الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في نصّ ومضيّ

عماد نوير

2018 / 4 / 10
الادب والفن


من روائع الومضات
قراءة في نص ومضيّ
حدس
ابتسمت له؛ رأى حزنها.
ضياء كركدن

((المبتسمون هم الحزانى الحقيقيون في هذا العالم))

الذين ينتحبون لكل طارئ مؤلم، و الذين يعربون عن أسفهم عن كل عادية تجتاح حياتهم، و الذين يتشكّون لك عارض ألمَّ بهم، أولئك هم العابرون طريق الحياة دون أن يضعوا بصمتهم القوية فيه، و دون أن يخلّفوا تأثيرا ملموسا مفاده إننا ها هنا، و دون أن يتركوا انطباعا حقيقيا يوحي بقدرتهم مواصلة الحياة بشموخ و إباء و حكمة، فالابتسامة لا تعني بالضّرورة سعادة غامرة، و لا إنعكاسا لحياة ترفل بالحبور و السّرور، و إنّ إظهار مباهج الفرح لا يحسب عند العقلاء سعادة إن لم يحسب بكاء من نوع مهذب مستمد من قوة و دراية و إمعان في عدم إيجابية إعلان مظاهر الحزن و الأسى.
لا تحسبوا ميلي بينكم طربا
قد يرقص الطَّيْر مذبوحا من الألم
و تجارب الحياة غنية بالوقائع و القصص التي أظهرت لنا حالات من البؤس أظهر أهلها خلاف ما يسرّون!
و السؤال هنا لماذا يفعل ذلك الحزين ، فيجتهد أن يخفي حزنه الكبير تحت ابتسامة شاحبة أو ابتسامة صغيرة ساحرة!!
بالطبع فالأمر لا يمكن أن يكون حالة نفاقية، أو حالة جنونية، أو حالة جهلية، أو حالة عدم إدراك و عدم تقدير جيد للأمور، الابتسامة عالم كبير و ساحر و جميل، فالابتسامة الجافة هي التي تصدر من بين الشفاه و إمّا الابتسامة الحقيقية تلك التي تطلقها العيون، و المرء يبتسم في حالة حزنه تعبيرا عن تحدٍ كبير لحياة قد تحاول أن توغل بالقسوة، أو ربما توغل في إعطاء الدرس و المبالغة في امتحانات صعبة، فالقوي و المتهيّئ جيدا لابد أن يسخر من أفاعيل الحياة و محاولتها تكثيف الضباب في طرقات المجاهدين، و العودة إلى حياة الطفولة البريئة و العيش في ابتسامتها الساذجة، التي تقهر كل جبروت، الحكيم يبتسم لينأى عن الوقوع في حالة الملل التي تصيب الناس من كثرة التّذمّر، الذكي يبتسم لأنه يعلم جيدا بأن حزنه سوف يكون شريكه وحده، و لن يجد هوى في محيطه، و لن يضرَّه أن يبني له حياة منفتحة مع الجميع، و المبتسم هو طبيب و لا شك، يعالج حالته بأنجع السبل و أنبل الطّرق، لم يبتسم من فراغ، إنه يبتسم من خزين معرفي بأن الأمل لا يعيش سوية مع السوداويين، و التّفاؤل لا يصمد مع الإحباط و إظهار الأسى و التّجهم.

العتبة
أعلمتنا الدراسات المختصّة بهذا المجال، أن للعنوان الكلمة الفصل في منح النّص بطاقة العبور إلى مقبولية و شغف القارئ، أو الاشمئزاز و النفور من النصِّ، فالكاتب و لا ريب يقف أمام عنوانه وقتا ليس بالهيّن، ليضمن سلامة الجهد الذي بذله في النّصّ، و عدم التفريط به باختيار غير موفّق لعنوان مجهوده!
لذا نرى الكتّاب يحاولون أن يصطادوا بشِباك الإبداع رغبة القارئ، و منحه الإثارة التي يبتغيها، و إخفاء المغزى و تفاصيل المتن، و عدم فضحه في عنوان مباشر، و لكن بطريقة مخاتلة ذكية، لا تشطّ عن روح الموضوع، بل نراه من جانب خفي آخر، إن العنوان هو الموجز الذي أوهم القارئ و حرّك فيه حواس المتعة و لاستئناس، و أشركهُ شعلة ذكائه في استنباط الفكرة و الهدف و المغزى، و الربط الجيد بين العتبة و الجسد.
و هنا لا بد من القول إن العنوان كان ذكيا على درجة عالية، كون مفردة الحدس ذات بعد فلسفي، مفاده أن المرء له قدرة استيضاح الأمور و تفهّمها بعمق من خلال الدراسة و الاستنباط، و لكن له القدرة ذاتها في تخيّل الحال في وقت قصير جدا، و قد يكون وليد لحظة واحدة، يحدس فيها رؤية غير واضحة المعالم، لكنها على درجة يقينية في العمق الداخلي، ربما لا يكون عن تخصص أو دليل، لكنه فطري صادق، فطري لا يحتاج إلى تحليل عميق و شرح مسهب، إنه التوهّم الذي يرتقي إلى درجة اليقين و الاطمئنان.
و عنوان نصّنا هنا هو حالة إفرازية لتعاطف سريع مع ابتسامة غامضة، استطاع العقل المتكيف مع الأحداث المتباينة، أن يميّز أنها تحمل بداخلها ما تحمل من ألم، توقّع و تخمين آنيٌّ و فوريّ، أفصح عن خلل في التعبير عن السّعادة، وشى به شعاع خفي استلمه الذكاء و القدرة الأنسانية، و العاطفة الكامنة في النفوس الشّفّافة، استلمه بغير وضوح ليترجمه إلى مأساة مخفية عن عمد!

ابتسمت له
جملة فعلية بسيطة جدا، رأى الكاتب أنه ليس بحاجة إلى بحث معجمي، قدر حاجته إلى فكرة عميقة بطرح بسيط، و هذا الأمر ليس بالأمر الهيّن، فغالبا ما يكون الكاتب على درجة عالية من التأهّب و الاستعداد لانتقاء المفردات الدسمة التي تسد نقص السّرد في النصوص المضغوطة و المكثّفة، فالنّص الذي لا يقتصر إلّا على مفردة واحدة أو اثنتين، لابد أن يكون على درجة موفّقة في اختيار مفردات ذات عمق و غير مستهلكة أو مُملّة الطرق و التدوير، و هنا يبرز دور الكاتب و ذكائه، حين اعتماده على الطرح السلس دون تكلّف و بأي مفردة تخدم نصّه من ناحية عرض فكرته العميقة و إيصالها بطريقة مؤثرة نفسيا لا لغويا أو بلاغيا، مع أن البلاغة نفسها هي أن تأتي بفكرتك كاملة بمفردة واحدة، و الجدير بالذكر هنا أن ننوِّه إلى أن الشطر الأول كان يكفيه الجملة الفعلية من مفردة (ابتسمت) وحدها دون أي زيادة، لكن الكاتب آثر أن يضيف لها شبه الجملة (له) ليتّسق الشكل النهائي للنّص، و جعل الكفة الأولى تناسب الكفة الثّانية، من خلال مقابلتها بمفردتين أزاء مفردتين.
الشطر الأول من النصّ الومضي يحكي لنا قصة فتاة ناضجة، دون الحاجة إلى التطرّق إلى عمرها أو حالتها الاجتماعية أو الزوجية، أنه يحكي لنا عن حالة نفسية تصيب شريحة رقيقة من المجتمع بإظهار عاطفته بطريقة مثالية و راقية و معبّرة في الوقت نفسه، فهي قد ابتسمت لا أكثر، و هذا اعتبار محترم و غير مبتذل و لا يعدو إلّا أن يكون أدبا في حضرة الودّ و العشق، فالبطلة هنا مجهولة الكنية، و للقارئ حق التّكهن، من كونها خطيبة البطل، زميلة، عابرة أصدمت به فجأة، جارة تضمر له شغفا يخالطه الحياء و الحشمة و العفّة، و التشخيص و الوقوف على رأى لا يأتي بجديد أو يخدم الحكاية الأصل.

رأى حزنها
و نفس الرأي في الشطر الأول ينطبق على الشطر الثاني من النّصّ، حيث الانسيابية و السهولة في المفردة، لحساب العمق و محاولة إعطاء القارئ دفعا حسّيّا مؤثرا، و تفجير طاقة من العاطفة في المفردة المختارة، و التّركيز على عرض المضمون بالآلية التي تشدّ لُب المتتبع و عدم تخييب ظنه منذ انطلاقه خط البداية، من العنوان الجيد و الاستهلال الموفّق.
و بما أن السّر الذي يميّز الومض عن سواه يكمن كله في نتيجة السّبب و انتظار ما تفرزه لنا قدرة الكاتب على التّلاعب في مخيلاتنا، فإن الشطر الثاني جاء موافقا لهذه الشّروط و منحنا ما كنّا نصبو إليه، و ما كنّا نمنّي النفسَ بالحصول عليه، فبينما كانت البطلة تبتسم، و الابتسام إشارة لجو سعيد و فضاء رحيب و نَفْس بهيجة، جاءنا ما أربك كل التّوقعات و حطم بلذيذ الإبداع النتيجة المتوقعة و المحتملة، إذ رأى البطل غير ما يمكن أن يراه المطّلع البسيط، و غير الظليع في التّوغّل بالنفس البشرية، لقد رأى الذي ابتسمت له رأيا مغايرا و استثنائيا، لقد كان على درجة من الثّقة، لقد كان جديرا بأن تبتسم له، لقد كانت تعرف إنه الوحيد من محيطها مَنْ يستطيع أن يترجم ابتسامتها، و يقلّبها على أوجهها الصّحيحة، لقد كان اختيارها مدروسا، و ربما كان غير ذلك، و له علاقة بالعنوان أيضا، ربما حدست هي الأولى بظرف لحظات، أنه قادر على أن ينزل بابتسامتها منزل الحزن الذي تعانيه، إذا فقد كان الحدس مزدوجا، كانت نقية شفافة تحدس الأمور بنفس الكيفية و القدرة التي يستطيعها هو، لقد وجدت ظالتها و مبتغاها، الذي لا شك أنه سوف يبدد كل حزن، و يطيح بكل هم، و يقتل كل تعس، و يخلق بصدقه و حبه حياة أكثر هناء و ودادا و سعادة و أُنساً...

تحتّتي و الودّ
عماد نوير...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في