الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التمرد 4

آرام كربيت

2018 / 4 / 11
الادب والفن


ـ منذ ثلاثة أعوام وقفت أمام نافذة مفتوحة في يوم صيفي حار، ويا ليتني لم أقف.
كان أبو العباس ينظر إلي مستغربًا من حديثي وفي أعماقه يجول حب معرفة السر. عيناه مركزتان على فمي الصغير، وشيء من القلق يحفزه أن يكتشف ماذا وراء هذه النافذة.
ـ لماذا، ماذا كان داخل النافذة أو وراءها؟
ـ كنت في السابعة من العمر يا، أبو العباس، عندما وقفت أمام نافذة مفتوحة، أنظر إلى امرأة نائمة على السرير، عليها شرشف شفاف، يبان منه وجهها. وإلى جوارها بعض النسوة يبكين. بقيت في مكاني مستغربًا من هذا المشهد الغريب. بقيت مدة طويلة. المشهد شدني إلى المشهد، شيء مثل الجاذبية الأرضية أو المغناطيس الذي يشد البرادة.
نادى علي ابن خالي الذي يكبرني بستة اشهر، قائلًا:
ـ تعال، أسرع لنذهب إلى البيت. لماذا أنت واقف هناك؟
كان لا مبالايًا ولم يشده المشهد الغريب. سألته:
ـ لماذا يبكين هؤلاء النسوة؟ ولماذا هذه المرأة نائمة في النهار أمام النافذة؟
ـ إنها ميتة!
ـ ميتة؟ ماذا تعني بهذه الكلمة؟
ـ لا أعني أي شيء. إنها ميتة.
لم أفهم ماذا يعني ميت. كما لم أر من قبل جسد إنسان ميت، ولم أره مسجى على سرير أو أرض.
ثم أردف:
اليوم، بعد الظهر، سيدفنوها. هكذا قال ابن خالي.
بقيت واقفًا في مكاني مذهولًا من وقع الكلمات الثقيلة على مسمعي. كنت على الرصيف في ذلك الصيف الحار والمروحة تدور داخل البيت الترابي الذي فيه المرأة الميتة والنسوة. والشارع جانبي لا تمر فيه السيارات. وعمليًا لم تكن المدينة كبيرة. هو تجمع بشري يسمى مدينة جرى ربطه ببعضه بسرعة كما تربط حبات المسبحة. شرائح اجتماعية لا تجانس بينهم.
نظرت إلى أبو العباس، رأيت وجهه لم يشيء بشيء مهم سوى الغرابة في حديثي:
ـ وماذا بعد هذا؟
ـ زاد الأمر تعقيدًا علي، سألت ابن خالي:
ـ ماذا تعني بالدفن؟
ـ ستوضع تحت التراب. بعد الظهر سيأخذونها إلى الكنيسة، سيصلى عليها، ومن هناك سيأخذونها إلى المقبرة، لتدفن تحت التراب.
كان يتكلم وكأن الأمر أقل من عادي.
وقفت منبهرًا مبهوتًا من قسوة الجواب. وسألت نفسي:
هل سيدفن أبي، أمي وأخوتي الصغار؟ وأنا؟ لماذا؟ لماذا نأتي إلى هذه الحياة ثم ندفن تحت التراب؟
ضحك أبو العباس من كلامي:
ـ جميع الناس سيموتون يا آفو ويدفنون تحت التراب.
آه، شيء مؤسف ما تقوله. يبدو أن جميع الناس كانوا يعرفون السر إلا أنا!
ـ أي سر؟
ـ سر الموت!
ـ تلك الليلة لم أنم، صورة المرأة لم تغب عن بالي إلى اليوم، جنازتها التي مرت من المكان الذي كنت واقفًا عليه، الثياب السوداء، الكنيسة، بكاء النسوة وعويلهن في شارع فلسطين ساروا عليه بعد أن رشته الحكومة بالماء عبر شاحنة خاصة.
سألت نفسي مرات كثيرة:
ـ لماذا يميت الله الناس؟ لماذا يقبرهم؟كنت خائقًا، مرعوبًا من هذا التراجيديا الغريبة.
هذه الأسئلة تركت في نفسي بقع سوداء لا تغيب ولا تنطفئ. قادني هذا الموضوع إلى البحث عن الحرية والخلاص من الله وبعيدًا عنه. إن الخوف الذي تفجر في داخلي، حررني منه وتركني وحيدًا غريبًا داخل داخلي، وداخل نفسي وغربتي، والأسئلة القاسية والصادمة والصعبة تحاصرني:
ـ من نحن؟ ومن هو الله والوجود؟
شردت كثيرًا، غاب النور عن عيني لبضعة لحظات، عاد التوتر القديم يخلخل ذاكرتي. تذكرت كلام المعلمة أنجيل في مدرسة اللواء الخاصة في الحسكة عندما كنت طفلًا في الصف الثالث الأبتدائي وهي تتحدث مع والدتي وهما فوق رأسي يعتقدن أنني صغير في السن لا أفقه أي شيء:
ـ إنه طفل حساس جدًا، ذكاءه الفطري يغمر عقله، عليكم أن تهتموا به كثيرًا.
كنت وقتها اكتب بالحبر الأخضر الذي كنت استهويه كثيرًا. واشخبط على الورق. وساكنًا داخل نفسي لم أخرج منه ابدًا. والأسئلة القاسية تنام وتسيقظ معي. ولم أكن أعرف كيف افاتح أبي وأمي بما يعتمر في داخلي. كانوا على مسافة بعيدة وطويلة عني. لديهم ما يشغلهم:
ظروف الحياة وقسوة الواقع، والعدد الكبير من الأطفال الذين يحتاجون إلى الرعاية والاهتمام. في الحقيقة لم أكن أرى في هذه الدنيا سوى نفسي، أناني جدًا احاول أن ألبي ما يطلبه داخلي. واتشبث برغباتي الملحة كلعبة كرة القدم، واللعب بالغميضة والتوش في أوقات الفراغ مع بقية أطفال الحارة.
ـ ما دام آفو ذكيًا لماذا أرسلتم لي رسالة للمجيء إلى هنا؟
ـ لإنه ذكي ولكنه مشتت. ذهنه ليس في الدراسة والعلم. تصوري أنه يغش في حصة الإملاء بوسائل لا تخطر على بال إنسان.
وشوشت أمي في أذني حتى لا تلفت انتباه بقية الأطفال:
ـ هل سمعت ما قالته المعلمة أنجيل؟
ـ نعم. سمعت حديثها
ـ وهل يخجلك هذا الكلام؟
ـ لا. ولماذا يخجلني؟ أنا لا أحب المدرسة، ولا أحب هذا السجن بجدرانه العالية وسور الباحة العالي. ولا أحب المعلمة أنجيل.
تأففت والدتي حتى كادت أن تبكي، بله بكت. رأيت دموعها الغزيرة تنهمر من عينيها وبدأت تتنهد. وضعت المعلمة يدها فوق ظهرها وبدأت تخفف من وقع الحزن عليها. كان بقية التلاميذ، أفرام سلاطيان وفانيا وزيبور وأفاك بانوس وأبيك وانترانيك ومكرديج ينظرون إلى أمي والمعلمة. كان هناك ضجيج وأصوات عالية وحالة اضطراب تسود أجواء الصف. كانوا يضحكون ويتسامرون ويتهامسون، وارتفع صوت أحدهم، يقول:
ـ متى سنمثل بجانب السبورة مسرحية الفيل والأرانب يا معلمة؟
ـ اخرسوا الأن. ستمثلون المسرحية بعد قليل.
رفعت والدتي رأسها ووجهت نظرها للمعلمة:
ـ عندما كان آفو في الصف الأول سجنه المعلم حسن مع عدد من التلاميذ، وكان الهارب الوحيد من الصف. ومن وقتها يكره المدرسة والمعلمين والدارسة.
ـ آه. الأن فهمت عليك. لديه إنكسار نفسي.
المعلمة أنجيل طويلة القامة، كبيرة في السن وضخمة الحجم وشعرها قصير وتنتعل حذاءًا عاليًا كعبه يشبه المسمار. كنت أتساءل في سري كيف يمكن لهذا المسمار أن يحمل امرأة بهذا الحجم الكبير.
وتابعت:
ـ بيد أن السؤال يطرح نفسه، كيف سنرمم هذا الجرح العميق؟ وليس لدينا علم في هذا المجال في المدرسة والمحافظة.
ثم غمزت والدتي للمعلمة وخرجا من الصف وأغلقا الباب ورائهما.
تركت المعقد الذي كنت أجلس عليه برفقة زيبور وهاييك، واتجهت ناحية الباب وفتحته مواربة وبهدوء شديد. سمعت والدتي تقول للمعلمة:
ـ إنه يحتاج إلى التشجيع ليكسب بعض الثقة بالنفس.
ـ سأحاول. وسأطلب من المعلمين أن يضعوا هذا نصب أعينهم.
في الحقيقة، أن المعلمة أنجيل أكثر إنسان ضربني في طفولتي الأولى. كانت أكثر إنسانة سادية معي لأنني لم أكن أحب المدرسة ومقصرًا في واجباتي. وكنت أخاف منها وأكرهها. كانت ترى أن الضرب هو الطريق الوحيد للوصول إلى العقل والاستيعاب.
رأيت ملامح الحزن بادية بعمق على وجه أبو العباس، حائرًا لا يعرف كيف يعبر عن حزنه حول ما سمعه مني:
ـ آفو، هل أنت جائع أو عطشان؟ سأجهز لك سندويشة لحم بعجين، أعرف أنك تحب طعامي. وسأجهز لك كأس شاي أكرك عجم. أتمنى أن تسترخي وتنسى ما يدور حولك. الحياة تمضي بنا بسرعة وعليك أن تتعامل معها كأنها غير موجودة.
ـ كيف أنها موجودة؟ كل شيء فيها ملتصق برأسي وعقلي، أيام وليالي لا أنام دون أن أعيش مع الموتى والعظام النائمين تحت بيتنا.
ـ موتى وعظام تحت بيتكم؟ كيف هذا؟
ـ نعم، تحت بيتنا يوجد آلاف وربما أكثر. تحت بيتنا عشرات الآلاف من الموتى. عظامهم ينامون تحتي تمامًا. رائحة الموتى عفنة تسبب لي التقزز. إنها رائحة منفرة خاصة أن التربة رطبة.
وقلت:
أبو العباس أشم روائحهم أثناء النوم لهذا أبقى قلقًا لا أنام طوال الليل. أعيش مع هذه العلاقة منذ سنتين وأخجل مصارحة أهلي أو المعلمين مخافة أن يتهموني بالجبن. وأخاف أكثر لأن أصدقائي يتعاملون مع الموت ببساطة وسهولة ويسر.
لم يبق إلا بضعة مارة في الشارع يركضون، رؤوسهم منخفضة تكاد تلتصق في الأرض، ورافعين سراويلهم عاليًا خوفًا من البلل. وبدأ الوقت ينحسر ويتجه نحو الاندلق في الليل. والمطر يزداد هطولًا راسمًا صورًا اهليلجية هجينة للشارع.
وأبو العباس يحتاج إلى شريك في غربته ووحدته في براكته، يقطع الوقت في انتظار زبون يشتري طعامًا من محله. ورأى وجودي عنده يمده بالتسلية وتزجية الوقت:
ـ والله وضعك صعب يا آفو. لا تنام وتعيش حالة قلق فظيعة. الله يكون بعونك، ليس لديك مخرج من هذا الأمر الصعب سوى العودة إلى الله والأنبياء والصلاة في الليل علّه يبعد عنك الهواجس والجن والأشباح.
نظر آفو إلى نفسه وإلى أبو العباس ثانية،
قال لنفسه:
ـ ليس العظام والموتى وحدهما السبب الوحيد للقلق الذي أعانيه وأعيشه، هناك أشياء كثيرة تقرع جدار عقلي وذاكرتي، هناك حبي الجارف لسيلفانا منذ اللقاء الأول بها في باحة المدرسة، في الصيف الذي مضى. إنني مجنون بها وأخجل أن اصارحها. أو اصارح أبو العباس أو أمي أو أصدقائي.
صوت أمي يطغى على كل الأصوات:
ـ لا تلعب مع البنات يا آفو، مكانك ليس معهن. ولا تقترب منهن. ولا تحتك بهن. أبق على مسافة طويلة منهن. اعتن بأخواتك البنات فقط، ودير بالك عليهن. إنهن أجنحة مكسورة. ألعب مع الأولاد الذين من عمرك.
وأسال نفسي:
ما بهن البنات؟ ولماذا أمي تمنعني من اللعب معهن؟ اللعب هو لعب، والغاية هي الغاية ان نستمتع بالوقت ونرفه عن أنفسنا. ونبتكر ألعاب كثيرة معًا وهم شركاء لنا في المدرسة والصف. صحيح أن أجسادهن رقيقة، بيد أنهن يلعبن ألعاب خاصة بهن وألعاب تتناسب معنا. ثم أعود لنفسي وأقول أمي مجنونة، لا تعرف سيلفانا، إنها باقة ورد، نسيم غريب جاء على حين غرة وعلى غفلة من الزمن ودخل داخلي. إنها شتلة ريحان في غير معاد وفي غير وقته. سيلفانا كانت مخرج لذلذ في وحدتي تبعد عني الأرق والخوف، أربط نفسي بالحب وأفكه عن الموت، بيد أنهما بقيا ملتحمين في بعضهما. كنت أقول دائمًا:
الموت والحب أقنومان في أقنوم واحد ملتصقان في داخلي. أنني في دوامة، والليل طويل وأعيش في وحدتي يسامرني الأرق والحزن والفرح. وأطير. اصطحبتها معي على فرس له أجنحة من نور. كانت ورائي على الفرس ذاته، وبيننا كان هناك سيف ورمح وقرد يمنعون تواصلنا. كنا نطير ونطير إلى خارج حدود الزمن والمكان.
عندما يهل الليل تأتي سيلفانا إلي برشاقة الضوء. كنّا وحدنا. كان وجود أبي وأمي وأخواتي والناس عبء علينا. كنت أزيلهم من ذاكرتي، لنبقى وحدنا في مكان بعيد وربما لا مكان.
لم يكن الزمن يمر علينا. هناك، بجانبنا نهر يجري باسترخاء يلون الأرض بالأعشاب السندسية الخضراء. لم يكن هناك ثقل للواقع ولا طلبات من أمي أن أجلب لها الحليب والخضار واللحم والخبز. ولم يكن هناك مدرسة ومعلمين ودروس وواجبات. نشرب الماء من النهر ونأكل الأعشاب والحشائش وما تجود به الأرض من خيرات.
وتابع آفو يقول لنفسه:
بعد أن بقينا أنا وسيلفانا في البراري العذبة بعيدًا عن الجميع:
إنها لحظات لذيذة أن أكون بصحبة وافرة من الطبيعة برفقة فتاة أحبها. وإنها بين يدي في الخيال الطافح. إنها مثل الخمر أو النبيذ المعتق الذي يسقيني أياه جارنا ابو ليفون في الأمسيات الشتائية الطافحة بالدفىء بالقرب من المدفأة، عندما يغمس يده في اللحم المشوي ويضعها في فمي مع قطعة مخلل من اللفت والشوندر الحامض الطعم ويتبعها بريتونة سمراء ممزوجة بالليمون الأخضر وزيت الزيوت النقي، ونسترخي تحت رائحة دخان السجائر، الحمراء والشرق والستار. وعلى مقربة منًا صوت ناي يأتي من بعيد يلون المساءات والسماء بأخاديد الزمن العجوز. وبيني وبينها جرة نبيذ طافح بلونه, ورائحة شواء وصوت احتراق حطب عتيق وعلى مقربة منا رقع من الجلد مكتوب عليه:
أنظر إلي، أنني أقطع الوقت والتاريخ واللذات.
ينظر آفو إلى المطر العاري يهطل منفردًا، يغني بصوته الحزين, يبلل السماء والأشجار العارية والأنفاس الباردة. ويمرر في طريقه الآهات المكبوتة المخنوقة.
أراد آفو ان يبحث عن رؤاه في هذه الندوب الموجعة، في هذا الطريق الشائك الذي لا يفضي إلى نهاية أو بداية أن يهرب من اليقظة والخوف ويمضي بعيدًا وراء سبع بحار بعيدة ممتطيًا فرسه والرياح.
وأضاف يقول لنفسه:
أبقى ساعات طويلة في فراشي، أرفع رأسي مرات للتأكد أن أخواتي ما زالوا على الأرض نيام إلى جواري. وأراقب صوت الصمت يتكسر على الصمت.
إنني وحيد في ظلال الوحدة، استعيد استعيد سيلفانا مرات ومرات، أحمل في داخلي وجهها النقي وجمالها وبياض وجهها ووحشية عينيها التي تقزمني. عندما تنظر إلي أراها تقطعني بنظراتها الرهيبة إلى أرب أرب. إنها في داخلي في أقسى لحظات العشق ورديفه، أسعى إلى تحقيق شيء يعجز عنه البشر، أن امتلك القدرة في الدخول إلى المناطق السرية الغامضة التي لم تطأها قدم الإنسان من قبل. ابتكر الحرية على مقاسي، واكتشف عالم يحقق ذاتي التائهة وذات المكان الخالي.
يتبع ـ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق