الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقاسيم -جواد الاسدي- في منتدى المسرح ( قراءة من داخل التجربة)

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2018 / 4 / 14
الادب والفن


لم تزل ذاكرتي تحتفظ بذلك الإحساس الذي ظل يراودني وأنا أتصفح المدونة النصية التي حملت عنوان (تقاسيم على العنبر) للمؤلف جواد الأسدي، والتي وجدتها مع جموع الكتب التي بدأ أبي بجرجرتها من حقائبه المتهالكة، بعد عودته من تلك الرحلة القصيرة إلى بلاد مجاورة في ذلك الزمن القفر على المستوى الاقتصادي والمعرفي، بدت لحظات الفرح تتكشف في عيون والدي المثقف والقارئ الشغوف بالمعرفة وهو يطالع الكتب كأنها جواهر ثمينة، وبدأتُ بالتقاط الكتب الواحد تلو الآخر باحثاً عن ما يثير اهتمامي، سيما وأنني كنت طالباً للمسرح في معهد الفنون الجميلة، أمسكت يدي بذلك النص الذي دفعني للسؤال وأنا أتصفح أوراقه؛ من يكون (جواد الاسدي؟) وجاءني الجواب (إنه مخرج ومؤلف مسرحي عراقي يعيش في الخارج) .
أثارتني فكرة التعرف على ذلك المسرحي الذي كنت أجهل معرفته، ودفعني ذلك الفضول إلى القراءة فإذا بالنص المسرحي لا ينتهي عند حدود الأحداث الدرامية التي سطرها المؤلف، بل ذهب به بعيداً وهو يدون يوميات البروفات المسرحية وشغف الممثلين في اكتشاف شخصياتهم.
نص جديد على ذائقتي ومعرفتي .. نص مسرحي مختلف ..بدأت معه رحلتي التي لم تنته بعد في اكتشاف ( جواد الأسدي) وعوالمه المسرحية .. سنوات طويلة مرت وأنا منغمس في شراكتي مع مسرحه .. لم أكتف بالتصدي لإخراج مسرحية (تقاسيم على العنبر ) التي دخلت إلى روحي منذ سنوات، بل استمرت الشراكة بيني وبين (جواد الأسدي) وقد اتخذت مساراً جديداً، تمثل في السعي لدراسة (المخرج المؤلف ) ليكون (الأسدي) إنموذجاً للدراسة البحثة في الماجستير.
الشغف باشتغالات الأسدي المسرحية لم ينقطع، بل اتخذ أشكالا مختلفة، الحوارات مستمرة معه ومحاولات إقناعه بضرورة الرجوع إلى بغداد وتقديم تجربة مسرحية بات ضرورة ملحة، وقد وجدت عند الأسدي الرغبة ذاتها، وبدأت مرحلة التخطيط لتقديم مشروع مسرحي .
بدا لي أن (الأسدي) جاهز للعودة إلى بلاده حاملاً في جعبته ذلك النص الأثير والقريب إلى روحي وروحه (تقاسيم على العنبر) دون سواه، لم تخف الفرحة تساؤلاتي التي انطلقت مسرعة.. بعد أن أخبرني أنه قرر أن يسميه (تقاسيم على الحياة) وكان الجواب حاضراً .. (العنبر يا صديقي هو حياة لكل شخصية من شخصياته .. لذلك فتقاسيم على الحياة سيكون عنوان أكثر عمقاً).
بدأت البروفات التي كنت أترقبها .. إنها بروفات الطاولة التي امتاز بها (الأسدي) رحلة جديدة من الاكتشاف .. والتساؤلات.. البروفة الأولى: قرأ فيها المخرج نص المسرحية بصوته الواضح.. وبدأ يراقب الممثلين بعيون فاحصة وهم يقرؤون النص . بدا بعضهم خائفاً متوجساً من نظرات المخرج .. وسرعان ما تنبه لذلك ودفع بهم إلى طاولته الأنيسة كما يحب أن يسميها .. لم يكن يبحث في البروفات عن شروحات وتفصيلات، بل اختار الدخول إلى الممثل منذ اللحظة الأولى مراقباً الصوت والجسد، الإشارة، وحركة العين، الأمر الذي دفع بالممثلين إلى الحفر في مناطق أكثر عمقا ً بحثاً عن أداءات مغايرة لتلك التي كانت مخزونة في ذاكرتهم ..من جهة أخرى فقد كنت أبحث في البروفات عن ذلك النص المقدس الذي اختار الأسدي الإطاحة به، ذلك أنه المؤلف الذي بدأ بخيانة نصه والعمل على بناء نص محايث يمتلك حضوراً أكثر من ذلك النص الذي اتكأ فيه على متن سردي ينتمي إلى قصة (العنبر رقم 6) للكاتب الروسي (أنطوان تشيخوف) وإذا به يحفر أنهاراً جديدة في (تقاسيم على الحياة) بدأت تتكشف فيها ملامح المدينة وثقافتها ومسرحها العريق العتيق، وكأني أراه يسعى إلى التأكيد على أن الذاكرة لا تخون أصحابها، وكأنه أراد التعبير عن أوجاع لا يمكن أن يفهمها إلا ممثل عراقي يمتلك حساسية الألم ووحشة المدينة وشوارعها التي كانت مضيئة في ذلك الزمن البعيد ، وصارت اليوم ميتة.
كان (الأسدي) قد وضع تصوراته المسبقة حول اختيار فضاء العرض، الأمر الذي جعله يستقر على فكرة تقديم العرض في (منتدى المسرح) ويعود ذلك إلى تصوراته الإخراجية والسعي لخلق نظام تواصلي مع المتلقي، الأمر الذي دفع به إلى تأسيس سينوغرافيا العرض على نحو منسجم مع فضاء ذلك البيت العتيق، الذي عمل على تهشيم جدرانه التي تدفع بالمتلقي إلى خلق تصورات خاصة بوصفه بيتاً بغدادياً قديما، والعمل على تحويله إلى مصح للأمراض النفسية والعصبية، معتمداً في ذلك على بيئة حديدية هي الأقرب إلى السجن منها إلى مشفى يراد به معالجة المرضى، وتلك الإحالة دفعت بالمتلقي إلى محاولة التواصل بين الشكل الحديدي القاسي من جهة وبين الملفوظ النصي الذي يحتكم على دلالات واضحة المعنى في التعبير عن حضور المشفى، فضلا عن ذلك فإن تأسيس الجدران والأبواب على نحو مائل جاء للتعبير عن تلك السلطة الحديدية الضاربة هي سلطة آيلة للسقوط، الأمر الذي جعل من الشكل متحركاً يعلوه الصدأ على الرغم من صلابته وقسوته، من جهة أخرى فإن تصميم الإضاءة التي عمل عليها الفنان (علي السوداني) جاءت على نحو منسجم وفعال مع مقترحات المخرج، إذ تنوع الاشتغال البصري فيها إلى مستويات عدة، منها ما جاء تعبيراً عن الجو العام الخانق والكئيب لفضاء العرض، ومنها ما جاء تعبيرا عن تلك العزلة القاتلة التي تعيشها شخصيات العنبر التي هي تعبير عن السجن الانفرادي أكثر منها تعبيراً عن المصح النفسي، الأمر الذي تحول معه فضاء العرض البصري إلى الظلمة التي يراد بها السيطرة على الأفراد وتقييد حرياتهم وعدم السماح لهم بالتفاعل والتعبير عن سخطهم وغضبهم، وبدا ذلك واضحاً في مواضع عدة من العرض، منها مشهد (الطعام) الذي يتم فيه التعبير عن سخط المرضى وغضبهم حيال ما يقدم لهم من طعام لا يصلح لإطعام البهائم .
وإذا كان الشكل السينوغرافي قد أسهم في خلق ثنائية (السجن/ المشفى) بما يقابله من نظام أدائي للشخصيات التي تنوع اشتغالها ضمن حدود تلك الثنائية (العاقل / السجين ) و (المجنون/ المريض) وهي ثنائيات بدت منتجة لأداء تمثيلي يكشف عن تنوع في الإيقاع، وابتداء من شخصية ( إيغوركا) التي جسدها الممثل (أمير أحسان) إذ بات حضوره الأدائي في ثنائية ( المجنون / العاقل) وانتقاله مكانياً بين ( سكرتير الدكتور / العقل) و (البروفيسور / الجنون) وتحوله مرة أخرى إلى فضاء (الدكتور أندريه / العقل) وعودته إلى (الجنرال / الجنون) تلك الثنائيات المتداخلة في الشخصية تطلبت من الممثل بذل جهود أدائية استثنائية، وعلى مستوى آخر فإن شخصية ( الدكتور أندريه) التي جسدها الممثل (مناضل داود) والتي احتكم فيها على طبقات صوتية أسهمت على نحو فاعل في التعبير عن صرامة الشخصية (العاقل) الذي يحتكم على فلسفة صارمة في التعبير عن ضرورة الحياة والموت، الأمر الذي بدا عليه نظام الأداء الحديدي الذي بان في كثير من المواضع منسجما ً مع الشكل السينوغرافي لفضاء العرض (السجن / المشفى) وكأنما أراد الممثل ومن ورائه المخرج التعبير في أداء الممثل عن تلك الحقبة الروسية الصارمة ذات الصبغة (الستالينية) الشمولية، والتي سرعان ما تبدأ بالانهيار على نحو تدريجي، بعد مشهد جمالي يتم فيه تهشيم الفكر المادي الذي ينتمي له (الدكتور اندريه) مع المريض ( إيفان) وبذلك فإن التحول في شخصية (الدكتور أندريه) جاء على نحو منسجم مع سلوك الشخصية وبنائها الدرامي، إلا أنه تحول يدخل في منظومة الثنائيات التي تأسس عليها العرض المسرحي، فكان التحول الادائي من (العقل /السجان) إلى (الجنون / المشفى)، ولم تكن شخصية ( إيفان) التي جسدها الممثل (حيدر جمعة) على نحو إستثنائي بمعزل عن تلك الثنائية الأدائية إلا أن نظام الأداء جاء على نحو مغاير لما كان عليه (الدكتور اندريه) إذ ان شخصية ( إيفان) اختارت (الجنون/ السجن) وهي ثنائية بدت مغايرة لما ذهب إليه المخرج في بناء شخصيات العرض، ذلك أن شعور (إيفان) بالعزلة وعدم قدرته على الانسجام مع السلوك الاجتماعي الذي يحتكم في كثير من أشكاله على فعل سلطوي (ستاليني) الأمر الذي دفع به إلى اختيار (العنبر) بوصفه بديلاً مكانيا ، إلا أنه اكتشف أن العزلة في (المشفى / السجن) أشد قسوة عليه من (المجتمع / السلطة)، وقد اختار الممثل العمل على بناء النظام الأدائي بما ينسجم مع الشخصية التي تكشفت عبر معطيات النص الذي يصف (إيفان) بأنه (يعاني من جنون الاضطهاد) وهذا ما دفع بالممثل إلى تبني سلوك أدائي متحول من (العقل إلى الجنون إلى العقل)، وتأتي شخصية (الممثل ميخايلوف) التي جسدها الممثل (أياد الطائي) بوصفها تعبير عن الواقع الاجتماعي الذي يقبع تحت حكم السلطة الحديدية، سيما وأن (ميخايلوف) ممثل مسرحي مرموق ينتمي إلى تلك الشخصيات التي (شكلت بحضورها على خشبة المسرح ذاكرة جميلة)، وقد اختار (المخرج المؤلف ) إعادة بناء هذه الشخصية بما ينسجم مع حضور المسرح في العراق، في إشارة واضحة إلى تلك المدينة التي كانت عليها (بغداد) وذلك الشارع الذي كان عليه (شارع الرشيد) وذلك المسرح العريق الذي كان عليه (مسرح بغداد)، من دون الدخول في المباشرة، بل هي إشارة إلى الماضي وما وصل إليه المسرح في حاضر مليء بالخرافات والإنهيارات الإجتماعية والثقافية، وقد أسهم ذلك في الدفع بالممثل (ميخايلوف) إلى اختيار (الجنون / المشفى) بوصفه بديلاً عن حياة لا وجود لفن مقدس فيها، وقد جاء أداء الممثل ( أياد الطائي) منسجماً مع بناء الشخصية، وبخاصة في المشهد التمثيلي الذي جسّد فيه شخصية (الحوذي) الذي قاد الممثل (ميخايلوف) إلى الانتحار والخلاص من حياة لا وجود للمسرح فيها.
وتأتي شخصية (مكسيم) التي قام الموسيقى الرائع (أمين مقداد) بتجسيدها، العلامة السمعية الأكثر حضوراً وفاعلية في فضاء العرض، لما شكلته من ثنائية تمثلت في (صلابة الحديد / رهافة الروح) وهو ما كان يهدف إليه المخرج عندما أراد الانتصار للحياة بما يقابلها من صدأ السلطة وقسوتها، إذ تكشفت صورة السلطة على نحو واضح في شخصية (الدكتور خوبوتوف) التي جسدها الممثل ( جاسم محمد) تلك الشخصية السلطوية التي اختار المخرج أن ترتدي زياً عسكرياً في تعبير واضح عن عسكرة المجتمع في الأنظمة الشمولية، ولم يقتصر الأمر على الزي المسرحي، بل أن أداء الممثل (جاسم محمد) جاء منسجماً على نحو واضح، بما امتلك من تعبير أدائي احتكم على منظومة إشارية من الإيماءات والإشارات عن طريق تعبيرات الوجه وحركة الأيدي الانفعالية، في إشارة واضحة إلى أن السلطة مهما كانت عنيفة تظل عاجزة أمام العقل المثقف، وقد تشكلت عبر ذلك ثنائية (السلطة / العقل) التي أراد بها المخرج الإشارة إلى أن السلطة الحقيقية هي سلطة العقل المفكر .
تجدر الإشارة إلى ملح العرض، شباب المسرح الذين جسدوا أروع الأدوار (مجانين/عقلاء ) العنبر، إذ تكشفت طاقاتهم الإبداعية الكبيرة في الحرص والاتزام والإفادة من ورشة مسرحية أدارها المخرج (جواد الأسدي) من أجل المشاركة مع أجيال مسرحية مختلفة في تقديم (تقاسيم على الحياة ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با