الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهرمنيوطيقا .. ومحاولة فهم النص الديني

حارث رسمي الهيتي

2018 / 4 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



تأتي كلمة هرمنيوطيقا من الفعل اليوناني Hermeneuein ويعني يفسر ، والاسم Hermeneia ويعني تفسير ويرتبط كليهما لغوياً بالإله " هرمس " رسول آلهة الأولمب الرشيق الخطو الذي كانت تحتم عليه وظيفته أن يتقن لغة الآلهة ويفهم ما يجول بخاطرها ثم عليه أن يترجم مقاصدها وينقلها الى الأرض للبشر وعليه ان يعبر ذلك البون الفاصل بين تفكير الآلهة وتفكير البشر .
وهذه اللفظة رغم اتساعها لتشمل مناهج فهم النصوص الدينية والدنيوية فانها بقيت تحتفظ بمعنى التفسير الذي يكشف شئ ما مستور وسري ، شئ مضمر باطن في قلب النص . ولعل اقدم تعريفات الهرمنيوطيقا هي نظرية تفسير الكتاب المقدس وظهرت هذه النظرية بعد عملية الاصلاح البروتستانتي عندما ارادوا تفسير الكتاب المقدس دون الحاجة الى سلطة الكنيسة ، هذا الأمر حتم عليهم أن يعتمدوا على انفسهم في تفسير النص الديني ، وبالنظر الى تعدد التفسيرات الممكنة لأي نص انجيلي فقد دعتهم الحاجة الى تأسيس مبادئ أو معايير للتفسير الصحيح . ( 1 )
الورقة هنا ستدور حول ثلاث نقاط رئيسية :
1. الهرمنيوطيقا : علم الفهم أو فهم الفهم .
2. التفسير والتأويل والفرق بينهما .
3. كيف يشكل النص الديني خطراً ؟


1. الهرمنيوطيقا : علم الفهم أو فهم الفهم :

يعد لفظ الهرمنيوطيقا, لفظاً يونانياً ، مر بعدة مراحل غيرت في دلالته كمصطلح ، فجذوره الأولى وردت في مقولات أرسطو المنطقية بمعنى تفسير العبارة ، و سميت في بعض الكتابات بعلم التأويل أو التأويلية وتعني البحث عن تفسير النص وفهمه وقد ذكر بأن هذا المصطلح اشتق من هرمس في اليونانية وهو الملاك الذي ينقل رسائل الآلهة وتعاليمها إلى الأرض . وتعرف الهرمنيوطيقا على انها عملية الفهم أو فهم الفهم اضافة الى انه مصطلح قديم بدأ استعماله في الدراسات اللاهوتية ليشير الى مجموعة من القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني والقضية الاساسية التي تتناولها هي تفسير النص بشكل كامل سواء كان نصاً تاريخياً أم نصاً دينياً مقدساً .
وارتبطت الهرمنيوطيقا في الفكر اليهودي باعتبارها عملية نقد للنص المقدس ثم انتقلت المحاولة إلى تفسير تلك النصوص المقدسة ومحاولة التوفيق بين التصورات الفلسفية في ذلك الوقت والتصورات التوراتية كما فعل (فيلون ، الذي يعرف بفيلو السكندري ) الذي يطرح تصور نخبوي في فهم التوراة بقوله : يكون فهم النص على حقيقته ليس مقدورا للجميع ، مادام طريق هذا التأويل أو الفهم ليس مقدورا أو مسموحا به للناس جميعا . ( وهو بهذا التوجه قد احتكر مهمة تفسير النص الديني على مجموعة منتخبة من الناس ) .
إما الغاية من التأويل ، فحسب فيلون إن التأويل وسيلة ضرورية يحقق بها أغراضا لها قيمتها لديه تتمثل في انها عملية يحاول من خلالها التوفيق بين النصوص المقدسة و آرائه الفلسفية في الله وفي الخلق ، وفي النفس ، وفي الدين ، ويحرص على أن لا يظل الدين – اليهودي - ديناً لطائفة خاصة هم بنو إسرائيل .
إما في اللاهوت المسيحي فقد استعملت بمعنى لا يخالف كثيراً ما تعنيه في اللاهوت اليهودي اذ تعني الهرمنيوطيقا المنهج في تفسير الكتاب المقدس وهي تعني ايضاً مجموعة القواعد التي يعتمد عليها المفسر في عملية الفهم و تفسير الكتاب المقدس تفسيرا رمزيا للكشف عن معانيه الخفية لان النص مجتمع على ظاهر وباطن كما يذهب بالاعتقاد بعض رجال الدين ، ومن خلال التأويل يتم الحديث عن النص لا من حيث دلالته الظاهرية بل من دلالته الباطنية وصولاً الى المعنى الحقيقي كما يعتقد المؤول . وقد استعملت الهرمنيوطيقا في الدراسات اللاهوتية للدلالة على هذا المعنى ولم يزل مستخدما بنفس المعنى في اللاهوت البروتستانتي ، فالظاهر هو الصور والأمثال ، والباطن هو المعاني الخفية التي لاتكتشف إلا لأهل المعرفة والعلم. والتأويل يؤدي إلى رفع التعارض بين ظاهر الأقاويل وباطنها .
وحسب الهرمنيوطيقا علينا الانتباه الى وجوب التمييز بين ما يجب إن يأخذ من النصوص حرفيا وبين ما يجب تأويله مجازيا ، على إن تكون نتيجة التأويل الاتفاق مع العقيدة ، ومبدأ وجوب اتفاق نتيجة التأويل مع العقيدة ، نراه صار مبدأ متوارثا فهذا توما الاكويني ( القديس الكاثوليكي الإيطالي المتوفي 1274 م ) يؤكد في الخلاصة أللاهوتية : إن كل ماعدا المعنى الحرفي لا يعتمد عليه وانه لاشيء من تلك المعاني الأخرى إلا وهو موجود بوضوح في المعنى الحرفي. لكن مع هذا ظهر التأويل المجازي في الفكر المسيحي حتى جاء التصور البروتستاني الذي رفض هذا التأويل ووضع شروط أخرى للتأويل منطلقاً من الحاجة الى معرفة علاقة الفرد بالكتاب المقدس بعد ان أصبح سؤالاً مثل هذا سؤالاً يتردد دائماً .
وقد كانت اجابة مارتن لوثر مزعزعة للنظام التاويلي القائم آنذاك ، بعد ان اصبح السؤال الملح هو كيف ينبغي النظر في الأنجيل ؟ هل ينبغي النظر اليه في لغته الخاصة أم تقتضي قراءته التوسط بقبول مذهب الكنيسة ؟ فقد دعا لوثر الى الحرية في قراءة الإنجيل ويعد هو الأول الذي انخرط في طريق مذهب تعدد المعنى في الكتاب المقدس ، وهذا يعني ان كل اختلاف في التأويل هو معطى سلفاً وموجود في النص متعدد المعنى .
وفي عصر النهضة وبعد فك العلاقة بين الكنيسة واحتكارها حق تفسير النص الديني كان من اللازم تحقيق مناهج تكون متاحة للجميع عند قراءة وتفسير الكتاب المقدس وعلى هذا الأساس ظهرت الهرمنيوطيقا الكلاسيكية ويعتبر المفكر الألماني شلايماخر ( المتوفي 1843 م ) مؤسسها وواضع اسسها والذي كان يرى ان المهمة الملقاة على عاتق الهرمنيوطيقا هي فهم النص كما فهمه مؤلفه بل حتى أحسن من فهم مبدعه وهذه عملية لا تخلو من الصعوبة على اعتبار انه ذائماً ما أخذ بعامل الزمن في الحسبان ، فهو يؤكد انه كلما تقدم النص في الزمن صار غامضاً وصرنا اقرب الى سوء الفهم من الفهم . وله يرجع الفضل بأنه نقل المصطلح من دائرة الدرس اللاهوتي ليكون بعد ذلك علماً . ويحسب له انه ميز في النصوص بين الجانب الموضوعي وهو اللغة التي يشترك في فهمها المؤلف مع سائر الناطقين بلغته وبين الجانب الذاتي الذي يمثل خلفية المؤلف الذهنية والفكرية وتصوراته حتى .
ويرى "شلا يماخر" مثلاً ان هناك علاقة جدلية ، هناك جانبان لهذه العملية هما اللغوي والنفسي إذ لا يمكن الاقتصار على اللغة وحدها وهذا تطلب من شلايماخر أن يأخذ في الحسبان بعدين في للتأويل :
الأول/ تأويل نحوي للغة والمقصود هنا تأويل يقوم على فهم اللغة التي هي أداة التواصل وشرط للخطاب وتمثل الواقع الذهني للفرد.
الثاني/ نفسي قائم على فهم النص أياً كان مروراً بفهم الفكر ليصل الى غايته في فهم قصد المؤلف في ظل السلطة التي كانت مهيمنة وهو هنا لا يغفل العلاقة الثنائية بين الذاتي والموضوعي .
ثم ظهرت الهرمنيوطيقا الفلسفية على يد مارتن هيدجر اذ قامت على اساس فلسفي حيث غير هيدجر الكثير من وظيفة هذا العلم والهدف من وراءه فحوله من منهج للفهم الى البحث عن معنى الفهم .
وبقول آخر أبسط وأوضح فإنه يمكن تعريف الهرمنيوطيقا بأنها "فن القراءة" أي فن حل النصوص وتفكيكها وتفسيرها والكشف عن معانيها . ويقوم منهج التفسير في أساسه على افتراض أن الكلام له معنيان أحدهما هو المعنى الظاهر والمعنى الخفي أو المستتر أو الباطن ، مما يعنى أن اللغة أيضا لها وظيفتان أحداهما هي التعبير والأخرى وظيفة رمزية تتطلب البحث عما ترمز إليه . وتقوم تأويليته على أساس أن النص عبارة عن وسيط لغة ، ينقل فكر المؤلف إلى القارئ .

2. التفسير والتأويل والفرق بينهما :

اكتسبت الدراسات من هذا النوع ميزة الخطورة بحجة انها تخوض في المقدس خاصة تلك التي أدخلت مشرط " التأويل " أن صحت التسمية على النص الديني ، لأن التأويل في أحد ابرز جوانبه هو البحث لا عن معرفة النص معرفة حرفية ، بل الغوص في البحث عن المعنى الذي يكمن خلف النص والبيئة التي ولد فيها ، والاحداث التاريخية والمواقف التي مهدت لهذه الولادة ، لأن التأويل وحسب هذا المعنى الذي ذكرناه من شانه ان يبين لنا ان النصوص والأحكام والشرائع الدينية تتجسد في المصالح الدنيوية اليومية لمعتنقي وأتباع تلك الديانات المنتجة للنصوص والاحكام والتشريعات .
ابتدأت الدراسات القرآنية مع الشيخ محمد عبده المتوفي ( 1905 م ) الذي خاض في هذا الموضوع بعيداً عن طريقة الدراسات التقليدية التي لم تكن تتحدث سوى عن مفهومي الخير والشر ، الايمان والكفر ، اهل الجنة وأهل النار . اذ تجرأ وطرح لأول مرة قضية التمثيل في القرآن واعتبر ان القصص القرآني عبارة عن تمثيلات بما فيها قصة آدم وخروجه من الجنة وهو بهذا وضع الأساس لهذا التوجه ليأتي بعده طه حسين ودفع المنهج الى الامام خاصة في كتابه " في الشعر الجاهلي " عندما اشار الى أن القصة القرآنية عن ابراهيم واسماعيل ليس من الضرورة اعتبارها واقعة تاريخية ، وليس انتهاءً بالشيخ أمين الخولي الذي يعتبره نصر حامد أبو زيد استاذه غير المباشر الذي حاول تطبيق المنهج الادبي في مقاربة القرآن واعتبر أن أدبية القرآن هي السمة التي تسبق أي سمة أخرى ( 2 ) .
التفسير لغةً : راجع الى معنى الاظهار والكشف وأصله في اللغة من التفسرة ، وهو القليل من الماء الذي ينظر فيه الطبيب للكشف عن علة المريض .
ويعرفه ابن حيان على انه : علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها واحكامها الافرادية والتركيبية ومعانيها .
وهو ابداء المعنى المستتر باللفظ وتوضيح الملغز والمستتر خلف بنيته المعنوية كما يراه ابن الجوزي
وفي الاصطلاح يعني : علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والاشارات النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها .
وهو عند الزركشي علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه وبيان معانيه واستخراج احكامه واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو وعلم البيان واصول الفقه والقراءات .
بينما يرى الجاحظ المتوفي ( 255 هـ ) أن كلمة التفسير في أصل استخدامها تعني الواضح البين فهي قد استخدمت في القرآن هكذا مثل ( ولا يأتونك بمثل الا جئناك بالحق واحسن تفسيراً ) .
والتفسير يقسم الى نوعان حسب اهل التفسير ( 3 ) :
الأول : هو التفسير بالمأثور او ما يصح تسميته التفسير بالنقل وهو تفسير اعتمده أهل السلف ويعتمد فيه على ذكر الآية مع نقل ما روي في تفسيرها عن الصحابة والتابعين مع ذكر السند وأغلب كتب التفسير التي وصلت الينا اعتمدت هذه الطريقة بالتفسير ومنها تفسير ابن جرير الطبري ، لكن تعرض هذا النوع من التفسير الى الكثير من النقد الشديد بسبب اختلاط الروايات الصحيحة بغير الصحيحة اثناء النقل اضافة الى انه لم يخرج عن المدونة الرسمية السائدة في التفسير والتي اتصفت بالانغلاق وتكريسها لمنهجية النموذج المثالي في التفسير والقراءة ، هذا النموذج الذي لا يميز بين المعنى الأصلي والمعنى التبعي .
اضافة الى ان هذه الطريقة تلعب دوراً خطراً في تغييب الوعي النقدي لعملية فهم النص اضافة الى تغييب وتهميش دور المفسر والقارئ في عملية فهم النص وتفسيره .
الثاني : هو التفسير بالرأي والذي اعتمده المعتزلة والمتصوفة والكثير من الشيعة وهو تفسير يقوم على الاجتهاد ويعتمد بالأساس على مؤهلات المفسر الذاتية وقدراته الذهنية على الاستنباط والاستبطان ومن ثم اتباع كل عملية من ذلك بالاستدلال المناسب وهنا نكون حسب ما يسميها نصر حامد ابو زيد عملية توليد جديدة للمعنى غير ما قاله الأولون

بينما كلمة التأويل لغةً :
فأصلها من الأول ومعنى هذا الكلام الآم تؤول العاقبة في المراد به ، ولكن التأويل أخذ على عاتقه مشقة البحث والنظر واستنباط الاحكام والوقوف على المقاصد وتجاوز الفهم الجاهز وتسوية أمر التعارض والتناقض في القرآن ويؤكد هذا التعريف ما أورده ابن رشد حول الموضوع اذ كان يرى ان التأويل يعني صرف النظر عن الاحتمال الراجح الى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به وايضاً بمعنى الحقيقة التي يؤول اليها الكلام ، ويعرف ابن منظور التأويل في كتابه لسان العرب على انه الرجوع ، وأول الكلام أي دبره وقدره وفسره والمراد بالتأويل هو نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الاصلي الى ما يحتاج الى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ( 4 ) . اما الغزالي وبعد ان اصبح التأويل على صلة كبيرة بالمجاز فيعرف التأويل على انه " عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر ، ويشبه أن يكون كل تأويل صرفاً للفظ عن الحقيقة الى مجازه " . وطالما ذكرنا الجاحظ والمجاز فلا بد من الاشارة الا انه اول من بلور مفهوم المجاز واشترط في نقل اللفظ الى معنى آخر شرطين ( 5 ) :
أ / أن يكون بين المعنى الأول المنقول عنه واللفظ الثاني المنقول اليه علاقة ما .
ب / انه يعتبر النقل من حق الجماعة لا من حق الفرد .
اما الفرق بين التفسير والتأويل فهناك من كان يضع التفسير والتأويل على قدم المساواة من حيث انهما مرتبطان على اساس أن التفسير هو شرح الكلمات مفردة ، بينما التأويل هو استنباط التراكيب بما تتضمنه من حذف واضمار وتقديم وتأخير وكناية واستعارة ومجاز حسب رأي جلال الدين السيوطي .
اما التأويل في لفظ " السلف " فله معنيان أحدهما تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التفسير والتأويل عندهم متقارباً او مترادفاً كما تذكر بعض المصادر.
بينما يعتبر الطبري ( المتوفي 310 هـ ) ان التفسير هو من مرادفات التأويل حيث قال : " وأما معنى التأويل في كلام العرب فانه التفسير والمرجع والمصير " .
اما سبب قيام التأويل أو التفسير او كليهما ، فانه يرجع الى أساس وجود النص ، فكل نص يفترض قراءة ، والقراءة تستدعي أن يكون وراءها عملية فهم ، وهذا الفهم محكوماً بالإنسان فان هذه القراءة ستبقى نسبية ومتعددة ومختلفة .
بينما يرى نصر حامد أبو زيد أن سبباً آخر كان وراء ظهور التفسير والتأويل حيث ان " اشكالية القرآن وتأويله نابعة من تجدد الحياة بالحركة مع ثبات النص في منطوقه وهي الاشكالية التي عبر عنها علماء اصول الفقه حين قالوا بندرة النصوص مع تكاثر الوقائع وتجددها " ( 6 ) .
ولكن السائد ان اغلب المسلمون الاوائل كانوا يكتفون بالمعنى الكامل الاجمالي للآية ولا يفترضون على المسلم ان يفهم الآيات فهماً تفصيلياً منطلقين من حديث يرويه انس بن مالك أن رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن معنى كلمة " أبا " في الآية ( وفاكهة وأبا ) فقال اننا نهينا عن التكلف والتعمق ، وعندما كان بعض المسلمين يناقشون آية ( ثم استوى على العرش ) محاولة منهم لفهم طبيعة هذا الاستواء على أي شكل يكون ؟ كان الجواب يأتي على شكل المقولة التالية ( الاستواء معروف والكيف مجهول والحديث عنه بدعة ) وتختلف المصادر في ارجاع هذه المقولة فمنها من ينسبها الى مالك بن أنس ومنها الى احمد ابن حنبل .
وبعد أن ظهرت الفرق والاتجاهات الفكرية التي قامت على شكل تيارات مذهبية وقد بدأ هذا الاتجاه يبرز منذ بدأ يتبلور واضحاً الموقف العام من خلافة علي بعد أن رفض عدد من الصحابة مبايعته دون الدعوة الى قتاله ، بينما كان الرأي الآخر يدعو الى قتاله وبالفعل حصل ذلك كما في معركتي الجمل وصفين ، تمثل الفريق الثاني بعائشة بنت ابي بكر وزوجة النبي ، ثم معاوية بن ابي سفيان الذي كان يحكم الشام يومئذ والذي كان يمثل الطبقة المسيطرة اقتصادياً في بلاد الشام ، بينما وقف فريقاً ثالثاً الى جانب علي ومعسكره .
هذا بعد ان بدأت تتشكل مدراس فكرية ان صحت تسميتها هكذا ، اخذت على عاتقها أن تطلق أسئلة لم تكن معتادة من قبل ، فالمصادر تذكر ان البحث في مشكلة القضاء والقدر ظهرت كبحث فكري يرتبط بمسؤولية الانسان – الفرد عن فعله ما بين النصف الاول والنصف الثاني من القرن الأول للهجرة ، هذا الخلاف والنقاش في مسألة سياسية في جوهرها ، دينية في مظهرها العام ، فمثلاً قيام المرجئة وهم فرقة كلامية قالوا بأن كل من آمن بوحدانية الله لا يمكن الحكم عليه بالكفر، لأن الحكم عليه موكول إلى الله يوم القيامة مهما كانت الذنوب التي اقترفها . وهم يستندون في اعتقادهم إلى الآية التي تقول (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)الآية 106 سورة التوبة . جاء بعد ان فرضت ظروف الحكم الاموي ضرورة قيام رأي في ذلك الوقت يقرر أن ايمان المسلمين يرجئ الحكم بشأنه الى الله ، لأن الأمويين كانوا من وجهة نظر البعض مغتصبين للسلطة فكان من شأن هذا المذهب أن يمنع الحكم عليهم بهذه التهمة بل يؤجلها الى الله نفسه .
لكن هذا التمايز والاختلاف بين مفهومي التأويل والتفسير من حيث الدلالة قد تم توجيهه بهذا الاتجاه في مرحلة متأخرة في معركة الصراع الايديولوجي ، خاصة بعد سيطرة المذهب الأشعري واتخاذه المذهب الرسمي للدولة بعد القضاء على الاعتزال مع اوائل القرن الخامس ، وهو المذهب الذي ينتسب الى ابو الحسن علي بن اسماعيل الاشعري ( المتوفي 325 هـ ) الذي ألفت مدرسته هذه ردة فكرية أوقفت عمليات الاجتهاد وحلقات الدرس والتحليل واكتفت بدراسة وفهم ظاهر النص بعد تولي ابا الفضل الجعفر المتوكل على الله الخلافة بعد وفاة الواثق وهو الخليفة العباسي العاشر والذي اصدر أمره بترك المباحثات والمناظرات وامر الناس بالتمسك بالتقليد ( 7 ) . منذ ذلك الوقت أصبح التفسير هو ما يقدمه المذهب الرسمي الذي تتبناه الدولة ، بينما يمثل التأويل رأي الخصوم ومنتقدي الدولة وهو بالتأكيد وحسب الرأي الرسمي زائفاً عن الحق وعار عن الصحة ويهلك قائله بينما يعتبر الدكتور أميل توما خلال فترة الحكم الأموي ( 40 – 132 هـ ) بدأ العلماء يتعمقون في أمور دينهم ومقولاته بسبب :
أ / ضرورة حل بعض القضايا الاجتماعية – السياسية التي نشئت بحكم اتساع رقعة الدولة التي أصبح المسلمون يحكمونها وتعقيد القضايا الناجمة عن مواجهة الديانات الأخرى .
بـ / تأثر المفكرون المسلمون مع مرور الأيام وتسارع وتيرة النقل والترجمة من اللغات الاخرى الغنية بفكرها مثل الهندية واليونانية .


3. كيف يشكل النص الديني خطراً ؟


منذ ولدت النصوص الدينية عموماً والنص القرآني على وجه الدقة ، تم استخدام هذه النصوص وتفاسيرها من قبل تيارات وفرق وجماعات ايديولوجية باعتبار - هذه النصوص – تمثل وسيلة من وسائل الهيمنة على المجتمعات ، ولعل الدور الأبرز في ذلك يعود للتفسير أكثر من النص ، فالتفاسير دائماً ما ترتبط بمصالح هذا الحاكم فيتبناها ، كما حدث لتفسيرات المرجئة التي اعتمدها الحكم الأموي . خطورة هذا الأمر يعود الى تبني السلطة لخطاب معين واعتباره هو الخطاب الرسمي وما عداه هو زيف وافتراء على النص ومن ثم تؤدي هذه التهمة الى الملاحقة وقد يصل الأمر الى القتل . علاوة على هذا أن كل من فسر ويفسر النص الديني يفترض دائماً ان تفسيره هو التفسير الصحيح لا بل انه نطق بما لم ينطق به الله . وهذا يحتم أن يُطَبق ما قاله هذا المفسر في كل زمان ومكان ، اضافةً الى جعل هذا النص وتفسيره مرجعية نهائية للبشر يجب أن يقاس وفقها كل شيء . وحسب قاعدة أوغسطين القديمة التي تنص على ان سلطة الكتاب المقدس هي أكبر من جميع قوى العقل الانساني ، فنجم عن هذه القاعدة قاعدة أخرى تقول : انه حيث وقع تناقض بين الملاحظة العلمية والنص المقدس فالملاحظة العلمية يجب أن تهمل لصالح النص . وهذه هي النقطة الأولى التي يشكل فيها النص الديني خطراً .

إما النقطة الثانية فهي ما يؤكدها محمد أركون وهي إنه اذا تم التغاضي عن اعتبار ان النص القرآني هو جزء من التراث ، وليس نصا مفارقا متعاليا منفصلا عن هذا التراث، كما ذهبت إلى ذلك جل المواقف الفكرية هذا ايضاً يمثل اشكالية ينبغي التوقف عندها ، والمقصود هنا دراسة النص الديني في تجليه الأرضي البشري ( 8 ) هذا التجلي سيكون كافياً لمعرفة كل الجوانب المحيطة بولادة هذا النص . على اعتبار أن الأديان هي صناعة بشرية وليس الاسلام استثناءً من هذا القانون حسب أبو زيد الذي يؤكد على احتواء القرآن مواقف سياسية – اخلاقية واضحة ضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي وهي مواقف يصعب عزلها عن سياق المجتمع التجاري في مكة آنذاك ، فمثلاً التركيز على معاملة اليتيم وادانة أكل امواله يعكس بالإضافة الى السياق الاجتماعي حالة محمد الشخصية وتجربة اليتم المبكر التي عاشها في مجتمع ذي بنية أبوية صارمة .
إما النقطة الثالثة فتتمثل بالموروث الديني الذي لم يزل يتمتع بالسيطرة ويحظى بسلطة الأمر والنهي ، ويستمد هذه السيطرة من كونه يتمتع بأنه موروث اعتمد على نص ديني لا يقف في زمان ومكان معينين . اضافة الى ما يحظى به من قداسة تجعله غير قابل للدراسة أو اعادة التفكير فيه متناسين ان ما اصطلح عليه بالموروث الديني هو بالتالي آراء واجتهادات شخصية وخطورة هذه النقطة تكمن في استدعاء هذا الموروث في مناسبات عديدة ليتم عليها تأسيس خطاب يمثل مصلحة فئة معينة لا تجد ضالتها الا في مثل هكذا نصوص لإعطاء نوع من المشروعية كما تحدث خيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين عن ان هناك نصاً تشريعياً تقوم عليه الجماعة ويروي حديث عن أبو محمد عبد الله الدارمي يقول فيه " حدثنا فلان عن فلان انه تطاول الناس في البناء في زمن عمر ابن الخطاب فقال عمر : يا معشر العريب ، الارض الارض ، انه لا اسلام الا بجماعة ، ولا جماعة الا بإمارة ، ولا امارة الا بطاعة ..... الخ ( 9 ) .
رابعاً إن الخطاب الديني عند المسلمين يرجع في اصله الى مصدرين من مصادر التشريع ، هما القرآن والسنة ، اما القرآن فقد اكتمل قبل وفاة محمد ، وتم تدوينه وحفظه داخل كتاب في عهد عثمان بن عفان وجرى تنقيطه ايام الحكم الأموي ، مع ملاحظة أن المصادر تذكر ان عثمان بن عفان قد محا شيئاً مما دون قبله وأمر المسلمين بمحو ما محاه بعد أن نشب خلاف بين المسلمين في القرآن فأختلف الرجال فيما بينهم فكتب عثمان الى الامصار ( اني صنعت كذا وكذا فامحو ما عندكم ) كما يروي ابو قلابة المتوفي 104 هـ ، وما يؤكده مثلاً أُبي بن كعب وهو من كتاب " الوحي حيث قال كنا نقرأ آية الرجم قبل أن يأمر عثمان بجمع المصاحف وانه ترك قراءتها بعد نسخ المصاحف ( النقد الكتابي للقرآن ، شاكر فضل الله النعماني ، كتاب ) ، فإن السنّة دونت في ظروف تاريخية محددة لاحقة وغامضة أحياناً ، حتى ان عمر ابن الخطاب وجد جماعة من المسلمين يدونون الاحاديث فثار عليهم وصاح " امثناة كمثناة أهل الكتاب " في اشارة الى التلمود والذي يعرف باسم " المشناة " وانه لم يتحرر تدوينها من العوامل الايديولوجية لذلك فإن السنة ايضاً لا تخضع لتعدد التأويل والتفسير بفعل ارتباطها بسلطة من دونها بما يخدم مشروعها السياسي فأنها تخضع إلى ثنائية الإلغاء والإعمال القبول والرفض ، والدليل على ذلك وحسب تصنيفات أهل الحديث فهي تقسم الى موضوعة وصحيحة ومسندة ..... الخ .

خامساً يؤمن خطاب الحركات الاصولية المسيسة للدين بنقاط جوهرية لا يتراجعون عنها وهي تمثل ابرز طروحاتهم منها الشعار الذي رفعه حسن البنا في ان " الاسلام دين ودولة " اذ لم يعرف احداً شعاراً كهذا قبل البنا ، اضافة الى نقطة اخرى تتمثل في " عجز الانسان عن تدبر أمره في شؤون الدنيا دون التوجيه الآلهي " هذه اذا أخذنا بعين الاعتبار ان الخطاب الديني هو المقصود به بالتوجيه الآلهي (10) هذا أذا اخذنا بعين الاعتبار ان الخطاب الديني الذي تشكل بمرور الوقت وبفعل أحاديث وتصرفات بشرية بحتة وأحيط بهالة من القدسية سيمثل اليوم توجيهاً الاهياً وبما انه اكتسب صفة التوجيه الآلهي سيكون واجب على الناس طاعة هذه التوجيه .

سادساً انطلاقاً مما تقدم ونتيجة الفهم الذي بني على تصور انه ما يقوله أحدهم هو الحقيقة المطلقة ، ظهرت خطابات سيد قطب التي تحدثت ولأول مرة عن تكفير المجتمع ككل ، باعتبار هذا المجتمع يعيش عيشة " الجاهلية " ، واعتبر قطب ان اولى الخطوات في طريق دعوتهم هي الاستعلاء على المجتمع الذي وصفه بالجاهلي وأكد أن المشكلة تكمن في قيم وتصورات المجتمع وليس في تصوراتهم الخاصة ( أي تصورات الجماعة التي كان ينظر لها سيد قطب) وأكد على عدم التفاوض او السماح للإلتقاء مع هذا المجتمع في منتصف الطريق .
ثم توصل الى مفهوم " الحاكمية " عندما فسر جملة " لا اله الا الله " بأنها تعني نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والامراء والحكام ورده كله الى الله ، السلطان على الضمائر والسلطان على الشعائر والسلطان على واقعيات الحياة – وهي الأخطر - . ( 11 )























المصادر :

1. فهم الفهم / دكتور عادل مصطفى .
2. القرآن نص تاريخي وثقافي / مقابلة صحفية مع الدكتور نصر حامد ابو زيد .
3. النص القرآني ومشكلة التأويل / المصطفى تاج الدين .
4. النص القرآني ومشكلة التأويل / مصدر سابق .
5. اشكاليات القراءة وآليات التأويل / نصر حامد ابو زيد .
6. القرآن نص تاريخي وثقافي / مصدر سابق .
7. الحركات الاجتماعية في الاسلام / أميل توما .
8. محمد أركون وقراءة النص الديني / أحمد فري .
9. الاخوان المسلمون شعب الله المختار / د. أحمد راسم نفيس .
10 . اولوية العقل .. نقد طروحات الاسلام السياسي / عادل ظاهر.
11 . معالم في الطريق / سيد قطب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حاجة الاسلام لكل اشكال التأويل
محمد البدري ( 2018 / 5 / 1 - 12:32 )
التأويل خطوة اولي لتحرير العقل من النص الظاهري فيه والباطني المخفي في طياته.

اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص