الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سجن الرّوح -18-

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2018 / 4 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا يتحمل العمر إعادة كل ما قرأت لأعرف كيف كنت افكر، كل الكتب التي قرأتها والتي ربما لا أذكر إلا قلّة ممن كتبوها كنت مبهورة فيها ليس لأنّني رأيت فيها شيئاً جميلاً، وللأمانة كنت أقلب صفحات بعضها وتنتهي الرواية في جلسة لا تزيد على السّاعة أي أنّها كانت قراءة سطحية، وهو الموضوع الوحيد الذي كنت أسمح فيه لذاكرتي بالتّحرر من سجني حيث يعلق فيها ما تراه يستحق دون تدخّل مني، لكنّني أحببت أن أواظب على قراءة "العربي الصغير" وكنت أتمنى أن أنشر فيها بعض القصص، لم أكن أعرف الطريق لذلك. كما أنني كنت أقرأ بعض الأشعار في تشرين والثورة، ولا أقرأ نضال الشّعب لأنّني لا أعرف كيف أقرأها مع أنه كان لدّي الرّغبة في قراءتها.
لم أكن أعرف عن السّجون السّورية إلا أنها تذيب الشيوعيين بالأسيد وهذا كان قبل الجبهة الوطنية، كما أنّني لم أكن أعرف توجّه القاضي في الحكم في دعوى أدلتها واضحة، ويأتي الحكم غير مبني على دليل. كانت الدّنيا ضبابيّة لديّ في كلّ شيء. لكن ذاكرتي تلقط بعض الأشياء، لتمحو بعضها، ومن الأشياء التي لقطتها ذاكرتي أن المسؤولين في الحزب الشيوعي في القامشلي لا يجلبون لنا يأخذونها إلى محامي " الأجهزة" لأنها مضمونة الرّبح على حد تعبيرهم، ويقولونها لنا صراحة. يجلبون لنا فقط الدعاوى التي نقيمها لهم مجاناً، ومن بين الدّعاوى المجانية دعوى ضد منظمة طلائع البعث حيث أن أحد التلاميذ قد خسر عينه في معسكر الطلائع، وهذه الدعوى ممكنة، فهي ليست سياسية، ويتم فيها التعويض، وكنا نكاد أن نقيم تلك الدعوى المجانيّة إلى أن أتى مسؤول الحزب إلى مكتبنا، وقرّر أننا لا نعمل لصالح الجبهة. كيف لنا أن نقيم دعوى من هذا النوع ونخرّب علاقتنا مع الجبهة؟ ومهما حاولنا أن نقنعه أنّ هذه الدعاوى ليست سياسية، فقد ربحنا دعاوى أقيمت على الدولة في استملاك أراض، لن عقله قال له أنّه ربما المخابرات أوحت لنا بذلك كي تنسف الجبهة، وسامح أبو الطفل بعين ابنه من أجل أن تستمرّ الجبهة الوطنيّة.
عودة من المحكمة إلى الأدب، فقد كان يقيم الحزب الشيوعي العراقي في القامشلي معارضاً كنا نشتري منها بعض الأشياء على مبدأ التقيّة كي لا يقال عنا خونة، ويربح المعرض كثيراً نسبياً، وفي نهاية المعرض كان هناك قرعة يانصيب ليس لاسمها نصيب فيه حيث ليس لأيّ شخص نصيب إلا جماعة " المجموعة" ومن المجموعة زوجة أحد القياديين التي كانت ترتدي حزاماً من الذّهب الخالص ، وتتحدث بعنجهية عن الفقر في سورية، ومن أحاديثها أن لديهم في العراق في كلّ بيت ثلاثة ثلاجات إحداهما للأحذية، وما سمعت عنه من فواكه الشّام كان هراء! كذلك كانت فرقة الطريق تقيم حفلات في السّينما، وهذا مما جعلني أعتقد أحياناً أن في سورية حرّية، فقط أنا التي أضعت البوصلة.
كان الحزب الشيوعي العراقي الابن المدلل لحاظ الأسد، وعندما كان يقيم مظفر النواب أمسياته لم يكن للعراقيين يد في حجزها أو اختيار الحضور كانت اللجان الأمنية هي التي تفعل ذلك، ولها الصفوف الأولى.
. . .
كنت أقول بيني وبين نفسي. إنّهم من كوكب آخر. ليتني أستطيع أن أصل لمكان ما مثلهم. قرأت شعر نزار قباني بالسّر عندما اختارت المخابرات السّورية أن تقول عنه أنّه يعيش في لندن على أعقاب الشّفاه الملوّثة بأحمر الشّفاه. طبعاً أنا لم أسمعها مباشرة، فقد كان حديث المخابرات كأحاديث البخاري تنتقل عن طريق الحزب الشّيوعي فيعطيك مسؤول قد يكون أميّاً رأيه بالشعر والنثر والسياسة ،وقد وضع خطّاً أحمر على نزار ، وأعدت قراءتي لما كتب نزار قبل تلك الهجمة فقد كانت كتاباته الجديدة لا تصل، ولم أكن أعرف يومها أنّ للكتّاب مصدر رزق غير كتاباتهم حيث عرفت فيما بعد أن نزار يمدح صدّام حسين أي أنّه في المقلب الآخر لحزب البعث، وفيما بعد لم يعد يرق لصدام أيضاً.
عرفت أيضاً في وقت متأخّر أن صدام وعلي عبد الله صالح وياسر عرفات وعدد كبير من الأسماء كان يموّل الأدب، ومن المفارقات تلك الرسالة المكتوبة إلى المربد في مديح صدّام والتي وقع عليها أكثر الشّعراء الثوريين في ذلك الوقت، ولم يتراجعوا عن توقيعهم.
تلك المنابر الأدبية، والصحف كانت مموّلة علناً وليس سرّاً، وربما هذا ليس عيباً، فلا يمكن لمنبر أن يُعرف وينتشر دون تمويل، فالسعودية تموّل أقوى الصحف
العربية، وتلك الصّحف يمكن قراءتها. لهم الحريّة في الكتابة إلا في بعض الخطوط الحمر المحدّدة سلفا، ونحن يهمّنا أن نعرف ما يجري في الكون، لكن العيب فيها هو أنّها لا تقبل أن نشارك معها حتى لو كانت موهبتك تشبه موهبة شكسبير إن لم يكن لك كفيل أمني سوري، وأغلب الذين توظفوا من السّوريين في محطات التلفزيون العربية المعروفة كان له كفيل أمني، ومعنى كفيل هنا مختلف.
كنت أتصفّح الفيس بوك البارحة، وقرأت ما كتب أحد إعلاميي الحرس القديم عن الدّعوات التي كان يحضرها، وعن تألّق السوريين، وكيف أنّه زار العالم، وهو ثوري وفقير، وماضيه جميل ودرس أولاده في أماكن مختلفة من العالم. هو نموذج عن المثقّف الثوري الذي عرفناه قبل الثورة والذي ساهم في قمعنا وتهميشنا.
. . .
في الماضي وعندما ظهرت صحيفة الدّومري للوجود، وكان زوجي يجلبها ويأتي إلى البيت مسرعاً كي يقرأها، ثم يناولني إيّاها، قرأت فيها مقالاً أعجبني في البدء لشخص معروف بروحه السّاخرة، لكن ما إن وصلت إلى وصفه لنفسه أنّه ابن آغا وأن خادمتهم كانت مسيحية إلا وأحسست بشيء يغرز في ذاكرتي ويؤلمها، وفيما بعد لم أعد أقرأها فقد كان طاقمها والكتابة فيها منتقاة وتشبه إلى حد ما مما تسرده قناة الجزيرة، وحتى زوجي الذي كان ينتظرها بفارغ الصّبر توقف عن شرائها. زوجي لم ينشر كتاباً لكن حسّه الأدبي وإمكانياته النّحوية تفوق أغلب الكتّاب السّوريين الذين كان أغلبهم يجيد اللغة العربية في ذلك الوقت، ولم يعد الأمر مهمّاً اليوم.
هناك الكثير من الضباط وموظفي الأمن الذين أعرفهم بحكم انتمائي المكاني، وربما بعضهم من أقاربي، وقد دخلوا هذا المجال بصعوبة، وبعد أن ترجّوا الكثيرين حتى يمنحوهم الموافقة. هم لا ينوون التّجسس، فقط ينوون العيش، ولهم وظائف محدّدة ليست نظيفة طبعاً.
سألت أحدهم هل لديكم عملاء كثر؟ قال: نعم . تأتينا الكثير من التقارير، ولا نقرأها نرميها على الفور. نعتمد على المصادر المباشرة مثل رئيس التنظيم في المكان . مثلاً ً أن يدعو أحد ما عنصر أنت منّا إلى وليمة وندعو نحن الشخص ذو المرتبة الحزبية إلى الوليمة العلنيّة التي تزيد قيمة السّياسي داخل حزبه، والذي يقوم بدوره بدعوة علنية لنا على حساب أحد الأثرياء من حزبه، والذين لهم مصلحة معنا ومعه. وتكون الحصيلة تلخّص ما يدور خلف الكواليس، فنحن نتلقى الأوامر وغير مسموح لنا بتجاوزها. وعلى مستوى ضباط الأمن يكون حضورهم في المجتمع " الراقي" الذي يملك المال، والجاه، ويمكن أن يكون جزءاً من صفقة مالية نأتمنهم على القيام بمشروع ما ونضمن حصة الأسد فيه، وحصة الأسد هي من نصيب واحد من الضباط وهو الرئيس. التقطت ذاكرتي الكلام وحفظته أكثر مما حفظت الشعر الثوري.
. . .
شاءت الصّدف أن يخفق قلبي بالأمل يوم رأيت أولئك الشّباب يخرجون وبيدهم الزّهور ويصرخون مطالبين بالحرّية. الأمر ليس بيدي. يتعلّق بذاكرتي، وقرّرت الانخراط في الكتابة عنهم فكتبت أول مقال لي عن الثورة في موقع نور الشّرق الذي كنت أديره في الإمارات كان عنوانها صباح الحريّة، حاولت التّواصل مع التنسيقيات في الإمارات حيث يمكنك الوصول إلى حاكم دبي قبل أن تصل لها. فانت فارغة إلا من الأعلام ذات النجوم الثلاثة، ومن بعض الإسلاميين الذين يديرونها، وقد لا تجد فتاة غير محجبة بينهم، وكنت أفاجأ بموظف بسيط في شركة وقد أصبح لديه مكتب دراسات وسيارة، وآخر انتقل إلى فيلا ، وهذا الكلام أكتبه للتاريخ وليس كموقف، لكنّني كتبت إلى الكثير من الصّحف، ومنها " كلنا شركاء" حيث كنت أتقاضى مبلغاً بسيطاً عن المقالة، وللحقيقة فإنّ كلنا شركاء ترك لي الحرية، وليس مثل العربي الجديد الذي يقص بالطول والعرض, العربي الجديد لا يحترم الكاتب، وكلنا شركاء يحترم كتّابه بغض النظر عن موقفه السياسي، وهو أمر يسجل في صالحه، لكّنني قرّرت بعد فترة أن أتوقّف عن الكتابة رغم أن ديوني لا زالت بآلاف الدولارات، وقلت لنفسي: كفى! لا أحد يرغب في كتابة واقعيّة، يريدونها بهلوانية عابرة للفضاء تحمل الشّتيمة والتّشدد على مبدأ" الجمهور عايز كدة" وتوقفت عن الكتابة لأكتب في الحوار المتمدن فقط كي يبقى ما أكتبه في الأرشيف، وكي أكون حرّة ،ولكي تكون حرّاً لا تتوقع ربحاً من كتاباتك الأدبية أو السياسية. انس الأمر فلا أحد ينشر لك، أو ينتج لك ما إن يكن لك كفيل وهذه المرّة قد يكون الكفيل من رجال المعارضة الذين وكّلوا بالإشراف على المنابر. عن طريق الصدفة نبهتني ذاكرتي أن لا أسعى إلا إلى إرضائها، وأنا أؤمن بها وأحاول إرضاءها قدر المستطاع. . . .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة