الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ولادة الإنسان الفطرية بين العقل والإيمان ح2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2018 / 4 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إذا الإلحاد كمفهوم ليس تجاوزا على الذات الإلهية التي يصفها المتدين بالحقيقة المطلقة التي لا تقبل النفي بمجرد الإنكار, كما لا يمكننا القبول بالتسليم بها لمجرد أننا بحاجة لتبرير حسب رد الملحد, كلا الطرفين قريب من الواقعية العقلية إذا أردنا أن نجعل العقل هو الحكم بين مقولتين وفكرتين متناقضتين, وهذا لا يعني أن العقل يمكنه النظر للقضية من زوايا مختلفة, ولكن العقل منقاد بالأساس لقواعد هندسة البناء الفكري والتصوري التي يتبعها, والتي على أساس نتاج المظهر الناتج من البناء الهندسي يمكن لنا أن نخمن النتيجة التي سيظهر عليها الجواب النهائي, العقل الإنساني ليس نمطيا مثاليا مصبوب بقالب ونسق تكويني واحد, ولا يخضع في طريقة عمله لبرمجة موحدة حتى نتوقع نتائج متطابقة, هذه الميزة هي التي منحته هذا الإثراء والتراكم والتطور والإبداع الفكري الذي يقود في النهاية إلى تلون كامل للمشهد العقلي الإنساني .
الملحد لا ينطلق من فكرة النكران لأجل النفي ولا السعي من اجل أثبات ما هو خلاف الثابت, بل يحاول أن يستكشف الوجود بقوانين وجودية محضة طالما أنها مهيأ بالأصل لذلك ومعتمدة في مجال الفرض والبرهان, الفيزياء والكيمياء وكل العلوم التطبيقية الهندسية المتعلق بفهم الكيف والكون والقياس والمعايرة أدوات لا يمكن تجاوزها لأنه في العقيدة الذاتية للملحد مقدسات لا يمكن لأحد إنكارها لا المؤمن ولا الكافر, وبالتالي فهو بنظره العلمي غير متعد ولا متجاوز الحقيقة التي يفهمها العلم ويتساوق مدلولها مع المنطق المجرد الذي يقود الأشياء للتحقق.
الفكرة التي يعتمدها الكثيرون وأظن أن البعض ممن يعلن عن نفسه ملحدا يعتقد أنه في الجانب الأخر من فكرة الله التي يطرحها الديني أو حتى الفهم العام المشترك لها, المسألة ليست بهذا الاتجاه أبدا, لو تهيأ للملحد من وسيلة علمية أو منهج منطقي يقود لإيضاح الفكرة فلن يزيده هذا إلا تمسكا بالعلم وعدم مغادرته ما يعتقد, الإمام علي عليه السلام في قول له مأثور يقول (لو كشف لي الغطاء ما ازددت إلا يقينا) الموضوع لديه محسوم ومحسوب وفقا لمنطق العلم الذي لديه, فكل زيادة بالإثبات لا تغير من القناعة التي توصل لها ذاتيا من العلم الخاص به, هكذا الملحد كل ما يكشف له العلم عن حلقة لا يزيده إلا يقينا بعقيدته العلمية سواء أدخل مفهوم الرب أو الغيب في هذا المنطق الجديد المزداد أو لم يدخل, فهو يسير على نسقيه عقلية لا يحيد عنها ولا يدخل أو يخرج مفهوم على أساس غير أعتباري أو لمجرد عدم الرغبة في أعتناقها .
التوهم الذي يصيب الكثيرون حينما يخلطون بين الإلحاد الذي هو نوع من أنواع التفكير المنطقي القائم على اليقينية التامة بدليل التيقن، وبين فكرة كراهية الله أو الدين نتيجة موقف شخصي أو حتى موقف عام, الفكرة الثانية ليست من ما ينسب للإلحاد كما هي أيضا فكرة طارئة تتحكم بها عوامل ومتغيرات قادت إلى بلورة هذه الفكرة دون أن تدعمها رؤية عقلية منضبطة, وبالتالي كون الكراهية لله أو الدين أو الغيب هو عماد الموقف الشخصي الذاتي فمن يظن أنه ملحد بهذا الوصف إنما تشبه تماما موقف الملحد المتدين الذي يرى في تدينه نهاية العالم في الإيمان، دون أن يكون إيمانه بالله أو النص الديني مبني على مقدمة عقلية أو منطق معقول يمكن الركون له, كلا الاعتقادين لا يمكن ضمهما تحت مسمى الإلحاد أو الإيمان، ولكن من المجزوم به أن تبني قرار الإلحاد بحاجة إلى فلسفة تطرح البديل وتتبنى منهج يقوم على قبول الحقيقة أينما تكون حين يكون مصدرها العقل العلمي .
اللا ديني في الغالب ليس ملحدا بل متخلي عن الارتباط بدين أو عقيدة وقد يكون على عكس الملحد مؤمنا بوجود الغيب والقدرة التحكمية له وأيضا قد يكون مؤمنا بصدقية دعوى الدين, لكنه وتحت قناعات اختيارية جنح لعدم الالتزام بمحدد يبين أنتمائه الديني, فهو يمارس خياره من خلال موقف شخصي وقد لا يكون عقلانيا بمعنى العقلانية الفلسفية المبنية على الحجة والبرهان, اللا دينيون في العادة ومن التسمية يؤكدون على هوية تحررية فقط مثل الذين يخرجون عن القانون ليس لأن القانون غير موجود أو غير نافع، ولكن لأن القانون لا يلبي لهم تطلعات أو أنه يحد من حريتهم المتصورة، ولكنهم ومن أسمهم خارجون عن القانون يعلنون اعترافهم به ضمنا وإن لم يلتزموا بأحكامه, كذلك يفعل اللا دينيون يقرون بوجوده ولكن لا يقرون بمنهجه ألتحكمي .
الفرق بين الملحد واللا ديني أن الأول يتبنى موقفا علميا عقلانيا مرتبط بفلسفة وجودية ذات أبعاد وحدود ثابتة يمكن أن تستوعب كل نتيجة علمية يقبلها المنطق العلمي التجريبي الحسي, ولا يؤمن أيضا بالدوافع الشخصية التي تبتنى على مواقف ذاتية أو ردات فعل لموقف ذاتي, اللا ديني قريب من نكرانه للدين بالنتيجة البعيدة المتعلقة برفض نتاج فكرة الله والدين التي يصل لها الملحد ولكن ليس لنفس الأسباب والمبررات والعلل, هذا عدى أن موقف اللا ديني موقف مطاط مرن قد يقبل ببعض الممارسات الدينية أو الأفكار التي تمنحه حق النكران كما تمنحه حق الاعتقاد، وقد يتجاوز حقيقة رفض الملحد للجزئيات هذه في اتجاه موقف شمولي عام .
هل يمكننا القول أن الملحد لا ديني بطبيعة تفكيره العقلي وبالنتيجة النهائية, كذلك لا أظن ولا يمكننا أن نطلق على الملحد الذي يمتلك رؤية متكاملة وأفتراضات وحجج أكثر منطقية من اللا ديني مسمى واحد، ولو بالنتائج العملية باعتبار ما في فكرة الأخير الذي يتخذ من الشخصنة الموضوعية مبرر للرفض دون المساس أو الاعتماد على المنطق العلمي ولا حتى يعلل النكران والرفض بمسميات واضحة وصريحة تتخذ من أسس الدين أو ما يلحق به موضوعا للنقد العلمي أو التفنيد المنطقي .
من ذلك نستدل وبجملة القول أن الإلحاد أضافة إلى أنه موقف فلسفي وخيار عقلاني هو بالإضافة لذلك موقف إنساني يتدبر إشكالية الوجود والبقاء والفناء والتبدل والتحول والتطور من خلال رؤية واحدة متكاملة, كما يمارس ذلك المتدين العقلاني فكلاهما يبنون النظرة للأشياء بمنظار واحد أي كلاهما يقوم بتفسير وتبرير والإجابة على التساؤلات الكونية وفق معيار خاص، يتساوون فيه بالمعايرة كما يتساوون في عملية النظر, فليس الديني طوباوي ولا الملحد تجريدي, قاعدة لفهم عند الطرفين قاعدة كلية عكس المتدين الفوضوي واللا ديني الذين يزاوجون أحيانا بين المتناقضات لتبرير الخيارات الواهنة لديهم.
هل ينبغي أن نطلق على الملحد كافر؟ أو هل يقبل الملحد أن يقال عنه كافر؟ الحقيقة السؤالين هنا ليس بمحلهما في مقارنة الملحد واللا ديني في تطبيق هذا الوصف إلا إذا أعتمدنا مقولة الديني وفلسفته التي تقوم على قاعدة من لا يؤمن بما في أصول العقيدة التي يتبناها الديني يكون كافرا بها أستنادا على ما يعني الكفر لديه من إنكار أو جحود، أو حتى نفي الموضوعية في محدد الدين أو طريقة القبول به, وإذا ما أعتمدنا هذا المعيار فمن حق الملحد أن يطلق على الديني كافر وفقا لما يتحصل لديه, هذا أولا ولا يمكن أيضا ولا يجب للملحد أن يقبل أن يطلق عليه أحد صفة كافر لأن ذلك يعني إقرار منه لوجود وأحقية الدين في تطبيق قوانينه أو حقيقته على الذات الملحدة, الكفر والكفران إنما يستخدمان مقابل شخص يؤمن بما في موضوع الدين والتدين ثم لا ينكر إيمانه بهما بل ينكر مؤديات وواجبات ومستلزمات الإيمان وهذا ما ينطبق على اللا ديني ولا ينطبق على الملحد .
لا يجب الخلط في التوصيف والترتيب بين حقيقة الإلحاد كونه عقيدة يتخذها البعض من أفراد البشر وينحازوا فيها لكل ما هو محكوم بالمنطق العلمي، وبين كل التسميات الأخرى التي هي أما من صنع فكر الديني كالكافر أو المشرك أو الجاحد أو العاصي وما إلى ذلك من مسميات، تعود بحقيقة تسميتها ليس من واقعها الذاتي كما في الإلحاد ولكن من واقع فكر الدين وفكرة المتدين وحتى فكرة اللا ديني الخاصة به، التي تقيس الموضوع الخارجي بقياس ذاتي خاص بها ولو كان المقاس من خارج الذاتية التي ينطلق منها . .
فكرة الدين تنطلق من حقيقة أن الشخص الذي يؤمن بتعدد وجوه الحقيقة يمكنه أن يقبل برؤية أكثر من صورة لمسمى واحد، وبالتالي فهو يشير من حيث لا يعلم على أن ما يؤمن به هو أو هي تصورات متعددة لماهية واحدة متغيرة ومتقلبة ويمكنها أن تتحمل الزمن والتطور، لأنها تتكيف مع التغيير بما فيها من مطاطية أو لنقل من قابلية لطرح الشيء ونقيضه في آن واحد, أما دين الفكرة عند الملحد فلا يرى إلا أن الحقيقة هي جوهر واحد يتحرك ضمن منطق يشاكل الجوهر ولا ينفصم عنه, وبالتالي كل منتج معرفي يؤكد هذه الحقيقة هو من فكرة الإلحاد أما غير ذلك فيحتاج لبرهان من ضمن روحية وجوهرية الفكرة .
كلاهما الديني والملحد يؤمنون بما يمكن أن نسميه صورة الحقيقة الذهنية وليست الحقيقة كاملة بعينها, لأن تحديد مفهوم الحقيقة يحتاج أولا لمعيارية متفق عليها وثانيا على أطار عملي يشير ويعنون الحدود, وهذا محال مع التناقض الحاصل بين مادية الملحد ومرونة الفكرة الدينية التي ترى أن الحقيقة أوسع من العلم وأكبر من القدرة على التحديد, فهما طرفي نقيض لا يمكن أن نتصور ولو أفتراضا أن نصنع معيارية حاكمة تغطي هدفنا لكي نمنح الإلحاد قيمة اعتبارية كاملة تؤكد أو تنفي مشروع فكرته كما هو الحال أيضا مع فكرة ومشروع الديني .
هذا التطابق بين فكرتي الملحد والديني ليس افتراضا عبثيا ولا هو تلاعب بالألفاظ ولكن من المؤكد أن كل تمسك شخصي قائم على الانحياز لفكرة أو رؤية أو موقف حياتي أو وجودي هو في الحقيقة نوع من أنواع التدين بمعنى التقييد به, مثلا هل يمكن للملحد أن يتنازل عن بعض القوانين الحاكمة على صياغة فكرته أو يضعها جنبا مراعاة لموقف الأخر, بالتأكيد إذا كان ملحدا حقيقيا لا يفعلها ولا يمكن له التنازل عن ما يؤمن به وهو بالضبط ما يفعله المتدين, فكلاهما محكوم لفكرته وكلاهم منساق مع مؤدياتها نتائجها .
أذن نحن في جميع الحالات متدينون بشكل أو بأخر خاصة إذا أعتمدنا تعريف الدين على أنه الوثوق بالفكرة وتبنيها على أنها صورة الحق, الملحد متدين فكري عقلي مادي علمي وجودي بامتياز لكنه أيضا قد يكون متعصبا ومتطرفا أو متساهلا بعقيدته الفكرية مثله مثل المتدين بدين له حضور في جزء منه عقلي وفي جزء منه خارج الحس التطبيقي لفرضيات العقل المجردة عن المثالية الافتراضية, في مسألة مهمة يتنافس عليها الديني والملحد وقد لا تكون متوفرة بحقيقتها أمامهما وهي في مسالة المسميات والمفاهيم والمصطلحات، وقد أشرت في ما تقدم لمفهوم فكرة الدين ودينية الفكرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح