الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هيراقليط و بارمنيدس هذان اللذان تكلما .. عبارة لنيتشه

مراد مسعف

2018 / 4 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هيراقليط و بارمنيدس هذان اللذان تكلما .. عبارة لنيتشه

الفلسفة و الشعر

هراقليط فيلسوف مظلم غامض حزين يختبئ وراء الشذرة مكتفيا بالاشارة .. الشعر عنده اسلوب العامة و النوام الحالمون ... أليس هو القائل : "أي عقل أو فهم لديهم! إنهم يؤمنون بشعراء الدهماء، ويجعلون العامة معلميهم" ؟ 1... لم تعد قداسة الجمال تشفع للشعر و تنقده من هذا الهجوم اللاذع فالالياذة و الاوديسا قد فقدتا قدسيتهما : "لقد كان هوميروس نصابا" 2.. بل "إن هوميروس يستحق أن ينحى جانبا عن المسابقات الادبية ويلقن علقة ساخنة 3.." أما "هزيود هو معلم الكثيرين, وهو لم يفهم لا النهار ولا الليل، ذلك أنهما شيء واحد" 4... "إن هزيود ليس على بينة أن طبيعة الأيام جميعا واحدة ."5
مع هيراقليطس نلمس رفضا للتقاليد الملحمية لشعراء الاورفية .. فكرة استلهام الالهة و الابداع تحت رعايتها لم تعد تعني له شيئا لأن "هذا الكون المنظم, والذي هو واحد بالنسبة للجميع، لم يخلقه إله من الالهة، أو إنسان من البشر لكنه كان ويكون وسيكون للأبد شعلة حية تضطرم بمقدار وتنطفئ بمقدار"6...
فالشاعر الملحمي يسند خطابه الى "الميوزات" بنات زوس و يقر سلطته و القيمة الرمزية لاقواله على اساس هذا السند الالهي .. هذا ما عودنا عليه ( هيزيود و هوميروس) ان يرتبط الجمال بالحقيقة داخل الميتولوجيا الاغريقية .. أليست افروديت هي رفيقة peitho الهة البرهنة و الاقناع ؟.
أما هيراقليط الفيلسوف المفرط في العجرفة سينسف الشعر, لانه ملاحم شعبية ذات مضمون اسطوري -الهي ... فهو -قبل افلاطون- اعتقد ان كل قول لا يصغي لصوت الحق ( اللوغوس) لا يعدو ان يكون مجرد احلام نوام .. و في هذه الشذرة يفصل هيراقليط بين الفلسفة و الشعر او بين العقل و الخيال :"بالنسبة للأيقاظ هناك كون منظم واحد مشترك ( بالنسبة للجميع) على حين أن كل إنسان في النوم، يشيح ( عن هذا العالم) إلى عالم خاص "7.. و هو ما لم يستسغه بارمنيدس الذي خرج في سفر غير عادي من المالوف و المعتاد نحو الحقيقة ذات المصدر المتعالي نحو ثنائية الالهة و الفيلسوف الذي اختار طريق الغرابة اختار الصعوبة و الترحال نحو الحق .. مع بارمنيدس يصبح الشعر نورا يزيل العتمة عن الطريق المؤدي الى الحقيقة .. لانه طريق يمر عبر المغامرة و مصادفة المجهول و اعمال العقل و التمييز و الاختيار ... ذاك هو الفيلسوف الحق الجدير بان يكون مختارا من قبل الالهة .. متعال عن الفانون .. جدارة يستمدها بارمنيدس من الصوت الالهي .."مرحى أيها الشاب، يا رفيق الهاديات الحوريات الخالدات، اللاتي أرشدن عربتك إلى بيتي. مرحى ... لقد أرسلت في هذا الطريق بالأمر الإلهي Thémis و العدالة ( Dikê) و إنه حقا لطريق بعيد عن أقدم البشر. جئت تبحث في كل شيء: عن الحق الثابت المستدير".8 انه ترابط وثيق بين الفلسفة و الشعر ذاك ما تجسده قصيدة بارمنيدس حيث اولية السماع و الصوت على المشاهدة و الكتابة .. السماع و الاصغاء لصوت اللوغوس - عند هيراقليط - ذو الالفاظ الغريبة الموغلة في العبارات الايحائية و المبهمة .. لغة صوفية في شكل شذرات اشارية.. فهو القائل - هيراقليطس - "اللوغوس ليس بالسهل و ليس بالممتنع . "9

هيراقليطس و بارمنيدس , اية علاقة ؟

هيراقليطس و بارمنيدس المفكرين اللذين قال عنهما نيتشه :"هذان اللذان ابتدءا" بالرغم من تعارض تفكيرهما .
هيراقليطس هو فيلسوف الوجود المتعدد و الصائر , و بارمنيدس هو فيلسوف الوجود الواحد و الثابث , اذن هناك اختلاف بينهما و هذا ما يبدو بشكل جلي و واضح لدرجة ان بارمنيدس يشير في قصيدته " في الطبيعة " الى هذا الاختلاف الهيراقليطي و يوصي بعدم الاطلاع عليه و اتباعه كطريق للحقيقة ,بل ان بارمنيدس ينعت هيراقليطس بالرجل المنشطر الرؤوس الغريب عن الجنس البشري , التعدد عند بارمنيدس يعني نوعا من الهجين , و لكن هل يمكن ان نساير هذا الاختلاف الى حدوده القصوى و نجزم القول و نقر بان هيراقليطس و بارمنيدس كانا مختلفين من حيث الاصل و المبدا ؟! يجب اولا ان نعرض لوجهتي نظر هذين المفكرين هيراقليطس و بارمنيدس , فشذرات هيراقليطس تنطق بهذا التعدد الكامن في هذا الوجود و من صميمه , : " من الحكمة ان يوافق الذين اصغوا للوغوس -و ليس الي - على ان الكل واحد" 10, و الحكمة لا تقوم الا على شيء واحد و هو "التمرس بالفكر الذي يحكم الكل بواسطة الكل " 12 , "فنحن نسبح و لا نسبح في نفس النهر , نحن موجودون و غير موجودين "13 , "لان الذين يستحمون في نفس النهر , تغمرهم دائما مياه جديدة " 14 , مع هيراقليطس يصبح القول :" ان كل ما هو نقيض يتجمع , و من المختلف يولد اجمل انسجام , كل شيئ يتحول بالتنافر "15 , كل الاضداد تلقتي و تجتمع ضمن وحدة جدلية في مسارها , و هي الحكمة التي نلمسها في قوله كذلك : "على محيط الدائرة تختلط البداية بالنهاية "16 , فالحكمة حسب هيراقليطس تعني " الواحد هو الكل" و الكل تعني كل ماهو موجود , و اذا نحن انتقلنا الى من نصب نفسه خصما و ندا مباشرا له بارمنيدس فهو يعلن و منذ البداية في قصيدته على لسان الالهة Dike (الهة العدالة عند اليونان) : "الوجود موجود و اللاوجود غير موجود , لا تخرج فكرك عن هذا , و عليك ايضا الابتعاد عن طريق من اعتمدوا الوجود و اللاوجود معا في وقت واحد , انهم يلقون بانفسهم في هذه الناحية و تلك , عمي اغبياء مذهولون لا يميزون "17 , اذن بالنسبة لبارمنيدس الوجود واحد , الوجود هو ما هو و اللاوجود هو ما ليس هو , الوجود امتلاء , انه يرفض التناقض و الاختلاف و التعدد.
فهل هناك اختلاف بين هيراقليطس و بارمنيدس ؟ اليس ثمة ما يجمع بين هذين الموقفين حول الاختلاف في الوجود ؟ حول الوجود المتعدد المتغير و الوجود التابث المطابق لذاته ؟ يعترف افلاطون بهذا الاختلاف في محاوراته و سعى الى تجاوزه عن طريق الجمع بينهما ضمن ثنائية الوجود المتعدد و المتغير في مقابل الوجود الواحد و التابث , هذا الربط بينهما و ان كان بشكل مختلف عن افلاطون هو ما قام به فيلسوف الوجود هيدجر , اذ يقول في هذا الصدد : " هيراقليطس و بارمنيدس ما كانا بعد فيلسوفين و لما لا ؟ لانهما كانا اعظم مفكرين (...) بمعنى انهما كانا على الدوام في انسجام مع "اللوغوس" اي مع " الواحد (هو ) الكل" 18. و يضيف هيدجر قائلا :" كل موجود واحد في الوجود فالوجود يجمع الموجود من حيث هو موجود , ان الوجود هو التجمع , انه اللوغوس "19.
هيراقليطس و بارمنيدس ليس فقط قد تكلما كما قال نيتشه , بل و يمكن اعتبارهما دعامتا الانطولوجية الكلاسيكية ان لم نقل حتى الانطولوجيا الاساسية و الانطولوجيا الفينومينولوجية , فالمفكر الفرنسي جان بول سارتر لم يخرج بدوره عن ثنائية التباث و التغير , التي انطلق من رفضها في مقدمة كتابه" الوجود و العدم " , و لم يستطيع تجاوزها 20 ,اذ يميز في الوجود بين منطقتين هما " الوجود –في ذاته "و "الوجود-لذاته" , و هذا التمييز هو الاساس الاول الذي يشيد عليه سارتر الانطولوجيا الفينومينولوجية 21. ان "الوجود _في ذاته " عند سارتر وجود بارمنيدي تابث منعزل في وجوده , الوجود يوجد , و الموجود هو في –ذاته و الموجود هو ماهو 22, اما "الوجود-لذاته " هو ما ليس هو , و ليس هو ما هو , انه ليس هو هو 23, وجود هيراقليطي غير قار مسافر عبر الزمن يحمل عدما لذاته في ذاته .
" ان البداية هي دائما اعظم الاشياء , ... ان العظيم يبدا عظيما و لا يستمر كذلك الا بعودة حرة الى العظمة . اذا كان الشيء عظيما فانه لا ينتهي الا في العظمة " , هذا الكلام لهيدجر , و هذا هو الحال مع نيتشه و سارتر دون ان ننسى هيدجر نفسه و اخرون , لقد ارتدوا الى الاصول الاولى للميتافيزيقا الغربية و احيوا اسالتها , لان السؤال عما هو الموجود ؟ هو السؤال الذي تنحو نحوه الفلسفة على حد تعبير ارسطو :"هكذا كان في القدم , و يكون الان , و سيكون الى الابد , السؤال عما هو الموجود ؟ انه السؤال الذي جعل هيدجر يقف قائلا : " الموجود في الوجود هذه هي الحقيقة التي اصبحت بالنسبة لليونان اكتر الاشياء اثارة للدهشة " .
هيراقليطس و بارمنيدس هما فيلسوفا الاصل و البداية , فهما يلتقيان اكتر مما يفترقان , انهما يلتقيان في اثباتهما للوجود , و الوجود واحد بالنسبة لهما , اما الاختلاف فهو يتعلق بالحكمة المتعلقة بالوجود , انه زاوية النظر المختلفة .

1-مقتطفات من الفكر اليوناني , " اشعار هيراقليطس " ترجمة , د سهيل القش , المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع بيروت لبنان , الطبعة 2 - 1983 ص 101 - 111.
2-نفس المرجع
3-نفس المرجع
4-نفس المرجع
5-نفس المرجع
6- نفس المرجع
7- نفس المرجع
8- مقتطفات من الفكر اليوناني " اشعار بارمنيدس في الطبيعة " ترجمة سهيل القش ص 113-118.
9- مقتطفات من الفكر اليوناني , " اشعار هيراقليطس " ترجمة , د سهيل القش
10-نفس المرجع
11- نفس المرجع
12-نفس المرجع
13- نفس المرحع
14-نفس المرجع
15-نفس المرجع
16-نفس المرجع
17-مقتطفات من الفكر اليوناني " اشعار بارمنيدس في الطبيعة " ترجمة سهيل القش
18مارتن هيدجر , ما الميتافيزيقا؟ ترجمة فؤاد كامل محمود رجب , دار التقافة 1974, ص 60- 61 .
19-نفس المرجع
20-
J.P.Sartre . " L etre et le néant essai d anthologie phénoménolgique" TEL Gallimard 1943 : introduction à la recherche de l etre p 11

21- Ibid:p 31
22- Ibid: p 31-33
23- Ibid: p 29








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غرقُ مطارِ -دبي- بمياهِ الأمطارِ يتصدرُ الترند • فرانس 24 /


.. واقعة تفوق الخيال.. برازيلية تصطحب جثة عمها المتوفى إلى مصرف




.. حكايات ناجين من -مقبرة المتوسط-


.. نتنياهو يرفض الدعوات الغربية للتهدئة مع إيران.. وواشنطن مستع




.. مصادر يمنية: الحوثيون يستحدثون 20 معسكرا لتجنيد مقاتلين جدد