الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التمرد 5

آرام كربيت

2018 / 4 / 21
الادب والفن


بقيت سيلفانا نجم مضيء في الذاكرة، ذاكرتي المتحفزة المستنفرة. إنها جرح نرجسي قائم بذاته لا ينشطر ولا يلتئم ولا يقبل الشفاء منه.
جاءت دون موعد مسبق، دون قرع على الباب أو النوافذ كنيزك ملتهب مملوء بالنار والوهج والحركة واخترقت أسوار طفولتي الأولى، براءتي الأولى، وكسرت اليقظة الأولى إلى غير رجعة. كسرت تلك الأيقونة المغلقة النائمة في الذاكرة الأولى وحطمت ذلك الهدوء البدئي ونشرت الفوضى في داخلي بضربة قاضية. وشوشتني.
في السابق كنت وحدي أعيش في وحدتي داخل نفسي، مطمئن البال وآمن، وعقلي ينزع نحو الهدوء والسكينة والتوتر في أحيان كثيرة. بمجيئها تخلخل توازني النفسي والعقلي وتاه وسار في طريق مختلف لا نهاية لنهاياته وغير محدد الأبعاد.
سابقًا كنت أحب نفسي من أجل نفسي، من أجل ألعابي وأشيائي الخاصة، أما اليوم، أحب نفسي من أجل سيلفانا، وأعشق نفسي من أجلها وأغامر في مواجهة الحياة والشدائد من أجل رضاها.
جاءت كجيش جرار، مسلح بكل أنواع الأسلحة ودخلت مدينتي دون أن يكون في حوزتي أية وسائل دفاعية أوقف هذا الزحف. ولم تعطني مساحة للاستسلام. تركتني واقفًا دون مقاومة مندهشًا من قدرة داخلي على الخضوع بلذة وألم وفرح وبالرغم عني دون أي خيار، مصاب بمتلازمة سيلفانا، متماهيًا بها من موقع الخاضع.
خرجت من الطفولة باكرًا دون أن أكبر، دون أدوات مقاومة. خرجت من ذاتي القديمة دون وعي مني. وكان الوقت سريعًا، قاسيًا أخذني معه إلى البعيد البعيد دون تحديد المسافات.
جاء الحب، ذلك الكائن المتعالي، القابع في المجهول على حين غرة، كسيل جارف واخترق كل خلية في داخلي. أصبح هذا الحب عدوًا لذيذًا، لص، سرق راحتي وهدوئي وطفولتي وتركني في حيرة.
في هذا البحر الواسع كان علي أن أبني لنفسي سفينة من لا شيء لاخترق عبابه، أو أتحول إلى سباح ماهر لا يعرف كيف يعارك الموج. من أين ابدأ، وكيف؟ وهذا الجديد ملحلح، مطالب وإرادته وشروطه لا ترفض؟
سيلفانا دفنت النار الأولى واليقظة الأولى في وعيّ وأدخلتني في وعي الواقع، مزقت ذلك الدفئ الكامن في الوجود النائم في ذاتي، والبهجة والفرح والسعادة. كأن ضربة صغيرة من إصبعها الصغير أيقظت ذلك الجني من غفوته وغيرت مجرى الحياة والأشياء كلها.
إنها أرض خضراء، وحدائق مزهرة، مفروشة بأزهار البنفسج وشتلات الحبق. شيء من الخدر السري, سرى في جسدي عندما رأيتها لأول مرة، وغمرني فرح عارم أبعدني عن نفسي وحط رحاله بعيدًا. ونشوة غريبة حلقت في السماء بدلت مزاجي في لحظة الوثوب إلى الأمام.
أصبح كل شيء حولي يتبدل من تلقاء ذاته. ولم أعد أنا هو أنا! وأصبحت جزءًا من هذا الآخر الانشطار، يشاطرني حياتي في الحياة دون أن يكون معي.
لقد عشقت سيلفانا من تحت إلى الأعلى. رأيت ساقاها ثم فخذاها وثوبها الداخلي الأبيض، شيء مثل الفرجة المذهلة، ثم صعدتُ إلى الأعلى، إلى وجهها ثم عينها وشعرها. لوحة مكتملة مطابق لما يريده داخلي. اقتربت منها، أريد مكالمتها، بيد أنها نفرت مني دون أن تنظر إلى وجهي وكأني حشرة قارضة يقتحم أرضها وسماءها.
كان الصيف حارًا أثناء لقائي بها. وثيابنا خفيفة، وأحذيتنا أيضًا. اقتربت من البنات بقصد اللعب، مستغربًا وجود فتاة غريبة في مدرستنا، ملتهية في لعبة الخطة مع بقية البنات. منذ اللحظة الأولى لاقترابي منهن قائلًا:
ـ هل لي أن ألعب معكن؟
كانت سيلفانا جريئة بالرغم من أنها من مدرسة آخرى وحديثة العهد بيننا ربما لا يتعدى اليوم الأول، بيد أنها كانت تتعامل معنا ومع مدرستنا وكأنها مالكة المكان كله ونحن ضيوف لديها:
ـ أذهب وألعب مع الأولاد، سنلعب وحدنا.
ـ أين المشكلة؟ دائمًا نلعب مع البنات أنا وأصدقائي. لماذا أنت عينة مختلفة عن البنات. نفسك حامضة. من أين أنت، ولماذا جئت إلى مدرستنا؟ وما هو أسمك؟
شممت رائحة لذيذة ينبعث منها، رائحة عطر غريب، أشجار البرتقال الممزوج بروح الشفق والضوء. تهت في الانتقالات البعيدة قبل أن استيقظ على صوت ينغمس في ذاتي.
ـ لا علاقة لك بي من أين جئت؟
حركت رأسي يمنة ويسرى لاستعيد علاقتي بحواسي:
ـ ليس من حقك أن تمنعيني من اللعب مع بنات مدرستني. أذهبِ من هنا، هذا المكان لنا ونحن أحرى بالبقاء فيه.
توقفن البنات عن اللعب، وقتها كنًا في الصف الخامس الأبتدائي حائرات لا يعرفن ماذا يفعلن.
تدخلت مادلين مقتربة مني:
ـ آفو، ابتعد من هنا. دعنا نلعب وحدنا. إنها فتاة جديدة على صفنا ثم أننا في العطلة الصيفية وهذا الوقت الفائض هو للعب. أذهب وألعب مع رفاقك.
ـ أين رفاقي، أنا الولد الوحيد بيكن. وأحب أن أقضي وقتي في لعبة الخطة معكن.
ـ الله يخليك يا آفو لا تعمل لنا مشاكل نحن بغنى عنها. سيلفانا لا تحب أن يلعب الأولاد معها. وأخاف أن يأتي القسيس كيفورك ويضربك أمامنا ويكسر مشاعرك.
ـ اسمها سيلفانا؟
ـ نعم هذا هو أسمها.
ـ اسمها وشكلها كله حلو كثيرًا جدًا. آه أحب أن تقبل بي.
ـ بماذا تقبل بك؟ أخاف أن ذهنك ذهب بعيدًا؟
ـ إن نلعب معًا. نظراتي وذهني لم يذهب إلى أي مكان يا مادلين.
وقف آفو على مسافة قريبة يتأمل سيلفانا، الوجه الغريب القادم من وراء الضوء البعيد، من وراء زلزال الزمن الراجف
شعر بالخجل والإحراج والحزن. كل الأبواب التي يطرقها مغلقة في وجهه. محاصر من الفقر والقهر والقلق التي يبثها والده في عقله وروحه في عمر مبكر من حياته:
ـ ولدي، أنت العمود التي ساستند عليها عندما أكبر في العمر. أنت كبير البيت واعتمادنا سيكون عليك اليوم، وغدًا وبعده، ومستقبلنا ووجودنا مرتبط بك، لا تخذلنا، اعتني بأمك وأخواتك وتابع شؤونهم ومشاكلهم. كن حارسًا عليهم في غيابي ولا تترك كائن من يكون أن يمس ظفر أحد أهل بيتك.
اخواتك البنات أمانة في عنقك يا ولدي، أنت الكبير والمسؤول الأول عنهن أحميهن من غدر الزمن، كن قريبًا منهن ودافع عنهن في مواجهة الخطر. إذا بقيت دون حذاء أو بناطل فهذا لا يعيب الولد أما البنت فيجب أن ترتدي أجمل الثياب وأن تخرج من البيت بكامل أناقتها.
ـ هل لك أن تشتري لي دراجة؟
ـ ليس بحوزتي المال، إطعام أخواتك أهم من الدراجة.
ـ في اليوم الواحد أذهب إلى السوق أكثر من عشرة مرات، المشي يأخذ جهدًا كبيرًا ووقتًا وملل وتعب.
ـ عندما يزيدوا لي الراتب سأشتري لك دراجة.
ـ ومتى سيزيدوا الراتب؟
ـ علمي علمك. الله كريم.
ـ دائمًا تقول الله كريم. لماذا تتستر وراءه. لقد مللنّا أنا وأخواتي من هذه الكلمة. لقد رميت كل مشاكل البيت وراء هذه الكلمة، فسبب الفقر لديك هو الله وعدم تأمين الثياب لنا والدفاتر والأقلام وأقساط المدرسة والأحذية وحاجيات البيت كالصابون والتايت والخبز والخضار واللحم. وكلما نطلب منك شيئًا تقول الله كريم. أين هو الله تبعك؟ ألم يتعب منك هذا الله الذي ترمي عليه كل يوم نفاياتك المتراكمة؟
قال آفو لنفسه:
ـ أنا محاصر بين المدرسة وآخواتي وسيلفانا والتسوق اليومي، والعصا فوق رأسي من كل حدب وصوب.
بوجود سيلفانا بدأت أعرف القلق والاضطراب باكرًا، ناسيًا كل الذي كنت أعرفه في ذاكرتي الأول، وكل الأشياء الجميلة الذي كان لدي. لم أر البشاعة في أي شيء سابقًا عليها، واليوم أصبحت أميز الجمال عن البشاعة. تفتح عقلي على وعي العالم من حولي، وبدأت أميز بين الجمال في ذاته والبشاعة في ذاتها وانعكاس هذا علي.
ثم قلت لنفسي:
ـ أبو العباس صاحب الوجه البشوش والبسمة الدائمة، يمكن للمرء أن يقرأ الفرح على وجهه من أول نظرة. سعيد من نفسه، مبتهج. وأنا دائم الحزن. ربما لأنه لا يريد أن يودع اليقظة الأولى، الله والزمن القديم ليبقى سعيدًا.
الألوان التي التصقت في ذاكرتي كانت تتكلم، تقص علي حكاياتها الجميلة في تلك اليقظة. أحببت حقول القمح الخضراء قبل أن تصفر وتتحول إلى سنابل. وشممت رائحة النباتات البرية القادمة من براري الجزيرة العذبة، وتمتعت باللون الأخضر لنهر الخابور، وسمعت عن قريب ثغاء الأغنام والطلي، ولونت عيني بلون شقائق النعمان والغيوم البيضاء في السماء الزرقاء اليانعة.
أذكر صور الأرانب بلونها العفني والأخضر والزيتي، رائحة الصمغ عندما ألصقت الصورة على الصورة في دروس الأشغال والرسم، متعة الألوان وهي تتحدث معي وأحدثها، والبهجة تدخل تلقائيًا إلى نفسي. أضحك مع اللون المثير لي ويضحك لي، نتكلم مع بعضنا البعض عندما يلتصق اللون على اللون ويقع على بؤبؤة عيني، استرخي، اشعر بمتعة حسية لذيذة، ويزداد الأمر جمالًا عندما أرى وجه المعلمة هاسميك الأسمر المفتوح على بعضه، وانبهارها من دقة تعاملي مع الصور والألوان.
سألتني ذات يوم:
ـ من أين لك هذه الدقة يا آفو؟ علاقتك بالرسم والألوان مذهلة على عكس الدروس، فأنت كسلان فيهم.
ابتسم آفو ونظر إليها بخجل، وعلامات الحزن بادية عليه عندما وجهت إليه هذه الكلمة ذاتها المعلمة أنجيل سابقًا.
قال لها ببرءاة:
ـ الكسلان بالنسبة لي هو البشع، وما تبقى فهو جميل. كل جميل هو شاطر.
ـ وهل أنا بشعة أم جميلة؟
ـ أنت جميلة يا معلمة. أحب ألوان ثيابك، تسريحة شعرك، عنقود العنب على بلوزتك، تنورتك القصيرة، حذائك، أصابع يديك، رائحتك.
حضنته وقربته من صدرها وقبلت رأسه في فرح عارم:
ـ آه. ما أجملك، ما أرقك. ما أرق هذا الصوت اللذيذ الذي يخرج من حنجرتك. أنت شاطر يا آفو، لم أكن اتصور أن هذه الكلمات تخرج من فم طفل. كم أنت رقيق ورائع. أنت رائع.
ابتسم آفو قبل أن تباغته المعلمة بالسؤال:
ـ هل تعرف ما هو عمري، كم تقدره؟
ـ لا. لا أعرف الأعمار؟
ـ هل تعرف عمر أمك أو أبوك؟
ـ لا. لم يخطر في بالي كم هو عمرك أو عمر أمي أو أبي.
ـ عمري عشرين سنة وعمر أمك بحدود الرابعة والعشرين.
ـ المعلمة أنجيل بشعة، شريرة، عصبية دائمًا، أنا لا أحبها. وهي كبيرة الحجم في كل شيء. قبل أيام جلبت أبنها معها متباهية به مفتخرة بذكائه وتعاملت معه على أنه أفضل منّا جميعًا. أخرجته إلى السبورة وطلبت منه أن يكتب نصًا دون أن ينظر إلى الكتاب. وابنها مثلها مغرور بنفسه. كتب النص دون أي خطأ إملائي. ثم وجهت كلامها لنا:
ـ أنظروا إليه وتعلموا منه.
ـ كرهتُ ابنها أيضًا لأنه يشبهها.
ـ عيب ما تقوله بحق معلمتك يا آفو.
ـ ولماذا العيب؟ ولماذا أخجل من معلمة تضربني؟
ـ إنها تفعل هذا لأنها تحبك وتريد لك أن تدرس وتنجح. إنها مسؤولية أخلاقية بالنسبة لها نجاحك.
ـ لقد كانت تشحطني من الصف الثالث لتعيدين إلى الصف الثاني. لقد رفضت رفضًا قاطعًا وبقيت في صفي. لن أعود إلى الصف الثاني مهما كان السبب.
ـ لكنها تقول عنك أنك أصبحت شاطرًا وتدرس بشكل جيد ونتائجك جيدة.
ابتسم آفو بخجل ومسك القلم ووضعه في فمه. كان لون القلم بنفسجيًا.
ـ أفعل هذا من أجل أن أبقى مع أصدقائي في الصف الثالث وليس من حبًا بالدراسة.
ضحكت المعلمة هاسميك، وجهها المتلألئ أدخل البهجة في نفس آفو قبل أن يستيقظ على صوتها:
ـ أنت وقح يا آفو. وقح برخصة. من أين تأتي بهذا الكلام. تدرس من أجل أصدقائك وتتفوق عليهم في النصف الثاني من الفصل الدراسي؟ والله أنت أغرب طفل مر على هذه المدرسة.
ـ حميد الزوبع أكسل واحد في الصف. أليس كذلك؟
ـ المعلمة أنجيل تقول أنك أذكى طفل في الصف ولكنك كسول في دراستك.
ـ أحب أن أكون كسولًا. لا أحب المدرسة، قلتها وأقولها دائمًا. المدرسة والدروس والعلم كله سجن واسع ندخل فيه ونسجن أنفسنا فيه. نترك الهواء والشمس ونجلس على المقاعد كالأصنام وكأننا في زريبة نعلف الدروس والقيد.
وأحيانًا كثيرة أدرس خوفًا منكم لأنكم تضربوني. كلكم تضربون الصغار، المعلمات والمعلمين والأهل.
يتبع ـ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير