الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طبيعة الإنسان -3-

جميل حسين عبدالله

2018 / 4 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


طبيعة الإنسان
-3-
إن وصف الإنسان بالعاقل، يعني أنه قادر على أن يخلق ما فيه نمط سعادته، ويبدع ما فيه طراز أمانه، لكن، هل يصح ذلك، وكل ما أوجده في زمن لإراحة ذاته من قلق الخوف، وذعر الوجف، قد فقد محتواه في تجربة أخرى، وضاعت منه جدوى حقيقته الفذة، وصارت مع طيش الاغترار سببا للإخافة، والإدانة، وعلة للاستعباد، والاستبلاد. وهذا مشاهد في كل التجارب التي ضحى الإنسان لأجلها، وكانت محل قبول في الذات العاقلة، ومجال رضى في الصيرورة المنفعلة بالآمال الهادئة، ثم استحالت هواجس مزعجة، وكوابيس مقلقة، وعقابا ينزل على المخالف، وعذابا ينال المعارض، لأن غياب العقل المدبِّر بين قبور النسيان، أو صماته بين صدور الكتمان؛ لاسيما والذات الإنسانية تنطوي على مساحات مثخنة بالأرزاء الهامدة، ومضمخة بالعلل الكاسدة، وتنزوي فيها كل الإخفاقات التي صدمت الكيان بأوضارها القاتلة، وأوساخها الفاتكة، هو الذي يغير المعالم، وينقض الأبعاد، ويحرف المسار، ويزيف القصود، ويدني من المأساة الصارخة بالفناء، إذ ذلك في دلالته على الحقيقة الباردة في جوف الإنسان الموغل في الاختباء، والتقية، والمقفل عليه بين دياجير أحلامه المنكسرة، وآماله المنحسرة، لا يعبر إلا عن عجزه على طمس ملامح أوجاعه، وفواجع أوضاعه، لأنه في تواريه وراء جبته الملائكية؛ وهي لم تنل حظها من الظهور، ونصيبها من الوجود، إلا لأنها تحتوي على كل ما يمكن أن يسمى خيرا محضا، ويوصف بالجمال الباهر، وهكذا كل العوالم التي قدسها الإنسان بمجامع فكره، على اعتبارها تمثل المطلق الجميل في كل ما يسمى خلقا كريما، أو أدبا قويما، لا يتعالى بأنانيته إلا ليخفي فشله في خوض غمار الفضائل السديدة، ولا يتعاظم بغروره إلا على حقيقته المتناقضة في صيرورة الزمان، والمكان.
ولعل شاهد الحق على ما نقوله، هو خيار الديمقراطية في زمننا الحالي، إذ هي الشعار القديم لمبتغى العقلاء، على اعتبارها تضمن المساواة بين الناس جميعا، وتكفل العدالة للمتحاكمين بالسوية. فلا نخب دينية، ولا طبقات سياسية، ولا أرستقراطيات اقتصادية، بل تتآلف الحظوظ فيها على مشترك محدد، يجعل عملية الاجتماع ظاهرة مثلى في التعايش السلمي، والتسامح الإيجابي، لكنها وإن كانت هدفا في البداية لمن أحس بالعبودية لتلك الطبقية الصلدة؛ وهي المالكة لكل مجالب الرزق، ومناحي مراتبه الاجتماعية، والاقتصادية، وقد عبر عنها المحتاجون إلى أفيائها بصراحةٍ قاومها الإقطاعيون، ورجال الدين، وواجهوها بالتأويل، أو بالتضليل، لأنها تنفي صيغ الامتيازات، والضمانات، وتجعل الناس سواسية بلا مزاعم الرعاية، والعناية، وتربط الهويات بدلالات الوجود الحقيقية، والمعاني الكلية للحقائق الروحية، ثم انتهت الحروب بين الدعاة إليها، والرافضين لها، وأذل من أذل، وقتل من قتل، فصارت مقولة مهجنة المعاني، والمباني، يرددها المستكبرون لإخفاء ما في صدورهم من جشع، وطمع، وإرواء ما في نفوسهم من قمع، وهلع، وهم لا يرونها في صخب المصالح الإنية إلا ترسا للحماية، وحصنا للوقاية، إذ تمنحهم وسائل التحكم في الآخرين، وطرق التسلط على خيرات الأرض الباطنة، والظاهرة، وتهبهم طاقة الاستعلاء بالإيديولوجية القائمة على وفرة أدوات الاستقطاب، والتجاذب، إذ المعنى المتعقل فيها، هو المشخص في كل تجربة تراكم معها فائض العطاء البشري بالحرية، والكرامة.
وإذا كانت تشخصاتها في زمن معين نهائية المعنى، واستطاعت أن تضمن تعويض الخوف بالأمان في مقام تدبير المسير، وتقرير المصير، وأن تثمر شعور فئات عريضة بضرورة العدالة الاجتماعية، والمساواة الطبعية، فإنها في زمن آخر، وغير بعيد من التجارب الناجحة في التاريخ الإنساني، قد استحالت رغبة في التجبر، والتكبر، لأن الغاية منها لم تحدد فيما تدل عليه من مفاهيم كلية، وكونية؛ وهي حكم الإنسان بمقتضى صفاته المترفعة عن طبائعه المتجاوزة لبهيميته، بل كانت في ماهيتها نبرة صوتية على لسان الحاكمين، والمحكومين، ولغة مهترئة الإشارات، ومتجاوزة العلامات، لأنها بما تزينت به من مظاهر تخفي سؤر الوجع الدفين بين أدغال الماهية الموحشة، وتخبئ سبة خشيتها من استحالة القوة ضعفا، والعزة ذلا، قد واجهت مصير فنائها على لسان الداعين إليها، أو الحامين لها، إذ اختفاء الدائرة التي حدث التآلف على محورها، وتواري النقطة المتعقلة ببداية فيضها؛ وهي التي سالت منها أنهار مقولاتها الفلسفية، ومسلماتها الروحية، وهي التي قادت تجربتها إلى ظهور معالمها في مجال التصورات، ومدار السياقات، قد انتهى دوره الوظيفي، وصار غصة في حلوق الشانئين لما تمنحه من خصوصية المساواة بين الطبقات العليا والدنيا في التركيبة البشرية.
وذلك ما لا يمكن أن تقوم به الدول الراغبة في الظهور القوي لهيبة النظام السياسي، لأنه مرتبط بتمام الفخار، والاعتزاز، ولو كانت في كثير من هزائمها الاجتماعية مزيفة، وباهتة. وهي محتاجة إلى قوى تدعمها، وتكبح جماح رافضي وضعها المأزوم بالنقيض، والمعارض، وتدفع بالحالمين بها إلى التميز المشخص بأحلامها الوردية، ولو كانت صياغتها تعتمد على أردأ الأساليب، وأتفه التعابير. وإذا كانت الديمقراطية طلاء شاحبا، وقناعا مزيفا، فإن ما شاكلها من المعاني المهتمة بظاهرة الإنسان، والمتعلقة بتنوعات قواه الداخلية، والخارجية، لا يتولد في حضنه إلا برغبة التحرر، ولا يتناسل في سيره إلا لغاية الانعتاق، ثم يصير مع تضارب الإرادات في التجربة من أدوات استعباده، واستلابه، لأنه يتصف بصفاته غير الثابتة، وطبائعه غير المستقرة، إذ هو حقيقة الإنسان في تجسداته المرتبطة بظروف معينة، وطبيعة تمظهراته المتصلة بعاداته المتشكلة من طرق تربيته، وسبل تعليمه، والمتراكمة مع تجارب تصوراته، ومفاهيم قناعاته، لأنه حين اختار الأفكار التي سماها كبرى، وهي ليست كبيرة إلا لما يتحقق بها في يقينه من سعادة، ويتهذب بها في طبعه من فضيلة، لم يكن يبتغي أن يكون عبدا لها، ولا مستعبدا بها.
كلا، بل أوهمته بلازم الحرية؛ وهي الكرامة البشرية، لكي تدمجه بين غيابات ما تختزنه من ذكاء الكائن الخارق بخداعه، وضياعه، ثم اجتازت به مرحلة الوثوق منها، والشعور بأنها المخلص له من عنائه، لكي تبتدئ مرحلة الشك فيها، والحيرة معها؛ وهي لا تكون وخزا في الضمير، ولا ندما في الصدر، إلا إذا أدرك الإنسان تناقض الدلالة مع مدلولها، وتنافي الحقيقة عن موضوعها. وذلك لا يرد على ما هو حسي فحسب، بل يبلغ امتداده إلى ما هو معنوي، وله ارتباط بالمجالات الروحية، ويحتوي على تصوره للحقيقة المطلقة، وللأفعال الخالدة، إذ يتجه السؤال نحوها، والاستفهام حولها، فيغدو الجواب عنه صعبا، وعويصا، لأن هدم ما تتآلف منه الأنساق المتآزرة، وتجتمع عليه الآراء المتآلفة، وتلتف حوله العزائم المتعاضدة، لن يفيد في مجتمعات لها سياقها المنفعل مع ذاتها، والمنصهر مع رغباتها، بل يعتبر محضَ الانتماء إلى إيديولوجيته المنغلقة شرطا ضروريا في وجوده، وسببا حتميا في بقاء نوعه، إذ تكوَّن مجموعُ كيانه مع مرور الزمن، وطول تجاربه، وتراكم حوله الإنتاج في مجال الميتافيزيقيات، والأنطولوجيات، وتكاثر حياله الإبداع في كل ميادين المعارف التي سعى من خلال فعل المثاقفة إلى الإجابة عن قلقه الفكري، ووعيه الشقي.
إن نسف التصديق بجدية المعاني الثابتة، ونقض ما فيها من مطلقات راسخة، ومعتقدات مكبوتة، لا يعني ما يُنفى عن الذات من صفات الوعود، والعهود، بل يعني دخول العقل في متاهات لا نهاية لبداياتها، ولا غاية لتبدياتها، ولو واصل السير فيها بمنتهى تبصره، وتأمله، لأن بدايتها اجتهاد، ونهاياتها اقتصاد، إذ ذلك يظهر في الذات مكامن العجز عن الإدراك، ومواطن الاستسلام لما هو موجود، والركون إلى ما هو معلوم، ويبرز في الماهية مواقع تجربة الإنسان المقصورة على عزيمته في بعديه الروحي، والمادي، ومواضع خبرته في تنظيم ما يريحه من معان يوقن بأنها كلمة أولية، وأزلية، تفجرت من قاع هموده بما يسكن هوجه، ويهدئ من مخاوفه، وساوسه، لأن ما يفضي إليه الحرص على وضع منطق للمطلقات، هو ما يحس به الإنسان في تحوله من لانهائية اللامحدود إلى مشخصات المحدود، إذ العقل لا يمكن له أن يصل في سبر اللامتناهي إلا إلى شقاء، وعناء، لأن نهاياته لن تكون في المبحوث عنه؛ وهو غير مجسد في انفصاله عن الأعيان المشهودات، ولا مجسم في اتصاله بالمعاني التي تستهدي بها الذات إلى بحار النهايات؛ وهي لم تتوطن إلا طيات كل المقيدات بناموس الافتقار، والانحصار، بل تعود طبيعته المادية إلى ماهية الباحث غير المادية، إذا استطاع أن يدرك في حدود ذاته ما هو ممكن له، وما هو مستحيل عليه.
ولذا، فإن ما تهدف إليه العناوين الكبرى في العقائد، والأخلاق، والسلوكات العامة، هو ما يتعب كد الإنسان وكبده، ويغريه بالبحث عن ضالته الشاردة بين آجام آماله، وغوائل آفاقه. فهي على هذا الاعتبار، لا تصير لها قيمة ذاتية، ومكانة اعتبارية، إلا إذا امتزجت بالكائن الذي وصفت هويته بالعقل الكلي، وأحدثت فيه فتحا جسيما، ونصرا عظيما؛ وهو كل ما يضيفه اتزان نسبه إلى حومان فؤاده العاشق من فسحةٍ متفتحة الأزهار بين واحات التأمل الوجداني، والحدس القلبي، وملحة متبدية على لوحة الطبيعة، ووجه الكون، وجوف الحياة، وكأنها في مفعولها الإيجابي بمنزلة المهدئ الذي ينظم نوم الإنسان، ويقظته، وينسق بين شغله وفراغه، ويشحذ عزيمته بشحنة الفعل الإلهي، والعمل الإنساني، لأنه في إحساسه بخفة الجسد، وتجاوزها للواعج الموت، والفناء، سيكون برقة روحه المتوحدة معه فرحا، ومسرورا. وإذ ذاك، تصير حياته منظمة الإدراك في نسق الذات؛ وذلك ما يكسبها الفرادة في شخصيتها، ومتصلة الفعل بسياق الماهويات المتفاعلة؛ وذلك ما يدمجها في محيطها الاجتماعي، والثقافي، والفكري، ويلبسها هوية المشترك البشري، لأنها بهذا المزج بين الطبيعتين، الروحية، والمادية، تجمع بين شخصيتين متآلفتين، تتحدد كل واحدة منهما بحدودها الطبعية، وقوانيها الكونية .
ومن هنا، فإن اعتبار الإنسان كائنا مدنيا، لكونه قد وصل إلى مرحلة متسامية في التنظيم، والتقنين، والتحديث، لم يكن إلا نتيجة حتمية لما رآه الإنسان دليلا على لحظة يفتش عنها بين مهامه ذاته، وبراري واقعه؛ وهو شعوره بأن يكون له دور في الوجود، ووظيفة في الحياة البشرية، إذ تمثله بهذا المظهر الذي يحدد امتلاءه بالمعنى الكلي لجوامع رغباته، وشهواته، هو الذي يعبد سبيل الحنين إلى جذوره المتسمة بطفولته البريئة، وأمدائها الغريبة، وأفيائها العجيبة، ويصبغه بالارتياح إلى يومه، والانشراح لغده، والانفتاح إلى مستقبله، لأنه في تمدنه الذي يرى به كيانه مؤثرا على رقعة جغرافية من كوكبه الأرضي، ومنفعلا بما ينظمه من أنساق إيديولوجية، وسياقات اجتماعية، يوقن بأن الأشياء قابلة لامتلاك جوهرها، والقبض على عينها، والاستماع بما ينقشه وجود معناها على فضاء الوجدان من أشواق، وأتواق؛ فهو على هذا المعنى الذي يفسر رغبة الإنسان في اكتشاف العوالم الخفية، والجلية، لا يرغب إلا فيما يجعل ذاته مأمونة الجناح، وموفورة الرباح، وسواء ما ناله بوساطة ما هو روحي، وفيه فلسفة الوجود، أو ما اكتسبه بسبب ما هو مادي، وفيه تجربة الإنسان، وقدراته على محاربة الآلام، والأوجاع، والأوضاع الفاسدة. وذلك لا يتأتى له إلا في ظرف مليء بالنظم الكابحة لجنوح الأشرار، وغدر الفقراء، وخيانة الأغنياء، لأن إحساسه بالأمان في سيره، وسربه، وتجواله بين الأزقة، والشوارع، وانتقاله بين القرى، والمدن، وانسيابه في محيط لا يحصر مداه ضيق الأفق، واسوداد الفضاء، هو الذي يفجر فيه الرغبة، والعشق، والتأمل، والتجليات غير المحدودة، ويفتق من أعماقه كل أنواع الإبداع، والاختراع، والابتكار.
ولذا، فإن التمدن، على اعتباره ملمحا لجمال وجه الحياة المطبوعة بروح الأمل، أو معلما لما وصل إليه الإنسان من تطور في بناه النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، أو مظهرا جليا للصناعة، والحركة، والسرعة، لم يصرح بمكنون زفير الآلام التي يعانيها الإنسان، ولم يعرب عن حسراته التي يتعذب بأوضاعها الضاغطة على أنفاس صدره، إلا لما ينطوي عليه من سر الصيرورة، ورغباتها في الاستقرار، ومرادها في السلوى، والتبريح، والتفريج، إذ العودة إلى نقطة الضرورة التي دفعت الإنسان إلى مجابهة الندوب، ومقارعة الخطوب، هو الأمل الذي يرجع ذكريات المحرومين والبائسين إلى الوراء، لأنها تسترجع في رحابها كل الزفرات التي فجرت البدايات، ورسمت النهايات، لكي تبني عليها ما انحرف في القصد، وجنحت به الشهوات إلى معاناة ذاته، ومكابدة كيانه لأحزان الوجود، وآلام الطبيعة، وعويل الكون، لأن الرجوع إلى ذلك، ولنسمه ماضوية، أو رجعية، أو غير ذلك، لا يعني سوى العودة إلى تلك اللحظة المسامية؛ وهي التي انطلق منها صوت هذا الكائن، وشعوره بالوجود، وإحساسه بمناجاة السماء، وإدراكه لمحاورة ما يعيش بين وهاده، ويحيى بين مهاده، ويرتحل بين ربوعه، وفيافيه، إذ ذلك، يهيئه لأن يكون نشطا، وحيويا، ومنفعلا مع مصادر طبيعته بأريحية، وبعنفوان، لأنه الرغب المرجو في عملية البحث عن المهد الآمن، أو عن السر الجامع للسعادة، والفضيلة.
وإذا كان هذا الكائن العاقل، أو المدني، لا يرى مظهر وجوده إلا بين تدابير صناعته التي تدل على طفرة نوعية في إبداعه، وابتكاره، أو لا يشهد حقيقته إلا في قيمه الجمالية المعبرة عن صورة الإباء الوجودي، والرفض لكل موارد الخنوع، والخضوع؛ وهي تلك التي نشأت من ثورة العمال على المستلبين لمعنى الحريات، والمستعبدين لعرق العمال، وكبد المؤجرين، فإن الأخلاق التي نريد أن نحدد بها ماهية هذا الإنسان، لم تكن إلا نتيجة للصراع بين طبقتين مختلفتين في المبدأ، والغاية، لأنها تهدف في جانب الفقراء إلى إقامة موازين العدالة، والمساواة، وتقصد في جانب الأغنياء كل ما هو ساكن، وهادئ، وراكد، إذ ذلك يضمن صيرورة الثراء، وديناميته الفاعلة. وذلك لا يمكن أن يتم إلا في إخضاع الفقراء، وإركاع الأجراء، لأنه ومهما كانت تلك القيم تظهر نوعا من الليبرالية الأخلاقية، وما رافقها من أنسنة القوانين، وما نتج عنها من حقوق الإنسان الكونية، فإنها إلى جانب ذلك، تئد وبطريقة آلية عوامل الاحتجاج على مأساوية الأوضاع، ومصيرها المشئوم، وتدفن بتخاذلها وحيلها سائر أنواع الاهتياج ضد القهر، والجبر، والقسر، إذ ذلك في عين الإقطاع معطل لسير الاقتصاد، وفاعلية المصانع المستحوذة على الاستهلاك اليومي للكائن البشري، ومدمرة للإحساس النابض في جوف الإقطاع بالقوة، والعظمة، والفخر، والأبهة، والكبرياء، لأن ذلك لا يسري في أكباد الأغنياء، وملاك الثروات، ولا يحدث فيها سخونة السرور، والحبور، إلا إذا كانت ضمانة الولاء والطاعة محددة للكسب، والجلب، إذ الاستعذاب الخفي لبقاء الفقير فقيرا، أو لبقاء المحروم محروما، قد أدى مع مرور الزمن إلى قدح الإقطاعيين في الثائرين، أو في المقاومين، ومهما كانت القضايا التي يحتجون حولها، أو يناضلون من أجلها، لأن ربط المؤجرين بصيرورة الإنتاج، وما يستلزمه بعده عن المثل من إذلال واحتقار الإنسان، هو الذي يكسب الاقتصاد متانة، ويرفع من قيمة الصناعة، ويعلي من وفرة الأرباح، إذ ربطه بسياق العمال، وبما يستحقونه من جهد العمل المبذول بقوة، سيجعل نتاج العمل متساويا بين الملاك، والمؤجرين.
إن التضييق على مظاهر الاحتجاج، أو محاولة تحجيم قواها الفاعلة، لا يعني سوى النكوص عن تلك المدنية، وعن نقطة بدايات إنسانيتها، والرجوع إلى لحظة شعور هذا الكائن بأنه يعيش خارج ذاته، ويحيى بين دلالات الخوف، واليأس، والانتظار للمجهول الغائرة ملامحه، والشاحبة معالمه، إذ مقتضى الاحتجاج على انحراف عجلة تنمية كل موارد العيش، والاستقرار، والاستمرار، أن يحس الكون بصراع قوى الخير، والشر، وفي ذلك تنتهي الإرادة لصيانته، وحمايته، لأن خلاء الفضاء لتيار واحد في الفعل، والممارسة، يفضي إلى خراب الكون، ودماره، إذ لازم الفعل الطبعي، وما يتكون فيه من فاعلية الاختيارات، واحتكاك بين الحريات، وتماس بين المصالح، أن يكون الجهد البشري المشترك قابلا لنقاش تجلياته في الفضاء العام، وبتقنيات مؤثرة في التواصل، والتفاعل، والتعامل، لكي يفرز الحوار الاجتماعي معطى كليا، يصير مع التعاهد على معناه، والتآزر على فحواه، هو الروح التي تسري في الجميع بالعطاء المتماثل بين الفئات، والطبقات. وإلا، فما فائدة أن تضمن النظم الأخلاقية مبدأ المساواة في جوهر الخيرات، وأنواعها التي تقوم بها العدالة الاجتماعية في المجتمعات المتمدنة، وفي الوقت نفسه، تقلص من دور المعارضين، والمخالفين، وتفرض بقوانينها الملتبسة صيرورة الإذلال، والاستعباد.؟
إن ما يلتزم به المؤجِّر صاحبُ المعمل، أو المصنع، أو المتجر، أو ما يتعهد به ملاك أماكن الكد، والسعي ، ليس هو ما يربط بقاء مصير الرزق بتأليه الآلة التي تسحق روح الإنسان بين دواليب العمل، أو ما يزقه عرق الجبين من لعاب في حلق المحرومين، والمأزومين، بل فيما ما يضمن كمال بهاء الحرية، وجمال سناء الكرامة، ويسهم بسهم في بناء كلية الوجود؛ وهي ذلك الإحساس الفذ بالاشتراك في الخيرات، والمسرات، والمبرات، إذ لا يمكن أن نتحدث عن أخلاقية الإنسان، ولا عن تعاليه، وهو مجلو عنها حين تتعارض الإرادات، وتتناقض المصالح، وتتباين الحصص، وتتناقص الأنصبة، لأن ذلك يعني؛ أن الأخلاق الموجودة في جهة، هي عكسها التي ينادى بها في الجهة الأخرى، إذ لا تحارب الأشياء إلا بأضدادها، ولا تهدم إلا بأدواتها، وسواء من جعلها هدفا للنظام، أو من أرادها أن تكون نشوة للطغمة المتحكمة في موارد العيش، ومجالبه، ومكاسبه. وذلك يفرض علينا أن لا نقول بثبات الأخلاق، واستقرارها، بل هي مرتبطة بالسياق المتطور، وبالرغبات التي تفجر القوة من أجل الوصول إليها، ولو كانت غير أخلاقية، ولا إنسانية، إذ ما يسوغ به ذلك التناقض بين صورة الحق ومادته من تعليل مغالط، هو ذلك المنطق الذي يعارِض به من يحارب الطبقية، وينبذ كل الفواق التي تفصل بين المجموعات البشرية، وإن كان غير قادر على إنهاء مأساة الإنسان، وشقائه بين الدروب الحالكة.
وإذا كانت الأديان كالفلسفات في الاهتمام بشأن الأخلاق، والسلوك العام، فإنها في عموميتها المرتبطة بالتجربة البشرية، ومحدوديتها في الطبيعة الصلدة، لا تلتزم بمقتضى ضرورتها الإنسانية المشتركة، لأنها تتجاوزها حين تصطدم بمحيط الدائرة، وتكون مخشية العواقب، ومخوفة المغبات، إذ لا فائدة من بقاء جوهرها الذي نقيم الحروب في سبيله، ونهدر الدم البريء لحمايته، ما لم يكن قادرا على تدبير منازع الاختلاف، والخلاف، ومناحي العنف، والعصبية، وفاعلا بتأسيس مهاد لكل الخيارات الضامنة للمصلحة المتنازعة لدى جميع الأطراف، والأكناف. وإلا، فإن الأخلاق التي أهانت الإنسان، وأذلته، وأقصت دوره، وألغت وظيفته؛ أي إنسان كان، ومهما كانت وضعية مرتبته، ومكانته، لا يجوز أن يُلزم بها الكل، لكي تعتبر قضية انشغالات الجميع، لأنها ما دامت تضع اليد على الآخر المخالف، وتعاقبه بمقتضى الحفاظ على الصيرورة الخاصة بها؛ وهي في انغلاقها لا تمس قضاياه، ولا إشكالات حريته، وكرامته، فإنه لا يحق لها أن تعمم بدافع المحافظة على الكيان العام للمجتمع، ولا أن تقنن بأدوات الزجر، والقهر، وآليات التخويف، والتعنيف، إذ تعليلها الملازم لها في كسب المناعة، لا يرتبط سياقه إلا بتوجه محدد بالتجربة المتواطئة على غايات الاجتماع، والمتآلفة على مقاصد الاقتصاد، لأن المستفيد من تماثل أدوارها في رعاية المصالح، والمنافع، هو من يعيش على أعناق المنكوبين، والمنبوذين، ويتاجر بالتزييف لكل ما هو إنساني، وكوني، إذ دلالة الوفاء للحق الذي يرسم حدود الاختيارات في التفاعل البشري، هو في تساوي الحصص بين كل الأطراف المتماثلة، لأنه هو الأوفى بذمة الإنسان التاريخي، والأقدر على إبراز مظهر الالتزام بالعهود والعقود الاجتماعية.
وهكذا، فإن الإنسان، لا يمكن أن تحدد طبيعته في حقيقة واحدة، تكون هي المثال الأمثل لماهيته الكاملة الأوصاف، والأعراض، لأن طبيعته المتغيرة بظروفه، وأوضاعه في العيش، وأدواره في الوظيفة، قد أثبتت أنه مرتبط بمهاد ولادته، ونشأته، وطرق تلقيه للتربية، والمعرفة، وسبل حصوله على وسائل بقائه، واستمراره، إذ هو متطور في ذاته، ومتقبل لما يرد عليه، ومطيق أن يعلل ما يريد بلوغه، وأن يتفاعل معه، وأن يتخلص منه، وإن أحدث مشكلة في حياته، سعى إلى حلها، والفكاك منها. وهذا هو ألم الإنسان، وتعاسته، لأن ما جعله عاقلا، هو ما جعله جاهلا، وما صيره ذكيا، هو الذي صيره بليدا، إذ لو أدرك ذاته في حدود بساطته، وفي منتهى قعر ما يكون وجدانه الباطني،لما توحش، وأبهم عليه المراد، وعجم عليه المرام، وصار بلعنة الغدر لذمة التاريخ نذلا، وخسيسا، وحقيرا، ولو زعم أنه الأكرم نفسا، وطبعا، وسلوكا، إذ ليس مأتى ذلك منه إلا اغترارا يجتر به عقده النفسية، وأزماته الاجتماعية، ويبتلع به ما يتناقض في سيره من دوافع الغرائز البهيمية، والنزوات الحيوانية.ومنهنا، نخلص إلى حقيقة واحدة، وهي؛ كون الإنسان بدون ماهية، إذ ماهيته هو ما يبديه من اختلال، واختلاف، وشتات، واغتراب، وقلق، وجبن، وانكسار، وانتحار، وتلك هي خاصيته التي حاول أن يخفيها وراء وصفه ذاته بالعاقل، أو بالمدني، أو بالأخلاقي، أو بغيرها من الأسامي الخادعة، والأوصاف الكاذبة، لكن، لو تجرد به الحال في مقام الأنس، وحلق به الأمل في سماء الصفاء، وسافر به الشوق إلى ملكوت البهاء، لرأى الأشياء، وكأنها هو، إذ لا تمييز بينه وبينها إلا في إدراكه المعذب، إذ هي في كلية النهاية روح تسري في الإيوان، وعقل يجري في الأكوان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على