الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعرفة والتفكير

محمد خالد الدلكي

2018 / 4 / 27
التربية والتعليم والبحث العلمي


ترجمة للنص المترجم بالإنجليزية الوارد في "مجلة السيكولوجيا في روسيا وأوروبا الشرقية" Journal of Russian and East European psychology ، بقلم الفيلسوف، التربوي وعالم النفس الماركسي السوفييتي ايفالد الينكوف.

المعرفة والتفكير

إن الشعار الذي ينص، على وجوب تعليم مدارسنا، لكيفية التفكير، عوضاً عن حشو رؤوس الطلبة بالمواد الدراسية بكل بساطة، يحظى بالشعبية ضمن أدبياتنا التربوية منذ فترة. وهو شعار معقول. لكنه سرعان ما يواجه علم التربية بسؤال، يذهب حله بعيداً وراء حدود إختصاصه: ماذا يعني أن "نفكر"؟، ما هو "التفكير"؟، وهو ليس مجرد سؤال بسيط. فهل بوسع أي مربي أن يوضح لنفسه وللآخرين، ما يفهمه من هذه الكلمة؟. ليس من الصعوبة بمكان معرفة أن إتقان المواد الدراسية لا يتطابق تلقائياً مع تطور القدرة على "التفكير بإستقلالية". أو على نحو أكثر دقة، مع التفكير بكل بساطة. لأن التفكير لا يمكنه إلا أن يكون "مستقلاً". ومع ذلك، فإن فهم الإختلاف بين الإثنين، هو محض خطوة أولى في الإتجاه الصحيح. أما الخطوة الثانية - الأكثر أهمية والأكثر صعوبة - فهي تجاوز هذا الإختلاف، وذلك، للتوقف عن إعتبار "إتقان المعرفة" و"تمرين العقل" كمهمتين مختلفتين. إن "الإختلاف" يعني أن كل مهمة يمكن بل ويتوجب تحقيقها بشكل منفصل، ومستقل عن الأخرى. وفي المقابل بواسطة وسائل وطرق "مختلفة". هذا مستحيل بطبيعة الحال، بطبيعة المعرفة والتفكير، والمشكلة برمتها هي بناء عملية إتقان المعرفة بحيث تكون وفي آن واحد عملية لتمرين العقل، والمقدرة على التفكير.

نعم، لكن، ألا نواجه حقاً، وفي كل خطوة ما يبدو أنه الوضع النقيض - أناس "يعرفون" لكنهم غير قادرين على "التفكير إبداعياً (بشكل مستقل)"؟ بالفعل نحن نواجه مثل هؤلاء الناس، و أحياناً أكثر مما قد يخيل إلينا. ولكن، وفي مثل هذه الحالات فإنه قد يكون من الأكثر صحة أن نقول بعدم وجود أثر لمعرفة حقيقية هنا، بل وعوضاً عن ذلك، شيء آخر يدعى "المعرفة" فقط من خلال إساءة الفهم. لأنه من المستحيل أن "نعرف" بعامة؛ إن من الممكن فقط معرفة شيء على وجه التحديد، هذا الشيء أو ذاك، وإن المعرفة الحقة لهذا الشيء تعني التمكن من التعامل معه وفهمه بشكل مستقل. ولكن "التفكير" ليس إلا القدرة على التعامل مع كل شيء بذكاء - ذلك وفقاً لطبيعته [أي الشيء - المترجم] وليس وفقاً لأوهام الشخص عنه. إن التفكير بالفعل لمعرفة فعالة.

عندما يقول الناس (وهم يفعلون ذلك عادةً) بأن أحدهم يمتلك المعرفة ولكنه غير قادر على "تطبيق" معرفته على أرض الواقع، فإنهم يصدرون بياناً سخيفاً، نصفه يلغي كلياً نصفه الآخر. كيف بوسع أي كان معرفة الشيء - وأن يكون غير قادر على ربط هذه المعرفة (معرفة الشيء) بالشيء نفسه؟!

في الواقع، فإن هذا الوضع المتناقض يظهر للعيان حيث لا يعرف الشخص شيئاً حقاً، بل يعرف شيئاً آخر. ما هو؟ جمل حول الشيء، كلمات، مفاهيم، صيغ، علامات ورموز، وتركيبات ثابتة متموضعة في العلم، تُتقن (تُحفظ) عوضاً عن معرفة الشيء بذاته - بصفته كائناً مميزاً متعالياً ومفارقاً للواقع، بصفته عالماً من "الأشياء" المثالية، المجردة والشبحية.

هنا بالذات يتمظهر وهم بالمعرفة، متبوع بمهمة غير قابلة للحل تتمثل بربط هذه المعرفة الوهمية بالواقع، بالحياة، والتي لا يعرف فيها الشخص شيئاً باستثناء ما تم التعبير عنه بالفعل بواسطة كلمات محفوظة عديمة المعنى، صيغ، و"قواعد" في "البنى السيموطيقية". وعندما يحاول هذا الشخص إيجاد الصلة بين هذه المعرفة الوهمية، البحتة والشكلية المحفوظة، والحياة، والواقع، فإنه يعجز عن الإتيان بأي شيء ذو قيمة سواء للمعرفة أو للحياة.

بالإضافة لمفهوم المعرفة المخطط أعلاه، يترافق مفهوم فلسفي خاطيء واسع الإنتشار للتفكير، هذا المفهوم يقوم بخداع الناس بسهولة أكبر إذ يبدو، وللوهلة الاولى، واضحاً ومقبولاً من الناحية النفسية؛ كما أن هذا المفهوم يمتلك قوة ألف عام من التقاليد. ووفقه، يتم فهم "التفكير" بصفته شيئاً شبيهاً بخطاب "داخلي" كتوم، شيئاً أشبه بخطاب صامت مهموس بلا صوت مع الذات يمكن عند الضرورة البوح به للآخرين بشكل شفهي أو مكتوب. بالتالي، فإن أصحاب هذه النظرة يقومون على حد سواء بفهم واستقصاء "التفكير" قبل كل شيء في مظهره اللفظي، بصفته "تفكيراً لغوياً". إن القدرة على التفكير، بطبيعتها، متطابقة إلى هذا الحد أو ذاك بالقدرة على التلاعب بالكلمات، العلامات والرموز من أي نوع كان - مع القدرة على تجميع وفصل تلك العلامات وفقاً لـ"قوانين" معروفة وأداء أفعال من "حساب الألفاظ"، وذلك، لتنفيذ إجراءات لتحويل سلسلة واحدة من مجموعات من العلامات إلى سلسلة أخرى من هذا القبيل. إن "القوانين" التي تحكم هذه الأفعال تحدد حالة وإسم "قوانين التفكير" - بحالة أو إسم لا تتمتع به.

من السهل رؤية أن أسس هذا التصور يصعب عليها تمرين قدرة حقيقة على التفكير - ذلك أنه، ولكي نعي جوهر مسألة ما، أو موقف في الحياة الواقعية، في الواقع الموضوعي. علينا التفكير وفق الحس المعطى من قبل نظرية الإنعكاس المادية، لكن وعوضاً عن ذلك فإن القدرة التي يتم تدريبها بنشاط هنا هي وفي أفضل الحالات المهارة اللغوية المكررة، والموجهة ليس نحو وضعٍ موضوعي، ليس نحو الحقيقة الموضوعية بحسها - المادي - الحقيقي، بل نحو اعتبارات ناجحة، نفعية، ذات إجماع على "بساطة وأناقة" البنى السيموطيقية، وهلم جراً وهكذا دواليك. ليس من النادر أن هذا التصور يمتزج مع الحديث عن الدور التي تلعبه دوافع حدسية، لاعقلانية ولاشعورية، "قيم" أخلاقية وجمالية، وغيرها من عوامل ذاتية محضة تقود خلسة "التفكير السيميوطيقي"، والنشاط في اللغة ومع اللغة.

يجدر القول بأن فهم التفكير على النحو أعلاه، يحظى حالياً بدعم أكثر تيارات الفلسفة الغربية نفوذاً - كالوضعية الجديدة والوجودية - كما تمارس أشد التأثير سواء على العلم أم في مجال التعليم. هذه المؤثرات تخترق بلادنا أيضاً [أي الاتحاد السوفييتي  - المترجم]، ويجب أخذ هذه الظروف بعين الاعتبار. في ظل هذه الأوضاع يغدو من المهم جداً مجابهة المؤثرات الفلسفية الغريبة التي ترتدي زي "فلسفة العلم الحديثة" الجذاب بفهم مادي ديالكتيكي واضح ومبدئي [أي نابع من مباديء الديالكتيك المادي - المترجم] للمعرفة والتفكير، وصلتهما مع اللغة. وفوق كل ذلك - بالواقع، الحقيقي والموضوعي، بالحياة وعملية تطورها، والتي، لا تعتمد على اللغة في جوانبها الحاسمة، أو على القدرة على استخدام اللغة، أو على القدرة على تكوين "بنى سيموطيقية" - على كل ما يسمى زوراً بالتفكير. أو حتى على التفكير الحقيقي [يقصد الينكوف استقلالية الوجود المادي عن الفكر - المترجم] - على القدرة على الوصول إلى وعي الوضع الحقيقي للعالم المحيط بنا، بالرغم من إعتماد أمور غاية في الأهمية في الحياة على هذه المقدرة.

إن أرقى اشكال التفكير - بما في ذلك التفكير العلمي النظري، أي الأسس التي تلتزم مدارسنا بتعليمها - هي، وبالفعل، ذات صلة وثيقة باللغة، وبالتأكيد فلا يجب أن تتم قراءة ما قلته أعلاه بوصفه محاججة لصالح تجاهل الإشكالية المتعلقة بهذه الصلة. إن اتقان اللغة، بما يشمل ما يسمى بلغة العلم، لهو حالة شديدة الأهمية للتفكير، بالرغم من أنه من الأكثر صحة صياغة هذه العبارة بالطريق المعاكس: التفكير الحقيقي هو حالة لا مندوحة عنها لإتقان اللغة. فالشخص الذي لا يعرف كيف يفكر بإستقلالية لا يمكنه بالتالي إتقان اللغة، بل إن اللغة، هي من تتقنه [أي تتحكم به - المترجم] تتحكم بوعيه. إن تفكيره ("خطابه الداخلي") يبقى في حالة دائمة من الإعتماد الوضيع على العديد من الصور النمطية، على بنىً سيموطيقية محفوظة عديمة الجدوى، على "قوانين"، نصوص، تعليمات، متطلبات، وهلم جراً - وهنا بالضبط يكمن سر تكوين العقل الدوغمائي، والتفكير المتزمت - وهو من أسوأ أنواع التفكير. إن الدوغمائية لا تجد بالضرورة تعبيرها في التكرار الأعمى لذات الجمل؛ بل تجده أحياناً في المهارة اللغوية المكررة، بالقدرة على إخضاع الحياة إلى سرير بروكريست من الصيغ الميتة. وهنالك فنانون حقيقيون في هذا العمل. لكن الدوغمائية تظل تعصباً من حيث الجوهر؛ فإنها تزدهر حيثما تتواجد مجموعة من الصيغ التي تحجب الواقع الحي في تطوره، في جدليته المتوترة.

إن تعليم كيفية التفكير تعني، في المقام الأول، تعليم الديالكتيك - بالمعنى الجدي للكلمة، بالمعنى المعطى من قبل أعظم ماركسيي عصرنا - لينين. لكن الديالكتيك قبل كل شيء، هو "العقيدة المعنية بكيفية تطابق المتناقضات (كيف تصبح متطابقة)، وتحت أي ظروف تصبح كذلك، محولة ذاتها إلى نقيضها، ولم على الدماغ البشري فهم هذه التناقضات بصفتها غير ميتة وغير جامدة بل بصفتها حية، ظرفية، وديناميكية".

قد يسأل الناس [متهكمين - المترجم] إذا ما كنا نضع نصب أعيننا مهمة غير واقعية عندما نحلم بتعليم طلبة المدارس أموراً تفوق فهم كل البروفيسورات في العالم وكأنهم سيستطيعون فهمها وإتقانها. أليست هذه خدعة تستخف بالعقول؟ أليس من الأفضل تعليم الطفل الحقائق الابتدائية وترك تعقيدات الديالكتيك إلى وقت لاحق، إلى مرحلة ما قبل وخلال الدراسات العليا؟ أليس من الخطر أن نعرض على العقل الغير الناضج "التناقضات" الكامنة في الأشياء وتعبيراتها الإصطلاحية (في لغة العلم)؟ الن يؤدي ذلك إلى نزعة شكية، إلى فقدان الثقة بالعلم؟ أليس من الأكثر أماناً وصحة العمل وفق الطريقة التقليدية، المتمثلة في تعليم الطالب الحقائق التأسيسية، الصيغ المجربة والمختبرة للمعرفة؟

أكثر أماناً؟ ربما. ولكن وفي تلك الحالة علينا التوقف عن وضع هدف تعليم كيفية التفكير بشكل نهائي. علينا أن نكتفي بحشو عقل الطالب بمواد الدراسة، كما الحاوية، وعدم إزعاج أنفسنا بالقيام بأكثر من ذلك. هذا هو البديل؛ ولا وجود لخيار ثالث هنا. ويصادف، أن هذه، بالضبط الإشكالية الجدلية للتعليم المعاصر - كيفية الجمع في النهاية بين عملية إتقان الأسس الصلبة للعلم الحديث مع عملية تمرين العقل، والقدرة على التفكير - وذلك، للتطوير المستقل لهذه الأسس، لتصحيحها، لإخضاعها للبيانات المستجدة، مع الظروف المتغيرة للحياة، مع العالم من حولنا (الذي ليس ميتاً وجامداً بل يخضع لتغير ديالكتيكي مستمر).

نعم، فهذه مهمة غاية في الصعوبة - مهمة الجمع بين هذه المتناقضات، المتمثلة في عملية إتقان المعرفة المؤسسة وعملية تطوير القدرة على البحث عن المعرفة ذاتياً عوضاً عن إتقانها على هيئة حقيقة ثابتة. ولكن يمكن تحقيق هذه المهمة الصعبة في حالة واحدة، وهي ان لا يتم وضع تلك الحقيقة (الناتجة) الا في النهاية. يجب، وفي كل مرة، ان يتم عرض الحقيقة الناتجة كقضية صعبة نهضت امام ممارسة الناس التاريخية خلال حياتهم، تناقضاتها. ان كل حقيقة ثابتة أو ناتجة يتلقاها المرء كمرشد "بدون التفكر بها" هي عبارة عن تناقض كان قد تم حله وتخطيه في الماضي. ان الطالب سيتمكن- من خلال استيعاب طريقة حل الناس لهذه القضية تاريخياً- من اتقان نمط التفكير التي تم اكتساب هذه الطريقة من خلالها، والطرق التي يمكن اكتسابها فيها مجدداً في حال نسيانها.

لاولئك الراغبين بجدية في بناء علم التعليم على أسس مادية ديالكتيكية، فأنا اعرض عليهم بعض التأملات العميقة لماركس، ذلك التربوي المعني بشكل مباشر، بعملية التعليم وإتقان المعرفة:
مما لا شك فيه أن روشر يمتلك معرفة تستحق الذكر - وغالباً عديمة الجدوى - للأدب، علماً أنه حتى هنا بوسعي تمييز خريجي جامعات غوتنغن الذين ينقبون بمنتهى الصعوبة في الكنوز الأدبية ولا يألفون منها سوى ما يمكن وصفه بالادب الرسمي المحترم. ولكن هذا ليس كل شيء، فما يثير غيظي هو شخص، ورغم اتساع معرفته بأدبيات الرياضيات، إلا أنه لا يفهم شيئاً في الرياضيات؟ ...
فقط لو أن مثل طالب المدرسة العبقري هذا، والذي بطبعه غير قادر على القيام بأكثر من تعلم درسه وتلقينه، والغير قادر على بلوغ مرحلة يتمكن فيها من تعليم نفسه، لو أن فاغنر مماثلاً [تشبيه بالموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر - المترجم] يتمتع بأقل قدر من الأمانة والوعي، لو أنه تمكن من أن يقدم بعض الفائدة لتلامذته، لو أنه لم ينغمس في مراوغات زائفة وقال بصراحة: "لدينا هنا تناقض. البعض يقولون هذا أو ذاك. ولكن طبيعة الشيء تمنعني من إتخاذ رأيي، والآن انظروا ان كان بوسعكم التفكير بأنفسكم!" بهذه الطريقة يمكن لتلاميذه، من جهة، الحصول على شيء للمضي به، ومن جهة أخرى، حثهم على العمل بأنفسهم.
لكن، لا يمكن إنكار، ان التحدي المنتصب أمامنا لا يتوافق مع طبيعة أستاذنا التلميذ. إن عدم القدرة على استيعاب الأسئلة بذاتها هي جزء جوهري لا يتجزأ منه. لذلك، فإن انتقائيته بالكاد تقوم بالتقفي وسط وفرة من الأجوبة الثابتة. (رسالة إلى فرديناند لاسال في 16 يونيو، 1862).

بالتأكيد، فإن إعادة بناء علم التعليم على أسس المنطق الديالكتيكي هي مسألة غاية في الصعوبة. ولا يمكن إتمامها إلا بواسطة الجهود الودية المشتركة للفلاسفة، علماء النفس، والمربين - المعلمين ذوي الضوابط العلمية الحديدية والمنخرطين مباشرة بتمرين الطالب على التفكير. نحن عاجزون عن تفعيل ذلك بواسطة الإعتبارات الفلسفية (المنطقية) وحدها، كما نعجز عن القيام بأي شيء في هذا الخصوص بدون المنافسة الجدية  في مجال الفلسفة. وهذا ما يجب تذكير التربويين به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر