الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف رصد طرابيشي الإرهاب الديني ضد الفلسفة والفلاسفة

علاء اللامي

2018 / 4 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


*لذكرى الراحل جورج طرابيشي
مرت قبل فترة الذكرى الثانية لرحيل الباحث العربي السوري جورج طرابيشي (توفي في 16 آذار 2016). وبهذه المناسبة سأقرأ معكم نقديا كتابه المهم "مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام" تحية لذكراه ولجهده العلمي الكبير والريادي.
اخترت هذا الكتاب، ليكون موضوع هذه القراءة/ التحية لأنه في اعتقادي من أهم وأعمق الكتب التي ألفها الراحل طرابيشي وأكثرها راهنية في ميدانها. وتنبع أهميته من أن الباحث الراحل تصدى فيه لمقولات ومفاهيم متأثرة إلى هذه الدرجة أو تلك، أو مشتقة مباشرة أو بشكل غير مباشر من الفكر الاستشراقي الأورومركزي المناوئ للثقافة والحضارة الشرقية عموما وللمنجز العربي الإسلامي منها، وخصوصا في ميداني الفلسفة والعلوم. هنا قراءة في الفصلين الثاني والثالث من الكتاب. وكنت قد توقفت قارئاً مقدمة الكتاب والفصل الأول منه في مناسبة أخرى:
في الفصل الثاني من كتابه، وعنوانه " عذابات الفلسفة في المسيحية الأولى"، يقدم طرابيشي جردا تاريخيا شاملا تقريبا، لوقائع علاقة المسيحية الأولى بالفلسفة والفلاسفة مما لا يسعنا الوقف عنده بإسهاب رغم ضرورة ذلك بل سنتوقف عند ما بدا لنا الأهم والأكثر راهنية. طرابيشي، في هذا الفصل، لا يفاضل بين موقف الدينين المسيحية والإسلام من الفلسفة، بل يحاول إفهامنا السياق المعرفي والتاريخي لكل منهما منظورا إليهما في شرطهما التاريخي الحقيقي. فهو ينظر إلى المسيحية مثلا كدين توحيدي ينشط في ساحة فكرية وثقافية وثنية "يونانية". ولذلك فهو يكرر منطلقه التفكيكي للظاهرة فيكتب (لقد قلنا إننا نطعن في الإشكالية ذاتها. ذلك أن المسيحية كالإسلام، دين وحي، ومرجعيته، مثله، إلى نص أول مطلق ينزع إلى تأسيس نفسه في عقيدة قويمة (أورثوذكسية) - بالمعنى اللغوي وليس الديني العقيدي لكلمة "أورثوذوكس" اليونانية والتي تعني الصائب، المستقيم، الصحيح، و القويم. ع.ل). تتنافى والروح الفلسفي الذي يقوم على البحث الشخصي، المستقل والحر، عن الحقيقة. ص25 مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام).
ومن الأمثلة على وقائع الصدام الطويل والمرير بين المسيحية الأولى والفلسفة والفلاسفة يستعرض طرابيشي العديد من الأمثلة نذكر منها بإيجاز الآتي:
-في القرن الميلادي الثاني تصدى أحد ورثة الفلسفة اليونانية القديمة وهو قلسوس الإبيقوري لنقد المسيحية فلسفيا، لتبيان تعارضها مع العقل. وخصص لذلك كتابا عنوانه " البيان الحق". هذا الكتاب اختفى من التراث الفلسفي الموجود ولم يصلنا منه سوى اقتباسات أدرجها أوريجاس في كتابه " الرد على قلسوس" وأوريجاس يعد أبرز المدافعين عن المسيحية، وألف كتابه هذا بعد موت مؤلف الكتاب الأصلي الذي اختفى.
-يمر طرابيشي على موقف الرسول بولص، الذي يصفه بعبارة "المؤسس الثاني للمسيحية"، وهو عندي المؤسس الأول للمسيحية، لأن يسوع المسيح لم يؤسس ديناً أو كنيسة بل قاد حركة مساواتية اجتماعية دينية انتهت الى الفشل المأساوي، وانتهى هو إلى المحاكمة من قبل مجلس السنهدرين اليهودي، ومن ثم الإعدام على الصليب الروماني. وموقف بولص كان واضح العداء للفلسفة: فهو لم يكتف بتحذير المسيحيين منها بل (أعلن عن الاستغناء عن الحاجة إلى الحكمة البشرية بعدما بزغت، على جناح الرسالة المسيحية، الحكمة الإلهية... ولئن حسب أحدكم نفسه حكيما ليوم الدينونة هذا العالم، فليعمل على ان يكون مجنونا كيما يصير حكيما، إذْ حكمة هذه الدنيا هي جنون أمام حكمة الله/ رسالة بولص الى أهل قولوس ك 2 ف9).
وبعد بولس جاء ترتليانس، ليواصل مهمة الدفاع عن "صحيح الإيمان" المسيحي والهجوم على الفلسفة ويدافع عن الحكمة الإلهية، حيث جعل المسيحيون الأوائل الأنبياء في مواجهة مباشرة مع الفلاسفة. كتب ترتلياس سنة 150 م (أي قاسم مشترك بين أثينا والقدس؟ بين أكاديمية أفلاطون والكنيسة؟ بين الهراطقة والنصارى؟ إنَّ مذهبنا آتٍ من رواق سليمان الذي علَّم بوجوب البحث عن الله بكل بساطة القلب. ترحىً "حزناً، بؤساً؟" لأولئك الذين ابتكروا مسيحية رواقية، أفلاطونية، جدلية! أما نحن فما عادت بنا حاجة إلى الفضول بعد يسوع المسيح، ولا إلى البحث بعد الإنجيل، يكفينا أن نؤمن حتى لا تعود بنا حاجة إلى الاعتقاد بشيء آخر. مصائر ص 32 م.س). بل أن ترتليانس يتهم الفلاسفة بأنهم انتحلوا حكمة الأنبياء ثم حرفوها وشوهوها ومن ثمَّ حكم على " تاريخ الفلسفة" بأنه ليس تاريخ تقدم بل " تاريخ انحطاط"!
-يتوقف طرابيشي بعد ذلك عند ما اصطلح عليها بـ " سرقة الفلسفة"، والتي قال بها بعض المسيحيين المعتدلين والذي كانوا مطلعين على الفلسفة اليونانية مثل كليمونضوس الإسكندري، فأراد هؤلاء أن يحفظوا شيئا من الكرامة للفلسفة والفلاسفة، بعد أن تزايد العداء المسيحي لهم فقال كليمونضوس في ما قال (إن أصل الفلسفة نبوي، وأخذه الفلاسفة عن هذا الأصل و لكن السحر انقلب على الساحر فاتهم كليمونضوس بأنه تأثر بآراء الفلاسفة الوثنين الذين تصدى لنقدهم ويستدرك طرابيشي مستذكرا تجربة أبي حامد الغزالي الذي تصدى للفلاسفة العرب المسلمين ولكنه اتهم من قبل المحافظين المسلمين بأنه (بلع الفلاسفة ثم لم يقدر أن يتقيأهم). أما انا فيذكرني كلام كليمونضوس بمحاولة ابن رشد لمصالحة الفلسفة مع الشريعة، لأنهما، حسب قولته الشهيرة، أختان بالرضاعة ومصطحبتان بالطبع، متحابتان بالجوهر والغريزة.
ثمَّ انحط مستوى النقد المسيحي للفلسفة بعد ذلك، ودخل بعض رجال الدين المسيحيين مرحلة التشويه والنيل من شخوص الفلاسفة وآدميتهم. فأُلِّفت الكشاكيل بالنكات والنوادر الجارحة بحقهم، فقد ألف يوستينس كتابا سخر وتهكم فيه من الفلاسفة اليونانين وصورهم وكأنهم ضفادع وجناة يجمعون بين سوء الخِلقة وسوء الخُلق. من ذلك مثلا ما قاله عن أفلاطون وكيف بِيعَ بَيْعَ العبيد لأنه شره، واتهم أرسطو بالغباء وتملق الاسكندر المقدوني. أما ديوجانوس فقال عنه إنه أكل أخطبوطاً نيئاً ومات ببطنته وشرهه للطعام، واتهم الفيلسوف أرستيس بأنه كان يتعاطى الفجور والفسق تحت قناع الوقاع.
أما القديس ثيوفيلوس أسقف انطاكيا، فكان يكن كرها شديدا للفلسفة والفلاسفة، فواصل خط التشنيع عليهم جميعا، متهما كل فيلسوف منهم بتهمةٍ تتراوح بين التهتك الجنسي لدى أفلاطون، وزنى المحارم عند أبيقور، واللواط عند الفلاسفة الرواقيين، بل انه اتهم زينون وديوجانس بأكل لحم البشر. ص35 مصائر. م.س.
ومع حلول القرن الرابع الميلادي أصبحت صفة "اليونانية" مرذولة ومذمومة من قبل المسيحيين. وقد هجا القديس غريغوريوس النزيانزي مدينة أثينا التي درس فيها، ووصفها بانها عاصمة الوثنية المشؤومة. أما كتاب "تعاليم الرسل" وهو الكتاب الأساسي للعقيدة المسيحية والأكثر تداولا فقد حثَّ المؤمنين على الامتناع التام عن قراءة كتب الفلسفة وأخذ غذائهم العقلي من الإنجيل فقط.
ومع تنصر الدولة الرومانية، في عهد قسطنطين في القرن الرابع، كفت المسيحية عن أن تكون ديانة مضطَهَدَة لتغدو ديانة دولة قامعة. وبدأت عملية قمع الهرطقات والمذاهب المختلفة عن، والمخالفة لدين الدولة. وولدت العقيدة " الصراطية المسننة" وأصبحت الفرق الجديدة متهمة بأنها من قبيل " المبتدِعة " أما "الفرقة الناجية" فهي فرقة الدولة وحدها.
إنَّ تاريخ الفرق والانشقاقات والهرطقات في تاريخ المسيحية الأولى يبدو لا نهاية له. ويحصي طرابيشي ثلاثة وعشرين اسما من أكبر وأشهر أسماء تلك الفرق والجماعات. وبعد مجمع نيقا المسكوني الديني والذي عقد بدعوة من الإمبراطور قسطنطين سنة 325م، وافتتحه شخصيا. وكان الهدف منه مواجهة وتصفية الإريوسية (نسبة إلى الأسقف إريوس الإسكندري وهو من أصل ليبي أمازيغي، عاش بين 256 و336م) بوصفها هرطقة مضادة للعقيدة المسيحية، ولها أنصارها داخل المسيحية. وانتهى الصراع معها بولادة ما سمي "العقيدة الصراطية المسننة"، في نص عرض للتوقيع عليه من قبل الحاضرين في المجمع وقرر الإمبراطور معاقبة الرافضين للتوقيع عليه بالنفي من البلاد، فاختار الرافضون النفي.
في تلك العهود أصبح الدين يقوم مقام أيديولوجيا شمولية، وكان قرار الحرم أو التكفير حتى إذا كان مقيدا بالاستتابة هو أخطر قرار يمكن اتخاذه ضد الانسان الفرد. وتكرس "تدخل العنف في محراب اللاهوت" وأصبحت مطاردة الهراطقة ونفيهم أو قتلهم واجبا رئيسيا للدولة الرومانية منذ الامبراطور ثيودوذس الثاني 428 م. وحين رفض بطريك القسطنطينية نسطور (المولود في مدينة مرعش السورية) القول بأن "مريم العذراء هي أم الله" ثار ضده الإسكندرانيين بزعامة البطريك كوريلس. ثم عزل عن منصبه ومن كل السلك الكنسي وشبه بخائن المسيح يهوذا الاسخريوطي، وبكونه عدو الإيمان، ثم عوقب بالنفي في ثلاثة قرارات رفض نسطور الانصياع لها ولم تنفذ. ثم دارت الدائرة على أعداء نسطور فعوقبوا بالطرد والعزل الكنسي. ووضع كوريلس وميمون خصما نسطور في السجن، ولكن كوريلس تمكن من رشوة حراس السجن والهرب والعودة إلى الإسكندرية. وبدأ عصر الاضطرابات والانتفاضات والانشقاقات والحروب الدامية ذات الجذور الدينية المتعلقة بالخلافات بين الشيع والمذاهب المسيحية بعد أن تمت تصفية الفلسفة اليونانية وممثليها تصفية تامة.
واعتبرت الفلسفة والتراث الإغريقي " الهليني" نوعا من المرض حسب تعبير الأسقف ثيودورايس، الذي ألف كتابا كان له رواج عظيم عنوانه "طريقة لشفاء الأمراض الهلينية". وعُزل وقُتل وسُجن رجال دين وحكم كثيرون، وأحرقت ودمرت مدن عديدة. ففي مجزرة واحدة قتل ثلاثمائة وخمسين راهبا في كمين نصبه لهم سايروس الأنطاكي، رئيس البطريكية الأنطاكية، لأنهم من " الخلقيدونيين = القائلين بأن للمسيح طبيعتين ومشيئتين". وقد قمعت جميع مظاهر الثقافة اليونانية وأصدر الإمبراطور قنسطنسيوس بن قسطنطين مراسيم إمبراطورية بإغلاق جميع المعابد ومنع الدخول إليها تحت طائلة قطع الرأس ومصادرة جميع الأملاك للمخالفين. ثم أصدر قرارا بمنع تقديم الأضاحي. وأتبعها بثلاثة قرارات تقضي بمنع العلماء والمشتغلين في الرياضيات والمتكهنين والعرافين و"الكلدانيين" أي ممن يشتغلون في علم الفلك وما هو قريب منه.
وفي عهد يوستينس صدر قرار بحظر الوظيفة العامة على الهراطقة، وبإقصائهم من الجيش. وقد طرد ما لا يقل عن خمسين أسقفا ممن لا يوثق في استقامة عقيدتهم. ثم أمر بأن تكون وحدة العقيدة شاملة ليس فقط للمسيحيين والهراطقة من بينهم بل شمل بها حتى ذوي الأديان الأخرى كاليهود والسامريين والبقية الباقية من الوثنيين. وفي عهده بدأت الدعوات العِرقية القائلة بتفوق العِرق الروماني على سائر الأعراق البشرية الأخرى بالبروز والانتشار.
في منتصف القرن السادس الميلادي، بدأت حملات التنصير القسري وفرض دين الدولة بالقوة على الناس، وشملت عاصمة الإمبراطورية القسطنطينية. وكان كهنة المعابد الوثنية يعتقلون وتبتر أطرافهم، ويطاف بهم وهم عراة في المدن، وتحرق كتبهم في الساحات. ثم أغلق يوستنيانس جامعة الفلسفة في أثينا سنة 529. وطال الإرهاب الديني الفلاسفة في الأقاليم البعيدة، فقد لاحق أسقف الإسكندرية أثناسيوس الفلاسفة واضطهدهم، وقُتلت الفيلسوفة الإسكندرانية الأفلاطونية هيباثيا سنة 415 على أيدي الغوغاء. وبدأ الفلاسفة والعلماء المطاردون بالهرب واللجوء الى بلاد فارس المجوسية، حيث أمر كسرى أنوشروان باستقبالهم وإكرامهم وأمر بترجمة عدة محاورات أفلاطونية الى اللغة الفهلوية والسريانية.
يخلص طرابيشي في نهاية استعراضه المهم هذا لوقائع اضطهاد الفلسفة والفلاسفة والهراطقة والمنشقين المسيحيين على العقيدة الرسمية في عهد المسيحية الأولى إلى القول الفصل الآتي والذي يخلص جوهر ما تقدم (إنَّ تاريخ الفلسفة في مسيحية القرون الأولى هو تاريخ قطيعة وغياب. ذلك أن "الفلسفة؟" والعقيدة القويمة ضدان لا يجتمعان. وكما أن العقيدة القويمة لا تقبل فلسفة خارجها لأنها لا تفرز فلسفة من داخلها... الفلسفة حتى ولو كانت مسيحية، فإنها لا تملك إلا أن تكون سؤالا وإلا كفت عن ان تكون فلسفة. ص66 مصائر م.س).
ولكي يكتمل مشهد مثلث العلاقات بين الفلسفة والمسيحية والإسلام يكرس طرابيشي فصلا خاصا هو الثالث من كتابه لوقائع الارتكابات المعادية للفلسفة في الإسلام، لا بقصد المفاضلة بين طرفين بل بهدف قراءة تلك العلاقات في سياقاتها التاريخية الواقعية، كاشفا ومفندا في الآن ذاته الدعوات الأورومركزية الرينانية ونسخها أو اشتقاقاتها العربية. بادئا بقراءة الدراسة التاريخية العينية التي قدمها أبرز ممثلي الرينانية المستشرق غولدزيهمر سنة 1915 والمعنونة "موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل" والتي ترجمها عبد الرحمن بدوي.
ويسجل طرابيشي أن العرض الطويل الذي قدمه غولدزيهمر لارتكابات السلطات والجهات الدينية العربية الإسلامية كشواهد على سوء مآل الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي، يخلو من أي إشارات حقيقية لوجود الفلسفة العربية الإسلامية نفسها. وأن ثمة سكوتا عنها في هذا العرض (فكل ما يحظى به هذا الوجود هو محض إشارة مقتضبة في مطلع مقالته إلى أن "علوم الأوائل" هي على حد تعبيره "العلوم التي نفذت إلى البيئة العربية الإسلامية بتأثير المؤلفات المأخوذة عن الكتب اليونانية" ويخلص طرابيشي إلى الاستنتاج التالي: إنَّ تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية الذي قدمه غولدزيهمر (هو تاريخ غياب لا تاريخ حضور).
وبعد أن يعرض طرابيشي عشرات الأمثلة التي أوردها غولدزيهمر على الانتهاكات العربية الاسلامية بحق الفلسفة والفلاسفة في بلاد العرب يلاحظ أنها ليست موضع تشكيك ولكنها كلها منتزعة من السجلات التاريخية للقرن السادس والسابع والثامن ولا وجود لشاهد واحد يعود إلى ما قبل القرن الخامس الهجري. ويسجل كيف أن تلك الارتكابات المعادية للفلسفة بلغت ذروتها مع ابن تيمية، الذي اعتبر ابن سينا وأصحابه الفلاسفة (من أخسِّ الناس علما وعملا وكفار اليهود والنصارى أشرف علما وعملا منهم من وجوه كثيرة)، بمعنى أن تلك الارتكابات حدثت في فترة بدء الانحدار والتأزم الحضاري وليس في عصر الازدهار الفلسفي والعلمي العربي الذي دام عدة قرون وهذا أمر له دلالاته.
ولم يقصر ابن تيمية هجاءه على الفلاسفة والمتفلسفين الإغريق، بل طال بتكفيره أمة اليونان كلها واعتبرها أمة عدوة للإسلام، وجعل حكمها كحكم الزنادقة والملاحدة والكفار ودمغهم بالشرك. أما فتوى ابن الصلاح ضد الفلسفة والمنطق والتي أفتى فيها بأن (الفلسفةَ أسُّ السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة "..." فالواجب على السلطان أعزه الله أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم من المدارس ويبعدهم) فقد قال طرابيشي عنها، أنها (على خطورتها، تبقى -فتوى دينية -من خارج الفلسفة والمنطق)، والحال أنها كذلك فعلا، لا ينفي - كما أعتقد - احتسابها على حالة العلاقة بين الإسلام والفلسفة في الإطار العام، مثلما احتسبنا حالات مماثلة لرجال دين وجهات دينية مسيحية أفتت بمضامين كهذه ضد الفلسفة.
ويعلل طرابيشي توقف غولدزيهمر عند حملة المتوكل العباسي ضد الفلسفة والفلاسفة واضطهادهم بأنها لم تكن تعبر عن عداء للفلسفة بما هي فلسفة، بل جاءت كردة فعل حادة على تجربة المعتزلة المحسوبين على تيار العقلانية والتنوير الفلسفي آنذاك، والذين هيمنوا على السلطات السياسية والثقافية والقضائية في عهد المأمون ومارسوا قمعا ضد خصومهم العقيديين. وكانت تجربة الهيمنة الفلسفية المعتزلية على تلك السلطات تجربة لا مثيل لها في كل التاريخ الأوروبي الغربي أو الشرقي.
بعد كل ما تقدم، ينتهي طرابيشي إلى الخلاصة المهمة التالية: (إن الوقائع عنيدة كما يقول المثل. ووقائع التاريخ العربي الإسلامي تقول إنَّ الفلسفة العربية الإسلامية قد وجدت، وإن عشرات من الفلاسفة من المسلمين، سنة وشيعة، ومن النصارى واليهود والصابئة قد عاشوا ونبغوا في القرنين الثاني والثالث والرابع للهجرة، وألفوا كتبهم بالمئات، واصطنعوا بالعربية لغة فلسفية لا تصمد في المقارنة معها، قبل ثورة الحداثة الأوروبية، سوى اللغة اليونانية في العصر الهلنيستي أو لاتينية العصر الوسيط المتأخر. ص 80 مصائر.م.س).
ورغم كل ما حدث في ساحة العلاقة بين الإسلام والفلسفة، وخصوصا بعد ما سمي بـ"الضربة القاصمة" التي يقال إن الغزالي قد وجهها الى الفلسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة"، فقد رد عليه ابن رشد بعد أكثر من سبعين عاما تقريبا بكتابه الحاسم "تهافت التهافت"، وكانت الكلمة الأخيرة لابن رشد غربا والرازي شرقا، قبل أن يدخل العالم العربي الإسلامي في دورة انحطاط حضاري طويل بدأ مع سقوط بغداد والمشرق العربي تحت سنابك خيل المغول سنة 1258م، أي بعد أكثر من ستين عاما على وفاة ابن رشد، وما أعقب ذلك من احتلال وغزوات وحروب. ويختم طرابيشي هذا الفصل بالكلمات التالية: (لقد ظل ابن رشد في أقصى المغرب يعلن أن الحكمة "الفلسفة" هي صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة) مثلما ظل فخر الدين الرازي في أقصى الشرق مصمما على الجمع بين الفلسفة وعلم الكلام - منهجيا لا عقيديا- من خلال ما سماه ابن خلدون " طريقة المتأخرين").
أما موقف طرابيشي مما سمي " نظرية الضربة القاضية " التي وجهها الغزالي للفلسفة والتي يتبناها زميله الراحل الجابري نقلا عن المستشرق الهولندي دي بور، فهو موقف حاسم ينطوي على انتباهة عميقة فهو يقول (إن هذه النظرية هي إما نظرية ساذجة أو سيئة النية). وهي عنده ساذجة، لأنها تعتقد (أن بمستطاع فقيه متكلم – كان فضلا عن ذلك موظفا أيديولوجيا لدى الدولة السلجوقية - والمقصود الغزالي- أن ينهي بمفرده الفلسفة ويهير صرحها بمعول النقد "الخاصي" أو بمعول التبديع والتكفير " العامي". ص 80 م.س). وهي سيئة النية لأن الغرض المسكوت عنه فيها هو أن الفلسفة العربية الإسلامية هشة بتكوينها وسريعة العطب بطبيعتها "المستوردة" وقابلة للسقوط من الضربة الأولى لأنها مزدرعة ولا جذور لها في تربة الحضارة العربية الإسلامية. وفي كلا الحالتين، السذاجة أو سوء النية فإن نظرية " الضربة القاضية " (ليس لها سوى مؤدى ضمني واحد هو: أن الفلسفة في حضارة الإسلام عرض عارض، صدفة تاريخية، بينما هي في حضارة المسيحية جوهر ثابت وقانون تاريخي. ص81 مصائر . م.س). وبكلمات معبرة أخرى يلخص طرابيشي الوضع كالاتي (تنقلب الحقيقة التاريخية مرتين: فمنفى الفلسفة في مسيحية القرون الأولى يغدوا وطنا، وتوطن الفلسفة في إسلام القرون الأولى يغدو مهجرا). إن هذا العرض البليغ والمقتصد الذي يقدمه طرابيشي يكشف فعلا عن المحتوى الحقيقي لمقولة ضربة الغزالي القاضية ويكشف عن المسكوت عنه فيها كشفا لا مزيد على وضوحه.
إن طرابيشي لا ينكر واقع وحدوث "ضربة الغزالي" الموجهة إلى لفلسفة ولكنه يسجل حقيقية تاريخية يقفز عليها القائلون بها، وهي أن الفلسفة العربية، وبعد ازدهارها في القرنين الثاني والثالث وجزء من الرابع الهجري ماتت فعلاً، وأن ضربة الغزالي جاءت موجهة إلى جثة ليس فيها حياة. فالفلاسفة الذين كفرهم وبدَّعهم، اعتبارهم من أهل البِدَع، كانوا قد ماتوا قبل نصف قرن تقريبا ولم يعد بوسعهم الرد عليه، والذي رد عليه هو ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت" بعد خمسة وسبعين عاما وبعد أن دخلت الفلسفة حالة من السرية أو شبه السرية في الأندلس حيث كان ابن رشد يعيش بحماية البلاط "الحكم" ليسلم، جزئيا، من قمع ممثلي "العقيدة المسننة القويمة " هناك وهذا أمر وفرته له المصادفة ولم يتوفر لزملائه في المشرق العربي. وإن حقيقة موت الفلسفة معناه أنها عاشت وتطاول عمرها الى ثلاثة قرون تقريبا أعطت ما أعطته خلال تلك القرون وتحولت بعدها إلى تراث حي شأنها في ذلك شأن التجارب الفلسفية المشابهة في بلاد الإغريق قبل أن تحصل على تحويلتها الأوروبية الخاصة.
أما أسباب موت الفلسفة العربية الإسلامية هي ذاتها الأسباب التاريخية التي أدت الى موت الفلسفة اليونانية في عهد المسيحية الأولى ومنع ولادة فلسفة مسيحية. وبكلمات طرابيشي (فما قتل الفلسفة مرتين في مسيحية القرون الأولى قتلها للمرة الثالثة في إسلام القرون المتأخرة: تسنين العقيدة القويمة. مصائر ص 82 م.س). ومع أن طرابيشي لم يوضح الجذر اللغوي لمفردة "تسنين" ولكننا نفهم المقصود بها من السياق العام لكلامه فهو يعيد بدايات " تسنين العقيدة القويمة" إلى أحمد بن حنبل في القرن الثالث الهجري أو بالأحرى (إلى الحركة التي قادها أهل الحديث وشريحة متعاظمة من الفقهاء تحت اسمه، والتي بلغت ذروتها المتشددة مع ابن تيمية (661-728 هـ) والذي لقب بحق مجدد الحنبلية في القرن الثامن. ص 82 م.س)، رغم أن ابن تيمية لم يرحم حتى الغزالي "صاحب الضربة القاضية المزعومة ضد الفلسفة والفلاسفة" وكان – كما يقول طرابيشي - يوجه له الصفعات في كل كتاب من كتبه بمناسبة وبدونها حتى كتب (شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج فما قدر).
ولعل أبرز مرتكز يوضح المراد بهذه المدرسة الإجماعية هو قول ابن حنبل (ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية). أي أن الاجتهاد والإبداع والتساؤل الفردي صار حراما ممنوعا لأنه يعني الخروج على الجماعة والإجماع. ويربط طرابيشي على سبيل التأصيل والمشابهة بين هذه المدرسة العقيدية الحنبلية وبين عقيدة -أو قانون إيمان ( Crédo ) في اللاهوت المسيحي المعادي للفلسفة والذي تقدم الكلام عنه، ثم يأتي بنصوص أوردها فقهاء حنابلة منهم ابن أبي يعلى في " طبقات الحنابلة" قريبة كل القرب على قانون الإيمان الذي انتجه مجمع نيقا المسكوني لتقرير صفات المؤمن " بصحيح الإيمان". ثم يسجل طرابيشي ميزتين حاسمتين للمدرسة الحنبلية وهما إنها أكثر "سنية" أي أكثر تمسكا من غيرها بالعقيدة القويمة لأنها مدرسة حديث في حين كانت المدراس الأخرى كالحنفية والشافعية والمالكية تعتمد على الاجتهاد والقياس والترجيح. والميزة الحاسمة الثانية هي أن الحنبلية كانت مدرسة فقه وكلام معا بعكس المدراس الفقهية الأخرى التي كانت إما مدارس فقه كالحنفية والشافعية والمالكية أو مدراس كلام كالمعتزلة والأشاعرة.
فرق آخر يسجله طرابيشي بين الحنبلية وسواها وهو انها كانت تتوجه الى الجمهور العريض أو " العامة" بمفردات التراث بخلاف المدارس الكلامية كالمعتزلية والأشعرية التي كانت تتوجه وتخاطب النخبة المثقفة في المجتمع العربي المسلم ىنذاك. ولهذا كانت الحنبلية تجند دعاتها من صفوف المحدثين والوعاظ والقصاص الشعبيين وممن هم على صلة بالطبقات الشعبية العميقة وعلى هذا النحو امتلكت طاقة تعبوية لم تتح لأية فرقة سنية أخرى. ص 87. م.س). وبالنظر إلى واقعنا المعاش في القرن الحادي والعشرين يمكننا القول: إن الحركات السلفية التكفيرية المعاصرة ونسخها التيمية المستحدثة كالوهابية في زماننا ما تزال تنحو نحو المدرسة الحنبلية في توجهها إلى الطبقات الشعبية العميقة لتبني لنفسها حاضنة جماهيرية واسعة تساعدها على تحقيق وبناء هيمنة عقيدتها الشمولية الصارمة الواحدية.
في نهاية كتابه يلخص طرابيشي تاريخ ثلاثية الفلسفة والمسيحية والإسلام بالكلمات القليلة والبليغة التالية (ماذا حدث في هذا التاريخ " موضوع الدراسة"؟ العالم المسيحي وبعد انحطاط دام ألف سنة بدأ يتقدم. والعالم الإسلامي وبعد تقدم خمسة قرون طفق يتراجع. العالم المسيحي انتهى إلى ما بدأ منه العالم الإسلامي والعالم الإسلامي انتهى إلى ما بدأ منه العالم المسيحي... ونعتقد أن الموقف من الفلسفة أي من مسألة العقل في خاتمة المطاف هو من العوامل التي ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار، فالتقدم وبالتالي التأخر، هو أيضا، وربما أساسا مسألة عقل ومسألة عقليات. ولئن يكن العالم المسيحي غرق في ظلام الشطر الأول من القرون الوسطى فلسنا نستطيع أن نستبعد من شبكة السببيات طرد الفلسفة وحنى اللاهوت خارج المدينة المسيحية. ولئن يكن العالم الإسلامي قد خرق التحقيب التقليدي للقرون الوسطى وعرف في القرون الخمسة الأولى عصرا ذهبيا مشرقا فلسنا نستطيع أن نستبعد من شبكة السببيات أيضا إفساح مكان واسع للفلسفة كما لعلم الكلام في المدينة الإسلامية... هناك كانت قطيعة مع العقل وحتى مع العقل الديني وهنا اتصالية مع العقل بما فيه العقل الديني. ثم كان الانقلاب الكبير في التاريخ كما في الجغرافية. العالم المسيحي الذي انحسر غربا مع سقوط القسطنطينية أقلع باتجاه التقدم بعد أن فتح أسواره بدءا من القرن الثاني عشر أمام اللاهوت ثم الفلسفة. والعالم الإسلامي، الذي انحسر شرقا مع سقوط الأندلس ألقى مرساته في مستنقع التخلف بعد أن طرد خارج أسواره الفلسفة أولا ثم علم الكلام.... تحت ضغط جائحتين مدمرتين للحضارة هما الغزو الصليبي والغزو المغولي. ص 121 وما بعدها - مصائر م .س).
*لم أتوقف عند موقف الراحل طرابيشي من الحرب في سوريا لأنه خارج نطاق البحث، على أهميته. فالرجل لم يكتب سوى مقالتين حول الموضوع أراد أن تكونا متوازنتين وحذرتين ولكن بعض المعارضين من مثقفي المجموعات المسلحة قوَّلوا الرجل بعد وفاته ما لم يقله فزعموا كما يقول أسعد أبو خليل ساخرا منهم (أسرّ لنا ان طرابيشي أخبره عن معارضته لنظام الأسد، لكن صبحي الحديدي (وهو مؤيّد لـ«الثورة السوريّة» في مرثيّته في «القدس العربي» اعترف بأنه كان يختلف مع طرابيشي في الموضوع السوري. ولماذا الإيحاء عن مواقف لطرابيشي في موته وهو كان يتجنّب التعليق في حياته. مقالة لأسعد أبو خليل في الأخبار عدد 26 آذار 20116).
يبدو لي أن ضخامة كارثة القتل والتدمير خلال الحرب السورية صدمت المفكر الراحل ودفعت به الى العزلة والصمت والانطواء وربما قربته من رحيله الأبدي فكان آخر ما قاله قبل أيام من وفاته لجاره في الحي السكني صبحي الحديدي بلهجة حزينة وكأني به أراد أن يسجل احتجاجا قبل رحيله أمام أحد أنصار الخراب فقال لحديدي (لوين رايح بلدنا؟). فرد عليه الأخير، مازحا كما يزعم، بشعاره المستفِز مع كل هذا الدمار (رايحين عَ الحرية).

رابط يحيل الى الجزء الأول من " المقالة الأولى" من الدراسة :
http://al-adab.com/article/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D9%84-%D8%AC%D9%88%D8%B1%D8%AC-%D8%B7%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%B4%D9%8A-%D9%86%D9%87%D8%B1%D9%8F-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D9%91%D8%A9

*كاتب عراقي











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط