الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين والتدين مفهوم دائر بين النكوص والتعارض ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2018 / 4 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الدين الذي عرف نفسه أنه مشروع رحمة للعالمين بما يعني أنه يرتكز في حيثيات العلة المؤسسة له وعلى مفهوم محدد وصريح وواضح في أن يجعل من الرحمة بشقيها التسامح والعطاء مرتكز للتكوين, عليه ووفقا لهذا التصنيف أن يكون في كل ما يتعاطاه من شأن فكري أو ممارسة حسية أو بسط لمبادئ حياتية عليه أن لا يتخلى عن روحية التسامح والعطاء ومعا, وإلا فقد شرعية وجوده وأصبح مجرد شعار للتغطية على هدف أخر لا علاقة له بمسمى الدين، كأن يكون مشروع تكوين سلطة أو حتى نظرية سياسية تريد الوصول لهدف منتخب من خلال إستعارة هذا المفهوم الملتصق في ذاكرة الإنسان، على أنه علاقة الإنسان بمن هو محيط به أو محاط به, الصورة والمصدر والتفاصيل لا تهم الإنسان لمجرد أنها تأخذ هذه الحسية العقلية وتؤثر على مشاعره فيتحول إلى كائن مرتبك وتلزمه الحيرة والتردد الذي تسوقه دوما إلى دائرة الخوف والقداسة، ثم الطاعة بشكل قد يصل للتطرف فيصبح عبدا للدين, أو بصيغة أكثر تفريطا فيتحول لملحد بمعنى أنه يعرف ويرفض الإقرار به .
من المؤكد أن أسوأ الخيارات عند الإنسان أن ينصرف كليا وخارج الوعي النقدي ليكون عبدا للدين دون أن يكون عابد للديان أو الرمز الذي يسوقه الدين على أنه الجهة التي تستحق السمع والتقليد, ليس كل الأديان تنادي بعبادة الديان فقد تختار وسائط وأشباه أو من خلال روابط تعبدية تبرر الارتباط بمن هو أعلى أو أجدر, وهذا طبعا ليس من أصل مفهوم الدين الطبيعي القائم على ثلاثية محددة عابد خالق ومعبود مخلوق ومنهج رابط مباشر, بعض الفهم الإنساني للدين يحاول أن يوزع هذه الثلاثية بين أطراف أخرى للبحث عن طرق أما أنها أقرب لفهمه الخاص, أو أنه بها يسهل عليه التعامل مع الدين ومتطلباته خاصة إذا كانت الشرائط أكثر تعقيدا من قوة الوعي والإدراك عنده .
هنا تكون عبادة الدين كونه كيان منفصل عن الديان وسيلة للكثير من الناس أن يكون موافقا للميل الفطري عند البشر المتحسس لوجود علاقة أزلية وسرمدية بينه وبين رب بعيد، لكنه قوي وصاحب سطوة وقدرة لا بد أن يسترضيه بصورة ما أو يحاول أن يتستر عنه كي لا يقع تحت جبروت سطوته, هذه الوسيلة تتمثل في تلبس الدين الذي يظنه كما أسلفنا قدرا لا يمكن تفاديه بصورة منفصلة عن الديان، ليس لأنه يريد الابتعاد عنه ولكن لأن الموجود الواقعي يكفي كي يطمئن أنه حاز على رضا الرب وتناول من كأسه المراد, فهو يتعامل مع الدين واقع ضمن حدود الموجود ومطمئن أن هذا الموجود هو عين ما يريد الرب, وما عليه إلا أن يتحرك في داخل إطاراته بصور أو أخرى بين التشدد أو الترديد والمهم أن لا يخرج من واقعية الدين الذي نشأ عليه .
أي محاولة لتنبيه المتدين الواقعي بأن الواقع الذي يستمد منه أصول الدين قد يكون أعتباطيا وغير مطابقا لأصل القضية الدينية سيجابه بردة فعل غاضبة من غالب المتدينين، سواء أكان الأعتراض مبني على رؤية حقيقية تؤكد تناقض الواقع مع القضية التي أرادها الديان أو قد تكون دعوة ناتجة عن قراءة مختلفة تتبنى منهج أخر يريد الوصول أيضا بهذه الدعوى لهدف ثان, المشكلة ليست في الدعوى فبالإمكان عادة اختبارها علميا ومع أصل القضية من خبير محايد ومتوافق مع رؤية شمولية تتميز بأصالة البحث، عندها يمكن التقرير بصورة أقرب من الأصل, المشكلة في العقل الديني الذي يظن أن واقعية التدين تؤكد صوابيته وقدرته على أن يكون متمثلا لأصل قضية الدين ومطابقا لها مما يعطيه المعصومية عن النقد ويمنحه الحصانة عن المحاسبة والفحص .
أي محاولة فكرية تربط بين الديان والتدين الواقعي يجب أن تأخذ بعدا طبيعيا يفرز بين العقيدة كوظائف عبادية وطقوس، وبين جوهر الحركة التي تبرز واقعية الرحمة, أي أن المتصدي لهذه المحاولة الكونية أن يضع في خانة البحث العلمي عن دلائل الرحمة ومصاديقها في الظاهر المتعبد دون أن يواجه الطقوس الدينية والحركات الحسية التعبدية بروح النقض أو السخرية أو التحدي لأنها نتاج صورة, متى ما كشف عن زيف صورة الرحمة أو أثبتها أصبح بإمكان الفرد العادي من أن يقارن بين مطابقة المفهوم لما يقوم به من طقوس وعبادات حسية لأصل فكرة الرحمة بعدا وقربا، وبالتالي هو المسئول عن تقرير التعديل أو التصويب وهو المسئول عن القرار النهائي فيه .
لو لم يكن في الإسلام غير آية واحدة تؤكد على العابد والمتعبد فيها أن الدين الذي يؤمن بالأمر والنهي وفقا لقانون العدل المطلق بمعناه الذي ورد فيها لكفى أن يكون هذا الدين الذي جعل من الصلاة (تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)، فكل مفردة تنهى عنها الصلاة تمثل بعدا فكريا يتعلق بجانب عظيم من حياة البشر بالشرط الذي وردت فيه, الفحشاء قولا وفعلا تمثل وجه البشاعة في التعاطي المفترض طبيعيا أن يكون قاسما مشتركا للبشرية والمتسم بضابط الجمال الإنساني بين الأفراد والجماعات, فكل ما خرج عن هذا الضابط هو فاحش والفاعل متفحش به دون الحاجة لجعل للموضوع معيار منطقي أو قياسي، فكل عمل جميل يكون ذاتيا مطابق للميل الفطري للإنسان الكذب مثلا أو الغرور أو الغيبة أو النميمة، كلها تصرفات فاحشة ممقوتة لا تتناسب مجتمع طبيعي, فالصلاة كركن من أركان التعبد والصورة الأولى المطلوبة منه تفترض كأمر إلهي على المتعبد أن يبتعد عن الفحشاء، وبذلك جنب المجتمع بفرض هذا القانون سوء القباحة وما تجر من تصرفات سلبية تحطم العلاقة البينية بين الأفراد, المتدين الذي لا يلتزم بهذا القانون يعبد الصلاة ولكن لا يعبد الله قطعا وإن قال ذلك .
في المنكر والبغي معالجات أكبر وأعظم من الفحشاء فالآية تدرجت بالمهم ثم الأهم وتفرعت نصوص كثيرة في كتاب الله القرآن الكريم لتعط صور ذهنية وحسية وصور من المعاني عن مصاديق لهذه المفاهيم, طبعا المتدين أو المتعبد بالنص من المفترض أن يربط بين الصلاة التي هي عمود الدين ليس لأنها طقس أو عبادة حسية متعلقة بالرغبة في إرضاء الله, ولكنها عمود الدين لأنها تقمع الحس السلبي التخريبي والتحريفي في معطيات التعامل البشري مع مجتمعه والأخر الموافق والمخالف, وكلما أقترب المتدين من روح الصلاة الناهية أقترب من عبادة الديان, وكلما أجهد نفسه في الحركات دون أن تمس أخلاقه جوهر المنهى عنهن أبتعد عن الله وعبد الصلاة, هذا هو الفرق بين أن تحيى بالدين كطريق خلاص من السلبية والأنانية المريضة والدوافع التحريفية، وبين أن تعيش حياتك عابدا لفعل حسي لا يغيرك ولا ينمي الوعي المسؤول الذي ينقلك في تدرجات الكمال البشري النسبي .
في مرات كثيرة يخلط الناس بين الله والدين وهو الغالب الملموس مما نجده في تفكير الناس البسطاء وحتى البعض من المتعلمين, حين يضع الدين عنوانا للديان والعكس صحيح هنا تختلط المفاهيم وتصبح العناوين الفرعية محلا للهجرة عن أصل فكرة العبادة ويتحول الدين إلى مقدس متعاظم, الدين ليس مقدسا كما هو بل الديان هو أختص لنفسه بذلك ولكن أحترامنا للدين يأت من دوره الطبيعي في إرشاد العقل إلى السبل والوسائل التي فيها عامل إيجابي يساعد في حل إشكاليات البشر الوجودية, فهو أي الدين مخلوق أو مجعول من الديان أو منشئ الدين ليكون خط معرفي عقلي نفسي يوجه العقل والنفس لمناطات العمل الصالح, القدسية لا محل لها في الدين بهذه الفكرة ولا بغيرها كما سخر الله مثلا في نص قرآني الشمس والقمر للإنسان سخر الدين لذات الوجهة التي يرشدنا فيها الله كمحدد وخيار إيجابي مطلق .
الله أو المعبود أو الديان أو حتى لو أفترضنا جدلا أن الدين صنعة بشرية ففي كل الحالات عندما يجعل هذا المسمى من بعض العبادات الحسية عمود وجوهر الدين ليس القصد من ذلك تحصيل ذات الفعل بالشكلية المطلوبة وتكرارا وبنمط واحد دون أن يربط ذلك بهدف أسمى, وإلا تكرير عمل يومي ومشابه وعلى مدى العمر دون أن يثمر عن نتيجة لصالح الوجود, يشكل بنظر العقل والمنطق عبث وتفريط في إنسانية الإنسان وضحك على عقله, المطلوب من الصلاة مثلا أن تكون فرضا يوميا أو أسبوعيا أو مرتبط بتوقيت متكرر ليس الأداء الحسي المادي بقدر ما يراد منه تجديد دوافع العلة فيها, الله يريد أن نصلي كن نجدد عوامل النهي ونمتثل لها في الفحشاء والبغي والمنكر ومن خلال تذكرنا أن الله هو من أراد وأن الله إنما أراد ليزيد من فرص تحسين الواقع البشري ليس إلا .
الله مثلا لا يريدنا أن نموت من أجل الصلاة والزكاة لا بدعوى الجهاد ولا بدعوى الدفاع عن دينه, ولكن يطلب منا بأستمرار الإصرار على تحصيل المنفعة الغائية منهما طالما أنهما يساهمان في التغيير والتحويل نحو الأحسنية والأخيرية التي أفترضها قبل أن يشرع الدين للناس, لذلك لا نجد نصا واحدا يدعوننا أن نقتل أنفسنا أو غيرنا لأجل الصلاة والزكاة, بل حرم ذلك أصلا إلا في باب الدفاع عن النفس أو حماية الوجود بجانبه الإيجابي, الجهاد عنوانه سبيل الله وسبيل الله معرف ومفسر ومشروح في الكثير من الآيات التي تنتهي بقصدياتها ودلالاتها عند صالح الإنسان ومنع الإفساد والفساد والتخريب ومكافحة البغي والعدوان .
من خلال فرض مساحة واضحة ومرسومة بحد حقيقي بين الدين وبين جاعل الدين وتسمية الأشياء بمسمياتها الخاصة والعمل على تجسيد التناسب بين الصورة والفهم والسلوك الحسي, ينجح الإنسان بالانتقال من ظاهرة عبادة الدين إلى حقيقة الاستجابة الفعلية لقضية الدين وهي الرحمة، التي تتضمن عنصر الخير المطلق والأحسنية الكمالية, وعندها يعي الإنسان أن الدين ليس إلا مجرد مرحلة أنتقال من حالة الاختيار الحر من عدة مفاهيم وبدائل إلى حالة تفعيل القرار, وعند هذه النقطة سيكون العنوان الأساسي هو تطبيق رؤية الله من الدين وليس طقسنة الدين وإبعاد تجسيده كعامل إستعباد إلى حقيقته الإنسانية (وما خلقهم إلا ليرحمهم) وليس بمفهوم (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وإن كانت الثانية طريقا تكوينيا كما شرحناه في معنى الصلاة للمفهوم الأول .
ليس الغاية من الدين أذن تعليمنا طقوس بمسميات نتناوب على أداءها برتابة وتلقائية تفقد بمرور الزمن روحية الإيمان بما فيها من علل وأهداف, إلا الأنتقال بها ومن خلالها لجوهر إنسانية هذه الطقوس والعبادات المفروضة لأول وهلة, وليس لتعظيم من هو عظيم أو لمعرفة الرب أو الديان أو الجاعل, فلم تعلمنا هذه السلوكيات لليوم ما هو خفي ولا غائب ولا يمكن الاستدلال بها, الله أو الرب أو الخالق برأي الدين هو الرحمن والرحيم والرؤوف والسلام والحبيب والظاهر وغيرها من الأسماء والصفات التي يعدها النص ليكشف لنا وقبل البدء بالبحث عن المعرفة ما هو معروف بالاسم والوصف .
أما البحث عنها خارج هذه التسميات والأوصاف والنعوت على أنها حقيقة الله الذي نستدل به بالطقوس أو من خلالها أو من طريق متصل بها أو يعتمد عليها هو محض هراء, فمن يعرفك بنفسه صادقا وهو الأعلم بها لا يمكن إلا أن تعرفه بأكثر من ذلك, لأن ذلك مجرد تخمينات أنت افترضتها على أنه هو لا يعلمها ولا يدركها أو لا يريد أن يفصح عنها, هنا العلم بها إن كان صحيحا فإنك تعديت على ما لا يجب لك ولا مطلوب منك ذلك ولا منها فائدة في أنسنة الدين كمحصلة نهائية كما في قضية الزهد التي وصلت إلى مفهوم الرهبنة والصوفية السلبية كتعبد لا ينتج فائدة إلا لمن يعتمدها طريقا للوصول لغايات ذاتية فردية, وإن لم يكن صحيحا فقد جئت بأمر خارج الدين ومما لا يصح التعاط به وكلاهما خطل عقلي محض .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد