الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفقدان ثانية!..

يعقوب زامل الربيعي

2018 / 4 / 23
الادب والفن


قصة قصيرة
..........
لم أقل لكِ متى وكيف حدث هذا، أكان الوقت ما بعد الظهر، أو ربما قبل ذلك. لا شك أنه حدث بالفعل، ولولا أنني متأكد أنه حصل فعلا، وأننا ألتقينا بمحض الصدفة هناك وكنا على بعد خطوتين، لظننت أنه كان مجرد حلم. أو كما حدث لسفينة علقت بين الصخور وماتت كما يموت نمر وقع في فخ متروك.
إني كمن يحتسي كأسه الثانية أو الثالثة، ولولا أنني كنت بحاجة لكأس أخرى لكنت اكتفيت بتلك الرائحة التي شممتها من على بعد خطوتين.
وقلتُ انتظريني، سأحكي لكِ كل شيء.
لم تمشِ ببطء، ولم أمشِ ببطء أيضا. ثمة سعادة من البرد الشديد، كانت تبتهج من طول المشاق، ومن المفاجأة كانت تدفأ يديها في جيبيّ ردائها.
شيء ما، كان يتجمع ويتكسر تباعا. النبأ المفاجئ.. الترحم.. الساعة المعزولة عن الوقت.. العنوان المفقود.. الثوب الشبيه بغطاء وسادة الليل.. الشعور الاقرب للصراخ.. التقلص الذي أنشرح فجأة لأن السرور كان يبكي. الخطوط الرخوة وما تركته ورائي وأنا احس بالارتباك من هدوء اللحظة.
ــ ما الذي ستقوله، بربك، لو اعطتك عينيها، وأنك غبت كصوت عابر سبيل؟
الضوء الصامت كان يحتك بجدران الصمت الارعن. مقطوع عن الحياة وفي عالم من الكابوس الحلو.
بيني وبينكِ أكثر من عقد من زمن الحب الذبيح.. من العدالة المحتضرة.
يوم ذاك كنا نقوم بقتل حبنا دون إرادة منا. يوم كنا نتلو صلاة الفراق بيننا.. لا أدري لِمَ أخترنا الطريق المؤدية إلى ذات المكان الذي تم فيه اعتقالي أول مرة. لذاك المكان الذي صمدت فيه عن البوح للجلاد بأعز اسراري: " الحزب وأنتِ " تلك هي القضية المقدسة. لم أعترف بأي تفصيل عنها.
كل شيء بدا الآن بالغ التعقيد. كأن كل شيء لم يكن بريئا. حتى الهواء كان يبحث عن رئة سليمة تتنفسه. حتى الطريق وسط هذا السعار من الحمى لم يلتفت يمينا أو شمالا ليبقى ممدودا أمامنا لنلحق بحياتنا التي فقدناها منذ أكثر من عشرة أعوام. فقط ، كانت هناك قوة خفية خارقة للمعقول المألوف تندرج أمامنا، ولا تجعل الممدود المحدود ينتظر قليلا لنغمر عيوننا ببعض. أو نرى ماذا تبقى منا بعد تلك الاعوام العشرة.
تلك هي حركتها الرشيقة التي كانت عليها مذ أقمنا حبنا، امرأة كأنها تستعجل الوقت والمكان للوصول إلى حافة الشيء.. مثل هذه الحافة التي نحن عليها.
لم يخطر ببالي أبدا، أن ثمة هذا الطريق الغريب، سيؤدي بنا إلى تيه جديد. وإلى تخلٍ آخر. وناصية أخرى لا نستطيع بلوغها أبدا.
تلك هي الحقيقة. وكأنها مصنوعة من المطاط، وجلد من الشكوك السيء السمعة، وتلك الذرائع الغبية وهي تنتظر زبون الضيق لتفقده الرشد ثانية.
كيف أنها وبرشاقة قطة تقودها خطوات مذعورة، أندست داخل السوق العتيق المهجور. لم تكن هناك شرفات ولا دكات ولا عبارة حقيقية تشير أن ذلكم السوق كان فعلا مكانا لتسوق سكان مدينة موجودة فعلا، أو ممرا يتظاهر البيع والشراء فقط، إنما أيضا لخوض مغامرات عاطفية وتوافقات حسية تحدث سريعا من غير أن تبعث شواءً طرياً لجسدين اشتعلا حبا خفية وأن ما تركاه هو عطرٌ من رائحة بخور الحب والملاطفات الجسدية المستعجلة.
تجمدت اللحظة.. وتحيرت العينين.. نحس أن جزءاً الجدران العتيقة بقي معلقا.. العلائم الشبيهة بما يتركه مرض الجدري على الوجه من ندوب.. المعروض عن طريق الخطأ لذكرى احتفال شاحب لحب لا يموت بنفس السهولة.
ذلك الايمان بظهور المأوى، استحال لخشب طافٍ كما لبعض بقايا سفينة دخلت مضيقاً صخرياً عن طريق الصدفة فتتابعت محاولةً بكل ما فيها من قوة لتخرج من مصيدة الغرق، لكن دون جدوى.
هذا ما حدث وأنا ضحية بين فكيّ طقس أبله، فقدت كل بنت شفة، ومن فرط غرابة زمان ومكان ما حدث، احسست بثمة رعشة تسري في عمودي الفقري. وبعض شبح من فقدان كان يحلق فوق رأسي. ومن جديد عبقت رائحة الخشب الطافي.
عندما استيقظت داخل رأسي لم أجد سوى صديقي الذي كان مندهشاً لما يحصل أمامه. وغير صوت خفي يتردد صداه خلف تلك التي طفقت تجري داخل أزقة السوق الاجرد، لتضيع من جديد، وكأنها تهب المكان فقداناً أشد مضاضةً وأكثر خمولاً.
الضوء المخصص لبقية ذاك المساء، كان قد أمتص فاعلية جسدي. وشيء ما كان كظل يتسلل خلفي بحثا عن ملجئٍ بعيد، وغصة كالتي تعيق ماء النهر عن جريانه.
في الحانة العتيقة الممروضة الرئتين من رائحة دخان السجائر والانفاس الفوضوية وصوت الكتمان، كانت ثمة كلمات متعرجة تحتسي لون صفحة خالية من سطور " ارنست فيشر " في ذيل كتابه " ضرورة الفن ".
الضرورة تتحمل الكثير من المشاق لتبدو ضرورة فعلا. كلمات تتشاجر مع بعضها البعض لترسم " ضرورة " مواصلة سطوة إلهة الضجر، وهي تأخذ بيدي لكتابه ثمة سطور عما حدث، ولكن بصوت مرتعش:
" خيوط طيفية جديدة كانت تترك جسدها لرائحة أرض كتومة، تعلن عن بداية حفل حزن جديد. وجرس طائر صغير كما الأكذوبة، يدق من خلال ارواح تفقه كل شيء ولا تفقه أي شيء، يشير إلى أن الغروب المنسدل يخطو كالبهيم، وأنه حتماً سيغمره شعور أبله، وأنه لا بد الآن يخطو على ساق جريحة.
متلعثم أنت أيها الضجر، وكالسعادة الهاربة عن لونها، ويا أنت أيها الفقدان المتدرج، الكئيب، الأشعث الهيئة، وذو السحنة المشغولة بالغياب والدخان الابيض، حتى متى تبدو كمن يحضر جنازة العديد من الاصدقاء والاحبة، والحيوات القليلة الحظ "؟.
عندما صمت قلمي عن مواصلة الكلمات، كان صديقي قد كف عن الكلام مثلي. لم تعد الثرثرة وظيفة شاغرة لأي منا ونحن أمام كأسين لا يفرغان حتى يمتلئا بالخمرة والصمت من جديد. لكنه وقد حانت فرصة لكلينا ونحن نجدد تدخين سيجارتينا. إبتسم بوجهي. لم أحدق بوجهه مباشرة، إنما أشحت بوجهي عنه ناحية خلاء بعيد، هامساً ببرودة أشد من الحدس المتجمد:
ــ " ها هو العطش بمذاقه السفلي ينحدر. وأنا في الإيمان الواطئ أنحدر أبعد، لم يعد لديّ بعد، ما أثرثر به ! ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا