الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توظيف اليومي في الرواية العراقية ، شوقي كريم أنموذجاً

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2018 / 4 / 18
الادب والفن


(( ما فائدةُ انسانٍ دونما بهجةٍ , ما فائدتُهُ دونما احساسٍ بلذةِ البقاءِ ، وحنيةِ الوجودِ منذُ كم منا لسنواتِ وحقائقُنا مرةُ مثلُ علقمٍ ، مرارةٌ قاتلةٌ لها قوةٌ سمِ الافاعي ، نحنُ محفوفونَ بالخطرِ ومحاصرونَ بالموتِ ، مأكولونَ بالخوفِ ، محنةٌ تجرُ وراءَها محنةً وفراقاً يتلو فراقاً .... وجعي يسربلُ أيامي ويطشُ عذاباتي فوقَ الهاماتِ ، ما اريدُ لأهلي أن يعيشوا على أملٍ لا مجيءَ لَهُ.. أملٌ بجوابٍ يشفي غليلَ افئدتِهم المحترمةِ مثلَ سجر التنانيرِ )) رواية هباشون .
نتيجة الهوة الكبيرة التي حصلت جراء ابتعاد الأدب عن الواقع اليومي في ظل الرومانسية وتهويماتها اتجه عدد من الكتاب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى الانشغال بالحياة اليومية .
فقد استخدم الروائي الفرنسي (شنفلوري ت ١٨٨٩) مصطلح الواقعية ليشير به إلى الانغماس بالواقع ومحاربة الأدب الخيالي ، وبعدها انطلق بلزاك يجسد هذه النزعة في أغلب رواياته فقد قال ذات مرة وبالحرف الواحد كما ينقل عنه فيليب فان تيغم في كتابه المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا ، ص٢٤٢ :(( على الروائي أن يدرس مظهر الأشخاص ويسالهم ويمحص اجوبتهم ويدرس مساكنهم ويستجوب الجيران ثم يدون حججه واضعا حداً لتدخل الكاتب وإلى اقصى درجة ممكنه فيكون المثال الأعلى نوعاً من الاختزال مقاصد الأشخاص وسلسلة من الصور لمظاهرهم المتنوعة ... إن الواقعية تهدف إلى أن تصبح التعبير عن التفاهة اليومية )) .
ونجد هذا الكلام مطبقاً حرفياً في روايات بلزاك ، ففي روايته (الملهاة البشرية ) نجده يعتمد على التصوير الواقعي للأشياء ، ويتخذ الموضوعية رداءً في أسلوبه ويستمد موضوعاته من قاع المجتمع ، وممن سار على هذا النهج أيضاً فلوبير في روايته المترجمة (مدام بوفاري) التي صور فيها حياة الريف الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر تصويراً دقيقاً مشخصاً المشكلات الاجتماعية أدق تشخيص ، ونحن نسلم أن الواقعية التي تحدثنا عنها كانت تسمى الواقعية النقدية وهي الصورة الأولى من صور الواقعية ، وقد تطورت فيما بعد إلى ما يسمى بالواقعية الاشتراكية على يد الكتاب السوفيت ـ مسكيم غوركي مثلا ـ ثم ظهرت الواقعية الطبيعية على يد الأخوان جونكور ومن ثم اميل زولا الذي نحى بالرواية منحى دراسيا لشخصيات الأفراد .
وبالعودة الى مفهوم الواقعية يمكن القول : إن هذا المفهوم يدل : أولاً على الانشغال باليومي وتفصيلاته مثل ما نجده في يوميات العقاد وكتاب الأيام لطه حسين أو يوميات القراءة لابرتو مانغويل أو رواية تسير الأحداث فيها مسجله على شكل رسائل يومية مثل :آلام فارتر لجوتيه .
وقد اهتم العرب بتدوين الواقع فقد كانوا يسمون معاركهم بالواقعة , وهناك سورة في القرآن بهذا الاسم تشير إلى وقوع يوم القيامة .
وبالانتقال إلى الرواية العراقية يمكن القول إن روايتنا في العراق كانت واقعية منذ ولادتها لتأثر الثقافة العراقية عموما بالثقافة الاشتراكية لكن يمكن القول أن المتن النقدي قد تأخر في توصيف هذه الواقعية فلم تساير النخلة والجيران وقصص عبد الستار ناصر دراسات نظرية تقف على أبعادها ودوافع واقعيتها صحيح أن هناك من النقاد من أشار إلى الواقعية العراقية لكن تلك الاشارات لم تصل إلى لب هذه النزعة , من تلك الاشارات ما ورد في كتاب د.نجم عبد الله كاظم (الرواية في العراق١٩٦٥-١٩٨٠وتأثير الرواية الأمريكية فيها ، وأيضا في كتاب العنف السياسي في السرد القصصي العراقي في كتاب عبد جاسم الساعدي إلا أن ياسين النصير في كتابه القاص والواقع كان أكثرهم ملامسة لهذه المشكلة ، فضلا على مجموعة مقالات على صفحات الانترنت مثل حمزة الحسن يحكي عن المهمشين ، وعالم المهمشين في الرواية والقصة وغيرها .
ونعتقد بأن تأخر الدراسات النظرية النقدية انعكس سلبا على تطور القص العراقي وأدى إلى فقدان ركن مهم من أركان العملية التقويمية والتقييمية لاسيما في الجانب السردي على الضد من الشعر عندنا ، فقد تأخرت الرواية عن مثيلاتها العربيات كميا ونوعيا وزمنيا بسبب تأخر النقد الروائي فضلا على أسباب ثقافية كثيرة لامجال لذكرها كلها هنا .
ويمكن القول أننا ومع النخلة والجيران نجد تحولا كبيرا في السردية العراقية لاسيما وأنها كانت رواية عراقية خالصة على الرغم من عدم رفدها بحركة نقدية موازية .
وبالقفز إلى روايات ما بعد التغيير ٢٠٠٣ يمكن القول إن الروائي العراقي أصبح وجهاً لوجه أمام الواقع مما سبب فيضا سرديا عراقيا متدفقا الأمر الذي جعل دفقاته الأولى غير واضحة المعالم إلا أن المتابع يمكن أن يلاحظ أن الرواية بعد ذلك أصبحت وجعاً بامتياز ؛ انها رواية الوجع العراقي هذا واضح من استعراض عشرات الروايات التي صدرت خلال هذه الرواية ، فقد تمثلت الرواية العراقية النزعة الواقعية بطرق شتى فنجد الحرية في القول بارزة في أغلب النصوص الروائية التي صدرت آنذاك كما في رواية سنان انطوان : اعجام , ونجد كذلك استذكارا مقصودا بالحاح لضحايا في الفترة السابقة كما في رواية نصيف فلك :عين الدود مثلما نجد المزج بين مرارة الواقع والرؤى الفلسفية كما في رواية : مشرحة بغداد لبرهان الشاوي والواقعية الخيالية كما في : وحدها شجرة الرمان لسنان انطوان أو الانغماس في المدينة العراقية كما في مطر الله لهدية حسين وخلف السدة لعبد الله شمسي والسيد اصغر المرتضى كزار كذلك نجد واقعية الرواية تتمثل في تصوير زمن النظام السابق مثل خضر قد والعصر والزيتوني لنصيف فلك ومثلث الموت لعلي لفته سعيد وفي عملية الغوص في التاريخ العراقي كما في مدن الهلاك والشاهدان لعلاء مشذوب أو نجدها في مجابهة اللغة الرسمية والاعلاء من اللغة المحلية في العنوان خاصة كما في روايات شوقي كريم لا سيما الثلاثية وهباشون والاستئناس بالرؤى الأسطورية والصوفية كما في رواية مستعمرة المياه لجاسم عاصي .
وهناك عشرات الروايات التي جسدت الواقع العراقي بشكل أو بآخر نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : نهر جاسم لقصي الشيخ عسكر , وياسين وصحبه لحاتم جعفر، ويوميات غياب الندى لأسعد الهلالي ، والوليمة العارية لعلي بدر ، ومتعتك نفسي لإيمان محمد ، وصرخة البطريق لحمزة الحسن ، والتشهي لعالية ممدوح ، وسبت يا ثلاثاء لزيد الشهيد ، وأخوة يوسف لنجم والي ، واقتفي اثري لحميد العقابي ، والمنطقة الخضراء لشاكر نوري ، وقيامة بغداد لعالية طالب ، وتمر الاصابع لمحسن الرملي , وغيرها .
وشوقي كريم الروائي العراقي قد انتهج الواقعية موظفا اليومي في أغلب ما كتب ويمكن تشخيص ملامح الواقعية في سردياته باستعماله اللغة اليومية البسيطة ممزوجة بلغة شاعرية كما في رواية هتلية ص٦و١١ واستعمال اللهجة المحلية المحكية وتوظيف الاشياء المستعملة في تفاصيل الحياة اليومية مثل الاماكن والملابس والأغذية والنباتات والحيوانات فضلا على توظيف الهاجس اليومي ، مثل الأمور العائلية التي تحدث في كل لحظة وما يجري في الأسواق والشوارع وبين الناس والاعلاء من شأن الهامش المسكوت عنه وتجنب البلاغة الكلاسيكية واستعمال الأسلوب الشعبي حتى في الفصحى واستيحاء الذاكرة الشعبية واتخاذ النساء والمهمشين والصعاليك والفقراء من الطبقات التحتية أبطالا في رواياته وإبراز تناقضات الحياة التي لا يمكن التعبير عنها إلا في اللغة اليومية مثل السخرية والضحك والتحشيش والنقمة على الفاسدين واصحاب السلطة والنفوذ وتصوير حالات الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي عن طريق تعريتها وفضح الأساليب التي ينتهجها الفاسدون .
يجد القارئ الانشغال باليومي في أغلب ما كتبه شوقي كريم بدء من رواية مدار اليم ومرورا برواية شروكية ورواية هتلية فضلا على مسرحياته وقصصه القصيرة .
وشوقي كريم في رواية هباشون يستمر في النمط السردي الناقد نفسه الذي اشتغل عليه في رواياته وأعمله السابقة , وبدءا لابد من الاشارة إلى أن العنوان ذاته يحمل نفسا نقديا تهكميا لاذعا كما في أغلب عناوين رواياته التي صدرت قبل هذه , فالهباشون هم المحتالون , وهي مفردة عربية حيث ورد في المعاجم العربية : (هبش يهبش هبشًا : جمع المال وكسبه , فيقال هبش لعياله أي جمع مالا لهم وكسب , والفاعل منها الهباش , والمفعول : مهبوش , قال أحد الشعراء الشاعر العربي القديم :
أعدو لهبش المغنم المهبوش سيدًا كسيد الردهة المغبوش
والهباشات هي المكاسب , جاءت بهذا المعنى في بيت لرؤبة بن العجاج :
لَوْلا هُبَاشَاتٍ من التَّهْبِيشِ لِصِبْيَةٍ كأَفْرُخِ العُشُوشِ
تدور أحداث رواية هباشون في زمن النظام السابق , إذ أنها تتكلم عن السجون والسجناء في ذلك العهد وما يدور داخل تلك السجون .
والقارئ لرواية هباشون لا بد أن يستنتج أنها تمثل جزء من حياة كاتبها إذ نجد أنها كتبت بمرارة ونفس صادق حتى أن كاتبها كان مسكونا بشراهة السرد فلم يمنح القارئ فرصة للتوقف فما أن تفتح الصفحة الأولى حتى تسير بك الرواية إلى منتهاها دون توقف وكأنها ملحمة سردية أبطالها من البشر الحقيقين الذين أضنتهم الحياة بمرارتها وكوتهم بنارها .
وسوف يواجه قارئ هباشون عالم السجن على حقيقته حد التماهي , سيرى نماذج بشرية في غاية القسوة والاستبداد مثلما يجد نماذج في غاية الانسانية , سيصادفه مظلومون حرموا عوائلهم واطفالهم وحبيباتهم , ومشاعر مكبوتة بين جدران السجون , فهناك تجارب عشق صادقة ومؤلمة تحكى داخل هذه السجون , مثلما يجد القارئ أن هناك رعبا حقيقيا من الافصاح عن أبسط الأفكار خاصة إذا كانت تشم منها رائحة السياسة , وهناك عزوف من مراجعة السجناء خوفا من الملاحقة , وأخيرا سيجد القارئ ضحك وبكاء , وصدق وخداع , ووفاء وغدر .
وفي الرواية أيضا سنجد الأساليب اللا أخلاقية للسلطة حينما تزرع الكره والعداء بين الناس ليقتتلوا , وهذا واضح بأبشع صوره في المعتقلات فقد صور لنا الكاتب أساليب ادارة السجن في تأجيج مشاعر الكره بين النزلاء .
الرواية مكتوبة بلغة فصيحة مشكلة في أغلب الأحيان تتخللها مقاطع تقترب من عالم الشعر , يُسمع فيها أكثر من صوت بدءا من بطل الرواية (عمران الهبش ) ومرورا بسيد أهله وحميد ومنسي وصبرية بائعة الروبة زوجة الهبش بعد تجربة حب وآخرين غيرهم .
تنتهي الرواية بأن يتقاتل عمران الهبش وسيد أهله فيقتلان معا بعد حياة مليئة بالرذيلة والمنكر .
وفي الرواية مقاطع تسبر غور النفس الانسانية لا سيما تجربة الحب , لكن مما يحسب للكاتب قدرته على الجمع بين مشاعر الحب والفقر في لغة شفيفة تنم نفس شاعرية بوضوح , يتحدث الكاتب عن الهبش حينما صارح صبرية الفيرة بحبه , فيقول على لسان الراوي (( حاولَ الولوجَ الى عمقِ ترددِها لكنَ أنى يكونُ هذا مع امرأة أغلقَت بواباتِ افراحِها عمداً , امرأة سكنَت السوقَ منذُ طفولتِها دونَ أن يقدرَ رجلٌ ما على ترويضِ جموحِها ؛ على ركوبِ الحِجرِ الطينيةِ , كانت تعلنُ إنها لا ترغبُ برجلٍ غيرِهِ , يملأُ دنياها بالودِ والعرفانِ , وحينَ سألوها مَن , نَكسَت رأسَها وانحنت تخوطُ قدرَ الروبةِ بتمنٍ لذيذٍ ، اهتزَت مواجعُ عمرِهِ فأخذَ يحدقُ في عمقِ السوقِ وجناحِيه الضاجتينِ دوماً برفيفِ الأولادِ وجنونه الباعث على الضحك والاحتجاج )) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الموسيقي طارق عبدالله ضيف مراسي - الخميس 18 نيسان/ أبريل 202


.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024




.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3