الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَقُولةُ الموتِ الذكِّي

سامي عبد العال

2018 / 4 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


ربما من أبرز معالم التكنولوجيا الراهنة كونِّها تُفسح دائرة الخيال بلا حدودٍ، حتى إذا عجز الواقع إزاء تلبية مطالب الإنسان، كان بإمكان التقنيات إشباع وجوده ببدائل وصور متفردة. لكن الجديد أنَّ التكنولوجيا تشكل هذا البديل أو ذاك لا بالتبعية للواقع، إنما تحجب الأخير وتجعله مرتهناً بما نتخيَّل. وتلك خاصية تشترك فيها سمات التكنولوجيا مع طابع الخطابات السياسية عندما تُولِّد هذه الخطابات أفعالها القابلة للحدوث من: وعود أو استعارات أو إجراءات أو آراء ومقولات.

لأنَّ الخطاب السياسي بالنهاية له طابعه البرجماتي، أي كونّه وسيلةً تنشد هدفاً استراتيجياً نوعياً. وما بين ( التقنية وذاتها ) في شكل خطاب يتبلور العالم الخاص بمعانيها وما قد تفعله بمعزل عن الواقع. فالخيال ما بين ( التكنولوجيا والسياسة ) يعدُّ مستقلاً بحكم الانجاز الافتراضي الذي يحمله سلفاً.

وبالتالي عندما نخاطب جمهوراً فإنِّ الكلام يحقق وجوده قبل أن يلامس الأشياء وقبل أن يصبح توجُهاً عملياً. وقد يمر ببساطة دون أن يخضع للاختبار والمساءلة من عدمه، والأهم أنَّه سيُملي شروط وجوده الخاص بالتصديق والإقناع كأنه حقيقية فعلية تمَّ التيّقُن منها.

وعندما يتحدث السياسي إلى الجمهور، فإنَّه يخاطب هذا " الخيال المستقل" بصيغة ما هو هناك، وسيبدو الطرفان( المتكلم والمتلقي ) في دائرة أوسع وأكثر إيهاماً مما يحدث بالفعل. فالمتلقي ينجرف بتصوراته إلى بلاغة المعاني والتفكير، بينما يُراوغ السياسي تجاه ما لا يقصده دون أن يختبره الواقع تواً، ولا مجال لإثباته لكونه على أرضية ليست هي المنتظرة بالنسبة للمتلقي. وتدريجياً سيؤثر الخطاب في المكان الخطأ وبالمعاني التي لا هوية لها إلاَّ هامشياً.

على سبيل المثل، لكي يصرف الأنظار عن جرائمه، أشار الرئيس الأمريكي ترامب إلى أن الصواريخ التي ستضرب سوريا ( الضربات الثلاثية ) صواريخ ذكية. وكأنَّه أراد تعليق الرؤية في موضع كي تأتي اللطمة من موضع آخر، حيث يكون التركيز ضعيفاً وهشاً فيما هو مقصود بينما سيكون الهامشي والمتخيل أكبر دوراً في توقع ما سيحدث. حينئذ لن يستفيق من يستفيق إلاَّ على وقع الضربات وليس ما إذا كانت مشروعة إنسانياً و دولياً أم لا. وقبيل أي تساؤل عما من خول لمثل هذا الذكاء التكنولوجي ممارسة خداعه في مكان ليس له أصلاً ؟

وعبارة ترامب رغم كونها تتلاعب بهذا المعنى، إلاَّ أنها تخادع في نقطة جوهرية: هل التقنيات الذكية ستجر موتاً ( أثراً ) ذكياً بالتبعية ؟ يبدو أن الخطاب يغطي تلك المساحة من المراوغة بالخيال التقني أيضاً. بحيث يمكن للمتلقي أنْ يقول فلنقبل النتائج والآثار مهما تكن، طالما أن هناك مهارة في استعمال الصواريخ كما نراها في الألعاب الإلكترونية. والتهديد الناعم لا يخفى في كون الكلام يعدنا بانتظار الحدث في أوانه رغم أنه مؤزر بالذكاء على صعيد الأداة والنتيجة. لأنَّ النتيجة لن تكون - كما يتوقع المتابعُ - فادحةً ومدمرةً كما هي العادة.

وذلك يُعرف بخداع المقدمات ( بمنطوق ترامب ) حتى تولد نتائج يتوقعها المتلقي بناءً على ما يختزنه في ذهنه من صور لا علاقة لها بالحدث الأصلي. بمعنى أنَّ النتائج إذا كانت محدودة، فإن ذلك توقُع سيطرحه المتلقي بناء على تفاعل كلمة " ذكية "مع الأفكار المسبقة عن التقنيات الذكية. ويصبح البُعد المدمر أكثر سهولةً بالنسبة إليه من جهة إمكانية بلعه واحتمال وجوده مع الكلام العام.

لكن السؤال: هل هناك موت ذكي intelligent death وآخر غبي وغيرهما خليط من الاثنين ورابع مثلاً غير قابل للتصنيف؟ ما هي معالم الموت المتعدد بأصنافه المخصوصة دون سواها؟ هل الموت الذكي خاصية أم نتيجة لما يُسمى بالأسلحة الذكية؟ ولاسيما أنَّ هناك انتشاراً كبيراً لفكرة الحروب الذكية مع التوسع في تقنيات الصراع واستعمال إمكانيات الواقع الافتراضي virtual reality . ومن المعروف أنها ليست حروباً للتسلية أشبه بمباراة في واقع افتراضي فقط، ليكون الخاسر بمنأى عن النهاية الحتمية، لكنها تمثل انتهاكاً قاتلاً لإنسانية الإنسان.

مازالت الحروب هي الحروب تفترض - خيالاً وواقعاً - الطرف المهزوم حتى النهاية، وإلاَّ لما كان ثمة نتائج تترتب عليها بالقريب العاجل. وإذا كانت ثمة أسلحة جديدة تتسم بالذكاء، فلأن ثمة عصراً مختلفاً جعل الحرب خليطاً من المتعة (الغريزية، التشفي، النيل من العدو المفترض، ممارسة الخيال اللامحدود) ومن الأدوات المبتكرة إلى حد اللعنة. لأن الموت هوة من الانغمار في ممارسات قد تؤدي إلى النهاية الجسدية والعقلية والغريزية، وقد تؤدي إلى اكتشاف أبعاد عدوانية أخرى من حياة الإنسان.

ربما أكبر متغير دخل نطاق الموت هو التكنولوجيا، لأنه متغير معاصر جداً في حدود مادة قديمة قدم الإنسان وفنائه الحسي. لكوننا لا نستطيع القول بأن الذاكرة قد تفنى حتى بمساعدة التقنيات ذاتها. فكم من عمليات موت بينما تبقى الذاكرة بالنسبة للآخرين حية وقادرة على استدراك الزمن لاسترجاع ما حدث وظروفه وملابساته. كما هو حال عمليات الإبادة الجماعية التي حدث في المجتمعات الأفريقية على خلفية الصراع السياسي بين القبائل. إذ يبقى بعض الناجين القادرون على تذكر ما حدث وإبداء التعاطف مع الضحايا.

ولكن مازال الموت من جانبه غير قابل للتصنيف، لكونه انعدام الحياة الإنسانية بمعناها الأنطولوجي، حيث لا يفيد التأمل في مثل هذه الحالة. الشعور بالفقد الوجودي بالنسبة للمتابع هو ما يمكنه أن يوصلنا إلى جوهر المشكلة. الموت قمة الشعور بالمأساة التي تحدث للآخر في داخلنا. وإذا كان الموت دوماً هو الموت فلكونه يولد الشعور نفسه بالفراغ اللانهائي لدينا. ربما هو مدعاة للصمت تجاه وجوده كحدث يحمل نهايته الخاصة.

من هنا كانت آثار الموت هي القابلة للتلون، للتصنيف أما هو فليس أكثر من فجوة غامضة غير متاحة للتفسير. حتى وإن كان الموت في شكل قتل متعمد فليست هناك مبررات مهما تكن كافية للقيام به كفعل. وإذا اقترن بقوة، فلن تبرأ منه إطلاقاً لأنها ستصبح عندئذ قوة قاتلة. والاقتران ليس زمنياً وحسب بل أخلاقياً على صعيد أعم.

يبدو أن الموت كواقعة بارزة تتوقف عنده الحياة بلا حراك. ومن ثم يقال إنِّ هناك للموت مهابة أيا كان موضوعه قريباً أم بعيداً. وهو واقعة كلية ضرورية تقطع حدود الكائن الإنساني بثقلها الذي يزحف إليه. هكذا هو ينطوي على مفارقة الكلي والجزئي، أي أنَّه يأتي شاملاُ لموضوعه بشكل حتميٍّ وبالوقت نفسه يخص هذا الموضوع دون غيره، هذا الشخص دون سواه.

في الحقيقة عجزت الحداثة عن تفسير الموت وأسبابه الخفية. بل ظل فضاءً غامضاً غير منتظم وفقاً لآلياتها المعرفية والتكنولوجية. والقول الأقرب للصحة إن الـ "ما بعد"، أي ما بعد الحداثة كانت تجلياً لعدم القدرة على السيطرة إزاء الموت. لأنَّها فتحت له منافذ كي يُليِّن درجة الصلابة في الأفكار والآراء. فما بعد الحداثة اهتمت أيما اهتمام بالنهايات الغسقية للسرديات والأنساق الفكرية والاجتماعية الكبرى.

صحيح كانت الحداثة صراعاً متواصلاً مع الموت بمعناه العدمي والسلبي. أي أنَّ إنشاء فضاءات العقلانية إنما كان لتمتين قدرات العقل على سد مناطق الفراغ. اعتقاداً بأن الموت يدل على الثغرات والفجوات التي تحدث في الحياة. أيضاً مفهوم الإرادة العامة يأتي بقدرات الحياة على مواصلة وجودها وتطوراتها وتغيراتها في اتصال متصاعد دون نكوص. وهذا في ضرورته يقف لفكرة الموت بالمرصاد.... وهكذا بالنسبة لكل نتاجات الحداثة ومفاهيمها.

التكنولوجيا تستطيع أن تحسم مشكلات الصراع بتحويل الحياة إلى عملية آلية ممكن التحكم فيها، لكنها بالمقابل لا تتحكم في الموت ولا تستطيع تقنينه، لأنه يعبر عن ذاته بما تحاول استعماله لصالح أهدافها. أي يأتي من جهة كونها تهدف إلى إتاحة الفرص له أو منعها.

وإنْ كان ترامب يقصد " موتاً ذكياً " باستعمال أسلحة ذكيةٍ، فقد فاته كون الموت يخلخل قوانين الذكاء. فبوصفه كلاً فإنما يدخل في طبيعة تلك القوانين، وحين نعتقد أنه اثر، سرعان ما يشكل آثاراً أخرى من جنسه. وهذا الطابع جعل الضربات الثلاثية( أمريكا وانجلترا وفرنسا ) على سوريا مشكوكاً فيها على كافة الأوجه، وأكثرها وضوحاً نوايا التدمير التي يلتف عليها كلام ترامب معتبراً إياها غير واردة.

ولئن كانت الأسلحة ذكية، فإنَّ الموت سيكون غبياً.. غبياً بالضرورة. لأن الموت بوصفه فضاءً مظلماً من الحياة متعاطياً الغموض والمراوغة، فسيكون استثماراً لبنية الحياة ضد ثرائها وإبداعها. إنَّه الغباء الذي يضرب في الإنسان انفتاحه على الآخر بموجب – أو هكذا يفترض- كونه يشعر بمسؤولية تجاه حيواته وتنوعها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة