الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهروب من الحرية طلبا للأمان

محمد زكريا توفيق

2018 / 5 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات




"الناس، التي لا تصلح إلا لطاعة الأوامر، هم عبيد بالفطرة". أرسطو


لا تغرك الحلل الفاخرة التي يرتدونها، أو الأحذية اللامعة، وأربطة العنق المستوردة التي يعقدونها وتتدلى من أعناقهم. هم لا يزيدون عن كونهم عبيدا في ثياب جديدة.

إذا لم يستطع الإنسان العادي التعايش مع الحرية وتبعاتها، ماذا يفعل؟ يقول عالم النفس الكبير "إريك فروم"، أنه يتنازل طوعا عن حريته، ويقدمها على طبق من ذهب إلى أول مستبد أو رئيس عصابة يصادفه.

هل هذا ممكن؟ نعم هذا ممكن ويحدث كل يوم. نحن نرى في مياديننا وشوارعنا نوعين من البشر. نوع يمثل عشاق الحرية، المدافعون عنها بأرواحهم الطاهرة، المبذولة عن طيب خاطر، لنصرة الحق والعدل ورفعة شأن الوطن.

نوع آخر، يمثل الهاربون من الحرية، العابدون للأصنام البشرية، المرتمون في أحضان الاستبداد، المدافعون عن الظلم والاستعباد، المستعدون لفدائه بأرواحهم وأموالهم وأولادهم.

يتحرر الإنسان، ويتخلص من سلطة الحاكم المستبد، ليجد نفسه مجرد فرد أو رقم في مجتمع لا يعبأ بالأفراد. يشعر أنه غريب في بلده، معزول عاجز مستهلك، ومستغل ومحتقر من الآخرين.

حياته ليس لها معنى أو مبنى. هذا الإحساس يصيبه بالرعب. لذلك نجده مستعدا وجاهزا للامتثال والاستسلام لأي سلطة أو نفوذ آخر، يخرجه من هذه الوحدة، مستعدا للتنازل بمحض إرادته عن حريته التي لا فائدة منها، والتي لا يرجى من ورائها أي خير.

هناك حالة أخرى من الحرية. نجدها مصحوبة بالوعي والمسئولية والالتزام بالقيم النبيلة. هذه الحرية، تساعد الفرد على التوحد مع نفسه وأسرته ومجتمعه، وتشجعه على اكتشاف ملكاته وقدراته الخلاقة، التي ترتقي به وبمجتمعه وبالإنسانية جمعاء.

هل الحرية حقا عبء ثقيل، لا يستطيع أن يتحمله الإنسان ويهرب منه، كما يقول إريك فروم؟ وهل توجد غريزتان موروثتان داخل النفس البشرية، إحداها تتوق إلى الحرية والانطلاق إلى رحاب أوسع للغناء والتغريد، مثل طيور الربيع؟

الأخرى تنزع للانكماش على النفس والامتثال والاستسلام والتنازل عن الحرية، ومعها القدرة على التفكير العقلاني، طلبا للأمان والسكينة وراحة البال، مثل البهائم المستأنسة؟

يقول الفيلسوف الأمريكي وخبير التربية العظيم جون ديوي: "الخطر على ديموقراطيتنا لا يتمثل في استبداد الدولة والحاكم. لكن جل الخطر يقع دفينا داخل النفس البشرية.

الخطر على الديموقراطية، تجده قابعا بين حنايا نسيج الحالة الاجتماعية للمجتمع، من فقر وجهل وظلم وسوء تربية وتعليم. هذا الخطر، هو الذي يدفع الفرد للتنازل عن حريته بمحض اختياره. لذلك، المعركة الحقيقية تبدأ بإصلاح الفرد والمجتمع، عن طريق إصلاح القضاء والتربية والتعليم الجيدين".

التعليم الذي يقصده جون ديوي، هو التعليم الحضاري التنويري العقلاني، لا التعليم الديني أو الأيديولوجي.

الظلم والاغتراب عن النفس والمجتمع والبيئة، والوحدة القاتلة التي تصاحب ذلك، تدفع الإنسان لمحاولة الاتصال بالآخرين. الاتصال بأفراد أو جماعات أو أفكار معينه. من هنا يأتي التطرف الديني والتطرف الوطني والتطرف القومي والتطرف لأية فكرة معينة. كلها ملاجئ مختلفة، تربط الفرد برفيقه الفرد، وبالمجموعة داخل الجماعة.

هذا الانتماء للجماعة يعطيه الشعور الزائف بالأمان. لكنه، في نفس الوقت، يدمر حريته وقدرته على التفكير العقلاني. من ثم، يرتبط بالجماعة وتصبح هي كل حياته، ويكون مستعدا للتضحية بنفسه في سبيلها، ولا يستطيع الحياة بدونها.

أثناء الحرب الإيرانية العراقية، كان الإمام الخميني يسلم المقاتلين الإيرانيين، ومنهم الأطفال، مفاتيح بيت الجنة. وهي عبارة عن مفاتيح بلاستيكية خضراء تعلق في رقاب الجنود.

كان يقال لهم ان هذه المفاتيح، عندما يستشهد المقاتل، سوف تدخله الجنة. لهذا لم يكن الجندي يأبه بموته أو حياته. يقال إن مفاتيح الجنة وجدت معلقة في رقاب جثث خمسة آلاف طفل.

الرواندية، حركة غريبة ظهرت في أجواء الحياة العباسية عام 141هـ. سميت الرواندية نسبة إلى قرية راوند القريبة من أصفهان. أعلنت الحركة أن أبا جعفر المنصور هو الإله الذي يرزقهم ويطعمهم ويكسيهم.

جماعة دينية، أصلا من كاليفورنيا، ذهبت لتعيش في بلدة "جونز تاون" في أمريكا الجنوبية، بعيدا عن أعين البوليس الأمريكي. رئيس الجماعة هو القس الأمريكي جيم جونز.

سيطر جيم جونز على الجماعة سيطرة كاملة، بعد أن عمل لهم غسيل مخ، وأخذ أموالهم ومتاعهم. تحول أتباعه إلى مجرد عبيد وجواري بدون عقل أو روح. مثل الإنسان الآلي أو إنسان فرانكشتين الممسوخ. لا يعصون له أمرا، ويفعلون ما يؤمرون. كان رئيسهم يوطئ الزوجات أمام أزواجهن والبنات أمام آبائهن وأمهاتهن.

عندما فاحت الرائحة الكريهة. أرسل الكونجرس الأمريكي أحد الأعضاء ليتبين حقيقة ما يجري داخل هذه الجماعة الدينية. قوبل بالرصاص، فقتل هو وأربعة من رفاقه.

عندما تيقن رئيس الجماعة، جيم جونز، أنه لا فائدة من المقاومة، أمر أتباعه بالانتحار الجماعي. أطاعه الجميع، وهذا هو الغريب في الأمر. كانت الأمهات تسقين أطفالهن السم الزعاف، وينتظرن حتى يتأكدن من موتهم.

هذا مخالف للغريزة وطبيعة البشر. لا نجده في طبيعة الحيوان. فقد نرى الدب الأب يقتل أولاده، لكن الأم لم نرها قط قتلت أولادها. لا في عالم الحيوان أو حتى في عالم الحشرات.

ثم تقوم الأمهات بشرب السم ليلحقن بأطفالهن. 909 روح بريئة ذهبت بهذه الطريقة البشعة يوم 18 نوفمبر عام 1978م. من بينهم 276 طفل برئ والكثير من كبار السن. هذا ما يفعله غسيل المخ، والهوس الديني بالناس. هذا ما يفعل الامتثال والاستسلام، والتنازل عن الحرية والكيان، طلبا للأمان.


في عام 1993م، مات 80 شخصا بالحريق في مدينة واكو بالولايات المتحدة، عندما حاصر البوليس الفدرالي الجماعة الدينية. عندئذ، أمر رئيس الجماعة بالمقاومة حتى الموت.


في قرية سويسرية عام 1994م، مات 49 شخصا يتبعون جماعة دينية، اسمها معبد الشمس، بالانتحار الجماعي، لأنهم كانوا يعتقدون أن العالم يتجه نحو كارثة.

في عام 1997م، قام رئيس المجموعة الدينية، المسماة بوابة السماء بالولايات المتحدة، بأمر أتباعه بالانتحار الجماعي. مما تسبب في وفاة 39 شخصا. ذلك لكي تتمكن أرواحهم من اللحاق بالمذنب هالي أثناء اقترابه من الأرض.

235 نفس ماتت حرقا في أوغندا، بما فيهم من أطفال صغار، عندما أمرهم القس كبتيريي المنشق عن الكنيسة الكاثوليكية بالانتحار الجماعي. لأنه تنبأ بنهاية العالم مع نهاية عام 2000م. في أوغندا أيضا في نهاية الثمانينات، سبق أن قامت جماعة دينية مسيحية بالانتحار الجماعي، مات فيه مئات الناس.

الشاب أو العضو يسلم قلبه وعقله للزعيم أو الأمير أو الرئيس، بدون مناقشة أو تحقيق. هذه هي سيكولوجية الجماعة ال (Cult). الفرد فيها مجرد نفر ورقم، لا يكلف نفسه سؤال الزعيم عن أي شيء. يقبل أوامره ونواهيه بدون مراجعة وبدون قياس أو منطق.

يغيب العضو عن الواقع داخل الجماعة. ويبعد عن مشاكله اليومية وضغوط الحياة الخارجية. يتوهم أن حل كل مشاكله النفسية والمالية داخل الجماعة، يكون في طاعة الأوامر وفي الاستجابة التامة لما يقوله الزعيم. أي عندما يسلم النمر، كما نقول بالبلدي.

هذا يجعله يعيش في عالم مثالي من الإخوة ودفئ الأسرة والأمان الخادع. فيدمن العضو الانتساب للجماعة. لأنه لا يجد نفسه إلا بها. يصل به الأمر إلى أن يقبل كل ما يقوله الزعيم بدون تفكير. هنا تصبح الجماعة، أهم، بالنسبة للعضو، من أي شيء آخر. أهم من نفسه ومن الأسرة ومن الوطن. أهم حتى من الحق والعدل.

النهضة الأوروبية حدثت، عندما تحول الاستسلام والإذعان للكنيسة والاعتماد عليها في كل شيء، إلى الاعتماد على الإنسان نفسه. على العلوم والفكر التنويري العقلاني، لكي تساعده على حل مشاكلة وتخطيط مستقبله.

هنا أصبحت الحرية، حرية إيجابية، ضرورة ملحة وعامل أساسي للتقدم والنهضة. بعد أن كانت الحرية عبئا ثقيلا لا يمكن للإنسان تحمله.

الإنسان الحر، مسئول عن نفسه، ومسئول عن كل الناس. عندما يختار الإنسان لنفسه، يختار في نفس الوقت لكل الناس. عندما نقوم بالكذب وتزوير الانتخابات والنصب وخداع الناس بالدجل والرشاوي، يكون عملنا المشين هذا بمثابة طلب من الناس لكي تفعل نفس الشيء. بذلك، نبني عالما كله نصب وتزوير، عالما كله غش وخداع.

حرية الإنسان الإيجابية تساهم في خلق الإنسان الراقي، كما نتصوره وكما نود أن يكون. إننا ندعو ونقول لكل الناس، اختاروا كما اخترنا. إننا نقول، فكروا. واختاروا كما اختار من سبقونا في الحضارة والمدنية. اختاروا الحرية الإيجابية، التي تضع مصير الإنسان بين يديه، والتي تدفع الإنسان إلى إعمال الفكر والعمل.

حيث لا خلاص لنا إلا بالعلم والثقافة والفن والديموقراطية والعمل المنتج. الإنسان الذي لا يصلح إلا لطاعة الأوامر، لا يستحق أن يعيش حياة كريمة، لأنه عبد بالفطرة كما يقول المعلم الأول، ومعلم كل الأجيال، أرسطو العظيم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الشكر
عدلي جندي ( 2018 / 5 / 2 - 15:54 )
لك موصول يا كبير
ثقافة مجتمعاتنا اليوم في يد أمينة
تحافظ علي ثوابتنا وديننا مهم نشحت قوتنا ومعدات مصانعنا وأجهزة اللاب توب والأيفون وسجادة الصلاة وبرنامج الأذان الأهم القطيع نيام نيام في الأوهام
تحياتي


2 - كنت فين يا ارسطو
ركاش يناه ( 2018 / 5 / 2 - 18:58 )

كنت فين يا ارسطو
_______

الهارب من الحرية طلبا للأمان لا يستطيع العيش بعيدا عن فضيلة مفتى استراليا ... ليبرر له استخدام الشطاف فى رمضان ، و مضاجعة الدمية

مقالك سيدى لا يفصل عنوانه عن عناوين فتاوى مولانا سوى بضع ملليمترات

ترى ماذا يفعل ارسطو إذا صحى اليوم و تصفح الحوار المتمدن و قرأ المقالين

سيضحك ؟

سيلطم ؟

ام ينادى صفية ؟ تغطيه وهو يتنهد ... غطينى يا صفية و الطُمى : مافيش فايدة !

....

اخر الافلام

.. تصعيد إسرائيل في شمال قطاع غزة هو الأعنف منذ إعلان خفض القوا


.. طفل فلسطيني برفح يعبر عن سعادته بعد تناوله -ساندويتش شاورما-




.. السيناتور ساندرز: نحن متواطئون فيما يحدث في غزة والحرب ليست


.. البنتاغون: لدينا بعض المخاوف بشأن مختلف مسارات الخطط الإسرائ




.. تظاهرة مؤيدة لفلسطين في بروكلين للمطالبة بوقف تسليح إسرائيل