه . قلت لك سابقا هو أشبه بالقرحة الجلدية التي تثير الحكة اللذيذة لكنها حكة توسع القرحة ليلتهب الجلد في مساحة أكبر »

انتهى سودوروف من سرد كلامه و لن أكذب فقد هزني أنا هزا قويا ممزوجا بحنق ، حنق على نظرات و زوج كاترينا وهو يراقب في هيئة سخرية لما يقوله سودوروف ، ضحك في مقاطع من كلامه خصوصا حينما تحدث عن الامتنان و رغبته الجامحة في رئاسة المجلة . . . إن سودوروف الآن يخزر أباه بكره شديد وهو يتابع دمعة عابرة صامتة نزلت بهدوء من عينيه ، دمعة أثارت غضب ابنه فأمسك الجريدة و مزقها و رمى بالكرسي في اتجاه الزوج دون أن يصيبه وهو يصرخ مرددا : « تبكي الآن ، بعدما فات الأوان و ضيعت حياتنا بهذا الفقر الداخلي . . إنك امرؤ حقير تستحق القتل بيدي هاتين . . هيا ، ما رأيك ؟ . هل أنهي معاناتك الآن بسرعة حتى تحتل مكانك في الجحيم ، إن أمثالك يتزاحمون في جهنم ، فحتى الرب نفسه لم يدري بأنه خلق صنفا من صنفكم »

كان سودوروف واقفا عند أبيه و هو يخنق الهواء القريب من رقبته و يكز أسنانه و يلهث بشدة ، لتصدر قهقهة شديدة من زوج كاترينا ، هذا يكز و يلهث و يخنق الهواء و يضغط حتى تؤلمه أصابعه ، وذاك يضحك و يقهقه و يزيد في صوته متابعا لحركات الابن وهو يردد « أوديب ، أوديب . هيء هيء » . . . دخل الطبيب النمساوي و رينيه فجأة ، استجابة للضجة و الجلبة التي أحدثها سودوروف ، كاترينا كانت من ورائهم مباشرة ، يبدوا أنها أخبرتهم بهيجان و قلق أخيها . . قال رينيه و هو يضع يده على كتف سودوروف :

« اهدأ يا أخي ..» . . و في لمحة خفيفة استدار سودوروف و هو يوجه لكمة قوية لوجه اليتيم رينيه فصرعه أرضا ، ثم أراد أن يعيد الكرة مرة أخرى لولا أن أمسكه الطبيب و مع ذلك كان يدفعه وهو يردد:« سأقتلك أيها الجرذ الحقير ، سأدفنك حيا » . . في الجهة المقابلة ازدادت قهقهة و ضحك زوج كاترينا ، و بدأ يصفق و يقول كلمة مرحى ، مرحى . . . كان بودي أن أتدخل ، فمن واجبي كخادم و صديق للعائلة أن أمنع مثل هذه الكارثة لكنني و بجانب كرهي لزوج كاترينا ، فأنا أبغض كذلك هذا اليتيم اللئيم رينيه وهو يستحق ما ناله بل قليل عليه ، تمنيت لو أنه شج رأسه بساطور . أطلت النظر في الدم المنبزق من فم رينيه ، كان لذيذا لي مشاهدته يتألم ، دمه كان يزداد هديرا دون توقف ، لكنني فطنت أنه دم سودوروف يسيل من أنفه ، و في اللحظة التالية سقط مغشيا عليه . ها أنا أتوقف عن التدوين و أغلق الكراسة .










3---نظرية في المال و الحب


بعد أن أنهى الخادم فلوبير الكراسة ، قام هو و الطبيب بحمل جسد سودوروف إلى غرفة ثانية من البيت ، هناك أحضر ماءا باردا في إناء كبير نسبيا و جعل قدمي سودوروف داخله ، ثم أعطاه النمساوي بعض المهدئات بعد طلبه أن يشعل عود من الروائح الزكية . أقام الطبيب يلاحظ الحالة التي ستتجه إليها صحة المريض في حين قرر الخادم فلوبير العودة إلى حجرة العائلة أين يتواجد رينيه و كاترينا و زوجها مع الأب . قال فلوبير للطبيب :« سأعود بعد نصف ساعة لآخذ سودوروف إلى منزله ، سأستدعي عربة تحمله فلا يمكن المخاطرة ببقائه ، ربما يستيقظ ويعود له غضبه فتتدهور حالته أكثر و يسبب مشاكل أعوص » . . ثم خرج الخادم . . . إن مشهد : لكمة سودوروف لرينيه غالبا ما يتبعه مشهد هادئ يبحث فيه الناس على السكينة و التوقف عن الصراع الدامي ، غير أن هذا لم يكن ، فما حدث بعد اللكمة كان انفلاتا من أطراف العائلة المتبقين خصوصا كاترينا لأبيها مع زوجها يدعمها ، و نحن هنا نمسك لحظة من الزمن و نعمل على تكبيرها بمجهر يوضح أصغر التفاصيل الممكنة ، فقط لحظة من الزمن تلخص كل المأساة و الانفجار الذي أتبع اللكمة .
ارتمت كاترينا مجددا عند قدمي أبيها المنهك و الشبه ميت ، الميت الأبكم ، قالت مخاطبة زوجها الذي صار في هيئة حزم و جد الآن بعد لعبه دور الساخر مع أخيها :
---« إن سودوروف يهذي في رغبته لرئاسة المجلة ، و لا أوافق البتة على أن تحال إلى رينيه ، هل تسمعني يا رينيه ؟ . . ليس حكيما قط أن يأخذ أحد منكم المجلة ، إنني تناقشت مع زوجي و بحثنا الأمر في احتماليات كثيرة ، أنتم لم تدرسوا علم الاحتمالات مثلي أنا . الحل الأمثل هو بيعها . » . . . قاطعها رينيه قائلا : « أنا أعلم أن أغلى تركة هي المجلة ، و لهذا السبب لا يجب في نظري المماس بها . . إن بيع شيء نظري مثل المجلة يكون في حالة اليأس التي تعكس عدم استجابة الجماهير و المفكرين و الأوساط الدولية خاصة ، أما و إن الأمر خلاف ذلك فيكفي أن توضع في السوق مائة ألف نسخة حتى تختفي في الغد من ذلك ، إن البيع إذن هو ذبح للدجاجة التي تبيض ذهبا »
علق زوج كاترينا : « إنك لم تدعها تنهي كلامها ، هي مدركة بل واعية ضعف وعيك بهذه المسائل أيها اليتيم . . . إن ضمان الاستجابة عند الجماهير منوط بمن يتحكم في المجلة، الاستجابة و البيض الذهبي كما تحب أن تنعته رغم أني لا أحبذ هذا الميتافور السخيف ، يعكس ثقبا في الفهم ، على كل حال ، أريد أن أقول : كفاءة سيدك يا رينيه هي ما تجعل مائة ألف نسخة تباع في ليلة ، أما إدارتك أنت أو سودوروف فعلى مدار شهر فقط ، لن يستغرق الوضع أكثر من أسابيع قليلة حتى تتحول المائة ألف نسخة إلى مائة نسخة » . . . اقترب فلوبير من سيده و جلس عنده يركز فيه ، لكنه لم ينسى الاستماع إلى الحديث الذي يدور بين الثلاثة ، خشي في البداية أن تطرده كاترينا ، لكنها و لشدة انفلاتها لم تنتبه لوجوده أصلا ، ولو انتبهت لطلبت منه المغادرة . تحمست كاترينا تؤكد على فكرة زوجها : « هو ذاك مقصدي من البداية . إن أحد الأسباب الرئيسة في نجاح المجلة ، ربما هو السبب الرئيسي الأعظم : كونها تابعة لأبي لا لقيمة الأفكار و المشاريع الإصلاحية التي تطرحها . . . إن أبي هو العمود الذي تقوم عليه هذه المجلة ، فالناس يتهافتون عليها لأنهم يعتبرون أبي بطلا قوميا من نوع ما كونه يحتل مرتبة مرتفعة فيمن يقدم المساعدات الإنسانية . في الجهة المقابلة : لا أنت يا رينيه و لا سودوروف مشهور للعامة و لا يتميز أحدكم بشيء خاص يمكن أن يشفع له فيجلب القراء و كبار المسؤولين للمجلة ، لذلك أفضل وقت للبيع هو الآن ما دام المجتمع جاهلا بحالة أبي المتدهورة ، أما إن صبرنا ليمسكها أحدكما فهكذا ستسقط قيمتها إلى النصف أو أكثر و نخسر مثل هذه الخسارة الفادحة . إن قليلا من المنطق سيجعل أي عاقل يوافق على هذا الطرج ..» . .
كان فلوبير يبتسم طيلة حديث كاترينا وهو يمرر يده على عنق سيده الاب . . إن هذا الخادم شأنه كشأن الخدم جميعا لهم قدرات عجيبة على معرفة الأخبار و التفاصيل ، إن لهم جهازا استخباراتيا يعدل في قوته أجهزة الأمن السرية مجتمعة ، وإذا ذكرنا هذه الخاصية حول فلوبير فذلك لأنه كان يعرف سبب و حرص كاترينا على بيع المجلة بل دهش حينما قال زوجها :« إن مسألة البحث عن مشتري للمجلة ليس صعبا خلال هذه الساعات القادمة ، فالجنازة لن تعلن سريعا ، يكفينا حتى الغد ، لكن و من باب الحرز و الاحتياط : وضعت لائحة بأسماء بعض الأصدقاء لي وهم مستعدون على دفع مبالغ كبيرة ، حتى إنني تحدثت مع أحدهم وقد وافق على ذلك ، إن نالت الفكرة إعجابكم سأستدعيه هذه الليلة ، لقد تأخر الوقت ، أعلم ، لكن مثل هذه المسألة لا تحتمل التأخير ، بضع ثواني يمكن أن تكون مدمرة لمشروع عظيم مثل هذا » .
إن حرص كاترينا على بيع المجلة كما فكر فلوبير ليس سببه في نيل أرباح طائلة يمكن أن تستثمر في أبواب أخرى في الحياة ، ليست من أجل السياحة أو التداوي من الأمراض الخطيرة ، ليست لأجل بناء المدارس و المستشفيات و الإنفاق على الجمعيات الخيرية أو إعالة اليتامى و المساكين أو تقديم يد العون للأرامل ، ليست لأي شيء من هذه الأمور . حرص كاترينا لبيع المجلة مجعول كله من أجل أن تلمس تلك الحزم من الأوراق المالية و تضعها تحت وسادتها أو وراء كتاب ما ، حتى تتمكن دوما من لمسها و تأملها و التمتع بتلك الهيبة التي تحيطها و الأحاسيس التي تخلقها داخلها هي كاترينا . سبب يبدوا غريبا بل غريبا جدا لكنه واقعي حقيقي بالنسبة لأشخاص مثل كاترينا . يضحك فلوبير دوما وهو يقرأ قصة ذلك المشرد الذي كان يتوسل في الطرقات بملابس ذابلة ممزقة الأطراف و الجوع يكتسح بطنه ، ثم حينما مات وجدوا آلاف الأوراق المالية مدسوسة في وسادة من صوف داخل جحره الذي كان يرتع فيه . قلت : فلوبير يقرأ هذه القصة و يتذكر حال ابنة سيده دوما و ما لهما من المشابهة . المشرد برغم حاجته الماسة للمال إلا أنه لم يحتج المال لينفقه على نفسه ، فيشتري ملابس تحميه من البرد و دواءا يقيه من الأمراض و طعاما يسد به جوعه ، لا ، المتشرد احتاج المال لكي يلمسه و يتحسسه في آخر الليل حينما ينتهي من التسول عائدا لجحره ذاك ، هناك تكمن ساعدته و هو يداعب و يغازل تلك الأوراق و ما لها من سلطة معنوية كبيرة ، حيث في مغازلتها يلبس المتشرد هالة من العظمة تحميه من البرد ، و في مداعبتها شفاء من جميع الأمراض و الأوبئة ، و في ملمسها و رائحتها أطيب غذاء و طعام للبطن و النفس . . .علاقة كاترينا بالمال من مثل علاقة هذا المتشرد به ، فهي تريد بيع المجلة و الظفر بحصتها الخاصة حتى تضعها في خزانة ذات قفل متطور ، و في الليل تفتحها حتى تبصرها و تراها فتطمئن بها و تنام قريرة العين بأحلام وردية لا يتمنى المرء الاستيقاظ منها أبدا ، و حتى لا نظلم كاترينا ، فهي ليست من النوع الشحيح البخيل الذي لا يتصدق و لا يمنح الهبات أو يقدم المعاونات ، بل كانت في مناسبات كثيرة كتفا لأبيها فنفعت معه عائلات عديدة و ساهمت في إنقاذ أشخاص مظلومين بتوكيل محامين أقوياء ، كل ذلك ذكر في المجلة و جلب لها عشرات ألاف المتابعين و القراء من مختلف الخلفيات . . . أعود فأقول : كاترينا محبة عاشقة للحياة ، تحب زيارة العواصم و التعرف على مختلف الفنون و الأذواق ، وهي مغرمة بفن الأزياء و الملابس بالأسلوب العصري الحديث ، تحب الرسم و التصوير و السفر ، ليست متعلقة بالدين و مذاهب القيم و الفضيلة ، هي فقط تمارس منها بالفطرة ما يمارسه فرد عادي ، لا تميل إلى فهم الأفكار و الفلسفات بل تحبذ فكرتها و فلسفتها الخاصة و إن كانت هذه الفكرة و الفلسفة ضحلة في أوقات كثيرة ، هي مؤمنة بـــ : ملكية الذات ، الحرية . بهذه الفكرة ترفض أن تمارس حياتها بعقيدة آخر غير عقيدتها على أنها لا ترفض كذلك الاستفادة مما حولها لتطوير حالها ، وإن أردنا أن نصفها بعبارة واحدة لقلنا : هي على النقيض من هيلينا عشيقة سودوروف .
لا شك أن هذه الأمور مجتمعة من الفن و التصوير و السفر إلى العواصم و متابعة الأزياء و الموضات ، لا شك أن كل هذا يتطلب موارد مالية كبيرة نسبيا و هذا ينفي أن كاترينا شخصية شحيحة على نفسها و غيرها ، إذن من هذا الجانب تفترق عن ذاك المتشرد ، لكنها تماثله في الجانب الآخر وهو عشق تكديس الأموال لملامستها و التمتع بمراقبتها . . . يختفي التناقض هنا حينما يدرك القارئ أن كاترينا من أصحاب الخطط البديلة . إن هناك قوما من الأقوام لا يستطيعون مباشرة أي عمل من الأعمال دون أن يكون لهم على الأقل خطتين ، الخطة الأولى للتنفيذ و الخطة الثانية في حال فشل الخطة الأولى فيقدرون على ترميم الخطأ ، فإذا ولجوا عملا ما بخطة أولى وحيدة كانوا قلقين مضطربين ، و لم يعرفوا الراحة البتة ، هكذا هي كاترينا تريد حصتها من الميراث التي أعطاها لها أبوها فتتنعم بها و تمارس حياتها في أزهى صورها ، هذه الخطة الأولى ، لكنها تريد أيضا خطة احتياطية ثانية تتمثل في المال المخبأ من بيع المجلة فتتلمسه و تزوره و تتبرك به مرتاحة البال أن سوءا لن يصيبها فهي في مأمن من الفاقة و الخطر .
و ما دمنا قد بدأنا في الحديث عن كاترينا فلنكمله مبرزين جانبا مهما آخر يتعلق بــ« الحـــب » . . . كاترينا لا تؤمن كثيرا بمؤسسة الزواج أو الرجل المثالي النهائي الملقب بفارس الأحلام ، لأصحح قولي الأخير : هي تريد و تعتقد أنها لا تؤمن بالرجل المثالي و فارس الأحلام ، لكنها في صميمها مشتاقة عطشانة إلى صحبة رجل يكون سيدا عليها تخضع له و إن زعمت سوى ذلك من الطنطنات الفارغة حول أنها مستقلة بذاتها ، و قد كان لها أيادي واسعة في دعم قضية المرأة في بقاع مختلفة ، بل هي التي فرضت على أبيها أن يجعل من المجلة مقاطع تتحدث عن هذا الموضوع : قضية المرأة . عناوين مقالات و كتب و محاضرات مثل : « كوكب أجمل بجنس النساء فقط » ، « المرأة السوبرمان » ، « رجل الفراش فقط » . . الخ الخ .
سؤال : كيف تزوجت ؟ . . كاترينا برغم فلسفتها الخاصة و نظرتها الكمالية للمرأة غير أنها مرت بعدد من العلاقات مع الرجال ، علاقات بعضها كان ينتهي في مدة وجيزة بالأشهر فقط ، ومنها ما استمر لعامين كحد أقصى ، و ميزة هذه العلاقات أنها كانت مباشرة ، حتى أتت تلك الرسالة الأولى من عاشق سري لا تعرفه يقول فيها :
« قلبي ينبض لك ، إن شيئا يتحرك في داخلي حينما أراك ، بك أجد لذة بالغة مع نفسي . . سأقولها صريحا : أنا أحتاجك لنفسي ؟ ، أحبك لنفسي . رأيتك البارحة و فكرت طويلا و أنا أتبع خطواتك أن أهديك وردة ، لكن ترددت و خشيت ، إن حبك يستغرق وقتا بلا شك فهو جواد أصيل ليس يسهل ترويضه ، المتعة كل المتعة في ترويضه » .
هذه كانت الرسالة الأولى التي وصلتها ، بعدها صارت رسالة جديدة تأتي في وقت محدد مرة كل أسبوع من يوم الخميس مغلفة بعناية شديدة مع وردة حمراء و سوداء داخلها ، مختومة بكلمة : الزوج الأبدي . كاترينا استغربت ونالها الفضول الشديد فهي تتحرى دوما علها تظفر بكشف هوية المرسل ، لكن من غير جدوى ، ومع كل رسالة كانت ترسم المرسل في هيئة من الكمال البالغ ، كلماته كانت ألحانا تداعبها و تغازلها ، حتى صارت تنتظر بفارغ الصبر الرسالة من يوم الخميس ، تنتظر المساء كاملا ملغية كل المواعيد ، وكيف تخرج فتفكيرها محاصر بهذا الإنسان الغامض الذي بدأ يأسرها و يسيطر على لبها مهما حاولت إنكاره و مهما أقنعت نفسها أن الأمر خدعة ربما أو لعبة فقط . إن المرأة ذات الحس الفني تعشق بخيالها عشقا جامحا شديدا ، فهي تخلق بكل حواسها تجسيدات لكل كلمة مكتوبة و معنى مشار إليه داخل تلك الرسالة ، فيصير كيانها لا يستطيع مبارحة تلك المشاعر الخاصة ، هي تبحث عن الحب ، هي الحاسة كما وصفها فرويد . . . استمر الأمر على هذا المنوال قرابة الستة أشهر ، حتى جاء ذلك اليوم الذي جلست فيه كاترينا في أحد مقاعد حديقة عمومية يمرح فيها الأطفال مع أوليائهم ، جلست كعادتها تفكر في صاحب الرسائل ، إنها تهيم به هياما الآن و تضحك من نفسها كيف هي المرأة المثقفة استطاع هذا الغامض أن يجعلها في مثل هذه الحالة ، خصوصا أنه قطع مرة أو مرتين رسائله بالخميس فجنت جنا و لم تنم طيلة الليلة بل لم تنم طيلة الأسبوع ، و أصابها نوع من المرض و بكت قليلا حتى ، في اعتقاد منها أنه قد توقف عن حبها و ظفر بأخرى . . . بينا هي جالسة في مقعد الحديقة ، حتى جلس صبي صغير غريب المطلع في نفس المقعد و التفت إليها متبسما فبادلته كاترينا الابتسام . كان الصبي يبلغ الثانية عشر من العمر ، أبيض البشرة بهي الوجه و ابتسامته ساحرة تكشف عن أسنان جميلة . همت كاترينا في المغادرة فصدع الصبي قائلا :
---« إنني مبعوث إليك من غريب طلب إلي أن أقول إليك هذه الكلمات بالذات ، جعلني أحفظ هذه الكلمات التي سأقولها لك عن ظهر قلب ، و منحني بعض المال ، انظري ثلاثة أوراق مالية . . علي أن أعود للعب ، اسمعي الكلمات كي أغادر سريعا » . . رجعت كاترينا ببطء تجلس و هي مندهشة لا تجد كلمة تقولها ، إن الأدرينالين الآن يسبح في عروقها يجعلها في شلل من الكلام و حماس زائد لتسمع حل هذا العشق الغامض في نهاية المطاف ، ثم شرع الصبي يتلوا كلمات صاحب الرسائل يحفظها حفظا . إن بعض الصبيان يحفظون كتبا بكاملها ، كتبا و أسفارا و صلوات . . . قال الصبي ينقل بلسانه كلمات صاحب الرسائل :
---« هذا آخر اعتراف تسمعينه مني ، خذي وقتك الكافي لتعطيني الرد بقبول طرحي هذا أو رفضه . . . إنني شخص يؤمن فقط بحب المرء لنفسه و ينبذ كل أشكال الحب الأخرى لأنها فنتازيا و أوهام لا أكثر . إن رسائل الستة الأشهر الفارطة إن كانت أثبتت لك شيئا فهي أنه يمكن خلق الحب بالوهم دون شريك ثان تتصلين به ، لم تكن هناك سوى رسائل و كلمات و أنت يا كاترينا ، فكنت تحبين تلك الأحاسيس التي تنبثق منك و تعتبرينها سعادة عارمة و تنتظرينها انتظار التائه في الصحراء للماء . نعم ، كنت أكتب الرسالة لكنني كنت غائبا كذلك و استطعت تحقيق عشق ووله مثالية غيرت معنى حياتك إلى حد ما ، إن ما صنع كل ذلك السعادة هو تخيلك لا حقيقتي الواقعية ، فلو التقينا و امتدت علاقتنا لخسرنا بعضنا في مدة من الوقت ، لكن شوقك بخيالك استطاع الصمود بل استطاع التزايد و النمو عبر كل هذه المدة . لقد كنت تحبين نفسك خلال هذه المدة كلها ، لم أفعل أنا شيئا سوى أنني أطلقت الزناد أما الرصاصة و المسدس فكليهما عندك منذ البداية . . . كل امرئ يا كاترينا في جمجمته شخص ما قد خلقه بمواصفات معينة ، فهو طويل أم قصير ، سمين أم نحيف ، وسيم أم عادي ، إلى بقية المواصفات . . هذا الشخص في دماغك هو من نسيجك و خلقك ، فأثناء البحث عن العشق و الحب يكون البحث عن وجود ذاك الشخص داخل دماغك --- من خلقك -- في الواقع المعاش بين الناس ، لكنه للأسف لن يكون موجودا لأنه بدعة من دماغك و فلسفتك الخاصة ، و ما هو بدعة من دماغك و فلسفتك الخاصة لا يملك مطابقا له في الواقع ، تماما كبصمتك بل أعظم فما ترينه من أفكار الحـــب فهو ليس إلا سعيا من كل طرف في أن يجد ضمن المجتمع ذلك الشخص في دماغه. خلال ستة الأشهر السابقة بكلماتي التي كنت أرسلها لك كي تشحن خيالك ، كنت تقومين بإسقاط مواصفات الرجل الذي نسجه دماغك على شخصيتي أنا ، و لهذا كان أثر تلك الرسائل الغامضة هو ما يجعلك تحسين بكل تلك الطاقة و المحبة و الهيام ، بهذا كنت تعشقين رجلا يوجد لديك و معك دائما ، و لم أكن أنا إلا المرآة التي تعكس الصورة . . . إن كل الأزواج و الزوجات و العشاق و العاشقات خاضعين لهذا المبدأ العام ، فما يزعم أنه ناجح من العلاقات لا يعني أكثر من أن الطرفين يقومان بإسقاط العشيق داخل رأسيهما على ما يسمى بالعشيق الحي البراني . لو التقينا يا كاترينا فسأقوم بإسقاط الفتاة التي تعيش داخل جمجمتي عليك ، فأتخيلك هي ، بينما تقومين بعمل موازي يتمثل في تخيل رجل أحلامك من دماغك تسقطينه علي . . . إن هذا الأمر يتم في معظم الحالات بغير وعي ، و يرى على أنه حب و مشاعر ، و من يملكون صفة الوعي مثلنا قلائل ندر فيمن يمكنهم فهم الأمر على حقيقته : أن المسألة مجرد إسقاطات لا أكثر و في النهاية هو حب المرء لنفسه . أريد أن أصل لاتفاق في علاقتنا اللطيفة هذه يا كاترينا ، أن نحقق مبدأ – حب المرء لنفسه --- على أكمل وجه ، فنتزوج بحيث يتخيل كل واحد فينا الشخص الآخر الذي في دماغه و يعيش معه على ذاك الأساس ، هذه هي الطريقة السليمة لبناء زواج صحي ، صحيح أن هذا يطرح سؤالا : إذا أمكن للتخيل أن يصنع مثل هذه العلاقة فلا نفع من اختيار الشريك ، لأن الشريك لا يهم في هذه الحالة . . الإجابة : لا . القضية أعقد قليلا فهناك ما يسمى بالاستعداد القبلي ، هناك استعداد بيولوجي يسمح بالانتقال لفكرة التخيل الثانية ، و هذا فيه بعض العزاء أن الشريك مهم في هذه الحالة ، أقصد تشابه الاستعداد البيولوجي : الفيرمونات ، الهرمونات ، حتى طول الموجة . . . فإذا استطاع كلانا تخيل صورة الحب في دماغه و أسقطها على شريكه كانت تلك هي السعادة المثلى ، فلا يكون فراق البتة لأنه حب المرء لنفسه و كيف يفترق المرء عن نفسه ؟ ، حينئذ تكون الرومنسية الحقيقية : أنت أفضل شخص في العالم يجعلني أحب نفسي بأكبر قدر . إن البشر مخلوقون للأنانية دون شيء آخر ، و هم يقدسون الحب تقديسا كاذبا لأنه ليس من وسيلة بديلة . الرجل يحب المرأة و المرأة تحب الرجل و هما معا لا يفعلان شيئا مقدسا سوى اعتبار غيرهم وسيلة مثلى لحب الذات ، روميو يحب نفسه عبر جولييت و جولييت تحب نفسها عبر روميو، لأنهما لم يملكا بديلا ثانيا يحقق حب الذات . المثلية الجنسية هي طفرة في هذا الباب تدلنا على حقيقتنا الأنانية ، إنه برغم التفسيرات العلمية لحقيقة الشذوذ الجنسي كما يدعونه إلا أنه في لبه تعبير عن ثورة في كسر قدسية الحب و دليل إضافي حول قضية حب المرء لنفسه ، لأن روميو بعد أن يحب نفسه عبر جولييت استطاع أن يجد وسيلة أخرى في تحقيقه لهدفه : حب الذات . روميو الآن يحب نفسه عبر روميو آخر ، ثم تدريجيا سيصل بنا المستقبل لأن يحب روميو نفسه عبر نفسه فقط دون احتياجه لوسيلة معينة لا امرأة و لا رجل و لا حيوان . تعرفين كم كان البشر محبين لأحصنتهم ثم أتى زمن القطار و السكك الحديدية فتخلوا عن الأحصنة من أجل القطار ، هم سيفعلون الشيء عينه فيما يخص الحب ، سيتخلصون من كل شيء و يخترعون لنا آلة تعمل بتناسق مع الدماغ فيحب المرء نفسه بنفسه دون احتياج لشريك آخر . . . إننا بهفمنا لهذا المبدأ و العمل به نستبق المستقبل ، نحن مستقبل هذا العالم يا كاترينا و من الخزي بمكان أن نعيش في عماوة الوهم . الإنسان هو مستقبل الإنسان يا كاترينا . . .
حاشية : ضعي موافقتك من عدمها في رسالة صغيرة مع الطفل في أي وقت تجدين من حالك استعدادا للإجابة ، لست مستعجلا ، فكري جيدا ، ثم إن الصبي يلعب دوما في تلك الحديقة ، أتمنى لك يوما طيبا . » .
ضحكت كاترينا من الصبي وهو يقول «حاشية »، لكنها سرعان ما عادت تفكر في ثنايا ما قاله . . . إن مثل هذه الرسالة تثير اشمئزاز كاترينا بلا شك ، خصوصا أن فكرة الرسالة فلسفية و هو الميدان الذي لا تحبذه كاترينا ، غير أنها ترجمت معنى ما قاله الصبي : أن صاحب الرسائل يسخر منها و ليس من حل سوى التخلي عن هذه الحماقة و مواصلة الحياة ، فقررت التخلي عن الأمر .

مضى عام على زيارة كاترينا لتلك الحديقة ، و في خلال ذلك العام لم تنفك هذه الأخيرة من التفكير في صاحب الرسالة برغم أنها قد انخرطت في علاقتين بعد لقاء الحديقة . صحيح أنها انخرطت في علاقتين متتاليتين لكنها أبدا لم تتوقف عن التفكير في الرسالة الأخيرة التي تلاها الصبي على مسامعها ، حيث بلغ منها الغضب و اليأس المدى البعيد ، فهي تعاشر هاذين الرجلين و تقضي معهما سائر أوقاتها لكنها لم تجد نفسها إلا تحقق كلام صاحب الرسالة ، وجدت نفسها : تملك رجلا مثاليا في ذهنها بمواصفات خاصة ، و تقوم بإسقاط هذه المواصفات على ذينك الرجلين ، ثم في نفس الوقت استطاعت بحسها العميق و ذكائها أن تلاحظ كيف أن كلا الرجلين يملكان نموذجا ذهنيا عن الأنثى التي يحبانها ثم يسقطان النموذج على كاترينا نفسها . إن المزعج في القضية كلها بالنسبة لكاترينا أن كلام صاحب الرسالة كان قانونا لا يخرق مثل قانون رياضي يقيني ، قانون كقانون الجاذبية لنيوتن . طالما سعت و فكرت و أغرقت التفكير كي تظفر باستثناء ولو استثناء وحيد ينقض هذه القاعدة و هذا القانون ، لكنها و كلما فكرت مليا وجدت أن الأمر يشبه الحقيقة بل الحقيقة عينها . تكمن الحيلة التي مارسها صاحب الرسالة على كاترينا في ربط شيء مجرد بشيء مادي ، كربط فكرة الجاذبية بشخص نيوتن ، فإذا أراد أحدهم نقد نيوتن في مسائل معينة توهم المتوهم أن النقد ينتقل من نيوتن للجاذبية و إذا تحطم نيوتن تحطمت الجاذبية ، هكذا استطاع صاحب الرسالة فرض سلطته المعنوية عليها بأن ربط نفسه بفكرة النموذج الذهني للعشيق و الذي يملكه كل شخص فينا ، قلت : قام برط هذا النموذج الذهني بنفسه و شخصه فأحست كاترينا لا إراديا : أن تحقق فكرة النموذج الذهني للعشيق و صدقها إنما هو يعني قبولها للزواج و خضوعها لصاحب الرسالة ، كأستاذ يعلم تلميذه أن أقرب مسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم بينهما ، فيبدأ التلميذ المشاغب في تجريب كل أنواع الخطوط المنحنية و المستديرة كي يثبت فشل المبرهنة ، لكنه يفشل و يفشل ثم يبخع أخيرا . . . هيمنة القانون من شأنها أن تجعل الإنسان يصاب بالانكسار وهو ما حدث لكاترينا في فكرة النموذج الذهني للعشيق المثالي و هي فكرة إلحادية بلا شك تعكس منظورا ماديا و تلخص كل فلسفات النفعية و الليبرالية التحررية المبنية على انتفاء عنصر الــــــــروح . . . إن صاحب الرسائل---زوج كاترينا لاحقا--- شخص ملحد بلا شك و قد استفاد من قضية إلحاده ففهم التأثير التي يمكن أن تحدثه فكــــــــــــرة ، مجرد فكـــــرة . فحوى المسألة : إن صاحب الرسائل ملحد شرس لا يعطي احتمالية لوجود الله ولو واحد على المليون ، لا يعطي احتمالية وجود شبح صغير و صغير جدا وراء الموت ، و لا يتوقف الوضع هنا بل يستمر وصولا لفكرة أنه لو كان هناك إله و موجود فهو يكرهه و يبغضه و حانق عليه أيما حنق ، فحينما صادف صاحب الرسائل فكرة أن الله لا يطلب من الإنسان إلا نية صادقة و إرادة حسنة ، ذلك أن الإرادة هي ما تمثل الإنسان و ليس عقله . العقل جزء من الإرادة ، و الرب لا يريد أكثر من إرادة حسنة ، هنا اضطرب و تألم صاحب الرسائل في حين كان لابد منه أن يفرح بهذه العقلية . . . إن صاحب الرسائل يكره الله و يتعلل بعدم وجوده ، فلما جاءت فكرة أن الله يحكم بالتقوى و الإرادة الحسنة ، فشمل هذا المبدأ حتى أعتى الملاحدة و القتلة السفاحين . ازداد ألم صاحب الرسائل لأنه وجد فكرة الله قائمة و مهيمنة عليه حتى لو كان ملحدا ، ملحد بإرادة حسنة إذا هو إنسان يحبه الله و يغفر له . هذا القانون الإلهي الكلي قد شمل كل الأوضاع فلم يجد صاحب الرسائل وسيلة للفكاك ، حاول أن يظفر باستثناء ولو لحالته الخاصة فقط لكن من غير جدوى و كان هذا مؤلما له لأنه لا يريد الله ولا يحبه ، لا يريده أن يراقبه لحسن نيته و لا أن يعفو عنه لإرادته الحسنة ، يريده معدوما لأنه يكرهه . . .من هذه الحيثية برقت في ذهن صاحب الرسائل فكرة « القانون المهيمن » و أثره البالغ على نفسية الفرد ، و بهيمنة قانون « النموذج الذهني للعشيق المثالي » اضطرت كاترينا أن تبخع و تتزوج صاحب الرسائل ، زوجها الحالي المقيم معها في حجرة أبيها المحتضر .

قال فلوبير : « أستأذنكم أيها السادة ، يجب أن أذهب و أرى الحالة التي صار إليها سودوروف . . و كتعليق صغير مني إن سمحتم : لازلتم جاهلين بمن آلت إليه رئاسة المجلة ، حتى رينيه هو مجرد احتمال لا أكثر و لا أظن سيدي قد حصر الاحتمال في سودوروف أو رينيه » . . . أجاب زوج كاترينا – صاحب الرسائل-- : « هاه . ربما هناك يتيم آخر لسنا نعلم بشأنه » .
قالت كاترينا :« دعك من هذه الكلمات اللاذعة أرجوك . . آسفة يا رينيه ، هويريد أن يستفزك فقط . إنه من أولئك الذين يبحثون عن ضحية دوما و لا يمكنهم العيش بطريقة عادية ، يعيشون فقط بممارسة ألاعيبهم . . لكن ما قاله فلوبير فيه وجاهة ، إنني أعلق كل آمالي على ما قاله ذاك الطبيب النمساوي من أن أبي سيستفيق و يتحدث قبل أن يموت » . . . أضاف الزوج بسخرية متتالية : « إلا إذا كان الطبيب هو رئيس المجلة حاليا و يكذب علينا بهذه الكذبة أن الأب سيتحدث قبل أن يموت ، هيء هيء » . .
قال رينيه :« أظن أننا سنبقى هنا ننتظر حتى الفجر . . أتمنى أن تصدق نظرية النمساوي ، لنفصل في القضية هل نبيع المجلة أم تؤول الرئاسة إلي . إنني و برغم إعجابي بفكرتك يا سيدتي كاترينا لكن أؤمن بقدراتي في قيادة هذا الأمر ، قضيت وقتا طويلا برفقة سيدي و استفدت منه في كل ميدان تقريبا ، حتى أنني أكتب بأسلوب قريب جدا من أساليبه ، أحفظ عددا من مقالاته كما يحفظ طفل صغير أنشودة من الأناشيد »
ضحك زوج كارتينا و أطلق قهقهة طويلة ثم قال : « و ماذا نكسب نحن من قيادتك البارعة هذه ؟ . . . إنك لست من ضمن هذه التشكيلة أصلا يا صديقي ، و حق لك الاعتراض أني مثلك من خارج المنظومة ، و لذلك أنا هنا فقط من أجل كاترينا ، هي تحب رؤية المال و لمسه و شمه . . هيء هيء . » . . رمقت كاترينا زوجها بنظرة قاسية توبخه فيها على مثل هذا التصريح الوقح ، غير أنه لم يبالي كثيرا و أكمل تصريحه : « إن لحظات استفزاز سودوروف سابقا تساوي عندي ثروة كاملة أفضل من ثروة المجلة مليون مرة . الاستفزاز فن بحياله و مدرسة لها قواعدها ، يمكن أن يعيش رجل بمغزى في حياته هو : استفزاز الآخرين ، وهو مغزى راق جدا في نظري يسمو على مغزى الحب و الفضيلة ، هيء هيء . .آه ، لا تعلم كم يلزم المرء حتى يصبح مستفزا بارعا ، كم عليه دراسة ضحيته و توقع ردودها و كشف نقاط ضعفها و أي طبقة صوتية أقوى في التأثير عليه ، كم يلزم من لغة الجسد قبل انتقاء الكلمات التي تبخر دمه . قلت لك : فن بحياله يليق أن يكون مغزى و سقفا لطموحات الناس ، ليس الناس فقط بل العلماء و الفلاسفة حتى »
ابتسم رينيه و في وجه الزوج بشكل لم يره سابقا . إنها ابتسامة رجل آخر تماما كأنه قد بدل وجهه كلية حتى يقدر على مثل تلك الابتسامة ، إنها شيء يخرج من حقيقة أعماق ذلك اليتيم ، قال رينيه : « آه نعم . . الاستفزاز شيء يحتاج إلى موهبة حتى و هو يظهر في فن --كما وصفته-- لدى الكاتب الساخر أمثال نيكولاي غوغول أو جورج برنارد شو ، الاستفزاز يمكنه ان يكون مغزى للحياة إذن . . ها أنت ترى كيف أستيطع أن أفسر حديثك الملغم . لم تكن تتوقع أني ممن يجيد تعرية كلامك على حقيقته . . لكن . . لكن أحب أمثالك من الناس ذوي الحذق الكبير ، يصلون إلى أهدافهم بطرق ملتوية واقعية لا تعتمد على المباشرية ، البتة . » . . . ابتسم الزوج و هو يحس بأن لغة خطاب رينيه قد صارت رسمية تحمل في طياتها : الند للند و الخصم الكفؤ للخصم الكفؤ ، و هذا كفيل بأن يغرس بذرة من الاحترام في صدره نحو اليتيم الذي يخاطبه ، التفت هذا الأخير نحو زوجته التي كانت تراقب أباها و تتأمل فيه طويلا، و فكر كيف أنها بعيدة عن فهمه حق الفهم لأنها على النقيض منه مخلوقة فقط للحب . هذا كان من تناقضات ذاك الزوج .
ولج الطبيب النمساوي الحجرة في تلك اللحظة ، يريد أن يطمئن على حالة مريضه و يعطيه الدواء الخاص به و إن كان تقريبا في حالة غيبوبة ، أو غيبوبة على مشارفها . قال الطبيب : « لقد غادر فلوبير بسودوروف إلى منزله ، أظن أنه يمكننا نقل الأب إلى الصالة الواسعة ، سينفعه قليلا أن يترك هذا الضيق . لا فائدة الآن في الإختباء الآن من الناس ، لقد تأخر الوقت و الجميع في مراتعهم » .







الفصل الثالث

1—نظرية في القدر الإلهي


مضت ثلاثة أيام مذ جاء فلوبير بسودوروف إلى بيته عند هيلينا ، و لم تكن نبوءة الطبيب النمساوي قد تحققت بعد ، فالأب المريض في غيبوبة مستمرة لا يكاد يشعر بشيء ، كاترينا مع رينيه بقوا يراقبون المريض و يعتنون به ، مما ساهم في تطوير شيء من العلاقة بينهما و لغياب زوجها انتهى الأمر إلى أن يجدوا أنفسهم عراة في سرير الحجرة الضيقة تلك يمارسون الحب . إن براعة رينيه اليتيم و فن كاترينا كان كفيلا بأن يجدوا لهم سبيلا و طريقا إلى علاقة جديدة مستقرة تملك مستقبلا ، على أن زوج كاترينا لم يمانع و قد بارك هذا الشيء بل ضحك و قهقه و استعمل أسلوبه الساخر قائلا :
« يا كاترينا أظن أن فلسفتنا التخيلية لم تكن قوية كما كانت في البداية ، لكن رينيه شخص كفؤ و يسعدني اختيارك ، أنت حرة في الأخير ، غير أنه يلزمنا جدول زمني ، هيء هيء . . لا أريد أن نكون ثلاثتنا عراة في فراش واحد . تعلمين حساسيتي اتجاه اليتامى ، ان استئصالهم لن يضرنا و لن يصيب البشرية بسوء ، هيء هيء » . . . و انتهى الأمر إلى علاقة ثلاثية تجمع بين رينيه و كاترينا و زوجها و إن اعتقد هذا الأخير في نفسه ، أن رينيه مخادع كبير يريد من وراء علاقته بكاترينا الحصول على نسبة من المال أو حملها على تغيير رأيها في الموافقة على رئاسته للمجلة و رفض بيعها .
في الضفة المقابلة : كانت هيلينا تبكي كثيرا و تلوم نفسها أنها سبب مرض سودوروف بإصرارها على المغادرة لسويسرا ، و خلال الايام الثلاثة الماضية لم تنم دقيقة واحدة ، تسهر على راحته و تقرأ له القصص القصيرة و ترقص له مرات في أمل إسعاده و تحسن صحته ، غير أن هذا لم يكن للأسف ، بل تفاقمت حالته و تدهورت مزيد تدهور حتى صار يردد عبارة :« لقد بدأ الموت يسري داخلي » . . . بالنسبة لفلوبير فقد أقام هو الآخر مع هيلينا و صار يخدمها بكل ما تحتاجه ، خدمة مادية في القيام بكل الوظائف و أخرى معنوية في السهر على راحة سودوروف ، و لما تأكد هذا الأخير من عقلية الخادم فلوبير استدعاه قائلا :
--« اسمع يا فلوبير ، أجبني عن هذا السؤال إجابة صادقة حقيقية ، لا تراوغ. . أجبني : هل حقا تكمن سعادتك في بقاءك خادما و لا تهتم بالمال الذي ورثته ؟ » . .
---« لا أريد فلسا واحدا منها ، أريد أن أخدمك بقية حياتي أو حياتك . . و إذا ما مت قبلي فسوف أبقى خادما لسيدتي هيلينا إلى آخر نفس من أنفاسي . . سأمنح كل مالي صدقة إذا طلبت مني يا سيدي ، ها أنت ترى سعادتي في أنفذ أمرك بكيفية تصريفي لمالي ، مالي الخاص »
---« اسمع إذن . . لا أنت و لا أنا نحتاج للمال الذي ورثناه . إنك تريد البقاء خادما طوال حياتك و أنا يسري الموت داخلي ، لم يبقى لي وقت كثير ، أحس بذلك . . لقد بدأت أشاهد أحلاما عن الجنة و النار . . أظن أنه يجب أن نمنح المال لشخص يعرف حقا كيف يستثمر فيه ، شاهدت خلال الأيام السابقة رجلا أعتقد أنه أفضل من يمكن الاعتماد عليه ، إن له روحا طاهرة بين جنبيه ، لم أتحدث معه لكن رؤيته كانت شفاءا ، لا أبالغ يا فلوبير . . يجب أن تبحث عنه أنت و هيلينا ، ثم تأتي به هنا لأختبره ، أملك أسئلة لا جواب لي عنها فإذا ما استطاع لها سبيلا منحناه المال . . هذه خطتي ، يجب أن يثبت لنا جدارته بهذا المال و أن لا يصرفه في السوء ، يجب أن يأتي غدا يا فلوبير ، غدا أقول لك فلقد ماتت أصابع قدمي و ركبي و لم يبقى إلا وقت قليل . . يجب أن تأتي به غدا . . غدا » . .
خرج فلوبير من الغرفة و هو ينوي إطلاع هيلينا على هذا الأمر المستجد ، في أن يبحثا عن رجل المقبرة ذاك . عاد سودوروف لتفكيره قبل أن يقطعه فلوبير بدخوله ، يريد الاطمئنان عليه . فكر سودوروف بخصوص وجود الإله و قضية القدر . سأل : هل كان الرب عادلا حينما جعلني على حالتي هذه ، أريد بلهف أن أحصل على رئاسة المجلة ثم أمرض من جراءها مرضا عظيما ؟ . . . إنه خلال أيام انهياره العصبي و تفكيره الطويل أنه مقبل على الموت ، كان يفكر بحمى شديدة ترهقه في مواضيع : الله ، القدر ، الإنسان . . الخ .
فكر سودوروف بينه بين نفسه :
إن قضية شوقي الشديد للسلطة و المكانة برئاسة المجلة هو نابع من حرية الإرادة التي عندي . . صحيح أن أبي أورثني هذا الشوق بعوامل تقع فوق الحصر : وراثية و تربوية اجتماعية ، لكن إذا اعتبرت أن هناك وجودا إلهيا فوقي في السماء يريد الخير لي ، فقطعا لي نسبة ولو ضئيلة جدا نابعة من الــــــروح التي تعمر جسدي . هذه الــــــروح بتقدير وجودها ستكون هي المصدر الحقيقي لحرية الإرادة ، بل لوجود شيء اسمه الإرادة أصلا ، و عليه أكون قد اخترت إلى حد ما مصيري هذا . . لكن يا سيد سودوروف ، أيها المتعجرف المتعصب . . يحلوا لي كثيرا أن أسب نفسي ، هيء هيء . يا سيد سودوروف : إنه لا معنى لفكرة « القدر » وهو تدخل إلهي محض بخلقه لظروف لا يمكن للإنسان أن يتحكم فيها ، إنه لا معنى لحرية الإرادة بفكرة القدر الذي يرسم لها المسارات المحددة ، هذا استعباد في جوهره . . لكن انتظر . . إذا كان هناك رب في السماوات يشاهدني حاليا ، فلا ريب أنه يريد لي الخير و الرحمة و المحبة ، وهو أيضا يسمح لي أن أكون حرا فيكون هناك معنى لما أفعله ، و بالتالي : بناءا على هذا يجب أن تكون معادلة القدر شيئا من الرحمة و الحرية . . و الآن يا متعجرف ، يا متعصب : كيف يمكن أن تجتمع فكرة الرحمة الربانية مع الحرية الإنسانية دون تناقض ؟ . لنقل أن القدر هو الأوضاع التي لا حيلة للإنسان في تغييرها ، فإذا دخلت هيلينا الآن غرفتي و أرادت إعطائي الدواء فعضتها فأرة صغيرة تحمل جرثومة ما . هذا الفعل خارج نطاق حريتها بل هو قدر محض ، حسنا ربما كان يجب أن تستعمل قليلا من المبيدات حتى يتنظف البيت ، لكن لنقل أنه قدر محض . . لكن الفأرة صاحبة الجرثومة دخلت إلى غرفتي لأنني كنت أرمي بعض الجبن على الأرضية ، و قد رميت قطع الجبن تلك بحرية تامة مني . . هذا يدعوا للوهلة الأولى إلى تقسيم مفهوم « القدر » ضمن أقسام . . هيء هيء . . كنت فاشلا في علم اللاهوت و الآن أنا أختلق فلسفة تافهة . . لكنني أريد أن أؤمن بالله ، لذلك أبحث عن مفهوم للقدر يسعدني و يجعلني أرضى و أقبل بوضعيتي ، كيف ضيع أبي حياتي و صرت شخصا مريضا يعطش للسلطة و الحظوة الشعبية . . آه إنه من المؤسف أن الإنسان يتذكر مثل هذه المواضيع الهامة التي تحكم حياته عند الموت فقط . . على كل حال ، ماذا كنت أفكر . . آه . . نعم . . رميت الجبن بحريتي التامة ، فجاءت الفأرة التي تحمل الجرثومة لتمضغها ، هناك عضت هيلينا لأنها أخافتها دون أن تدري . بهذا السياق يكون القسم الأول من القدر : نتيجة حرية فعل شخص ما هي قدر بالنسبة للآخر ، فنتيجة رمي الجبن كانت مجيء الفأرة التي عضت هيلينا .، إذن : حريتي الشخصية أدت إلى نتيجة كانت قدرا محضا بالنسبة لهيلينا فتكون ضمن معادلة القدر : الحرية الإنسانية : هي التي مارستها أنا برمي الجبن ، التي أدت إلى عض الفأرة لهيلينا . أما : الرحمة : فيجب أن تكون تقليل ضرر نتيجة حريتي الإنسانية إلى أكبر قدر ممكن ، فإذا كان عض الفأرة يمكن أن يؤدي إلى ثلاثة احتمالات ، الأول : موت هيلينا ، الثاني : قطع رجلها ، الثالث : مرضها لسبعة أيام فقط . . فيجب أن يكون القدر في هذه الحالة مرض هيلينا لسبعة أيام فقط ، يجب أن يكون القدر هو أقل ضرر لنتيجة ممارستي لحرية إرادتي ، ثم : أن يساهم هذا القدر ، هذا الضرر الأخف و الأقل لنتيجة ممارستي لحرية إرادتي ، قلت : أن يساهم ويؤدي هذا القدر إلى منفعة الفرد بطريقة أفضل مما لو لم يحصل له هذا القدر . لا يمكن تصور : أن الله يبعد الفأرة قليلا عن قدم هيلينا فتسلم بذلك ، لأن الله لا يتدخل في حرية الإنسان و إلا لكان مقهورا مجبورا ليس لأفعاله معنى . إن تدخل الله في إبعاد الفأرة قليلا هو في حقيقته تدخل في حريتي ، لأنني رميت الجبن هناك ، فإذا غير الله مكان رمي الجبنة فهو يتدخل في قراري و يغير منه ، و هذا ضد الحرية الإنسانية . الله منح الإنسان الحرية ووعده بها فهو مسؤول عن نفسه و بذلك الله لن يغير مكان الجبنة لأن في تغيير مكانها قمع لحريتي ، كذا لن يغير الله سير هيلينا في مسار الفأرة لتعطيني الدواء لأنها اختارت أن تأتي إلي بحريتها و اختارت المشي باتجاهي ، إذن : لا يمكن اجتناب حادثة عض الفأرة لقدم هيلينا ، فإذا تدخل الله ليمنع ذلك كان يتدخل في حريتي و حرية هيلينا وهو قد منحني الحرية . إذن مرة أخرى : من باب أن الله رحيم رحمة مطلقة فهو يختار فقط أن يقلل لأقصى حد ممكن ضرر نتيجة ممارستي لحريتي ، و من رحمته المطلقة سيضيف أيضا أن يجعل هذا القدر بوقوعه لهيلينا أفضل لها من عدم وقوعه . . . إن هذا الفهم لمسألة أن الله أعطى الإنسان الحرية و فهم أن الله يقلص ألم و ضرر نتيجة ممارسة الحرية يمكن أن يفسر أكبر المجازر التي شهدها التاريخ . . إن هتلر متعصب مثلك يا سودوروف المتعجرف هيء هيء . . هتلر تسبب في سفك دماء كثيرة ، بسبب حريته الشخصية التي لا يتدخل فيها الله ، و نتيجة حرية هتلر كانت سفك دماء كثيرة لكنها لم تكن الأكثر لأن الله بقدره الرحيم و الرحموتي ساهم في تقليص نتيجة حرية هتلر إلى أكبر قدر ممكن يحفظ لهتلر تلك الحرية التي منحها له مذ الأزل . . سأتصور أن حرية هتلر كانت تملك ثلاث نتائج . الأولى : أن يفنى البشر جميعا بسبب الحروب المتواصلة ، الثانية : أن تنحط الحضارة إلى قبائل بدائية متناثرة في الكوكب ، الثالثة : أن يموت واحد و ثلاثون مليون شخص ، الرابعة : أن يموت ثلاثون مليون شخص . . الله سيختار أضعف نتيجة لممارسة حرية هتلر و هي موت ثلاثون مليون شخص ، لأنه لو جعل عدد الضحايا تسعة و عشرون مليون فقط سيكون هذا تعديا على حرية هتلر التي قد نالها مذ الأزل ، آخر خط فاصل بين حرية هتلر و بين نتائج حريته هو القدر الذي يختاره الله . يقابله : إذا كانت ممارسة الحرية تؤدي لنتائج إيجابية فإن القدر الإلهي سيختار أكبر نتيجة نافعة ، مثلما يختار أقل نتيجة مضرة ، كله تفاديا للاعتداء على حرية الناس و كله تحقيقا لأكبر قدر من الرحمة . . . و الآن لأحاول أن أطبق هذه النظرية بيني و بين أبي . . أنا سودوروف المتعجرف و من سوء تربية أبي لي و تأثري بعوامل سلبية عديدة كنت محبا للمكانة الاجتماعية كنتيجة لممارسة أبي لحريته في حب المكانة الإجتماعية ، إذن حالتي التي أنا عليها الآن من حب المكانة الإجتماعية و الرغبة العارمة فيها هو أقل الاحتمالات لي ضررا فربما كان سيحصل لي أشياء أسوأ بكثير . . . آه إنني أؤمن بالله . . نعم . . نعم أؤمن بالله . . لم تبقى لي إلا ساعات قلائل للالتقاء معه و سيغفر لي كل شيء باكتشافي لهذه الحقيقة المهمة . . نعم أنا أؤمن بالله بهذه الفتوح الربانية في المعارف . . حسنا . . لقد تعبت و ربما كانت فلسفة القدر هذه شيئا سخيفا عن قلة فهمي للأمور . . هي ء هيء . .كم كنت فاشلا في علم اللاهوت أيام الجامعة ، سأنام و أحلم بالجنة هذه المرة ، لن أحلم بالنار مثلما اعتدت أن أفعل . . آه ، أنا أؤمن بالله . أحبه حبا مسرفا بكامل وجداني .











2--- الإنسان الكوني و الرجل العادي .



الغرفة التي يتواجد فيها سودوروف بها مكتبة صغيرة مع طاولة خشبية مستديرة في الوسط ، أرضيتها مفروشة بسجاد طويل يمشي فيه الداخل للغرفة حافي القدمين . . . هذه هي الملاحظات الأولى التي التقطها رجل المقبرة وهو يدخل غرفة سودوروف ، الرجل صاحب الروح الطاهرة كما وصفه . كان الوقت قريبا من الظهيرة حينما دخل فلوبير بالرجل ، في حين أقامت هيلينا مع المريض تتابع صحته التي ما برحت تزداد سوءا بمرور الأيام ، حيث كانت تبكي كثيرا و تتألم ألما صادقا—يوجد ألم كاذب-- . . . هي منذ مدة تكبح في صدرها قضية حملها ، أرادت أن يتحسن سودوروف لتخبره بالقصة لكن الوضع كان يتدهور شيئا فشيئا . هي من جهة تريد لو تضحي بحالها من أجل معشوقها ، و من جهة تريده أن يبقى على قيد الحياة حتى يربيا ابنهما معا ، و آمالها الآن متعلقة كل التعلق برجل المقبرة ذاك لعل بيده سرا ما يمكنه أن يعيد الأمور إلى مسارها العادي ، إلا أن هناك لمسة ما كانت تمتاز بها رعاية هيلينا لسودوروف ، رعاية خاصة . . . شغف هيلينا في طفل لم يكن وليد فترة متأخرة ، بل هو نية مبيتة منذ سنوات عديدة ، و لعدم رغبة سودوروف بفلسفته الخاصة ، بدأ يتحول الأمر عند هيلينا من ناحية حبها . بدأت تحب سودوروف حب المرأة لطفلها لا حب العشيق لعشيقته ، فهي ترعاه و تعتني به بمشاعر الأمومة داخلها لا بمشاعر الحب المعروف ، الأمر كله نتيجة كبت لرغبتها في الحصول على طفل ، فبدل الإنجاب حولت سودوروف إلى طفل تحبه و تعتني به و تملك مشاعر الأمومة نحوه . أحبته كما تحب الأم ابنها ، هكذا في تلك اللحظات التي كان سودوروف مريضا يقترب من الموت ، كانت هيلينا تنظر على أساس أنها ستفقد طفلها الأول لا على أساس أنها ستفقد حبيبها ، ستخسر طفلها الأول أخ طفلها الذي في رحمها الآن .
جلس الرجل الجديد على كرسي بجانب الطاولة المستديرة وهو يتأمل صامتا الأشياء و الأشخاص من حوله . كان سودوروف مشدوها يتابعه و يبتسم لوحده ، كذلك هيلينا لم تستطع إلا أن تنظر و تحب هذا النظر للرجل الجديد . . . استمر الصمت لدقائق معدودة لم ينبس فيها أحد بكلمة واحدة حتى قال فلوبير – وكان قد دخل للتو إلى الغرفة -- :
--« آه يا سيدي . هذا هو صديقك الجميل ، لقد استغرقني وقت و جهد عسير حتى ظفرت به ، لا تتصور كيف بلغ بي الحال أن أتتبع من حارس المقبرة إلى سؤال بعض الزوار هناك وصولا إلى طرح الاسئلة في الشوارع العامة ، بمناسبة ذكر الشوارع العامة لقد التقيت بالسيدة كاترينا قبل ساعة من الزمن و قالت أنها ستأتي لتزورك . . » . . قاطعه سودوروف قائلا :
---« تلك كلها شكليات لا تهم يا فلوبير . . أحس أن صديقنا هنا من الأشخاص الذين يتعرفون سريعا إلى الكون كافة ، فلا يبحثون عن هذه التفاصيل الصغيرة المرهقة . دوما تساءلت مع نفسي : هل يمكن أن تأتي ساعة أجلس فيها مع إنسان غريب عني كل الغرابة و نتحدث كأفضل صديقين حميمين في أهم المواضيع . . مواضيع المشكلات الروحية . هذه هي الساعة ، أنا متأكد ... قل يا سيدي الفاضل : هل تكون مهتما ببحث قضية لماذا استدعيناك إلى هنا ، أم نلج الموضوع مباشرة »
--« يبدو أنك مريض بأزمات روحية ترهق قلبك الطيب » . . هكذا أجاب الرجل في هدوء ووداعة .
---« هيء هيء ، مرحى ، مرحى . . إنك منذ الآن تداويني بكلماتك البسيطة هذه ، إن هالة الوقار التي تحيط بك تجعلني أشك في كل ما توصلت إليه عبر هذا السنين في بناء فلسفتي الخاصة ، ولكن قل لي : من أنت ؟ . . . آه . . لا ، لا تجب على هذا السؤال ، فلقد وقعت فيما أردتك أن تجتنبه وهو التحدث عن تلك التفاصيل الصغيرة المرهقة . أعتذر ، لقد بدأت ذاكرتي تضعف هذه الأيام الأخيرة »
إن اجتماع حفنة من الرجال في مجلس واحد سيكون دوما و أبدا موضوعه الحكم و السياسة و الدولة ، فإذا بدأ الحوار بين مجموعة من الخضارين حول سعر البطاطا الأمثل في السوق فسينتقل الموضوع إلى مسألة الاستيراد و التصدير ليصل إلى سدة الحكم و كيف أن التحكم الجيد في سعر البطاطا من شأنه أن يجعل الدولة في حالة أفضل . إذا بدأ الحوار بين مجموعة رجال يحترفون قص الشعر و الحلاقة فسينتقل الموضوع إلى أن الرئيس السابق كانت له تسريحة شعر معينة هي التي ساعدته في استحضار تلك الأفكار التي طورت من سياسة الدولة و ساهمت في ازدهارها . إذا اجتمع اجتمع رجال يمارسون الصيد البحري فسيتحدثون كيف أن سمك السردين رفع اقتصاد الدولة و ساهم في بناء مدارس أفضل لأبنائهم . . . في المقابل من هذا : اجتماع حفنة من النساء في مجلس واحد سيكون دوما و أبدا موضوعه الجمال و الحب .
التفت الرجل الجديد إلى فلوبير و رمقه بنظرة جعلت الخادم يرتعد و يتوتر . لقد كان الخادم يخفي شيئا ما لم يطلعه على سيده و نظرة الرجل الجديد له بتلك الهيئة جعلته يعتقد أنه قد كشف أمره و فطن للحقيقة ، لكن سرعان ما عاد الخادم فلوبير ينفي ذلك واصفا الأمر بالاستحالة ، كيف يمكن لرجل تعرف عليه اليوم فقط أن يخترقه بنظرة واحدة فيكشف تلك الحقيقة التي يخفيها . استأنف سودوروف كلامه :
---« إذا كنا سندخل في صلب الموضوع مباشرة ، فأنا أريد أن أضع بين يديك الدعوى قبل الدليل . دعوى : أنه لا إمكانية في إقامة مجتمع صالح بين هؤلاء البشر ، يستحيل بناء العالم مع هؤلاء الناس الذين نشاهدهم . إنها لعنة برج بابل في الكتاب المقدس ، هل تعلم لم أكن أستطيع فهم هذا المقطع كما يجب و لكن هذه اللحظة فقط في هذه الغرفة خطر لي أن معناه الحقيقي ، معنى برج بابل في الكتاب المقدس : هو اختلاف الناس إلى حد يستحيل معه بناء العالم ، يستحيل معه بناء المجتمع المنشود ، بالمناسبة : هل اسمه برج بابل ؟ . . نسيت مرة ثانية . . هيء هيء . . لا يهم ، تعلم أي برج أتحدث عنه . قال لي أحدهم مرة : أنه للقضاء على لعنة برج بابل ، لعنة استحالة بناء العالم ، أن نصير جميعا على مستوى عال من الثقافة و الوعي ، أن نكون جميعا كفولتير و روسو و لوك و هوبز و كانط و أرسطو و أفلاطون و ابن خلدون و ابن رشد . قال لي : لنتخيل للحظة واحدة أن مجتمعا جميع أفراده من حارس المقبرة إلى الوزير ، كلهم يملكون ثقافة ووعي فولتير ، جميع النساء على قدم ساق مع ثقافة ووعي هيباتيا أو إيميلي دو شاتليه ، بهذه العينة من الأفراد سيتحقق المجتمع المنشود للبشرية . . . أنا مرتاح لأنني أستطيع التحدث معك بهذا الشكل المباشر دون الخوض في تفاصيل تافهة عن صحتي و ماذا أريد ، لطالما أردت شخصا غريبا مثلك ، أجلس معه ساعة نقترب فيها اقترابا ساميا يتجاوز سخافات البشر التافهة . . حسنا . . هيء هيء . . أعود لأذكر جوابي عن فكرة المجتمع البشري المنشود بأفراد على مثل ثقافة فولتير . أعتقد ان مجتمعا كاملا يملك ثقافة واسعة ووعي عميق سيكون أخطر على تاريخ الإنسانية من المجتمعات العادية . إن ما لا يفطن إليه المستدل بهذا الشكل أن مجتمعا يملك من الثقافة و الوعي نستطيع بها بناء العالم ، هو في نفس الوقت يملك ثقافة و وعيا كبيرا به يستطيع تدمير العالم . إن مشكلة البشرية لم تكن الجهل كسبب رئيس بل عدم التعاون و التكاتف ، لم يكن هناك اتحاد بين البشر مع بعضهم البعض و هذا الذي أبقاهم في لعنة برج بابل ، هم يعتبرون بعضهم أعداء و خصوم ، خصوم على أساس الدين و اللون و الخلفية الفكرية ..الخ . . . فإذا كنا في مجتمع يملك ثقافة ووعي فولتير فنحن لم نفعل شيئا سوى أننا وسعنا من قوة التدمير كما وسعنا من قوة البناء ، وبالتالي النسبة واحدة في النتيجة النهائية . فمجتمع يملك ثقافة فولتير هو بالضرورة مجتمع يحوي مثقفا يريد البناء بطريقة ما و مثقفا ثانيا يريد البناء بطريقة أخرى مخالفة ، مثل هذه المجتمع سينتج لنا تقسيمات أكبر و عداوة أشد بين دويلات صغيرة ، خلافا للمجتمعات العادية فهي أشبه بالقطيع لا تملك لها أفكارا خاصة و بذلك لها أسباب اختلاف أقل . الخاتمة : أريد أن أقول إذا كانت أفضل عينات المجتمع من الطبقة الراقية و المثقفة الواعية لا تستطيع الفكاك من لعنة برج بابل ، استحالة بناء العالم ، فإذن ما مصير الإنسانية في المستقبل ؟ . . هو ذا السؤال الذي يؤرقني جدا »
أجاب الرجل :
---« إن الجواب عن إشكال لعنة برج بابل هو أن لا يقطف آدم تفاحة المعرفة . . إنك ابتداءا تفترض أن المثقف على درجة أفضل في فهم الواقع من الرجل العادي ، غير أن هذه مقدمة تصح في حالات دون أخرى . الفيزيائي الكبير يفهم الجاذبية بشكل أحسن من الرجل العادي ، لكن هذا الأخير يفهم أفضل مبدأ الفضيلة و التعاون من الرجل المثقف . . . إن سر بناء المجتمع المنشود للإنسانية هو الفضيلة و الحب و هذه القيم يتمتع بها الرجل العادي أضعاف ما يتمتع بها مثقف مثل فولتير . . فولتير حينما يذهب يتثقف و يفهم مسألة مثل الفضيلة فهو في الواقع يعود من الصفر صعودا كي يصل للفضيلة حتى يدركها على حقيقتها ، فإذا افترضنا فرضا ساذجا أن مقدار الفضيلة تسعة من عشرة عند الرجل العادي ، ففولتير في بحثه عن الفهم و المعرفة يعود بذهنه إلى الصفر و يبدا في الصعود كي يصل لتلك التسعة كي يدرك كنه و حقيقة هذه الفضيلة ، إلا أن هذا المثقف لا يقدر في أغلب الأحوال أن يصعد من جديد تماما لتلك التسعة ، يقف عند الثلاثة أو الأربعة وهو بهذا الشكل أقل فهما . الرجل العادي يشبه في ممارسته للفضيلة ذاك الطائر الذي يطير بطريقة فطرية دون أن يعرف قانون الجاذبية و مقدار الضغط في الهواء ، أما المثقف في مسألة الفضيلة و الحب فهو يشبه الغراب الذي أراد تعلم مشية الحمامة فلم يقدر و حينما أراد أن يرجع لمشيته الأولى لم يقدر كذلك . إن عملة الثورة و عملة المجتمع المنشود للإنسانية هو الرجل العادي بما يملك من فطرة سوية . فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وهذا هو معنى فكرة قطف آدم لتفاحة المعرفة . إن آدم في الجنة كان أشبه بالرجل العادي الذي يمارس القيم الفطرية بطريقة قدرة الطائر على التحليق فطريا ، فحينما قطف تفاحة المعرفة أصبح عاريا و خرج من الجنة ، عاد إلى الصفر كي يقوم بتسلق السلم من جديد إلى تلك الجنة الأولى نفسها ، آدم بعد قطف التفاحة هو فولتير المثقف . و يكفي للمرء أن ينظر هذا في الواقع المعاش . . . إن الرجل العادي في قيمه الفطرية يؤمن بالله و يؤمن بالفضيلة النقية ويؤمن بالحب المثالي ، ثم تأتي المعارف الإنسانية –تفاحة آدم – فتنكر هذه القيم ، فالفيزياء تحاول إنكار وجود الله و البيولوجيا تنكر الفضيلة و تقول ليس هناك من شيء سوى حب الذات و الجينات و الانتخاب الطبيعي ، و يأتي علم النفس ليقول ليس هناك حب مثالي بل هو اللاوعي و الفيرمونات و عقدة أوديب و إلكترا . في المقابل : الأشياء التي تخرج بفطرة الرجل العادي كالفن و الموسيقى و الرقص هي كلها أشياء تثبت الله و الفضيلة و الحب . . . لا تفهم عني أني منكر للعلوم بل افهم عني أني منكر لأنصاف العلوم و لا تفهم عني أني منكر للمثقفين بل منكر لأنصاف المثقفين . . إن العلم الحقيقي ليس هو تفاحة التي قطفها آدم ، بل هو الشجرة الكاملة التي كانت فيها تلك التفاحة . . إن المثقف في بعض العلوم هو مثقف أكل من تفاحة آدم فقط ، أما المثقف الحقيقي فهو الذي يعيد التفاحة للشجرة كاملة ، المثقف الحقيقي هو الإنسان الكوني الذي يجمع بين الفنون و العلوم و التجارب الإنسانية و التاريخ الماضي و المستقبل البعيد . . هذا المثقف الكوني ، هذا الإنسان الكوني هو من سيحقق المجتمع المنشود باتحاده مع الرجل العادي ، هذا المثقف الكوني هو شخص شبيه بالأنبياء الحكماء ، و إذا كانت البشرية تنتظر المهدي المنقذ و المسيح المخلص فهو هذا الإنسان الكوني ، الذي ليس له انتماء إلا انتماء البشرية دون تاريخ معين أو مكان محدد ، الإنسان الكوني هو الذي يرى البشر إخوته جميعا و الكون كله وطنه و بيته »
صرخ سودوروف قائلا :
--« مرحـــــــــــــى . مرحـــــــــى . . هيء هيء . . كلام قوي ليس يسهل نقده ، أعترف أن شيئا داخلي لقد تحرك . ربما لأنني أحبك فقط ، أو ربما لأن كلامك مقنع ، لازلت لم أحدد الصواب بين هاذين . . هل تعلم : قرأت مرة كلام أحد الحكماء يقول : إن الكون كله يتلخص في منظر نحلة صغيرة تمتص الرحيق من زهرة جميلة ضمن بستان أخضر .. قال الحكيم : الكون كله يتلخص في هذا المنظر فالفيزياء تحمل النحلة و البيولوجيا هي امتصاص الرحيق و الموسيقى هي طنطنة أجنحة النحلة أما الشيء الذي يمكن أن يصف المشهد كاملا فهو الجمال .. لا يمكن بحال وصف المنظر كاملا بفيزياء و لا ببيولوجيا و لا بعلم الاجتماع . إن كلمة واحدة تصف كل هذا المنظر البديع : الجمال . .الجمال سينقذ العالم . الجمال هو سمة الكون المطلق . . أظن أن كلام هذا الحكيم يلخص فلسفة الإنسان الكوني ، المثقف الكوني . فنصف مثقف هو من ينسى المشهد كله و يركز على تفصيلة واحدة ، فبدل رؤية المنظر بكامله هو يرى طنطنة النحلة فقط أو يرى امتصاص الرحيق فقط أو يرى الزهرة فقط . الإنسان الكوني يرى المشهد كله بجميع حذافيره . الإنسان الكوني هو تلميذ الله الذي يملك نفخة من روحه يسعى بها للإحاطة بكل شيء ، و لا يفلح فقط لكونه مخلوقا . لكن إذا كنت فهمت شيئا فإنك تربط المجتمع المنشود للإنسانية بفكرة الفضيلة و الإله ، على أنني أعتقد أن المنظومة الدينية لو حذفنا منها تفاصيل سخيفة كثيرة و ركزنا فقط على المجموع و الفكرة الجوهرية من الكليات ، قلت : هذه المنظومة الدينية لن تزيد شيئا بل تنقص ربما عن سياسة البشر من الفلسفة النفعية و الليبرالية الإلحادية و الاشتراكية و الداروينية الاجتماعية . إن دستورا قائما على هذه النظريات لن يخلق لنا مجتمعات مختلفة كثيرا عن بعضها ، بل متقاربة ، فأي نفع لفكرة المنظومة الدينية—الله— في تحقيق الفضيلة ؟ »
رد الرجل وهو يبتسم :
---« لا فضيلة بدون خلود . . و كما قال إيفان في الإخوة كارامازوف : إذا لم يكن الإله موجودا فكل شيء مباح . . صحيح أن الفلسفة النفعية و الليبرالية الإلحادية و الإشتراكية و غيرها يمكن أن تنتج لنا مجتمعات متشابهة تحفظ حقوق الإنسان و حرياته و تساهم في نقل الإنسانية إلى مستويات أفضل لكن هذا يفشل في موضعين في نظري . الأول : أنه ليس من مجتمع بشري قام على فلسفة نفعية محضة أو اشتراكية محضة فأنتج مجتمعا قويا ، بل إن أغلب هذه الفلسفات كانت حبرا في الكتب تحققت كواقع عند بعض العائلات فقط أو عند شخصيات فقط أما المجتمع قاطبة فلم تتحقق فيه البتة لأن لبنة المجتمعات هي الإنسان العادي و الإنسان العادي شخص صاحب فطرة تميل للفضيلة و الحب محكومة بمنظومة الأخلاق و القيم ، محكومة بمنظومة الله . ليس الإنسان ذئبا على أخيه الإنسان . . و بالتالي أي صفة إيجابية لأحد هذه النظريات إنما هو في صلبه و لبه ممزوج بحقيقة دينية تشكل عاملا مؤثرا حاسما ، دونك كارل ماركس الاشتراكي الملحد الكبير الذي كان عاشقا محبا لهوميروس و ليس شعر هوميروس إلا تجليا من تجليات الدين . الموضع الثاني : أن الفرق الجوهري الذي يظهر بين مجتمع قائم على سياسة نفعية أو اشتراكية و بين مجتمع قائم على سياسة الله ، قلت الفرق الجوهري يكون على مستوى الشخص و الفرد الواحد . فصحيح أن سياسة دينية يمكنها أن تحافظ على حقوق العمل و الربح مثلها مثل سياسة اشتراكية نفعية . لكن بالنسبة لشخص واحد فقط يظهر الفرق ، ذلك أن هذا الفرد الذي انخرط في مجتمع اشتراكي نفعي إنما انخرط من أجل مصلحته الذاتية لا لشيء آخر ، فإذا تضررت مصلحته الذاتية لم يعد المجتمع نافعا له ، و لنتخيل أن هذا الإنسان الذي تضررت مصلحته في المجتمع الاشتراكي هو شخص ذو نفوذ و سلطة و ثروة بحيث يبحث عن إعادة الربح و المصلحة ، لكن في سير عملية ربحه و مصلحته سيتضرر المجتمع تضررا بالغا و يفوز هو . إن هذا الفرد صاحب السلطة لن يهتم بالمجتمع الاشتراكي النفعي إذا تضرر بل سيقوم بالحصول على مصلحته و بالتالي سينتج لنا مجتمعا متضررا ، إن الفلسفات التي لا تقوم على فضيلة و خلود ليست إلا ترجمة لقانون الغابة . على العكس من ذلك بالنسبة للسياسة الدينية فإنه إذا تضررت مصلحة فرد ما منخرط في المجتمع الديني فلن يقوم بترجيح مصلحته الشخصية التي تفسد المجتمع لأنه يؤمن بعالم آخر ثان ، يؤمن بالخلود و أن الله سيحقق له ربحا مضاعفا حينما يترك مصلحته هذه التي تضر إخوته في المجتمع ، هذا معنى لا فضيلة بدون خلود و أنه لن تقوم قائمة لمجتمع بشري إلا بالفضيلة و لا معنى للفضيلة إلا في سياق الدين و الخلود و الله .»
انطلق سودوروف يصفق في حماس هائل و هو يضحك معجبا شديد الإعجاب بهذا المنطق الجميل الذي يسمعه ، إن التفاؤل بدأ يزور قلبه و الدم يعود بقوة في عروقه كأنه بدأ يرجع صحيحا و المرض يتلاشى . . .إن رغبة سودوروف سابقا في نيله رئاسة المجلة كانت جارفة بحق لكنها كانت الشيء الثاني الذي يؤرق ذهنه . إن المشكلات الروحية حول مستقبل الإنسانية هو ما كان يطعن قلبه و لن نبالغ إذا قلنا أن سبب مرضه الحقيقي هو سؤال مصير الإنسانية . . إن المشكلات الروحية يمكن أن تسوق الإنسان إلى الجنون أو الموت ، لكن سودوروف الآن فرح مبتهج ، و هاهو يعود يقول :
---« آه إذن لبناء مجتمعنا المنشود يجب أن تكون هناك فضيلة الخلود . .و إذا لم يكن الإله موجودا فيجب أن نخترعه اختراعا . . هيء هيء . . قل لي يا سيدي : هل يجب أن ننتظر ذاك الإنسان الكوني أم هو شيء يمكن بناءه . . إن رجلا مثلك يحب الإنسانية كل هذا الحب و يملك لها خططا في ذهنه تسير عليها ، لا شك أن له حلا و مشروعا ما يستطيع أن يساهم فيه بنصيبه في التمهيد لهذا المجتمع المنشود . .إنني مستعد أن أعطيك مالا وفيرا يكفيك للقيام بما تريد ، بل يمكنني أن أدبر لك مزيدا منه إذا احتجت .. الأعمال العظيمة تحتاج إلى موارد مالية عظيمة كما تعلم »
أجاب الرجل :
---« كنت أفكر في بناء معاهد خاصة . . أنت تعلم أن ما يشكل قوة دولة ما هي المنظومة التعليمية التي تقوم بتدريسها لأبنائها ، غير أن منظومة تربوية مثل التي نراها هي شيء يساعد على تحقيق الجهل و الاستحمار أكثر من الوعي و الفهم . .كنت أفكر ببناء معهد خاص يمزج بين الفنون و العلوم و اللغات و يملك داخله جمعيات خيرية تسعى لمساعدات إنسانية على مستوى دولي حتى . . هذا المعهد من شأنه أن ينتج شخصا يملك فنا في الموسيقى أو الرسم أو النحت أو التلحين ، هكذا يساهم في غذاء روحه ، و من شأنه أن يجعل هذا الشخص متمرسا في العلوم الإنسانية كالإجتماع و الفلسفة و اللاهوت الديني مع العلوم الطبيعية من الفيزياء و الرياضيات و البيولوجيا ، هكذا يفهم الواقع و التاريخ جيدا كي يعلم كيف يبني مستقبله ، ومن شأن اللغات أن تجعل هذا الشخص منفتحا على آفاق واسعة و يستطيع أن يتواصل مع إخوته من البشر و يحس بأنه منهم و أنهم منه ، ومن شأن المساعدات و الجمعيات أن تجعل كل تلك المعارف و الفنون قيد العمل و الواقع فيتعلم الشخص أن أهم هدف هو محبة الإنسانية و أن أعظم ما رزقه الإنسان هو الحب . . هذا كان مشروعي لخدمة الإنسانية »
--« مهمة صعبة و لا يكفي فيها المال ، لكني سأمولك يا سيدي بكل مصادري ، أتمنى أن لا نجد صعوبة مع الحكومة فقط لأن مثل هذا المعهد سينتج فلاسفة ثائرين على الطغاة . . لكن سنحاول قطعا . . أقصد أنت ستحاول . . أتمنى أن أكون ساعتها معك ، لا أدري إن كنت سأعيش »
قاطعه الرجل :
---« ستعيش ..»
---« هيء هيء . . كنت أريد أن أسألك هذا السؤال منذ البداية ، لكنني خجلت منك ، ها أنت ترى أن داخلي بعض صفات الرجل العادي . . لكن قل لي . . أنا أحترق أن أعرف : هل تستطيع تحريك الجبل إلى البحر ؟ »
---« لا أستطيع ، لكنني أستطيع أن أحرك هذه الطاولة من مكانها إلى مكانك في السرير »
اندهش الخادم و هيلينا الصامتة و توسعت عيون سودوروف و تحمسوا حماسا شديدا و اقتربوا خطوات ليراقبوا ، فنهض الرجل من الكرسي و حمل الطاولة و مشى بها ببطء –كونها ثقيلة بعض الشيء – حتى وضعها بجانب السرير . . . و انفجر سودوروف و الجميع ضاحكين ضحكا شديدا ، وكان الرجل يضحك معهم أيضا .
انتهى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض