الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية ا/لفصل الرابع

ذياب فهد الطائي

2018 / 4 / 21
الادب والفن


04-07 -2017
من حي الزنجيلي /الموصل إلى حي النصر /بغداد
رواية
ذياب فهد الطائي
الفصل الرابع

من السهل أن يقف أي شخص
وسط الجموع، لكن الشجاع فقط
من يتمكن من الوقوف منفردا
جلال الدين الرومي



في الطريق الى معمل الاطراف الصناعية لإجراء القياسات وتزويدي بالساق البديلة ،انتهت شوارد تفكيري بالساق الهاربة، ولم يعد يعنيني انها لدى الكلاب السائبة ، أو إنها ما زالت تحت أكوام النفايات التي طمرها ركام الاحجار التي نثرتها السيارات المفخخة في ازقة حي الزنجيلي الضيقة، أو قذائف المدفعية التي كانت تستهدف العدو المتمترس في منعطفات الحي.
كانت اللجنة الطبية في مستشفى ابن القف على قناة الجيش ،منهكة ، وهي تكرر على نحو نمطي ذات الاسئلة ، وتقوم بفحص أطراف عشرات الجنود المصطفين خارج الباب الذي يحرص الممرض على إغلاقه باحكام بعد دخول المراجع.
لم تستغرق معاينة ساقي ومراجعة المستندات في الملف الذي قدمته ،عشر دقائق، وقع أعضاء اللجنة كتاب الإحالة وسلمه لي الطبيب الذي كان يحتلّ الكرسي الاخير شمالا، دون ان ينظر نحوي ،مد يده بالكتاب، كان رأسه المدور وملامحه الدقيقة تمنحاه صورة طفولية ،سيما إن كفه كانت صغيرة بأصابع دقيقة بيضاء ، في عينيه نظرة عميقة ولكنها لا توحي بالثقة ،تتأرج بين الضجر مما يعمله وما يواجهه كل نهار، وبين أسفه لما يحصل ويشعر أنه مربك ،بسبب العالم الذي يحاصره الخراب ،شباب بلا أطراف يبحثون عن أطراف صناعية وكأنهم يتخفون وراء كذبة تعيدهم الى الحياة ليظلوا يتحركون في المساحات التي تركتها الحرب ، حتى الشياطين تبكي على خراب العالم ،ظلت هذه الفكرة معلقة فوق بغداد منذ زمان الحلاج.
جاء صوته سريعا متعثرا ،واجب كلف به دون أن يسمح له بابداء رأيه
-تعرف موقع المعمل
قلت –لا
قال –سيدلك كاتب الاستعلامات.
عند باب المستشفى انتظرت سيارة أجرة ،مرّ الوقت بطيئا ،توقفت سيارة خاصة ، أطل السائق ،عيناه واسعتان تومضان بلمحة ساخرة وشعره الذي نثره الهواء يوحي بمزاجية مرحة.
-الى أين ؟
-معمل الاطراف الصناعية ، ناولته الورقة التي عليها العنوان
-أعرفه ، اصعد
-كم الأجرة
-بدون أجرة
-لا يمكن وإذا لم نتفق لن أصعد .....لا أريد مشاكل
-حسنا .....دينار واحد
-ارجو ألا تمزح
-جرّب
صعدت الى المقعد الأمامي
-أين تعرضت للإصابة
-في الموصل
-يعني في مدينتي ....لهذا أنا مدين لك ويمكنك أن تحتفظ بالدينار أيضا ...ابني أصيب في الأنبار....وبترت ساقيه ....لا أعتقد بأن هناك زمن أسوء من الذي نعيشه،
-هل كان في الجيش
-نعم كان ملازما في سلاح الهندسة .....هذا قبل سنتين ...لذا أنا أعرف جيدا ما تعانيه وقد عرفت طريق معمل الاطراف الصناعية،
-وهل تساعد فعلا ؟
-من ؟
-الأطراف الصناعية.
-نعم ولكن بحدود ...إبني حكمت يدير الان سوبر ماركت كبير في الكرخ ،كنت في أوربا بسفرة تجارية وفي أحد المولات في هولندا شاهدت فتاة على كرسي كهربائي متحرك ،كان نصفها الاسفل مشلولا تماما ، وحين خرجت استقلت سيارة صغيرة مصممة لتقودها وهي على الكرسي ،استطعت ان أحصل على الموافقات واشتريت لحكمت السيارة ، وهو يستخدمها الان ويجلس في السوبر ماركت على الكرسي أيضا .
-لست في وارد شراء سيارة ولكن مبروك لإبنكم
صمت ،شعرت إن العودة ثانية للحياة ممكنة، ولكن لحياة ثانية ليس لها علاقة بالحرب ،حياة..... الحاجة بها الى أطراف سليمة أقل ،لأول مرة يداخلني شعور بالرضى .....شعور توفيقي يجعلني أكثر إيجابية متجاوزا تعب الانتظار أمام باب مستشفى إبن القف وشعور المرارة وأنا أتحرك على عكاز والأسف لساقي الهاربة.
تطلع نحوي رجل في الاربعين لونه اقرب الى القهوة الشفافة التي يعدها خليف الزاير ،وحين قدمت له الملف تناوله وطلب مني أن أجلس ثم دخل غرفة كان بابها مواربا.
-ادخل
قال لي الرجل، وقف ورائي ،شعرت انه ربما يتوجس خيفة من أن يتركني مع فتاة في غرفة تفوح فيها روائح مختلطة من الجدران المصبوغة حديثا بلونين ،كان اللون العلوي أبيض وحتى منتصف الجدار ، أما النصف الأسفل فقد كان فاقع الزرقة يكشف عن مخيلة لم تتمتع باي مستوى مقبول من الذوق ، على منضدة طويلة أدوات قياس هندسية وقطع حديدية ومسامير وسيور جلدية ما زالت رائحة دباغتها عطنة،
قالت الفتاة – تفضل بالجلوس وامهلني خمسة دقائق
جلست امامي على كرسي بدون مساند وبدأت ترفع ساق البنطال الفارغة، تطلعت الى منطقة البتر الحمراء
-هل تؤلمك ...أحيانا
-لا
ضغطت عليها برفق.
كانت الفتاة ضيئلة الحجم خيل لي إنها تعرضت لعملية مقصودة لتشغل مساحة أقل في الغرفة ، يتلبس وجهها صمت يحمل طابعا متحديا ، ورغم إن أنفها كان صغيرا ،فهو يملك فتحتين مدورتين واسعتين قياسا بحجمه.
بدأت تسحل على ورقة على المنضدة القياسات، طلبت مني ان أقف اكثر من مرة لتضبط طول الساق ومكان القدم لينسجما مع ساقي التي رفضت الهروب.
أخيرا قالت-انتظر عند الاستعلامات
لم اتمكن من لجم فضولي قلت لموظف الاستعلامات –المهندسة من بغداد ؟
-يعني
كانت اجابة مراوغة ربما ليقطع الحديث ،بدأ يرشف الشاي من كوب كبير من الزجاج الشفّاف وهو يراجع الاوراق التي كانت مكدسة على الطاولة امامه.
قالت الفتاة - يمكن ان تعود في الخامس عشر من الشهر القادم لإجراء تجربة الساق الجديدة
لحظت انها وهي تتقدم نحونا كانت تعاني من صعوبة في توازنها ،كان في قدمها اليمنى حذاء يرتفع عن الارض بقاعدة حوالي الخمس سنتمتر.
قال سائق التكسي انت خارج بغداد ، ستكلفك السفرة عشرون الف دينار
بعد مناقشات قبل بثلاثة عشر الف
كانت أمي تقف عند التنور وأبي يجلس على كرسيه عند الباب ،حين نزلت أسرعت لتساعدني فأومأت لها أن لا حاجة ، نظر ابي نحوي بمرارة احسست بها تذوب في فمي وتنساب الى معدتي ،رائحة الخبز تملأ المكان.
شعرت أني أعيش عالما آخر غير الذي تعيشه بغداد ،كل شيء هنا يجري برتابة وبيسر، ويشكل التنور الذي لم يتوقف في أشد أيام الانفجارت قسوة، عصب الحياة الذي يرفض ان يستجيب للخوف.
التلفاز يعرض مناقشات البرلمان ورد في خاطري انهم في جزيرة تغرق في هدوء مرعب ويعمدون الى الصراخ الذي يفومون يبضعطه لئلا يتمدد خارج القاعة ،توقف الصراخ فجأة حين اقترح أحد الأعضاء وهو يمسح على لحيته المصبوغة في الصباح الباكر ،وهذا واضح من تألق لمعانها ،بأن يتم غلق الباب في آخر القاعة لأن هواء باردا يجتاح المقاعد الجنوبية،
قال عضو كان يرتدي لباسا عربيا – لا أوافق
انقسم الحضور بين موافق ومعارض ووقف مقرر البرلمان وهو يعدل من وضع (الجراوية ) على رأسه وتحدث ولكن كلامه لم يسمع بسبب الضجة التي سدت مساحات القاعة.
صعد المقرر ليقف بين كرسي رئيس البرلمان ونائبه الثاني ،على المنصة الخشبية رافعا كلتا يديه وضرب على القاعدة الخشبية بقوة،ساد صمت قلق
قال مقرر البرلمان –سنصوت على شكل الاقتراع
ارتفعت أياد فوق الرؤوس فيما توقف بعضها بموازاة الصدر وظلت البقية تتارجح على الجانبين.
-حسنا ...سيتم التصويت بالاقتراع العلني
بعد إجراء الاحصاء قال مقرر البرلمان –وفقا لنتيجة التصويت تقرر عدم غلق الباب الجنوبي وذلك بالاغلبية المطلقة.
ضرب رئيس البرلمان بمطرقته معلنا رفع الجلسة حتى يوم السبت القادم.
وأنا أقوم لغلق التلفاز كان باب الغرفة يطرق بتردد ، كانت شيماء على الباب، عيناها الزرقاون تشعان رقة، بدا عليه الاحراج ،شعرها الناعم الاحمر كان منسدلا على كتفيها ، في الخارج كان مجمان يتحدث مع أمي التي كنت تنحني على التنور لرفع الاقراص الناضجة ، شعرت بالاحراج فهي اول مرة اقابل فيها فتاة على بابنا، ،فتيات الكلية يتكدسن في ركن من الكافتريا او يجلسن في المقاعد الامامية غير متقيدات بتسلسل الجلوس حسب الحروف الابجدية.
-اسفة ...إذا كنت مشغولا يمكن أن أعود بوقت آخر
كان في يدها ملف بغلاف شفاف
-لا..... تفضلي
-طلب استاذ النظرية النقدية ان نكتب تقريرا عن اتجاهات السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي ،ولأنك متخصص في الاقتصاد فكرت ان تطلع على ماكتبته قبل تقديمه وقد شجعني ابي ،
-لا بأس يمكن أن اراجعه الليلة ولكن كما تعلمين أشهر الحرب غطت مساحة كبيرة في ذاكرتي.....والسؤال المهم هو هل راجعت تعليمات البنك المركزي واتفاقياته.
-قمت باكثر من زيارة لمقابلة مدير الدائرة الاقتصادية ومكتبة البنك المركزي
-غدا بعد الظهر ستكون ملاحظاتي جاهزة
انسحبت بهدوء فيما لاحت على ثغرها ابتسامة حيية
كانت شيماء بلون عينيها االزرقاوين الصافيتين وبشرتها البيضاء وطولها نموذجا متفردا في حي النصر ، وحين تمر في ذهابها الى موقف الباصات كان الشباب في مقهى خليف الزاير يتهامسون ......بنت مجمان ....لم يقل يوما احد في المقهى ...لقد جاءت شيماء
بدأت اتعايش مع حالتي الجديدة وأصبحت الحركة بعكازي اكثر يسرا ، ولم تعد تشكل لي عائقا وانا أذهب الى مقهى خليف الزاير الذي ليس لي بديلا عنه، وكثيرا ما اطالع الصحف التي يحرص ابو البرنيطة على وضعها على نحو تبدو عناوينها المثيرة ظاهرة .
تناولت ملف شيماء ...كنت وانا امضي في قراءة الموضوع أشعر ان هذه الفتاة من حي النصر سيكون لها مستقبل ...كان تنظيم الموضوع أكاديميا وتحليل السياسة النقدية يستند الى الاحصاءات والنتائج المتحققة ، وأخيرا اقتنعت ان الطرح متكامل، وهذا ما اخبرتها به في اليوم التالي ،جلست قبالتي وهي تضع يديها على حجرها وكأنها ترغب في حديث آخر.
كانت امي تجلس على الارض فيما صلى ابي وهو جالس وبدأ سكون يلف حي النصر ويتقدم ظلام كأنه غبش داكن ....نهضت شيماء لتتناول الشاي وتضعه امامي وتاخذ هي قدحا صغيرا قالت –اعتذر ثانية لأني تسببت في ازعاجك
قلت –لا بالعكس قد استمتعت ببحثك فهو مشوق ومضت مدة طويلة لم أقرأفيها شيئا عن الاقتصاد .
بدا لي إن ظلالا لعلاقة ممكنة تشغل المسافة بيننا ،هل سيكون هذا حافزا كي افكر بجد في العودة ثانية الى الحياة ، أن أعود مثلا الى الجامعة ،ولم لا فالدراسة هي العمل المناسب الذي يلائمني الان ،
تذكرت أستاذ اللغة العربية في الاعدادية ،كان يعاني من إصابة تسببت بعرج دائم ولكنه كان يمتلك شخصية طاغية بما يتمتع به من معرفة واسعة في اللغة العربية .
قالت أمي –شيماء هذا الخبز لكم وسلّمي على أمك
قالت-شكرا خالة
شعرت لأول مرة بتعاطفي معها،وظل خيالها حاضرا في ذهني بحيث بت ليلتها افكر بها ....كانت ليلة ربيعية ولكن القمر لم يظهر ...مضى شطر طويل من الليل ،حين سمعت اطلاقات بندقية كلاشنكوف متفرقة ولكنها سرعان ما توقفت ،لم أذهب بفكري بعيدا فقد تراجعت هجمات السيارات المفخخة وتفجيرات الانتحاريين بعد تحرير الموصل وتوجه قطعاتنا العسكرية الى الصحراء الغربية ،شعرت بالثقة لأني كنت هناك وتحسست مكان البتر في ساقي وفكرت ...كان الأمر يستحق، وحين خطرت شيماء في مخيلتي كنت اشعر بالنعاس ،كانت عيناها تشعان بزرقة صافية كأنها صفحة السماء المفتوحة ،ويتموج شعرها الاحمر فوق كتفيها كنسائم ربيعية مفعمة بعطر شفاف ينتشر مرح آسر ،على وجهها ظلال حيرة وكأنها تتمعن في طريق بمعالم ملتبسة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81